تسليك النفس إلى حظيرة القدس

تسليك النفس إلى حظيرة القدس15%

تسليك النفس إلى حظيرة القدس مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 257

تسليك النفس إلى حظيرة القدس
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83180 / تحميل: 6068
الحجم الحجم الحجم
تسليك النفس إلى حظيرة القدس

تسليك النفس إلى حظيرة القدس

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البحث الثالث: في خواصّ المُحدَث

لمّا كان المُحدَث هو الموجود بعدَ العدم كانت ماهيّته موصوفة بالأمرين، فتكون ممكنةً بالضّرورة، وكلّ ممكن مفتقرٌ إلى غيره، فكلّ محدث مفتقرٌ إلى الغير.

وأثبت الأوائل لكلّ حادث مادّةً (١) ومدّةً سابقتين عليه؛ لأنّه قبل وجوده ممكن، فلإمكانه محلّ، فليس هو الماهيّة المعدومة، فلابدّ من محلّ هو المادّة، وقبليّة العدم تستدعي معروضاً لها، وهو الزّمان.

وهذا خطأ: أمّا أوّلاً، فلأنّ الإمكانَ عدميّ، لما بيّنا أوّلاً، وإلاّ لزم التّسلسل.

وأمّا ثانياً، فلأنّ المادّة ممكنة فتفتقرُ إلى مادّة أخرى، ويتسلسل.

وأمّا ثالثاً، فلأنّ المادّة مغايرة للماهيّة، والإمكان صفة للماهيّة، فكيف يصحّ عروضه لغير الموصوف به؟

وأمّا القبليّة فهي أمرٌ اعتباريّ لا تحقّق له في الأعيان وإلاّ لزم التّسلسل.

وأيضاً، فإنّ الزّمان يعرضُ له قبليّاتٌ وبعديّاتٌ، فإن افتقر كلّ موصوف بهما إلى زمان افتقر الزّمان إلى زمان آخر، ويتسلسل، وإلاّ فالمطلوبُ.

____________________

(١) ج: ماله.

٤١

المقصد الثّاني

في التّقسيم على رأي الأوائل

الموجود إمّا أن يكونَ واجب الوجود لذاته، وهو الله - تعالى - خاصّةً، وإمّا أن يكون ممكن الوجود. وهو عشرة: الجوهر والكم والكيف والأين ومتى والمضاف والملك والوضع وأن يفعل وأن ينفعل.

واحدٌ منها جوهرٌ والتّسعة أعراضٌ؛ لأنّ الممكن إمّا أن يكون في موضوع (١) ، أي في محلّ متقوّم بذاته (٢) مستغن عن الحالّ فيه، وهو العرضُ؛ وإمّا أن لا يكون، وجاز أن يكونَ في محلّ، وهو الجوهرُ.

فإن كان محلاً لمثله فهو المادّة، وإن كان حالاًّ فهو الصّورة، وإن كان مركّباً منهما فهو الجسم وإن كان مجرّداً فهو نفسٌ إن تعلّق بالأجسام تعلّقَ التّدبير؛ وإلاّ فعقلٌ.

فالجوهر: هو الوجود لا في موضوع.

والمادّة: هي (٣) الجوهر القابل (للصّورة).

والصّورة هي الجوهرُ المتّصل لذاته الحالّ في المادّة.

____________________

(١) ج: موضع.

(٢) ج: بذات.

(٣) ألف: هو.

٤٢

والجسم: هو الجوهر القابلُ للأبعاد الثّلاثة المتقاطعة على زوايا قوائمَ.

والنّفسُ: كمالٌ أوّل لجسم طبيعيّ إلى ذي حياة بالقوّة.

والعقل: جوهرٌ مجرّدٌ عن الجسم حلولاً وتدبيراً.

والكمُ: هو القابلُ لذاته المساواةَ وعدمها. وهو إمّا متّصلٌ، وهو الخطّ، إن انقسم في بُعد واحد؛ والسّطح، إن انقسم في بُعدين؛ (١) والجسم التّعليميّ إن انقسم في ثلاثة أبعاد؛ والزّمان إن لم يكن قارّاً، وإمّا منفصلٌ هو العدد، لا غير.

والكيفُ: هو العرضُ الّذي لا يتوقفُ تصوّره على تصوّر غيره ولا يقتضي القسمةَ واللاّ قسمة في محلّه اقتضاء أوّليّاً وأنواعه أربعةٌ:

الكيفيّات المحسوسةُ: فإن كانت راسخةً فهي انفعاليّات وإلاّ فهي الانفعالات.

والكيفيّات المختصّة بالكميّات: إما متّصلةٌ، كالاستقامة والانحناء، وإمّا منفصلةٌ، كالزّوجيّة والفرديّة.

والكيفيّات النّفسانيّة: فإن كانت راسخةً فهي الملكاتُ وإلاّ فهي الحالات.

والكيفيّات الاستعداديّة: فإن كان نحو الدّفع فهو القوّة وإلاّ فهو اللاقوّة.

____________________

(١) ج: أبعاد.

٤٣

والأينُ: نسبةُ الشّيء إلى مكانه.

والمتى: نسبتُهُ إلى زمانه أو طرفه (١) .

والمضاف: وهو النّسبةُ المتكررّة.

والمِلك: وهو نسبةُ التملّك.

والوضعُ: وهو هيئةٌ تعرضُ للجسم بسببِ نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، ونسبةِ أجزائه إلى أمور خارجة عنه، كالقيام والانتكاس (٢) .

وأن يفعل، وهو التّأثير.

وأن ينفعل، وهو التّأثّر.

والحقّ أنّ المادّة ليست ثابتةً، وإلاّ لزم التّسلسل (٣) .

والكمُ هو الجسم أو الخطُّ أو السّطحُ وهي جواهرُ أفراد يأتي البحثُ فيها.

والمتى (٤) وما بعده من النّسبيّة؛ لو كانت ثبوتيّةً لزم التّسلسل.

والكيفيّات المختصّة (٥) بالمنفصل فرعٌ على ثبوته وليس، وإلاّ لزم قيامُ العرض بمحلّين.

____________________

(١) ج: ظرفه.

(٢) ج: انعكاس.

(٣) ج: التّسليك.

(٤) ألف: متى.

(٥) ألف: المخصوصة.

٤٤

المرصد الثالث

في البحث عن أقسام الموجودات

وفيه مباحث

٤٥

٤٦

[البحث] الأوّل

في ماهيّة الجسم

المتكلّمون زعموا: أنّ الجسم مؤلّفٌ من جواهر أفراد، (و) كلّ واحد منها ذو وضع لا يقبلُ القسمةَ بالفعل ولا بالقوّة، يتألّفُ على نسبةٍ مّا بحيث يحصل له طولٌ وعرضٌ وعمقٌ.

والحكماء ذهبوا إلى أنّه (مؤلف) من المادّة والصّورة. والبحث في هذه المسألة يتوقّفُ على ثبوت الجزء الّذي لا يتجزّى ونفيه.

وقد استدلّ مثبتوه بوجوه:

الأوّل: أنّ الزّمانَ منه ماضٍ ومنه مستقبلٌ، وهما معدومان، ومنه حاضرٌ، فإن كان منقسماً لم يكن كلّه حاضراً، هذا خُلفٌ. وإن لم يكن منقسماً فالحركة المقطوعة فيه إن انقسمت لزم انقسامه، لأنّ الزّمان الّذي يقع فيه نصفُ الحركة نصفُ الزّمان الّذي يقع فيه كلّ الحركة، وقد فرضنا الزّمانَ غيرَ منقسم، هذا خُلفٌ. فثبت أنّ الحركة الواقعةَ في الآن غيرُ منقسمة (١) .

____________________

(١) ألف، ب: غير منقسم.

٤٧

فالمسافة الّتي يقع فيها تلك الحركة في ذلك الزّمان غيرُ منقسمة، لأنّها لو انقسمت لكانت الحركة إلى نصفها نصفَ الحركة إلى آخرها، فتكونُ الحركة الّتي فَرضَت غيرَ منقسمةٍ منقسمةً، هذا خُلفٌ. فثبت وجودُ جزء لا يتجزّى من المسافة، وهو المطلوب.

الثّاني: إنّ النقطةُ شيءٌ ذو وضع لا جزء له، فإن كانت جوهراً ثبت المطلوبُ، وإن كان عرضاً فمحلّهُ إن انقسم لزم انقسامُها، لأنَّ الحالّ في المنقسم منقسمٌ؛ لأنّه إن حلّ في جميع أجزائه كان منقسماً بالضّرورة، لاستحالة كون الحالّ في أحد الجزأين عين الحالّ في الآخر، وإن حلّ في بعضها لم يكن ما فرضناه محلاًّ بمحلّ، هذا خلفٌ وإن كان غيرَ منقسم ثبت المطلوب.

الثّالث: إذا وضعنا كرةً حقيقيّةً على سطح مستوٍ لاقته بما لا ينقسمُ، وإلاّ كانت مضلّعةً. فإذا دحرجت حتّى انتهت إلى آخر السّطح كانت ملاقيةً له بنقطة عقيبَ أُخرى، وهو المطلوب.

واحتجّ النّافون بوجوه:

الأوّلُ: إذا وضعنا جواهرَ ثلاثةً متماسّةً فالوسطُ إن لم يحجُب الطرفين عن التّماسّ لزم التّداخل، وهو معلوم البطلان، وإن يحجبهما كان الجانب الملاقي لأحد الطرفين غيرَ الملاقي للآخر، فيلزم الانقسام.

الثاني: إذا فرضنا كرةً متحرّكةً أكملت الدّورة (١) على نفسها، فإنّ كلّ

____________________

(١) ب: كملّت دورتها.

٤٨

جزء يفرضُ على سطح تلك الكرة قد أكمل دورةً واحدةً. فإذا فرضنا جزءاً على المنطقة تحرّك جزءاً غيرَ منقسم فالقريبُ من القُطب إن تحرّك مثله تساوى المداران، وهو ضروريّ البطلان، وإن لم يتحرّك أصلاً لزم التّفكيك، وإن تحرّك أقلّ من جزء ثبت المطلوب.

الثالث: إذا فرضنا خطّاً مركّباً من ثلاثة جواهر، ثمَّ وضعنا على طرفيه جزأين وتحرّكا، تلاقيا على منتصف الثالث، فتنقسمُ (١) الخمسة.

الرّابع: المربّع المركّب من ستّة عشر جزءاً يكون قطرهُ من أربعة. فإن تلاقت ساوى القطر الضّلعَ، هذا خلفٌ، وإن تباينت: فإن اتّسع ما بين كلّ جزأين الآخر ساوى القطر الضّلعين، هذا خلفٌ بشكل الحمار (٢) ، وإن اتّسع لأقل ثبت الانقسام. وهاهنا حججٌ أخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام (٣) .

____________________

(١) ب: فانقسمت.

(٢) لاحظ الأسرار الخفية في العلوم العقلية: ٢٣٢.

(٣) انظر نهاية المرام في علم الكلام: ٢/٤١٧، الفصل الأوّل من النوع الأوّل.

٤٩

البحث الثّاني

في إبطال حجّة الحكماء في المادّة

قال الحكماء: الجسم البسيط واحد في نفسه متصل لاستحالة تركّبه من الجواهر الأفراد. ولا شكّ في أنّه قابل للقسمة، وهي عدم الاتّصال عمّا من شأنه أن يكون متّصلاً. فالقابل إن كان هو الاتّصال كان الشّيء قابلاً لعدمه، وهو مُحالٌ، لاجتماع القابل والمقبول، وإن كان شيئاً آخر فهو المطلوب، لأنّا لا نعني بالمادّة سواه.

والاعتراض من وجوه:

الأوّل: المنع من وحدة الجسم، وقد برهنّا على ثبوت الجزء الّذي لا يتجزى.

الثّاني: إنّ الانقسام المعلوم ثبوته إنّما هو الفرضيّ دونَ الانفكاكيّ. والأوّل لا يقتضي ثبوت المادّة، بل الثّاني.

الثالث: لا يلزم من اجتماع القابل والمقبول مطلقاً اجتماعهما في الوجود؛ فإنّ مثل هذا القبول لا يتوقفُ على الوجود؛ إذ المراد به إمكان اتّصاف الشّيء بمقبوله، ولا شكّ في أنّ الماهيّة الممكنة من حيث هي هي مغايرةٌ للوجود والعدم وقابلة لهما، ولا يلزم من ذلك استحالةٌ، فكذا هنا.

٥٠

الرّابع: المادّة تنقسمُ بانقسام الصّورة. فلو افتقر (١) انقسام الصّورة إلى محلّ افتقرت المادّة إلى مادّة أخرى وتسلسل.

البحث الثالث

في الأعراض

العرض إمّا أن يفتقر إلى المحلّ لا غير، وهي الكيفيّات المحسوسة والأكوان، وإمّا أن يفتقر إلى المحلّ والبنية، وهو الحياة وما هو مشروط بها، وهو تسعةٌ: القدرة والاعتقاد (٢) والظنّ والنّظر والإرادة والكراهة والشّهوة والنّفرة والألم واللّذة وهما من نوع واحد.

وأمّا المحسوسات: فإمّا بالبصر، وهو الضّوء واللّون، وإمّا بالسّمع، وهي الأصوات والحروف، وإما بالذّوق، وهي الطعوم، وإمّا بالشّمّ، وهي الرّوائح، وإمّا باللّمس، وهي الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة والثّقل والخفّة واللّين والصّلابة.

وأمّا الأكوانُ، فهو الحركة والسّكون والاجتماع والافتراق.

فلنبحث عن كلّ واحد من هذه الأقسام على سبيل الاختصار في مطالب.

____________________

(١) ج: في انقسام.

(٢) ج: الاعتقاك.

٥١

المطلب الأوّل: في المبصرات

وهي بالذّات شيئان، الضّوء واللّون. أمّا الضّوء، فقيل: إنّه جسمٌ، لتحرّكه بحركة المضيء، وهو خطأ، لتساوي الأجسام في الجسميّة، واختلافها في الإضاءة وعدمها، والحركة ممنوعة، بل يتجدّد بتجدّد المقابلة. وقيل: إنّه اللّون. وقيل: ظهوره. فالظهور المطلق هو الضّوء، والخفاء المطلق هو الظلمة، والمتوسّط هو الظلّ.

وهو خطأ، لاشتراك السّواد والبياض في الإضاءة، واختلافهما بماهيّتهما (١) . بل الحقّ أنّه كيفيّة منبسطة على الجسم الكثيف يحصل عند مقابلة المضيء ومنه أوّل وثان هو الظلّ.

وأمّا الظلمةُ فهي عدم الضّوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئاً.

وقال بعض الأشاعرة: إنّها وجوديّة، لأنّها محسوسة. والصّغرى كاذبة (٢) .

وأمّا اللّون فعند المعتزلة أنّه جنسٌ للسّواد والبياض والحمرة والصّفرة والخضرة، وجعلوا البواقي مركّبة منها. وأثبت البلخيّ (٣) الغُبرةَ.

وبعض الأوائل جعل الخالص هو السّواد، وأمّا البياضُ فإنّه يتخيّل (٤)

____________________

(١) ج: في ماهيتهما.

(٢) ج: كان به.

(٣) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني، أحد أئمة المعتزلة، توفّي ٣١٩هـ الأعلام: ٤/٦٥.

(٤) ب: يتحصّل.

٥٢

عند مخالطة الهواء للأجسام الشّفّافة الصّغيرة كما في زَبَدِ الماء والثّلج، وهو خطأ، لأنّه محسوس، فيكون وجوديّاً، نعم قد يكون بعض أسبابه ذلك وقد يكون غيره، كما في بياض البيض المسلوق، فإنّه يرى أبيض، مع أنّ النّار لم تحدث فيه هوائيّة، لأنّه بعد الطبخ أثقل.

واتّفق الشّيخان على تجويز زائد على الخمسة في مقدوره تعالى. وأشخاصُ كلّ جنس متماثلةٌ، فإنّ الهيئة المحسوسة من أحد السّوادين هي المحسوسة من الآخر. وهذه الأجناسُ متضادّةٌ. أمّا السّوادُ والبياضُ فمطلقاً وأمّا البواقي، فإذا لم يشرط في الضّدّين غايةُ الاختلاف.

وجوّز المرتضى وجماعةٌ من الأوائل اجتماعَ السّواد والبياض، كما في الغبرة. ولا يفتقرُ اللّونُ إلى البنية، خلافاً للعلاّف، وإلاّ لنقص عند زوال البنية بالسّحق. وليس مقدوراً لنا، وإلاّ لأمكننا تغييرُ ألواننا إلى ما نشتهيه.

وفي الملازمة نظرٌ، لجواز أن يتعلّق قدرته - تعالى - بألواننا، ويمتنعُ منّا مقاومته.

وقال بعضُ البغداديين: إنّه مقدورٌ لنا، لأنّا نضربُ جسم الحيّ، فيظهر حمرةٌ، كما يوجد ألمٌ. فيجبُ تولّدهما عن الضّرب. ويُضعّفُ: بأنّ تلك حمرةُ الدّم، حيث انزعج بالضّرب، ولا يقع متولّداً، إذ الأسباب المولّدة معروفةٌ، وليس منها ما يولّده.

وذهب البغداديّون إلى أنّه متولّدٌ عن غيره من الألوان، وهو باق، للحكم بأنّ ما شاهدناه ثانياً هو ما شاهدناه أوّلاً، ولا يتوقفُ وجوده على

٥٣

الضّوء، خلافاً لابن سينا، للحكم القطعيّ ببقاء اللون في الظلمة.

احتجّ: بأنّا لا نراه في الظلمة، وليس [كذلك]؛ لأنّ المظلم فيه كيفيّةٌ مانعةٌ عن الإبصار، وإلاّ لتساوى البعيدُ من النّار والقريبُ منها ليلاً في عدم الرّؤية، والتّالي باطلٌ، فكذا المقدّم، فلم يبق إلاّ لعدمه.

والجواب: منعُ الحصر، بل عدمُ الرؤية لعدم الشّرط الّذي هو الضوء.

المطلب الثّاني: في الأصوات والحروف

ذهب إبراهيم النّظّام إلى أنّ الصّوت جسمٌ ينقطعُ بالحركة، تسمعهُ (١) بانتقاله إلى الأُذن.

وهو خطأٌ، فإنّ الأجسام مشتركةٌ في الجسميّة وفي كونها ملموسةً ومبصرةً، وليس الصّوتُ كذلك.

وقيل: إنّه اصطكاك الأجسام الصّلبة أو القلع أو القرع، أو تموّجُ الهواء.

والكلّ باطلٌ؛ فإنّ الاصطكاك والقرع مماسّةٌ، والقلع تفريقٌ، والتّموّجَ حركةٌ، وكلّ ذلك مبصرٌ، بخلاف الصّوت.

نعم سببه تموّج الهواء، لا بمعنى انتقال هواء معيّن، بل حالةٌ شبيهةٌ (٢) بتموّج الماء الحاصل بالتّدارك، لصدم بعد صدم، مع سكون بعد سكون.

وسبب التّموّج إمساسٌ عنيفٌ هو القرع أو تفريقٌ عنيفٌ هو القلع، وهو مقدورٌ لنا، لصدوره باختيارنا وإن كنّا لا نفعله إلاّ بسببٍ هو الاعتماد.

____________________

(١) ب: يسمعه/ ج: نسمعه.

(٢) ج: شبهه.

٥٤

ويستحيلُ بقاؤه، وإلاّ لأدركناه في الزّمن الثّاني والثّالث، ولم يكن سماعُ زيد أولى من أن يسمع على سائر تقاليب حروفه الخمسة ويتوقّفُ الإحساسُ به على وصول (١) الهواء الحامل له إلى سطح الصّماخ، لميل صوت المؤذّن على المنارة من جانب إلى آخر عندَ هبوب الرّياح.

وقيل بالمنع؛ لأنّ حامل كلّ واحد من الحروف إمّا كلُّ واحد من أجزاء الهواء، فيجبُ في من تكلّم بكلمة أن يتكرّر سماعُها للسّامع الواحد بأن تتأدّى إلى صماخِه أجزاء كثيرةٌ من الهواء، أو المجموعُ. فكان (٢) لا يسمع الكلام دفعةً واحدةً إلاّ سامعٌ واحدٌ؛ لأنّ المجموعَ لا ينتقلُ (٣) دفعةً إلاّ إلى سامع واحد، وللسّامع من وراء الجدران مع تغيير الشّكل عند صدم الجدار.

وفي الأصوات متماثلٌ ومختلفٌ. واختُلف في التّضاد. فذهب الشّيخان إلى تضادّ ما اختلف فيها وتوقّف قاضي القضاة وأبو عبد الله (٤) في ذلك وإذا تموّج الهواء وقاوم ذلك التّموّجَ جسمٌ، كجبل أو جدار أملس بحيثُ يردّ ذلك التموّج بصرفه إلى خلف، ويكون شكله شكل الأوّل، وعلى هيئته، حدث من ذلك صوتٌ هو الصّدى.

وأمّا الحرف، فهو هيئة عارضةٌ للصّوت يتميّز بها صوت آخر مثله في

____________________

(١) ج: فصول.

(٢) ج: فإن كان.

(٣) ب: - ينقل.

(٤) هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن إبراهيم الملقّب بالجُعل، من شيوخ المعتزلة، ولد في البصرة ومات في بغداد سنة ٣٦٩هـ الأعلام: ٢/٢٤٤.

٥٥

الحِدّة (١) والثِّقل تميّزاً عن المسموع. وهو إمّا مُصوّتٌ، وهو حروف المدّ واللّين، ولا يمكن الابتداء بها. وإمّا صامتٌ، وهو ما عداها.

والكلام هو المركّب من الحروف المنتظمة على نسبة مخصوصة.

واختلف الشّيخان، فقال أبو هاشم: إنّه هو الأصوات المخصوصة، وقال أبو علي: إنّه زائدٌ على الأصوات، وذهب إلى بقاء الكلام دونَ الصّوت وأثبته مسموعاً عند مقارنة الصّوت له.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ الكلام معنىً في النّفس قائمٌ بالمتكلّم شاهداً أو غائباً.

والكلابيّة أثبتوا الكلام النفساني (٢) غائباً لا شاهداً.

والخاطر عند أبي هاشم كلامٌ يفعله الله في داخل سمع المكلّف، أو يفعله الملك بأمره تعالى.

واختلف قول أبي عليّ، فتارةٌ جعله فكراً، (٣) وأُخرى إنّه اعتقادٌ، وتارةً إنّه ظنٌّ، ومنع من كونه كلاماً.

والتّمنّي عند أبي هاشم معنىً يوجد في النّفس، وعند أبي عليّ إنّه قول مخصوصٌ لابدَّ فيه من اعتقاد وقصد؛ فإن من قال: (ليت كان كذا)، واعتقد أنّه كان ينتفع به وقصد إلى هذا القول؛ فإنّه متمنّ. والأصلُ هو القولُ، وما عداه شرط؛ لأنّ أهل اللغة عدّوه من أقسام الكلام.

____________________

(١) ب: في الخفّة.

(٢) ب: النفسّي/ ج: النفسانيّة.

(٣) ب: خاطراً.

٥٦

تذنيبٌ

اختلف الشّيخان، فقال أبو عليّ وأبو الهذيل (١) : الحكاية هي المحكيّ؛ لأنّهما جعلا الكلام معنىً باقياً غيرَ الصّوت، وجعلا (٢) المراد بالقراءة الصّوتَ وبالمَقرُوّ الحرف الباقي، وقالا بأنّ هذا المسموع نفس ما أوجده الله تعالى.

وأثبت أبو عليّ الكلامَ موجوداً في المحلّ بغيره كما أوجب (٣) وجودَ الجوهر في جهة بغيره وقال: إذا كان متلوّاً وجد مع الصّوت، وإذا كان محفوظاً فمع الحفظ، وإذا كان مكتوباً فمع الكتابة. فأثبت مع الحفظ والكتابة كلاماً كما أثبته مع التّلاوة، لأنّ المسموع لو كان غير ما أوجده الله - تعالى - لبطلت المعجزة، إذ كان أحدُنا قادراً على الإتيان بمثله.

وقال أبو هاشم: الحكايةُ غيرُ المحكيّ؛ لأنّ الكلام غيرُ باقٍ، فالمسموعُ غيرُ ما أوجده الله تعالى. ولو كانت الحكاية هي المحكيّ لكان من حكى عن النّار محترقاً، ولو كان في المكتوب كلامٌ لكان مسموعاً، وكذا الحفظ.

____________________

(١) هو أبو الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي، مولى عبد القيس، المعروف بالعلاّف، من شيوخ المعتزلة، كفّ بصره في آخر عمره، توفّي سنة ٢٣٥هـ الأعلام: ٧/١٣١.

(٢) ب: حملوا.

(٣) ج: اوجد.

٥٧

المطلب الثالث: في الطعوم والرّوائح

الجسم إمّا أن يكونَ عديمَ الطعم إمّا حقيقةً أو حسّاً بأن يكونَ له طعمٌ في نفسه، لكنّه لشدّة تكاثفه لا يتحلّلُ منه شيءٌ يخالط اللّسان. فإذا احتيل في تحليل أجزائه وتلطيفها أُحسّ طعمه، مثل النّحاس والحديد، ويسمّى التَّفِه؛ وإمّا أن يكونَ ذا طعم.

وبسائطُ الطعوم ثمانيةٌ؛ لأنَّ الجسمَ الحاملَ للطّعم إمّا أن يكونَ لطيفاً أو كثيفاً أو معتدلاً. والفاعل في الثلاثة إمّا الحرارة أو البرودة أو القوّة المعتدلة بينهما.

فالحارّ إن فعل في الكثيف حدثت الحرارة، وإن فعل في اللّطيف حدثت الحرافة، وإن فعل في المعتدل حدثت الملوحة.

والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصةُ، وإن فعل في اللّطيف حدثت الحموضةُ، وإن فعل في المعتدل حدث القبضُ.

والمعتدل إن فعل في اللّطيف حدثت الدّسومة، وإن فعل في الكثيف حدثت الحلاوةُ، وإن فعل في المعتدل حدثت التّفاهةُ.

والمعتزلة جعلوا البسائط خمسةً: الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والحرافة.

وقد يجتمع طعمان في جسم واحد، كالمرارة والقبض في الحُضض

٥٨

ويسمّى البشاعة، والمرارة والملوحة في السّبخة، ويسمّى الزّعوقة، والمرارة والحرافة والقبض في الباذنجان، والمرارة والتّفاهة في الهِندبا.

وليست الطعوم مقدورةً لنا ويصحّ عليها البقاء.

وشرط قاضي القضاة في إدراك الطعم مماسّة اللّهاة لمحلّ الطعم، ولم يشرط أبو هاشم وأبو عبد الله ذلك. فعلى قولهما لو وجد طعمٌ لا في محلّ يصحّ (١) إدراكه، خلافاً للقاضي.

أمّا الرّوائحُ فإنّها لم توضع لأنواعها اسم إلاّ من جهة الموافقة والمخالفة، فيقال: رائحةٌ طيّبةٌ ومنتِنَةٌ، أو يشتقّ لها من الطعوم المقارنة لها اسمٌ، فيقال: رائحةٌ حلوةٌ وحامضةٌ، أو يُضافُ إلى المحلّ فيقال: رائحةُ المسك أو الكافور. وفيها متماثلٌ ومتضادٌ.

المطلب الرّابع: في الحرارة والبرودة

من خواصّ الحرارة، التّصعيدُ، فيعرض من ذلك الجمعُ بين المتماثلات، والتّفريق بين المختلفات من المركّبات، ولو كان الالتحام شديداً حدثت حركةٌ دوريّةٌ إن تساوى اللّطيف والكثيف، وإن غلب اللّطيف تَصَعَّدَ، وإن غلب الكثيف جدّاً لم تقو النّار على تليينه، كالطلق، وإلاّ أثّرت في تليينه، كالحديد؛ وتسويدُ الرّطب وتبييضُ اليابس. وإفادةُ القوام، كما في بياض البيض، وقد تَحدث بالحركةِ للتّجربة. ولا يلزم

____________________

(١) ب، ج: لصحَّ.

٥٩

صيرورةُ العناصر ناراً، لعدم القبول في الفلكيّات.

وزعم قومٌ من الأوائل أنّ البرودة عدمُ الحرارة. وهو خطأ؛ لأنّا نُدرك من الجسم البارد كيفيّةً زائدةً على الجسميّة، والعدم لا يدركُ، بل هي كيفيّة وجوديّة مُضادّةٌ للحرارة.

وفي كونهما مقدورتين (١) لنا خلافٌ بين المعتزلة وكذا في بقائهما. ولا يحتاج في إدراكهما إلى حاسّة عندهم، بل يكفي فيه محلّ الحياة. والحارّ يقال لِما يُحَسُ بسخونته، كالنّار، ولِما يكونُ ظهور الكيفيّة منه موقوفاً على ملاقاة بدن الحيوان، كالغذاء والدّواء، والحرارة جنسٌ للّتي في النّار وفي بدن الحيوان والفائضةِ عن الأجرام الفلكيّة.

المطلب الخامس: في الرّطوبة واليبوسة

الماء الموصوف بالرّطوبة له وصفان:

أحدهما الكيفيّة الّتي بها يكون سهلَ الالتصاق بالغير، سهلَ الانفصال عنه.

وثانيهما الكيفيّة الّتي بها يكون سهلَ التّشكّل بالحاوي الغريب، سهلَ التّرك له.

وقد فسّرت الرّطوبةُ بكلّ واحدٍ من الوصفين. ويبطل الأوّلُ بقولهم:

____________________

(١) ب، ج: مقدورين.

٦٠

الهواء رطبٌ بالطبع، فإنّه لا يلتصقُ بالغير، والثّاني بالنّار؛ فإن لها هذا الوصفُ وليست رطبةً.

واليبوسةُ، قيل إنّها الكيفيّة الّتي يعسُرُ قبول الأشكال الغريبة. وهما (1) متضادّتان.

وفي كون الرّطوبة جنساً لرطوبة الماء والدّهن والعسل والزّيبق وغيرها، أو نوعاً خلافٌ. واختلف الشّيخان، فذهب أبو علي إلى أنّهما مدركتان لمساً، ومنعه أبو هاشم.

واللّينُ، عدمُ ممانعة الغامر، فهو عدميّ عند الأوائل، والمتكلّمون قالوا: إنّه ثبوتيّ، لأنّه محسوس وهو نوع من الرّطوبة عندهم.

السّيلانُ، حركة في أجسام متفاصلة حقيقةً، متواصلة حسّاً لدفع بعضها بعضاً وإن كانت يابسةً كالتّراب.

والحرارة والبرودة فعليّتان. والرّطوبة واليبوسةُ منفعلتان عنهما.

واللّطافةُ، تُقال على رقّة القوام وقبول الانقسام إلى أجزاء صغيرة وسُرعة التّأثّر من الملاقي والشّفافيّة.

واللّزوجيّة كيفيّةٌ يكونُ بها الجسمُ سهلَ التّشكّل عَسِرَ التّفريق، بل يمتدُّ متّصلاً.

والهشاشةُ (2) كيفيّةٌ يكونُ بها الجسمُ صعب (3) التّشكّل، سهلَ التّفريق.

____________________

(1) يعني: الرطوبة واليبوسة.

(2) ب: الساسة/ ألف: الهشاسة.

(3) ب: ضعيف التّشكل.

٦١

تنبيهٌ

الجسمُ إن اقتضى نوعُه الرّطوبةَ فهو الرّطبُ، وإلاّ فلا. فإن التصق به الرّطب فهو المنتقعُ إن كان غائصاً فيه؛ وإلاّ فهو المبتلّ والجافٌ إن لم يلتصق به الرّطبُ.

المطلب السّادس: في الاعتماد

وهو معنى محسوسٌ، وتسمّيه الحكماء مَيلاً. وقد أنكره الكعبيُّ.

والحسُّ يدلّ عليه؛ فإنّ المدافعَةَ ثابتةٌ في الزِّقِّ المنفوخ المُسكّن تحتَ الماء قسراً نحوَ الصّعود، والحجر المسكّنِ في الجوّ يحسُّ فيه بالمدافعة نحوَ السّفل.

وليست هذه المدافعة نفسَ الطبيعة لوجود كلّ منهما دونَ الأُخرى كالمدافعة النّفسانيّة والجسم في مكانه الطبيعيّ؛ ولا الحركةَ، لوجودها في المسكّن قسراً دونَ الحركة. وهو (1) معنى يوجبُ الحركةَ: إمّا إلى فوق فيُسمّى خفّةً أو إلى أسفل فيُسمّى ثقلاً.

فالثّقل قوّةٌ طبيعيّةٌ يتحرّك بها الجسم إلى حيثُ ينطبقُ مركزه على مركز العالم إن كان مطلقاً أو يقربُ من ذلك إن كان مضافاً.

والخفيف المطلق هو الطّافي على سائر العناصر، وهو النّارُ، والمضافُ

____________________

(1) يعني: الاعتماد.

٦٢

هو الّذي يتحرّك أكثر المسافة الممتدّة بينَ المركز والمحيط حركةً إلى المحيط كالهواء.

والميلُ إمّا طبيعيٌّ، كمدافعة الحجر المسكّن في الجوّ، وإمّا نفسانيٌّ، كما يعتمدُ الحيوان على غيره، وإمّا قسريٌّ، كالحجر المرميّ إلى فوق قسراً. والجهاتُ الطبيعيّةُ الفوقُ والسّفل؛ فالاعتمادُ الطبيعيُّ اثنان.

ولا يجتمع ميلان طبيعيّان مختلفا الجهةِ، لاستحالة توجّه الجسم طبعاً إلى جهة وعنها. ويجوز اجتماعُ الطبيعيّ والقسريّ إلى جهتين، فيحصل حركةٌ مركّبة نحوَ جهة الفاضل منهما إن كان، أو سكوناً إن لم يكن، وإلى جهة واحدةٍ فتزدادُ الحركة. ولو اختلفت الجهةُ قصد (1) جهة متوسّطة بينهما على النّسبة.

واستدلّ الأوائلُ على ثبوته: بأنّه لولاه لساوت الحركة مع العائق الحركةَ بدونه، فإنّه لو تحرّك مع ميل مسافةٍ وبدونه تلك في زمان أقلّ ومع ميل أقلّ على نسبة الزّمانين ساوت زمانَ عديم الميل.

والمتكلّمون: بأنّ الحبلَ إذا جذبه متساويا القدوة وقف لتكافي (2) فِعليهما له؛ وليس السّكون، لأنّ فعلَ أحدهما من جنس فعل الآخر، والمثلان (3) لا يتمانعان، فهو الاعتماد.

____________________

(1) ب: يصير.

(2) ج: لتكافؤ.

(3) ب: الميلان.

٦٣

وهو آنيٌّ، لوجوده آن الوصول، وباقٍ، لأنّه علّة الإيصال (1) ، فيوجدُ عنده. وهو قابلٌ للشدّة والضّعف.

فالطبيعيّ يشتدُّ خيراً لقلّة المعاوقة، والقسريّ في الوسط لحصول السّخونة بواسطة المُحاكّة، ويضعفُ القوّة، إلاّ أنّ التّلطيفَ المستفادَ بالسّخونة يوفي على ما يفوتُ بالضّعف. فإذا ترادف الصكّ (2) على القوّة ضعفت ولم تبلغ السّخونة مبلغاً يفي (3) بتدارك الضّعف.

وهو مُدرك باللّمس عند أبي هاشم، فلا يحتاجُ في إثباته إلى دليل، بل يحتاجُ إلى ثبوت التّغاير؛ فإنّ المدركاتِ قد تشتبه باعتبار لها، ومنعه أبو عليّ.

والاعتماد: منه متماثل، وهو ما اختصّ بجهة واحدة، لاستلزام الاتّحادِ في المعلول الاتّحادَ في العلّة؛ ومنه مختلفٌ، وهو ما تعدّدت جهاته. فعندَ أبي عليّ أنّه متضادٌّ لامتناع اجتماعهما في جسم واحد، وعندّ أبي هاشم أنّه غيرُ متضادّ، لأنّ الجاذبين المتساويين فَعَلا اعتمادين إلى جهتين متضادّتين فقد اجتمعا. ولو كانا ضدّين لما صحّ اجتماعهما.

وأجناسُ الاعتماد ستّةٌ بحسب تعدّد الجهات. فالّذي يصحّ بقاؤه عند المعتزلة، وهو اللاّزم، الاعتمادُ سفلاً وصعداً؛ لأنّه لو لم يبق الاعتمادُ في

____________________

(1) ج: الاتصال.

(2) ب: بالصك.

(3) ج: ليفي تدارك.

٦٤

الحجر لامتنع علينا حمل الحجر الثّقيل أو كان سهلاً جدّاً، والتّالي بقسميه باطلٌ بالوجدان، (فالمقدّم مثله). بيانُ الملازمة أنّ الله - تعالى - إن فعل فيه الاعتمادَ امتنع علينا ممانعته، وإن لم يفعل سهل حركته، لعدم المانع. وما عداهما لا يصحّ بقاؤه. وهو المجتلب. إذ لا عرضَ يشار إليه إلاّ وقد يوجد ولا يبقى معه شيءٌ من هذه الأجناس.

والثّقل عند أبي هاشم راجعٌ إلى الاعتماد اللازم سفلاً، وأبو عليّ يقول: إنّه يرجعُ إلى تزايد أجزاء الجوهر. وهو باطلٌ بالزّق المنفوخ، فإنّه يمتلئ بالهواء، وهو أخفُّ من أجزاء يسيرة من الرّصاص.

وأقسام توليده ثلاثةٌ: أحدها ما يولّده بنفسه، وهو الأكوان، والاعتماد في محلّه ويولّدُهما في غير محلّه بشرط المماسّة. وثانيها ما يولّده بنفسه بشرط، ولا يصحّ أن يولّده على وجه إلاّ بشرط، وهو الأصوات، فإنّه يولّدها بشرط المصاكّة. وثالثها ما يولّده لا بنفسه، بل بواسطة، وهو التّأليف والألم؛ (1) لأنّه يولّدُ المجاورة الّتي تولّد التّأليف، ويولّدُ التّفريق في جسم الحيّ. والوهنُ والألم متولّدٌ عنهما. وليس في الأسباب ما يولّد مثله سوى الاعتماد ولا يولّد الاعتماد شيئاً ممّا يولّده إلاّ ويولّد اعتماداً آخر معه.

____________________

(1) ج: التفريق.

٦٥

المطلب السّابع: في الأكوان

الكونُ جنسٌ، تحته أُمورٌ أربعة: الحركة والسّكونُ والاجتماعُ والافتراق.

[وفيه أربعة نظراتٍ]:

النّظر الأوّل: في المعنى المشترك بين الأربعة

حصول الجوهر في الحيّز أمر ثبوتيّ. وهل هو معلّل بمعنى، أم لا.

ذهب أبو هاشم إلى ذلك. وتقريره أنّا إذا حرّكنا جسماً أو سكنّاه فَعَلْنا فيه اعتماداً نحوَ الجذب والدّفع، فيحصل التحرّك والسّكون.

وقال أبو هاشم: إنّا نفعلُ معنىً زائداً، يسمّى حركةَ ذلك المعنى يوجب كونَ الجسم متحرّكاً. وذلك المعنى زائدٌ على الاعتماد وعلى التّحرّك؛ فاثبت الكونَ والمقتضى له والحالةَ المعلّلةَ به وهي الكائنيّةُ ونفاه باقي المتكلّمين.

لنا أنّا لو فعلناه لعلمناه إجمالاً أو تفصيلاً، والتّالي باطل بالوجدان، فإنّا نجدُ من أنفسنا أنّا لا نعلمه البتّةَ، فالمقدّمُ مثله والشّرطيّةُ ضروريّةٌ، فإنّ القادرَ إنّما يفعل ما يعلمُه. ولأنّ ذلك المعنى إن لم يصحّ وجوده إلاّ بعدَ حصول الجوهر في ذلك الحيّز دار، وإن صحّ: فإن اقتضى حصوله في ذلك الحيّز فهو الاعتمادُ، وإلاّ لم يكن بأن يحصل في ذلك الحيّز أولى من غيره.

٦٦

احتجّ: بأنّا لو قدرنا على جعل الجسم كائناً من غير توسّط معنىً لَقَدرْنا على ذاته وسائر صفاته. والتّالي باطلٌ بالضّرورة فالمقدّمُ مثلُه.

وبيانُ الشّرطيّة القياس على الكلام؛ ولأنّ صفةَ الكائنيّة يصحّ فيها التّزايد، فلا تقع بالفاعل.

بيانُ المقدّم أنّ القويّ يمنعُ الضّعيف عن تحريك ما سكنّه، فقد فعل فيه أمراً زائداً على ما إذا لم يقصد منعه؛ ولأنّ القادرَين إذا دَفع أحدهما جزءاً حال جذب الآخر لم يكن مقدورهما واحداً، لاستحالة وقوع مقدور بقادرَين.

وبيان الشّرطيّة أنّ الفاعل كالعلّة، فكما أنّها لا تؤثّر في أزيد من صفة واحدة كذا الفاعل؛ ولأنّ الوجودَ لمّا كان بالفاعل امتنع فيه التّزايدُ فكذا هنا.

والجوابُ: المنعُ من الشّرطيّة، والقياسُ ضعيفٌ في نفسه وباطل هُنا؛ فإنّه جعل الفرع أصلاً، والتّزائد غير معقول في الكائنيّة، لأنّها عبارةٌ عن الحصول في الحيّز. أو محاذاة الجسم لآخر، والقويّ فعل اعتماداً زائداً، لا كوناً زائداً؛ فإنّ الأكوانَ عندهم لا حظّ لها في المنع، ونمنعُ استحالةَ وقوع مقدور بقادرَين، ونمنع مساواةَ الفاعل العلّةَ، مع أنّ الأصل ممنوعٌ، ونمنع تعليل امتناع تزايد الوجود بكونه بالفاعل.

٦٧

النّظر الثّاني: في التّفريع على قول البهشميّة

الكونُ منه متماثلٌ ومنه متضادٌّ، فما اختصّ بجهةٍ واحدةٍ من الأكوان فهو متماثلٌ، سواءً اختصّ بجوهرٍ واحدٍ أو بأكثر إذا كانت في تلك الجهة على البدل، وسواءً اختصّ بوقتٍ أو أوقات، لاشتراكها في المعلول، والمتضادّ ما يصير به الجوهرُ في جهتين، لاستحالة الجمع. والمتضادُّ إمّا متنافٍ، وهو الّذي يصحّ وجودُه على التّعاقب، وإمّا غيرُ متنافٍ، وهو ما يتعاقبُ، كالكون في المكان الأوّل مع الكون في الثّالث. وإذا تعدّد المحلّ تضادّ الكونان في الجنس.

وكلّ الأكوان عند أبي هاشم يصحّ بقاؤها. وقال أبو علي وأبو الهذيل: لا يصحّ بقاءُ الحركة وإلاّ لصارت سكوناً والتزمه (1) أبو هاشم؛ والأكوان مُدركةٌ لمساً ورؤيةً عندَ أبي عليّ ومنعه أبو هاشم. والحقّ أنّها مدركةٌ بالرّؤية ثانياً وهي مقدورةٌ لنا. والكونُ يولّدُ التّأليفَ بشرط المجاورة، وإلاّ لم يشرط انتفاء الصّحة عن المحلّ.

النّظر الثّالث: في الحركة

الحركة هي حصولٌ (أوّل) للجوهر في حيّز بعد أن كان في حيّز آخر. وعندَ الأوائل أنّها (كمالٌ أوّلُ لما بالقوّة من حيث هو بالقوّة)، فإنّ الموجود

____________________

(1) ب: ألزمه.

٦٨

بالقوّة من كلّ وجه مُحالٌ، بل إمّا بالفعل من كلّ وجه أو من بعض الوجوه. والثّاني إذا خرج إلى الفعل إمّا (1) دفعةً أو على التّدريج، والثّاني هو الحركة، فوجودها بالفعل الّذي هو أسبقُ الكمالين يستدعي قوّةً مّا للمتحرّك، فإذا وجدت صارت كمالاً ثانياً، وهي تفارقُ سائر الكمالاتِ الّتي لا يستعقب وجودَها قوّةٌ لذي الكمال.

وقد اختُلِفَ في وجودها، فالمحقّقون عليه، لأنّها من المحسوساتِ الثّانية، (2) وأنكره جماعةٌ، لأنّ وجودها ليس حال كون المتمكّن في الأوّل، لأنّه بعدُ لم يتحرّك، ولا في الثّاني (3) لانقطاع الحركة، ولا واسطةَ بينهما. وهو إنّما يردُ على نفاة (4) الجزء.

ولابدّ لها من ستّة أُمور: ما منه وما إليه وما فيه وما به وما له والزّمان.

ولا يمكن أن يتحرّك جسمٌ مّا لذاته وإلاّ لبقيت ببقائه. ولا تصحّ الحركة إلاّ في مكان. وقال جماعةٌ من المعتزلة: إنّها تقعُ لا في مكان؛ لأنّها يحلُّ نفس الجوهر، فلا يفتقر إلى غيره، كاللّون. نعم لابُدّ من الجهةِ. ولو خلق الله - تعالى - جسماً ثقيلاً لهوى عند فَقْدِ العلائق، وإن لم يكن مكانٌ فقد تحرّك لا في مكان. وهو مبنيٌّ على تفسير المكان؛ وهؤلاء عنوا به ما يمنع اعتماد الثّقيل من النّزول.

____________________

(1) ألف: فإمّا.

(2) ج: الثابتة.

(3) ألف: الثّانية.

(4) ج: فاة.

٦٩

والحركةُ المكانيّة قد تكون في الأين وقد تكونُ في الوضع وقد تكون في الكم.

وأمّا الكيفيّةُ، فهي الحركة في الكيف، كما ينتقلُ الجسم من حرارة إلى برودة ومن سواد إلى بياض على التّدريج، ولا تقع الحركة في غير ذلك من المقولات.

ويعرضُ للحركة الانقسامُ باعتبار انقسام الزّمان؛ فإنّ الحركةَ في زمان ضعفُ الحركة في نصفه؛ وباعتبار انقسام المسافة، فإنّ الحركةَ إلى نصف المسافة نصفُ الحركة إلى جميعها؛ وباعتبار انقسام المتحرّك، فإنّها من الأعراض السّارية. وعندَ وحدة الموضوع والزّمان وما هي فيه بالشّخص تكونُ الحركة واحدةً به واختلاف الموضوع نوعاً لا يوجبُ اختلافَ الحركة، بل اختلافَ أحد الثّلاثة ما منه وما إليه وما فيه.

والحركة: إمّا سريعةٌ، وهي الّتي تقطع الأطول في الزّمان المساوي أو الأقصر أو المساوي في الأقصر؛ وإمّا بطيئةٌ وهي ما يقابلها.

واختُلِفَ في سببهما، فعندَ المتكلّمين خلّوُّ الحركات من السّكنات وعدمه، وعند الأوائل كيفيّاتٌ قائمةٌ بها، وإلاّ لظهرت سكناتُ الفرس السّريع العَدْوِ في الغاية وخفيت حركاته إذا قيست إلى حركات الفلك. وتضادُّ الحركات، لتضادّ ما منه وما إليه باعتبار العارض. وهو إضافة المبدأ والمنتهى وإن اتّحد المحلّ، كالدوريّة.

والحركةُ قد تكونُ مستقيمةً ومستديرةً ومركبّةً.

٧٠

واختلف في وجوب السّكون بينَ المتضادّتين:

فأثبته قومٌ، لأنّ علّة التّحريك إلى جهة موجودة آنَ الوصول، وهي غيرُ علّة المفارقة (1) فلابدّ من آن آخر، والآناتُ غير متتالية فلابدّ من زمان سكون؛ وهو مبنيٌّ على نفي الجوهر وعلى امتناع اجتماع الميلين.

ونفاه آخرون وإلاّ لم يجب رجوعُ الحجر، لأنّ وقوفه إنّما يكونُ لعلّة ويستحيل عدمُها لذاتها ولا للطبيعة أو الجسم أو لشيء ممّا وُجِدَ فيه، وإلاّ لما وُجدَ مع شيء منها، فلم يبق إلاّ سببٌ خارجيّ؛ فإن كان وصوله واجباً امتنع وجودُها وإلاّ كان اتّفاقيّاً.

والحركة إمّا بالذّات: وهي طبيعيّة أو قسريّة أو إراديّة، أو بالعرض: كالمحويّ المتحرّك بحركة الحاوي.

واختُلِفَ في الحركة القسريّة مع المفارقة فقيل: إنّ المحرّك يولّدُ اعتماداً وذلك الاعتماد يوجب حركةً، ثمّ تلك الحركة تولّد (2) اعتماداً، وذلك الاعتماد يولّد حركةً إلى أن ينتهي التّوليد بسبب الضّعف الحاصل من الهواء المخروق وقيل إنّ المحرّك يفيدُ المتحرّك قوّةً محرِّكةً إلى جهة مخصوصةٍ وهي باقيةٌ إلى آخر الحركة لكنّها تأخذ (3) في الضّعف بسبب مصاكّات الهواء المخروق إلى أن يبلغ الضّعف بحيث يغلبه القوّةَ الطبيعيّة فتتحرك الجسمُ إلى أسفل.

____________________

(1) ج: هي علّة غير المفارقة.

(2) ألف: يولّد.

(3) ألف: يأخذ.

٧١

النّظر الرّابع: في باقي الأكوان

السّكون هو حصول الجسم في الحيّز بعدَ حصوله في ذلك الحيّز بعينه. وعند الأوائل إنّه (عدمُ الحركة عمّا من شأنه أن يتحرّك). وعندنا (إنّه ثبوتيّ)، لأنّه من نوع الحركة؛ إذ لا فارقَ بينهما سوى البقاء وعدمه؛ والنّزاعُ لفظيٌّ؛ لأنّ للسّاكن نِسباً ثابتةً وعدم حركة، فإن أُطِلقَ السّكونُ على الأوّل، فهو ثبوتيٌّ وإن أُطلقَ على الثّاني فهو عدميٌّ؛ ولا يمكن خلوُّ الجسم الباقي عن الحركة والسكّون.

أمّا الحادثُ حالَ حدوثه فإنّ حصوله في مكان ليس حركةً ولا سكوناً، ويسمّى كوناً؛ وقيل: هو سكونٌ، لأنّ الأكوانَ كلّها سكوناتٌ وتكون بعضها حركات باعتبار آخر. وقيل: إنّه حركةٌ. والمحلّ متحرّكٌ.

والاجتماع هو كون الجوهرين في حيّزين بحيث لا يتخلّلهما ثالثٌ.

والافتراقُ هو كونُهما في حيّزين بحيثُ يتخللهما ثالثٌ؛ وجعل أبو الهذيل الافتراقَ معنىً زائداً على الأكوان، وهو قول أبي عليّ أوّلاً؛ وأبو هاشم جعله عبارةً عن الكونين اللّذين يحصلُ بهما الجسمان في مكانين بعيدين.

٧٢

المطلب الثّامن: في الحياة

وهي عرضٌ يحلّ بدنَ الحيّ يقتضي صحّة القدرة والعلم منه، مشروطٌ باعتدال المزاج، وباعتبارها يصيرُ الجملة كالشّيء الواحد. ولابدّ لها من بنيةٍ مخصوصة؛ خلافاً للأشعريّة، وإلاّ لصحّ وجودها في جزء لا يتجزّى.

احتجّوا: بأنّ القائمَ بالمجموع إن كان حياةً واحدةً لزم قيامُ العرض الواحد بمحلّين؛ وإن تعدّدت لزم الدّور؛ إن كان قيامُ البعض بالمحلّ موقوفاً على قيام الآخر به وبالعكس أو التّرجيح من غير مرجّح إن لم ينعكس.

والجواب: قيامُ كلّ حياة بمحلّها موقوفٌ على مجامعة الأجزاء، لا على قيام العرض بالأجزاء؛ وكما احتاجت إلى البنية فهي محتاجةٌ إلى الرّطوبة.

واختُلفَ في حاجتها إلى الرّوح، فأثبته أبو هاشم، لفقدانها عندَ فقدان الرّوح. ونفاه أبو عليّ، وإلاّ لشاعت الحاجة في كلّ محلّ فيه حياة وهي متماثلةٌ لا اختلافَ فيها ولا تضادَّ؛ لاتّفاق معلولها؛ وليست مقدورةً لنا؛ وهي باقية ولا ضدّ لها، وزوالها عند القتل باعتبار أنّ المرجع بالقتل إمّا تفريقُ البنية، فعدِمَت لعدم شرطها، وكذا عند البرد الشّديد والحرّ الشّديد، لحصول التّفريق فيهما.

وأثبتت الأشاعرة وأبو عليّ والكعبيّ وأبو هاشم أولاً الموتَ ضِدّاً

٧٣

للحياة؛ لقوله تعالى: ( الّذي خَلَقَ المَوْتَ والحَياة ) (1) . والحق أنّه عدمُ الحياة عمّا من شأنه أن يكونَ حيّاً بعدَ اتّصافه بها.

المطلب التّاسع: في القدرة

وهي عرضٌ يقتضي كونَ محلّه إذا شاء أن يفعلَ فعل، وإذا شاء أن يترك ترك، وليست نفسَ المزاج؛ لأنّه كيفيّةٌ متوسّطةٌ بينَ الحارّ والبارد، فيكونُ من جنسهما، فيكون تأثيره من جنس تأثيرهما، وتأثيرُ القدرة مضادّة لتأثيرهما وهي متقدّمةٌ على الفعل. خلافاً للأشعريّة، وإلاّ لقبح تكليفُ الكافر.

احتجّوا: بأنّها عرضٌ، فلا يبقى.

والجوابُ الطّعنُ في الكبرى وتتعلّق بالضّدَّين، إذ هو معنى القدرة، وللعلم الضّروريّ بأنّ من قدر على الحركة يَمنةً قدر عليها يَسرةً، وإن لم يتصوّر قدرة أُخرى.

والأشاعرة نازعوا في ذلك، وإلاّ لزم وجودهما معاً؛ إذ ليس أحدهما أولى بالوقوع من الآخر.

والجوابُ: المخصّصُ، الإرادةُ؛ وتتعلّقُ من أفعال الجوارح بخمسةٍ: الأكوان والتأليف والاعتماد والصّوت والألم؛ ومن أفعال القلوب بخمسة: الإرادة والكراهة والفكر والاعتقاد والظنّ.

____________________

(1) الملك: 67/2.

٧٤

ولا يصحّ الفعل بالقدرة إلاّ مباشرةً؛ وهو أن يبتدي به في محلّها أو متولّداً. وهو أن يقع بحسب فعل آخر يقفُ كثرته وقلّته عليه إمّا في محلّ القدرة أو متعدّ عنه.

والاختراعُ مختصٌّ بالقديم تعالى؛ والقدرة الواحدة تتعلّقُ بما لا يتناهى من الجنس الواحد في الوقت الواحد إذا تعدّد المحلّ، فإنّه يمكننا أن نحرّك جسماً خفيفاً غير متناه.

وتتعلّقُ من الجنس الواحد في المحلّ الواحد بما لا يتناهى مع تغاير الأوقات؛ إذ كلّ فعل يصدرُ عنها يمكن إيجادُ مثله مع السّلامة؛ وإذا كان الجنسُ والوقت والمحلّ واحداً لم يجز أن تتعلّقَ بأكثر من الجزء الواحد وإلاّ لتعلّقت بما لا يتناهى لعدم الأولويّة، فينتفي التّفاضل بين القادرَين، فيمكن رفع الحبال من الضّعيف كما يمكن من ذي القوّة الشّديدة.

وتتعلّق من المختلف مع إتّحاد الوقت والمحلّ بما لا يتناهى؛ إذ لا شيء إلاّ ويصحّ منّا أن نفعل له إرادةً؛ ولو لا تعلّقُ قدرتنا بجميع هذه الإرادات المختلفة لما صحّ ذلك.

واختلف الشّيخان، فجوّز أبو هاشم خلوّ القدرة عن الأخذ والتّرك إلاّ مع وجود داع إلى أحدِهما؛ فإنّه لو وجب فإمّا لأمر يرجع إلى كونه قادراً فقط، فيلزم مثله في القديم تعالى، أو لشيء يرجع إلى القدرة مع تساوي نسبتها إلى المتولّد والمبتدأ؛ ولو جاز في أحدهما لجاز في الثّاني، لكن

٧٥

التّالي باطلٌ، وإلاّ لكان الجسمُ إذا سكّنه القوي يكون قد فعل في كلّ حال فيه من السّكون بجميع قدرة، فلا يتأتّى من الضّعيف تحريكه، لكن يصحّ منّا تحريك ما سكّنه القويّ بل القادرُ لنفسه.

وقال أبو عليّ والكعبيّ: لا يجوزُ خلوّ القادر بقدرة من أخذٍ أو ترك في المباشر من الأفعال إلاّ عندَ منع؛ إذ لو جازَ الخلوّ وقتاً مّا لجازَ دائماً، وذلك يقتضي جواز خلوّه (1) من الطاعات والمعاصي ومن استحقاق المدح والذّمّ؛ ولأنّه لو جاز خلوّه من الفعل لوجب إذا دخل دار غيره بإذنه ثمّ نهاه (2) عن القعود؛ إن ينقلب ذلك الحَسنُ قبيحاً، فلابُدّ من تجديد الكون حالاً فحالاً ليثبت استحقاق الذّمّ.

وفيه نظرٌ؛ لمنع الحصر في الأوّل وبقاء الأكوان، ومنع الملازمة في الثّاني، لأنّه يعرض لدواعي الحاجة فلابدّ من كونه فاعلاً وقتاً مّا، والمنهيُّ عن القعود مستحقّ للذّم وإن لم يُجدّد الأكوان؛ لأنّه لم يفعل ما وجب عليه من الخروج كما يستحقّ الذّم لو وضع متاعه بعدَ الإذن، ثمّ حَظرَ عليه مع أنّه لم يجدّد الأكوان فيه.

ومنعت المعتزلة في تعلّق المقدورِ الواحدِ بقادرين؛ إذ يجوزُ اختلاف دواعيهما فيعلم أحدهُما حُسنه، فيدعوه الدّاعي إلى إيقاعه ويعتقد الآخر

____________________

(1) ألف: خلوّ.

(2) ج: منهى.

٧٦

قبحه؛ فيصرفه هذا الاعتقادُ عن إيقاعه، فيجتمع فيه النّقيضان.

وإذا وجب تغايرُ المقدور وجب اختلاف القُدَر، فليست متماثلةً ولا متضادّةً؛ لأنّ تضادّ المتعلّقات إنّما يصحّ إذا كان المتعلّق واحداً؛ ثم يتعلّقُ أحدهما بالعكس من تعلّق الآخر؛ وهذا ممتنعٌ في القُدر، لأنّ تعلّقها غير مختلف، فليس إلاّ لأنّ متعلّقها واحدٌ، وحينئذ تكون متماثلةً. وإذا كانت مختلفةً صحّ وجود الكثير منها في محلّ واحد ويصح البقاء على القُدر من غير توقّف على بقاء المقدور وليست مقدورةً لنا وإلاّ لأمكننا أن نزيدَ في قوانا.

والعجزُ عدمُ القدرة عمّا من شأنه أن يكونَ قادراً؛ وعند الاشاعرة وأبي عليّ وأبي هاشم أوّلاً إنّه صفةٌ وجوديّةٌ مضادّةٌ للقدارة (1) ؛ لأنّه ليس كونُ إحداهما عدماً للأُخرى أولى من العكس؛ وهو ضعيفٌ لأنّ الاحتمال لا يوجب الجزم. (2)

المطلب العاشرُ: في الاعتقاد

وهو أمرٌ ذهنيٌّ يجده الحيٌّ من نفسه ويدرك التّفرقة بينه وبينَ غيره بالضّرورة؛ ويمكن أن يحكم فيه بنفي أو إثبات؛ وهذا الحكمُ إمّا أن يكون جازماً أو لا، والأوّل إمّا أن يكون مطابقاً أو لا، فإن كان مطابقاً فإمّا أن يكون

____________________

(1) ب، ج: للقدرة.

(2) ألف: الجرم.

٧٧

ثابتاً أو لا، والثّابتُ هو العلم وغيره هو الاعتقاد الحق المستندُ إلى التقليد، وغير المطابق هو اعتقادُ الجاهل، وغير الجازم إن كان راجحاً فهو الظنُّ، وإن كان مرجوحاً فهو الوهمُ، والمتساوي الشّكّ.

واختُلفَ في العلم، فقيل: لا يُحدُّ وإلاّ دار.

وقيل: إنّه سلبيٌّ؛ وهو خطأٌ، وإلاّ لم يكن سلبَ أيّ شيء كان، بل سلبَ مقابله؛ فإن كان سلباً كان العلمُ ثبوتيّاً، وإن كان إيجاباً لكان (1) عدمُه صادقاً على العدم، فيكونُ العلم صادقاً على المعدوم.

وقيل: إنّه انطباعُ صورة المعلوم في العالِم؛ وأُبطِلَ بأنّ من تصوّر الحرارةَ كان حارّاً وليس بجيّد، فإنّ الحاصل ليس الماهيّةَ، بل الصّورةُ؛ والحقّ أنّه صفةٌ حقيقيّةٌ يلزمُها الإضافةُ إلى المعلوم.

القائلون بـ (الأحوال) جعلوا العلمَ عرضاً يوجبُ العالميّةَ، وأثبتوا تعلّقاً للعالميّة بالمعلوم، وكما يتعلّقُ العلمُ بالموجود كذا يتعلّق بالمعدوم، كما نعلم طلوعُ الشّمس غداً؛ خلافاً لبعضهم، حيث أوجبوا تعلّقَه بالموجود؛ لأنّ كلّ معلوم متميّزٌ، وكلّ متميّز ثابتٌ.

والجواب: أنّ الثّبوتَ أعمُّ من الذّهنيّ والخارجيّ، ثمّ المعدومُ إن كان بسيطاً عُلِمَ بالنّسبة، كما نقول: (2) ليس لِلّه - تعالى - ضدٌّ، نسبته إليه نسبةُ السّواد إلى البياض؛ وإن كان مركّباً تعلّق العلمُ بأجزائه الوجوديّة، كالعلم

____________________

(1) ب: كان.

(2) ألف: يقول.

٧٨

بعدم اجتماع الضّدين؛ فإنّا نعقلُ السّوادَ والبياضَ والاجتماعَ، ثمّ نعقلُ أنّ ذلك الاجتماعَ غيرُ حاصل بين (1) السّواد والبياض؛ والعلمُ تابعٌ للمعلوم وحكايةٌ عنه، بمعنى أنّ الأصل في هيئة التّطابق هو المعلوم، وإن جاز تقدّمُ العلم كما يتقدمُ الحكاية.

وفي تعلّقه بنفس العالم إشكالٌ من حيث وجوب تعلّق الإضافة بالمتغايرين.

والاعتذارُ بأنّ كونه عالماً مغايرٌ لكونه معلوماً، أو بتغاير الجزئيّ والكلّيّ باطلٌ؛ لأنّ التّغايرَ بالعالميّة والمعلوميّة متأخّرٌ عن العلم فيدورُ. والكلّيّ جزء الماهيّة، لا نفسُها.

قال أبو الهذيل: إنّ العلمَ معنىً مغايرٌ للاعتقاد، وإلاّ لكان كلُّ اعتقاد علماً.

وهو خطأٌ؛ فإنّه اعتقادٌ خاصٌّ.

وقال أبو عليّ: إنّه من قبيل الاعتقاد وإلاّ لكان ضدّاً، فيمتنعُ اجتماعُهما أو مخالفاً، فلا ينتفيان بضدٍّ واحد، فتعيّن التّماثل.

والعلمُ مقدورٌ لنا، لتوجُه الأمر به. نعم الضروريّ من فعله تعالى ولمّا شرطت المطابقةُ في العلم امتنع تعلّق علم واحد بمعلومين.

وجوّز الكعبيّ تعلّقَ العلم الواحد بمعلومين متلازمين؛ والمعلومُ

____________________

(1) ب: من.

٧٩

إجمالاً معلومٌ من وجه ومجهول من آخر، والوجهان متغايران. فالوجهُ المعلوم لا إجمالَ فيه، والمجهول غير معلوم البتّة.

نعم لمّا (1) اجتمعا في شيء ظنّ مغايرةُ الإجماليّ للتّفصيليّ، والتّنافي بينَ اعتقادي الضّدين، ذاتيّ.

ويصحّ تعلّق العلم بالعلم، واختلفوا، فقال الشّيخان: إنّه علمٌ بالمعلوم، وقال أبو عبد الله وأبو إسحاق (2) وقاضي القضاة: إنه علمٌ بكون العلم على حال أو حكم. ولا تضادَّ في العلوم (3) ، بل فيها متماثلٌ ومختلفٌ. ويصحّ تضادُّ اعتقادان، سواء كانا جهلين أو أحدهما علماً والآخرُ جهلاً.

والعلمُ منه واجبٌ؛ كمعرفته تعالى؛ لأنّها دافعةٌ للخوف الحاصل من الاختلاف، ولأنّ الشكر واجبٌ ولا يتمّ بدونها، وكالعلم بما كلّف به.

والسّهو عند الشّيخين وأبي إسحاق أنّه معنىً يضادُّ العلم. (4)

وقال قاضي القضاة وأبو إسحاق أيضاً: إنّه عدمُ العلم بالأُمور الّتي جرت العادةُ بأن تُعلَمَ. والحقُّ أنّه عدمُ العلم بعدَ حصوله.

وأمّا الشّك فعند أبي عليّ وأبي القاسم أنّه معنىً مُضادٌّ للعلم خلافاً لأبي هاشم.

واتّفق الشّيخان على جواز بقاء العلوم في جنسها. ومنع أبو إسحاق

____________________

(1) ج: لو.

(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاسفراييني، توفّي سنة 418هـ. الأعلام: 1/61.

(3) ج: في المعلوم.

(4) ج: مضادّ للعلم.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257