• البداية
  • السابق
  • 347 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70241 / تحميل: 8308
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ثانياً: إن تنصيب علي (عليه‌السلام ) لم يكن حين ذهاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من المدينة إلى مكة، بل كان حين رجوعه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من مكة إلى المدينة، بعد أدائه مناسك الحج(١) .

ويظهر من كلام الذهبي: أن صاحب هذا الزعم الباطل هو ابن داود، فعمل ابن جرير كتاب الفضائل ردّ فيه عليه، والظاهر: أنه سماه (كتاب الرد على الحرقوصية)(٢) نسبة إلى حرقوص بن زهير زعيم الخوارج، معرضاً: بأن صاحب هذا الزعم كان خارجياً.

وقال الذهبي: إنه رأى مجلداً من كتاب ابن جرير، فاندهش له ولكثرة

____________

١- إقبال الأعمال ص٤٥٣ و (ط مكتب الإعلام الإسلامي) ج٢ ص٢٧٩ وأشار إلى كتاب ابن جرير في: البداية والنهاية ج١١ ص١٤٦ وتهذيب التهذيب ج٧ ص٣٣٩ وقاموس الرجال ج١١ ص٢٦٤ وكشف المهم في طريق خبر غدير خم ص٨٢ والفهرست للطوسي ص١٥٠ وبحار الأنوار ج٩٥ ص٣٠١ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٢٢٨ والغدير ج١ ص٢٣ وأسد الغابة ج١ ص٣٠٨ وتنبيه الغافلين ص٦٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٧٤.

٢- راجع: مشكل الآثار ج٢ ص٣٠٨ والصواعق المحرقة ص٤٢ و ٤٣ والمعتصر من المختصر ج٢ ص٣٠١ والمرقاة في شرح المشكاة ج١٠ ص٤٧٦ وشرح الأخبار ج١ ص٨١ والمسترشد للطبري ص٣٥ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج٢ ص٢٣٩ وبحار الأنوار ج٣٧ ص١٢٦ والغدير ج١ ص١٥٣ ورجال النجاشي ص٣٢٢ وقاموس الرجال ج٩ ص١٥١ و ١٥٤ و ١٩٣.

٣٠١

تلك الطرق(١) .

علي (عليه‌السلام ) بعد العبدين الصالحين:

ورد في رواية جرير بن عبد الله البجلي لواقعة الغدير: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أخذ بذراع علي (عليه‌السلام ) وقال:

(من يكن الله ورسوله مولاه، فإن هذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. اللهم من أحبّه من الناس فكن له حبيباً، ومن أبغضه فكن له مبغضاً. اللهم إنّي لا أجد أحداً استودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين(٢) غيرك(٣) ، فاقض له بالحسنى.

____________

١- تذكرة الحفاظ ج٢ ص٧١٣ ومشكل الآثار ج٢ ص٣٠٨ والصواعق المحرقة ص٤٢ و ٤٣ والإمام علي بن أبي طالب "عليه‌السلام " للرحماني ص٨٠٧ والمعتصر من المختصر ج٢ ص٣٠١ وفتح الملك العلي ص١٥ والمرقاة في شرح المشكاة ج١٠ ص٤٧٦ والمسترشد للطبري ص٤٣ والكنى والألقاب ج١ ص٢٤١ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٢١٨ والغدير ج١ ص١٥٢ و ٣٠٧.

٢- الغدير ج١ ص٢٣ وخلاصة عبقات الأنوار ج٩ ص١١٣ و ١١٤ وكنز العمال ج١٣ ص١٣٨.

٣- راجع: الغدير (تحقيق مركز الغدير للدراسات) ج١ ص٦٢١ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٠٦ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص٣٥٧ وتاريـخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٢٣٧ والإكمال في أسماء الرجال ص٣٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٦ ص٥٦٤ وج٣٠ ص٤٢٢ عن مخـتـصـر تـاريـخ دمشق (ط دار الفـكـر) ج١٧ = = ص٣٥٨ وهداية العقول ص٣١ وقال في الغدير: في تعليق هداية العقول (ص ٣١): لعله أراد بالعبدين الصالحين أبا بكر وعمر، وقيل: الخضر وإلياس.

وقيل: حمزة وجعفر رضي الله عنهما، لأن علياً "عليه‌السلام " كان يقول عند اشتداد الحرب: وا حمزتاه ولا حمزة لي؟! وا جعفراه ولا جعفر لي؟!

أقول: هذا رجم بالغيب، إذ لا مجال للنظر في تفسير العبدين الصالحين بمن ذكر إلا أن يعثر على نص، والظاهر: عدم ذلك لما ذكره سيدي العلامة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن المفضل "رحمه‌الله " لما سأله بعضهم عن تفسير الحديث، فأجاب بما لفظه: لم أعثر عليه في شيء من كتب الحديث، إلا أن في رواية مجمع الزوائد ما يدل على عدم معرفة الراوي أيضاً بالمراد بالرجلين، لأن فيه قال بشر، أي الراوي عن جرير: قلت: من هذان العبدان الصالحان؟!

قال: لا أدري.

قال "رحمه‌الله ": ومثل هذا إن لم يرد به نقل فلا طريق إلى تفسيره بالنظر هـ. راجع: الغدير ج١ هامش ص٦٢.

وقال في كتاب على ضفاف الغدير: وأخرجه عنه أحمد بن عيسى المقدسي في الجزء الثاني من فضائل جرير بن عبد الله البجلي الموجود في المجموع ٩٣ في المكتبة الظاهرية. أخرجه في الورقة ٢٤٠.

وأخرجه ابن عساكر في تاريخـه: رقم ٥٨٧، وابن منظور في مختصر تاريخ دمشق ص١٧ ص٣٥٨، والقرافي في نفحات العبير الساري: ق٧٦/ب، والسيوطي في جمع الجوامع ص١ ص٨٣١، وفي قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة= = ص٢٧٧ ح١٠٢، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص٢٠٦، والشوكاني في در السحابة ص٢١٠، والكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص١٩٤ وإسحاق بن يوسف الصنعاني في تفريج الكروب في حرف الميم.

٣٠٢

٣٠٣

قال بشر (الراوي عن جرير) قلت: من هذان العبدان الصالحان؟!

قال: لا أدري(١) .

ونقول:

إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أشار إلى أن العبدين الصالحين الذين سيكون علي (عليه‌السلام ) ثالثهما بعده، كانا على قيد الحياة، وأن لهما دوراً في وديعته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. ولعلهما: الخضر وإلياس.

لكن لا مجال للتأكيد على أنهما هما اللذان قصدهما (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بكلامه هذا.. وإن كان ذلك محتملاً في حد نفسه. بل قد يقال: أن أحداً لا يصلح للاستيداع، مع وجود الحسنين(عليهما‌السلام ) فهو من قبيل: رب لا تذرني فرداً، أو من قبيل: إن تهلك هذه العصابة لا تعبد، فهو بمثابة طلب حفظ الحسنين (عليهما‌السلام ) على لسان رسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

____________

١- الغدير ج١ ص٢٣ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٠٦ والمعجم الكبير ج٢ ص٣٥٧ و ٣٥٨ والإكمال في أسماء الرجال ص٣٦ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٢٣٦ وشرح إحقاق الحق ج١٦ ص٥٦٤ وج٣٠ ص٤٢٣ وأسد الغابة ج١ ص٣٠٨ وقال: أخرجه الثلاثة. يريد: ابن عبد البر، وابن مندة، وأبا نعيم.

٣٠٤

الزهري.. وحديث الغدير:

وقد حدث الزهري بحديث الغدير، فقيل له: لا تحدث بهذا بالشّام وأنت تسمع ملء أذنيك سب علي.

فقال: والله، إن عندي من فضائل علي (عليه‌السلام ) ما لو تحدّثت بها لقتلت(١) .

فكلام الزهري هذا صريح في: أن لديه فضائل أكثر صراحة في حقيقة فضله (عليه‌السلام )، وأشد إيلاماً لمناوئيه، وأكثر إثارة لغضبهم إلى حد أنها تدفعهم إلى قتله..

إلا إذا كان مراده: أن كثرتها هي الموجبة لغضب أعداء علي (عليه‌السلام ).

فإذا كان الزهري يكتم من فضائله ما يؤدي به إلى القتل، فما بالك بما كان يكتمه العشرات والمئات غير الزهري من فضائله (عليه‌السلام )؟!

عمر في خدمة جبرئيل:

عن عمر بن الخطاب، قال: نصب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً علماً، فقال: (من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، اللهم أنت شهيدي عليهم).

____________

١- أسد الغابة ج١ ص٣٠٨ وقاموس الرجال ج١٢ ص٣٨ وخلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص٢٢٨ والغدير ج١ ص٢٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٧٤ و ٣٧٦.

٣٠٥

قال عمر بن الخطاب: وكان في جنبي شاب حسن الوجه، طيب الريح، قال لي: يا عمر، لقد عقد رسول الله عقداً لا يحله إلا منافق (زاد في مودة القربى، قوله: فاحذر أن لا تحله). (لعل الصحيح: أن تحله، أو فاحذر.. لا تحله).

قال عمر: فقلت: يا رسول الله، إنك حيث قلت في علي كان في جنبي شاب حسن الوجه، طيب الريح قال لي: يا عمر لقد عقد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عقداً لا يحله إلا منافق

فأخذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بيدي، فقال: يا عمر، إنه ليس من ولد آدم، لكنه جبرائيل، أراد أن يؤكد عليكم ما قلته في علي(١) .

ونقول:

إننا نلاحظ ما يلي:

١ـ قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): اللهم أنت شهيدي عليهم.. كأنه إشارة إلى أن هذا الحدث سوف يتعرض للإنكار من قبل جماعة من الناس، أو على الأقل لتحريف دلالته، والتلاعب بمقاصده ومراميه، المساوق

____________

١- مودة القربى ص١٨ لشهاب الدين الهمداني، المودة الخامسة، وينابيع المودة ج٢ ص٢٨٤ والغدير ج١ ص٥٧ وراجع: خلاصة عبقات الأنوار ج٧ ص١٨٧ وج٩ ص٢٧٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٦ ص٢٥٢ وج٢١ ص٦٥ والإمام علي "عليه‌السلام " في آراء الخلفاء ص٧٣ عن الكوكب الدري للكشفي ص١٣١ المنقبة رقم١٥٤.

٣٠٦

لإنكاره. وسيعرض الأمر يوم القيامة للحساب والمطالبة، فيحتاج (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى الشهادة له بأنه قد ابلغهم مقاصده، واضحة لا لبس فيها.

٢ ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حين أراد أن يخبر عمر بحقيقة ذلك الشاب الحسن الوجه، الطيب الريح أخذ بيد عمر، لكي تتشارك المشاعر في وعي وحفظ ما سيلقيه إليه.. فإن تحريك الحواس الظاهرية باللمس، ونبرات الصوت، وبتعابير الوجه، يجعل المشاعر أكثر تحفزاً لمتابعة ما يجري بانتباه أشد، ويهيء الذاكرة لاختزان ذلك كله بصورة أعمق وأدق.

٣ ـ إن جمال ذلك الشاب قد لفت نظر عمر، حيث لم يعهد في نظرائه وأقرانه جمالاً أو طيب ريح يستحق الذكر، إلا ما كان من ذلك في بني هاشم.

ثم جاءت كلمة ذلك الشاب متوافقة مع مظهره في التأثير على عمر إلى حد دعاه إلى استيضاح الحال من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مباشرة.

ولعله كان يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن يسجل شكواه منه، علّه يسمع من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) استنكاراً لكلام ذلك الشاب وإدانة له، لكي يرتاح عمر، وتهدأ خواطره، ويزول بلباله.. ولكن عمر فوجئ بما أخبره به رسول الله، وهو أن ذلك الشاب هو جبرئيل..

ولنا أن نتصور كم كان عمر يحلم في أن يروي للناس أنه قد رأى جبرائيل، مباهياً بذلك ومفاخراً.. ولكن ما يصده عن ذلك كان أعظم وأخطر، فإن حديث جبرائيل قد نص على نفاق من يحل العقدة التي عقدها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ).

وهل يمكن أن يرضى أولئك الذين ساروا في هذا الإتجاه بما قاله

٣٠٧

جبرئيل عنهم؟!

وإذا كان جبرئيل قد قال ذلك، فكيف يمكن بعد هذا ادعاء أن هذا التصرف كان من ابتكارات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حباً بصهره وابن عمه؟

ماذا بعد الأئمة؟!:

قلنا: إن قريشاً كانت مهتمة بصرف الأمر عن علي (عليه‌السلام ) بأي ثمن كان، ولو بإثارة الشبهات والشكوك حول عدل النبي وإنصافه، بل إلى حد اتهامه في عقله، حين قالوا: إن النبي ليهجر، فضلاً عن الشائعات وحياكة المؤمرات.. التي كانت تدفع بها في كل اتجاه.. وكانت تمانع بالفعل وبالقول، وتتحدى، وتعج، وتضج، ولكنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يزل يهتف باسمه، ويعمل لإحكام أمره، وتثبيت إمامته من بعده. حتى أمام الحشود الغفيرة في يوم عرفة.

وحين غُلِبت قريش على أمرها، وأعلن النبي للأمة كلها يوم عرفة: أن الأئمة الإثني عشر كلهم من قريش، ومن بني هاشم قصدته قريش إلى منزله، ليستوضحوا منه الأمر عن هؤلاء الأئمة، وماذا يكون من بعدهم، لترى إن كان لها نصيب، ولو بعد انقضاء عهد الأئمة، وإذ بها تفاجأ بقوله: ثم يكون الهرج، وفي نص آخر: (الفرج)، كما رواه الخزاز(١) .

____________

١- راجع: كفاية الأثر ص٥٢ ويقارن ذلك مع ما في إحقاق الحق (الملحقات) وغيبة النعماني ص١٠٤ والغيبة للطوسي ص١٢٨ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٥٠ = = وغيرهم. فإنهم صرحوا بان قريشاً هي التي أتته. وراجع: الصوارم المهرقة للتستري ص٩٣ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٣٦٥ ومكاتيب الرسول ج٣ ص٧٢٧ ومسند أحمد ج٥ ص٩٢ وسنن أبي داود ج٢ ص٣٠٩ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٣ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص٢٥٣ وتهذيب الكمال ج٣ ص٢٢٤ والبداية والنهاية ج٦ ص٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج١٢ ص٣٠٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣ و ١٦ و ٢٠ وج٢٩ ص٩١ و ٩٤ و ٩٦.

٣٠٨

أي يوم أعظم حرمة؟!:

ولكي نربط الأحداث ببعضها نعود فنذكر القارئ بما جرى في عرفة، فنقول:

إنه بالرغم من أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان قد ذكرهم بشرف الزمان، وشرف المكان، وشرف المناسبة، فإن ذلك لم يمنعهم من إساءة الأدب مع رسول الله والإسراف في التحدي لله ولرسوله، فقد سألهم: عن أي شهر أعظم حرمة، وأي بلد أعظم حرمة، وأي يوم أعظم حرمة(١) .

____________

١- راجع هذه الفقرات الواردة في خطبة النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " في حجة الوداع في المصادر التالية: مسند أحمد ج٣ ص٣١٣ و ٣٧١ وكنز العمال ج٥ ص٢٨٦ و ٢٨٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج٨ ص٦٠٠ والكافي ج٧ ص٢٧٣ و ٢٧٥ ودعائم الإسلام ج٢ ص٤٨٤ والمجموع للنووي ج٨ ص٤٦٦ وج١٤ ص٢٣١ والمحلى لابن حزم ج٧ ص٢٨٨ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢٩ ص١٠ و (ط دار الإسلامية) ج١٩ ص٣ والتفسير الصافي ج٢ ص٦٧ وتفسير نور الثقلين = = ج١ ص٦٥٥ وتفسير القمي ج١ ص١٧١ ومستدرك الوسائل ج١٧ ص٨٧ وبحار الأنوار ج٣٧ ص١١٣ وإمتاع الأسماع ج١٠ ص٣٤٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٣٩١ والبداية والنهاية ج٥ ص٢١٥ وجامع أحاديث الشيعة ج٢٦ ص١٠٠ ومستدرك سفينة البحار ج٧ ص١٧٠ إضافة إلى مصادر أخرى تقدمت.

٣٠٩

فأقروا له بالحقيقة، ولكن ذلك لم يمنعهم من العجيج والضجيج، والتحدي.

ولا ندري ماذا كان سيحصل لو أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) صرح لهم بإسمه (عليه‌السلام ) في ذلك الموقف، فهل كانوا سيكتفون بشتم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (والعياذ بالله) أم أنهم سيتجاوزون ذلك إلى قذفه بالحصباء أو بالحجارة، أو إلى ما هو أعظم من ذلك؟! وهو مباشرة قتله والعياذ بالله!!

التهديد الإلهي حسم الأمر:

وحين جاء التهديد الإلهي لهم، الذي صرح باعتبارهم في دائرة الكفر الذي يفتح باب الحرب معهم، وتضمن تطمين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى أنهم سيكونون عاجزين عن فعل أي شيء يضر في أمر إبلاغ ذلك الأمر الخطير، وإقامة الحجة كما يريده الله في قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (١) .

____________

١- الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٣١٠

وحين أبلغهم أن الله سبحانه يعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين وأساس الرسالة.. مما يعني: أنه قد يحل بهم عذاب الإستئصال، فهو ينذرهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، أو على الأقل أنه سيعاملهم على أساس أنهم عادوا إلى نقطة الصفر، التي اقتضت حرب بدر، وأحد، والخندق، وحنين وسوى ذلك.. وهذا ما لا طاقة لهم به..

نعم.. حين بلغ الأمر إلى هذا الحد، قرروا الإنحناء أمام العاصفة، واللجوء إلى سياسة المداراة والمكيدة، وانتظار الفرصة.. حتى لا تحل كارثة فاضحة، تتلاشى معها جميع الآمال..

ولزمتهم الحجة بالبيعة التي أعطوها له (عليه‌السلام ) يوم الغدير، وقامت الحجة بذلك على الأمة بأسرها.. ولم يكن المطلوب أكثر من ذلك..

وكان ذلك قبل استشهاده (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بسبعين يوماً.

محاولة قتل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

ومما يذكر هنا: أن بعض النصوص يقول: إن تنفير الناقة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليلة العقبة ليسقط في ذلك الوادي السحيق قد كان بعد حجة الوداع، وبعد البيعة لعلي (عليه‌السلام ) يوم الغدير..

ويمكن ترجيح هذا النص، لكثير من الإعتبارات التي ألمحنا إليها في كتابنا هذا وفي كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

٣١١

٣١٢

الباب الثاني عشر: من تاريخ علي (عليه‌السلام ) في عهد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٣١٣

٣١٤

الفصل الأول: أحداث ذات مغزى..

٣١٥

٣١٦

أبو هريرة أعلم من أبي بكر وعمر:

وحدث أبو هريرة: أنه كان في المدينة مجاعة، ومر بي يوم وليلة لم أذق شيئاً، وسألت أبا بكر آية كنت أعرف بتأويلها منه، ومضيت معه إلى بابه، وودعني وانصرفت جايعاً يومي.

وأصبحت وسألت عمر آية كنت أعرف منه بها، فصنع كما صنع أبو بكر.

فجئت في اليوم الثالث إلى علي، وسألته ما يعلمه فقط. فلما أردت أن أنصرف دعاني إلى بيته، فأطعمني رغيفين وسمناً، فلما شبعت انصرفت إلى رسول الله.

فلما بصر بي ضحك في وجهي وقال: أنت تحدثني أم أحدثك، ثم قص علي ما جرى، وقال لي: (جبرئيل عرفني)(١) .

ونقول:

نلاحظ هنا أموراً نقتصر منها على ما يلي:

____________

١- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج٢ ص١٢٢ و(ط المكتبة الحيدرية) ج١ ص٣٤٧ و (ط أخرى) ج٢ ص٧٣ وبحار الأنوار ج٤١ ص٢٧.

٣١٧

١ ـ إن أبا هريرة يصف نفسه بأنه أعرف من أبي بكر وعمر بتأويل الآيات التي سألهما عنها، فكيف نوفق بين قوله هذا، وبين قول الناس الذين لم يروا أبا بكر ولا غيره من الصحابة: بأنه أعلم من أبي هريرة وغيره؟!

٢ ـ إنه ذكر: أنه سأل علياً عما يعلمه فقط، أي سأله عما يعلمه هو دون سواه.. ولا يعلمه غيره..

فدل أيضاً بذلك على أنه يرى أن لدى علي (عليه‌السلام ) علوماً قد تفرد بها عن غيره، وذلك ينقض أيضاً دعواهم لحوق غيره (عليه‌السلام ) به. فضلاً عن دعواهم الغريبة والمضحكة للثكلى: أن غيره (عليه‌السلام ) أعلم منه.

٣ ـ لا بأس بالمقارنة بين فعل علي (عليه‌السلام ) مع أبي هريرة بعد جوابه له، وبين فعل غيره معه!!

٤ ـ نلاحظ: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذكر لأبي هريرة أن جبرئيل عرفه بما جرى.. وذلك يدل على أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان يعرف بتفاصيل ما يجري للناس، وأن ذلك كان بواسطة الوحي الإلهي.. فليس لأبي هريرة ولا لغيره: أن يظن أنه قد اطلع على ما جرى بنفسه، أو بإخبار علي (عليه‌السلام ) إياه، أو بواسطة ناظر ومراقب من الناس، أو بأية وسيلة أخرى قد يتوهمها متوهم.

لو كان علي (عليه‌السلام ) معكم لما ضللتم:

وعن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن (عليه‌السلام ): أن ماعز بن مالك أقر عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالزنا، فأمر به أن يرجم،

٣١٨

فهرب من الحفرة، فرماه الزبير ـ بن العوام ـ بساق بعير، فعقله به فسقط، فلحقه الناس، فقتلوه.

فأخبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بذلك، فقال: هلا تركتموه يذهب إذا هرب، فإنما هو الذي أقر على نفسه. وقال: أما لو كان علي حاضراً معكم لما ضللتم.

قال: ووداه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من مال المسلمين(١) .

ونقول:

١ ـ إن من يثبت عليه الزنا بإقراره يرجم، ولكنه إذا هرب من الحفيرة، لا يعاد إليها، بل يكف عنه، وكأنه لأجل أن هربه بمثابة رجوع عن إقراره ذاك.

٢ ـ إن كلمة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (أما لو كان علي حاضراً معكم لما ضللتم) يفيد ما يلي:

ألف: إن هذ الحكم كان قد بلغهم، ولكنهم ضلوا، بعد هدايتهم.

ب: إن التعبير بالضلال دون التعبير بالنسيان، أو الغفلة يشعر بذمهم على ذلك، وأنهم غير معذورين في فعلهم..

ج: إن وجود علي (عليه‌السلام ) معهم يفرض عليهم الإلتزام بأحكام الله، ويمنع من انسياقهم وراء عصبياتهم، وميولهم وأهوائهم، حين يريدون

____________

١- الكافي ج٧ ص١٨٥ والمحاسن للبرقي ج٢ ص٣٠٦ ووسائل الشيعة ج١٨ ص٣٧٦ وبحار الأنوار ج٧٦ ص٤٤.

٣١٩

إجراء الأحكام.

٣ ـ يلاحظ: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وصفهم بالضلال حين فقدهم علياً (عليه‌السلام ) من دون تقييد، فلم يقل: ضللتم عن ذلك الحكم..

ليفيد: أن ضلالهم حين يفقدون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلياً (عليه‌السلام ) يكون عاماً وشاملاً..

٤ ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يؤاخذهم بفعلهم هذا، ولم يغرمهم ديته، لأنهم يدعون الغفلة عن الحكم ونسيانه، أو عدم سماعه من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. فلا محيص من معاملتهم وفقاً لما يظهرونه ولو أمكن تحصيل العلم بالوسائل العادية بوجود متعمد بينهم على سبيل الإجمال، فيصعب تحديد المتعمد للقتل منهم، ويصعب أيضاً تحديد القاتل بصورة أو بأخرى.

٥ ـ وربما كان غير علي (عليه‌السلام ) يعرف الحكم، ولو كان حاضراً معهم لعرفهم به كسلمان مثلاً. ولكن بما أنهم قد لا ينقادون له، لأنهم يستضعفونه، ويتعصبون عليه. أو قد يلجأون إلى تكذيبه إلى غير ذلك من حالات وتصرفات. إلا أنهم لا يمكنهم ممارسة ذلك مع علي (عليه‌السلام ) ، فإنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حصر أمر إعادتهم إلى جادة الصواب به..

يضاف إلى ذلك: أنه (عليه‌السلام ) هو الهادي لهم، والمبين ما يختلفون فيه بعد وفاته كما قاله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وكما أثبتته الوقائع والأحوال.

٣٢٠

أعتق علي (عليه‌السلام ) ألف مملوك:

1 ـ روى عنبسة العابد عن عبد الله بن الحسين بن الحسن، قال: أعتق علي (عليه‌السلام ) في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ألف مملوك مما مجلت يداه، وعرق جبينه، ولقد ولي الخلافة، وأتته الأموال ، فما كان حلواه إلا التمر ، ولا ثيابه إلا الكرابيس(1) .

2 ـ عن الصادق (عليه‌السلام ): أنه أعتق ألف نسمة من كد يده، جماعة لا يحصون كثرة(2) .

ونقول:

إن اهتمام علي (عليه‌السلام ) بعتق المماليك يدل على عمق شعوره الإنساني معهم، حتى إنه (عليه‌السلام ) ليعمل حتى تمجل يداه من أجل أن يدخل السرور على قلوبهم في أعز شيء لديهم، ألا وهو أنفسهم، حيث ينيلهم نعمة الحرية والخلاص من العبودية.

وهذا يدل على أنه كان يفكر في الآخرين بطريقة تختلف عن تفكير

____________

1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص202 والغارات (هامش) ج1 ص92 وبحار الأنوار ج41 ص138 و 139 ونهج السعادة ج8 ص447 وشرح إحقاق الحق ج32 ص245.

2- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص.. و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص388 و (ط أخرى) ج2 ص122 وبحار الأنوار ج41 ص32 وراجع: الثاقب في المناقب ص405 ونهج السعادة ج8 ص452.

٣٢١

غيره. فهو يفكر في إسعادهم، وغيره يزيد في إسعاد نفسه بتعب غيره..

وقد ذكرنا في بعض فصول هذا الكتاب: اعتراض عمر على علي (عليه‌السلام ) حين تسبب في عتق سبي الفرس بإعتاقه نصيبه منهم.

هبني سيفك:

روي: أن علياً (عليه‌السلام ) كان يحارب رجلاً من المشركين، فقال المشرك: يا بن أبي طالب هبني سيفك!!

فرماه إليه.

فقال المشرك: عجباً يا بن أبي طالب، في مثل هذا الوقت تدفع إلي سيفك!

فقال: يا هذا، إنك مددت يد المسألة إليَّ، وليس من الكرم أن يرد السائل.

فرمى الكافر نفسه إلى الأرض، وقال: هذه سيرة أهل الدين، فقبل قدمه، وأسلم(1) .

ونقول:

1 ـ قد يتخيل البعض: أن إقدام علي (عليه‌السلام ) على إعطاء سيفه لذلك المشرك ليس تصرفاً محموداً، بل هو خلاف الحكمة.. لأن فيه إلقاء للنفس في التهلكة. وهو أمر يمنع منه العقل والشرع، فلا ينبغي عدُّ ذلك

____________

1- بحار الأنوار ج41 ص69 عن أبي السعادات في فضائل العترة، ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص.. و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص358 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص602 ونهج السعادة ج8 ص279.

٣٢٢

من فضائله (عليه‌السلام ). بل هو إما مكذوب عليه، أو أن على الشيعة أن يتخلوا عن معنى العصمة فيه (صلوات الله وسلامه عليه)..

وهو خيال باطل، لأن هذا التصرف إنما يكون خلاف الحكمة، وممنوعاً منه عقلاً وشرعاً لو كان علي (عليه‌السلام ) قد فقد السبيل به للنصر على عدوه والوسيلة للتحرز منه. أما إذا كان واثقاً من قدرته عليه، فإن ذلك لا يوجب خللاً في الحكمة، ولا في العصمة..

ولا نقول ذلك على سبيل التخيل والتنظير، والإحتمال العقلي، فقد قرأنا: أنه (عليه‌السلام ) قد انتصر على أعدائه بسيف أعدائه رغم كثرتهم، مثل ما جرى له يوم بات على الفراش ليلة الهجرة. حيث أخذ سيف خالد بن الوليد وصال على مهاجميه، وكانوا عشرة حتى أخرجهم من البيت، وثمة نظائر أخرى لذلك أيضاً تجدها في ثنايا هذا الكتاب..

2 ـ إنه (عليه‌السلام ) أراد أن يقدم لذلك المشرك الأمثولة العملية في الخلق الإسلامي الرفيع، وفي الشجاعة، وفي الثقة بالنفس..

3 ـ وقد تلقفها ذلك المشرك بتدبر، وحكمة، وبفطرة صافية، فوجدت السبيل إلى قلبه، فانفتح قلبه وعقله على مُثُلِ الإسلام العليا. وكان ذلك سبب هدايته وسلامته.. لأنه كان يعرف أن الشرك لا يهدي إلى مكارم الأخلاق، بل إلى ضدها، حيث يكرس حب الدنيا والتعلق بها في قلب الإنسان، ويجعله قاسياً وأنانياً، يضحي بكل شيء في سبيل حفظ نفسه، وفي سبيل الحصول على الملذات. وإن الدين والأمل بما عند الله سبحانه هو الذي ينتج هذا الخلق، ويدعو الإنسان إلى الإلتزام به، حتى في مثل هذه الحالات..

٣٢٣

علي (عليه‌السلام ) في حديث المعراج:

النعماني: بسنده عن محمد بن علي الباقر (عليهما‌السلام )، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): إن الله أوحى إلي ليلة أسري بي: يا محمد، من خلفت في الأرض على أمتك؟! وهو أعلم بذلك.

قلت: يا رب أخي.

قال: يا محمد، إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة، فاخترتك منها، فلا أُذْكَر حتى تُذْكَر معي، فأنا المحمود وأنت محمد.

ثم إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة أخرى، فاخترت منها علي بن أبي طالب وصيك، فأنت سيد الأنبياء وعلي سيد الأوصياء، ثم شققت له اسماً من أسمائي، فأنا الأعلى وهو علي.

يا محمد، إني خلقت علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة من نور واحد، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان من المقربين، ومن جحدها كان من الكافرين.

يا محمد، لو أن عبداً من عبادي عبدني حتى ينقطع، ثم لقيني جاحداً لولايتهم أدخلته النار.

ثم قال: يا محمد، أتحب أن تراهم؟!

فقلت: نعم.

فقال: تقدم أمامك.

٣٢٤

فتقدمت أمامي، فإذا علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجة القائم كأنه الكوكب الدري في وسطهم.

فقلت: يا رب من هؤلاء؟!

قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم، محلل حلالي ومحرم حرامي، وينتقم من أعدائي.

يا محمد، أحببه، فإني أحبه وأحب من يحبه(1) .

ونقول:

يحسن ملاحظة ما يلي من نقاط:

1 ـ إن الوحي الإلهي المتضمن للسؤال عن الذي خلفه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في الأرض يشير إلى أن أصل الإستخلاف أمر مفروغ عنه، ولذلك لم يقل له: هل استخلفت؟! فإذا كانت الرحلة المختصرة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) تحتاج إلى الإستخلاف على الأمة، فهل يمكن أن يستغني عن الإستخلاف حين يرحل عن هذه الدنيا؟!

2 ـ ودل هذا السؤال أيضاً على أن المطلوب هو الإستخلاف في الأمة

____________

1- الغيبة للنعماني ص93 الباب الرابع حديث 25، وبحار الأنوار ج36 ص222 و 280 ومقتضب الأثر للجوهري ص23 و 26 وغاية المرام ج2 ص241 وج3 ص77.

٣٢٥

كلها، ولا يكفي الإستخلاف على الأهل والمال والولد، وغير ذلك من الشؤون المرتبطة به كشخص.

3 ـ وقد بين الإمام (عليه‌السلام ): أن هذا السؤال الإلهي ليس على ظاهره، بحيث يراد منه حصول المعرفة بالمسؤول عنه، فإن الله تعالى منزه عن العجز والجهل، وكل نقص.. بل هو سؤال تقريري يراد به التوطئة لتعريف الآخرين بأمر يحتاج إلى هذا النوع من البيان.. فهو على حد قول الله تعالى لعيسى بن مريم:( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) (1) .

4 ـ والجواب بيا رب أخي، ربما يريد أن يشير إلى بعض صفات خليفته في أمته، وهو أن يكون موضع ثقته، كما يثق الإنسان بأخيه، الذي يكون يكون أعرف الناس به.. وربما يشير به أيضاً إلى منزلته في الفضل والكرامة، حتى استحق أن يتخذه أخاً له، ليدل على قربه فيه، وشبهه به في الحالات والخصوصيات.

5 ـ وقد اكتفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بهذا التوصيف عن ذكر الإسم، ليأتي تطبيق الوصف على الوصوف، من قبل الله تعالى مباشرة، ليدلنا على أنه يمكن معاينة هذا الوصف في علي (عليه‌السلام )، فهو موجود فيه بالفعل.. وليس فيه ادعاء ولا مبالغة، ولا مجازية.

6 ـ ثم جاء الإخبار الإلهي عن اختيار الله تعالى لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

____________

1- الآية 116 من سورة المائدة.

٣٢٦

، وللوصي في شخص علي(عليه‌السلام )، وجعل النبوة والوصاية لهما، ليؤكد أن النبوة والوصاية شأن إلهي لا يرجع للبشر، ولا يحق لهم أن يتدخلوا فيه.

7 ـ إنه تعالى ذكر: أنه هو الذي اشتق لعلي (عليه‌السلام ) اسماً من أسمائه. فدل على أنه تعالى قد ألهم أباه هذا الاسم، ليظهر كمال الإتصال به، والحب له. ولتكن هذه إشارة إلى إيمانه الذي أثبتته الأدلة القاطعة، وإن كان بعض الناس ينكره، بلا مبرر معقول، أو مقبول.

8 ـ وقد جعل تعالى: جحد ولاية المعصومين الأربعة عشر سبباً للكفر ودخول النار، ليدل على أن الموجب للكفر هو إنكار الولاية عن علم ومعرفة، أما لو لم يعتقد بالولاية، ولم يصل الأمر إلى حد الجحود لما هو معلوم عنده، فلا يكفر بذلك.

9 ـ وقد أكد تعالى مقام الحجة من آل محمد (عليه وعليهم‌السلام )، وأنه في وسط المعصومين كالكوكب الدري.. مبيناً أنه هو الذي سوف ينتقم من أعداء الله، ليكون هذا داعياً للناس إلى الإحتياط لأنفسهم، لأنهم يخاف من المجهول، ويسعى الإنسان للتحرز مما خفي عنه فيه.. فكيف إذا عرَّفه بحقيقة ما خفي عليه عالم الغيب والشهادة. فإن المفروض في هذا الحال هو كمال التحرز، والطاعة والإنقياد..

وفي الروايات إشارات كثيرة أخرى، نسأل الله سبحانه أن يوفق أهل الفكر والفضل، لاستخلاصها، وعرضها للناس للإستفادة منها..

٣٢٧

إبليس مؤجل إلى الوقت المعلوم:

1 ـ عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: بينا نحن بفناء الكعبة ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يحدثنا، إذ خرج علينا مما يلي الركن اليماني شيء عظيم، كأعظم ما يكون من الفيلة.

قال: فتفل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وقال: (لعنت).

أو قال: (خزيت) ـ شك إسحاق ـ.

قال: فقال علي بن أبي طالب: ما هذا يا رسول الله؟!

قال: (أوما تعرفه يا علي)؟!

قال: الله ورسوله أعلم.

قال: (هذا إبليس)، فوثب إليه، فقبض على ناصيته، وجذبه فأزاله عن موضعه. وقال: يا رسول الله، أقتله؟!

قال: (أوما علمت أنه قد أجل إلى الوقت المعلوم)؟!

قال: فتركه من يده. فوقف ناحية ثم قال: ما لي ولك يا ابن أبي طالب؟!

والله ما أبغضك أحد إلا وقد شاركت أباه فيه. اقرأ ما قاله الله تعالى:( وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (1) ) (2) .

____________

1- الآية 64 من سورة الإسراء.

2- تاريخ بغداد ج4 ص56 وتاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي ج2 ص226 و = = (ط دار الفكر) ج42 ص289 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص386 وميزان الإعتدال ج1 ص197 ولسان الميزان ج1 ص371 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص225 وج18 ص225 وج21 ص587 وج30 ص343 عن مختصر تاريخ دمشق (نسخة طوب قبوسراي بإسلامبول) ج 17 ص 14 و (ط دار الفكر) ج17 ص373.

٣٢٨

2 ـ عن الكنجي، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال علي بن أبي طالب: رأيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه، فقلت: ومن هذا الذي يلعنه رسول الله؟!

قال: هذا الشيطان الرجيم.

فقلت: والله يا عدو الله، لأقتلنك. ولأريحن الأمة منك.

قال: ما هذا جزائي منك!

قلت: وما جزاؤك مني يا عدو الله؟!

قال: والله ما أبغضك أحد قط إلا شاركت أباه في رحم أمه(1) .

____________

1- تاريخ بغداد ج4 ص57 والغدير ج4 ص324 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص159 والجامع لأحكام القرآن ج1 ص91 وتاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي ج2 ص227 و (ط دار الفكر) ج42 ص290 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص3856 وميزان الإعتدال ج1 ص197 والكشف الحثيث ص65 وكفاية الطالب ص69 ولسان الميزان ج1 ص371 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص225.

٣٢٩

ونقول:

أولاً: لا مانع من تكرر ظهور إبليس، تارة عند الصفا، وأخرى بفناء الكعبة مما يلي الركن اليماني..

ثانياً: يلاحظ: أن إبليس قد ظهر هنا وهناك في صورة الفيل، فما هي خصوصية الفيل في ذلك على غيره؟! هل هي أن الفيل من المسوخ أي من الحيوانات التي مسخ الله بعض الجبارين المسرفين على صورتها؟! أم لأنه أراد التهويل على الناس، لكي لا يتجرأ أحد على أن يقصده بسوء؟! أم لسبب آخر لا نعلمه؟!

ثالثاً: إن تمكن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) منه وإذلاله، يدل على خصوصية له (عليه‌السلام ) وهو من المثوبات التي وفقه الله إليها..

رابعاً: إنه (عليه‌السلام ) لا يقدم على قتله ـ إلا بعد أن يسأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. لأن التصرف بالأمور إلى هذا الحد لا بد أن يكون بإذن منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

خامساً: إن علياً (عليه‌السلام ) قد سأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إن كان يأذن بقتله. ولكنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يقل: لا آذن لك، بل قال: أوما علمت أنه أُجِّلَ إلى الوقت المعلوم؟!

فدل بذلك: على أن قتله ليس محرماً في ذاته، بل هو مستحق للقتل، ولكن وضع الأجل له هو الذي يمنع من قتله..

سادساً: إن علياً (عليه‌السلام ) بقبضه على ناصية إبليس قد دل على أن قتله ممكن ومقدور له.. وهذه مزية تثبتها له هذه الرواية، ليمتاز بها عن

٣٣٠

سائر الناس..

ولكن هل قتله يزيل الشرور من بين الناس؟! أم أن شياطين الجن والإنس، من ذرية إبليس، سوف يواصلون عملهم في إضلال الناس، ودعوتهم إلى المعاصي، وإن كان رأسهم المدبر قد زال؟!

سابعاً: إن ما قاله إبليس عن مشاركته آباء مبغضي علي (عليه‌السلام ) في أبنائهم لا يعني أن إبليس مصيب في عمله، فإن بغضه (عليه‌السلام ) جريمة عظيمة، وفعل إبليس هذا عدوان ومعصية، وتمرد على أمر الله سبحانه..

غير أن الله سبحانه حين يرفع ألطافه عن مبغضي علي (عليه‌السلام ) يتسلط عليهم إبليس بأنواع من التصرفات.

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يخبر باستشهاد علي (عليه‌السلام ):

عن أنس بن مالك قال: كان علي بن أبي طالب مريضاً، فدخلت عليه وعنده أبو بكر وعمر جالسان.

قال: فجلست عنده، فما كان إلا ساعة حتى دخل نبي الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فتحولت عن مجلسي، فجاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى جلس في مكاني، وجعل ينظر في وجهه.

فقال أبو بكر أو عمر: يا نبي الله، لا نراه إلا لما به.

فقال: لن يموت هذا الآن، ولن يموت إلا مقتولاً(1) .

____________

1- تاريخ مدينـة دمشق ج3 ص267 و (ط دار الفكـر) ج 42 ص 536 وراجع: = = الكامل في التاريخ ج3 ص387 وشرح إحقاق الحق ج8 ص780 وج23 ص384 وج23 ص392 و32 ص596 وعن الفخري في الآداب السلطانية (طبع بغداد) ص82

٣٣١

ونقول:

أولاً: لم يحدد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لأبي بكر، ولا لعمر تاريخ استشهاد علي (عليه‌السلام ). بل اكتفى ببيان أنه لا يموت في مرضه ذاك. ثم نفى نفياً قاطعاً ومؤبداً موته (عليه‌السلام ) بغير القتل.

ثانياً: إن هذا الإخبار، يدلهم على إمكانيته قتل علي (عليه‌السلام ) بل على أن القتل واقع لا محالة.. وهذا يسقط أي توهم يريد أن ينحو منحى الغلو وأن يتجاوز الحدود في علي (عليه‌السلام ).

كما أنه يسقط ما يراد إشاعته من أن ما حققه (عليه‌السلام ) من انتصارات ، وإنجازات هائلة في ساحات النزال والقتال، ثم خوف الناس منه، ونكولهم عنه لا يجعله مستحقاً للتعظيم والتكريم، والتقديم، لأنه جاء نتيجة التصرف الإلهي، الذي يريد صنع النصر على يد أي كان من الناس.. فليس في ذلك فضل لعلي (عليه‌السلام ) ، لأنه لا يستفيد من قدرات نفسه كما أنه لا يوجب الإنتقاص من مقام أحد ممن كان ينكل في الحرب، ويفر في مقامات الطعن والضرب.

فقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هنا يدل: على أن علياً (عليه‌السلام ) ليس في منأى عن القتل والجرح، وأن ما حققه من انتصارات، إنما كان

٣٣٢

بجهده وجهاده، حتى استحق أن يفيض ألطافه عليه، ويشمله بعناياته.. ولم يكن غيره أهلاً ولا محلاً لذلك.

ما أحسب علياً (عليه‌السلام ) فيكم!:

عن علي بن الحسين (عليهما‌السلام )، قال: خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذات يوم وصلى الفجر، ثم قال: معاشر الناس، أيكم ينهض إلى ثلاثة نفر قد آلوا باللات والعزى ليقتلوني. وقد كذبوا ورب الكعبة.

قال: فأحجم الناس وما تكلم أحد، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): ما أحسب علي بن أبي طالب فيكم؟!

فقام إليه عامر بن قتادة، فقال: إنه وعك في هذه الليلة، ولم يخرج يصلي معك، أفتأذن لي أن أخبره؟!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): شأنك.

فمضى إليه فأخبره، فخرج أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) كأنه أنشط من عقال، وعليه إزار قد عقد طرفيه على رقبته، فقال: يا رسول الله، ما هذا الخبر؟!

قال: هذا رسول ربي يخبرني عن ثلاثة نفر قد نهضوا إلي لقتلي، وقد كذبوا ورب الكعبة.

فقال علي (عليه‌السلام ): يا رسول الله، أنا لهم سرية وحدي، هو ذا ألبس علي ثيابي.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): بل هذه ثيابي، وهذه درعي،

٣٣٣

وهذا سيفي.

فدرَّعه، وعممه، وقلده، وأركبه فرسه.

وخرج أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، فمكث (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ثلاثة أيام، لا يأتيه جبرئيل بخبره، ولا خبر من الأرض.

فأقبلت فاطمة بالحسن والحسين (عليهم‌السلام ) على وركيها، تقول: أوشك أن ييتم هذين الغلامين.

فأسبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عينه يبكي، ثم قال: معاشر الناس، من يأتيني بخبر علي أبشره بالجنة.

وافترق الناس في الطلب، لعظم ما رأوا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وخرج العواتق، فأقبل عامر بن قتادة يبشر بعلي (عليه‌السلام )، وهبط جبرئيل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأخبره بما كان فيه.

وأقبل أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) ومعه أسيران، ورأس، وثلاثة أبعرة، وثلاثة أفراس.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): تحب أن أخبرك بما كنت فيه يا أبا الحسن؟!

فقال المنافقون: هو منذ ساعة قد أخذه المخاض، وهو الساعة يريد أن يحدثه!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): بل تحدث أنت ـ يا أبا الحسن ـ لتكون شهيداً على القوم.

٣٣٤

قال: نعم ـ يا رسول الله ـ لما صرت في الوادي، رأيت هؤلاء ركباناً على الأباعر، فنادوني: من أنت؟

فقلت: أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله.

فقالوا: ما نعرف لله من رسول، سواء علينا وقعنا عليك أو على محمد، وشد علي هذا المقتول، ودارت بيني وبينه ضربات، وهبت ريح حمراء سمعت صوتك فيها يا رسول الله وأنت تقول: قد قطعت لك جربان درعه، فاضرب حبل عاتقه. فضربته فلم أحفه.

ثم هبت ريح صفراء، سمعت صوتك فيها يا رسول الله، وأنت تقول: قد قلبت لك الدرع عن فخذه، فاضرب فخذه. فضربته ووكزته، وقطعت رأسه ورميت به.

وقال لي هذان الرجلان: بلغنا أن محمداً رفيق شفيق رحيم، فاحملنا إليه ولا تعجل علينا، وصاحبنا كان يعد بألف فارس.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): يا علي، أما الصوت الأول الذي صك مسامعك فصوت جبرئيل (عليه‌السلام ).

وأما الآخر فصوت ميكائيل (عليه‌السلام )، قدم إلي أحد الرجلين. فقدمه، فقال: قل لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله.

فقال: لنقل جبل أبي قبيس أحب إلي من أن أقول هذه الكلمة.

فقال: يا علي، أخره واضرب عنقه.

ثم قال: قدم الآخر.

٣٣٥

فقال: قل لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله.

فقال: ألحقني بصاحبي.

قال: يا علي، أخره واضرب عنقه.

فأخره، وقام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ليضرب عنقه، فهبط جبرئيل (عليه‌السلام ) على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لا تقتله، فإنه حسن الخلق، سخي في قومه.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): يا علي، أمسك، فإن هذا رسول ربي عز وجل يخبرني أنه حسن الخلق، سخي في قومه.

فقال المشرك، تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك!

قال: نعم.

قال: والله ما ملكت درهماً مع أخ لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): هذا ممن جره حسن خلقه وسخاؤه إلى جنات النعيم(1) .

ونقول:

____________

1- الأمالي للصدوق ص166 ـ 168 والخصال للصدوق ص94 ـ 96 وحلية الأبرار ج2 ص88 ـ 90 وبحار الأنوار ج41 ص73 ـ 75 وشجرة طوبى ج1 ص179 ـ 181.

٣٣٦

1 ـ دلت هذه الواقعة: على أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان على يقين من فشل محاولة قتله على يد هؤلاء الثلاثة، ولا شك في أنه قد علم ذلك بواسطة جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، كما ذكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ).

2 ـ إن معرفته هذه لا تعني أن يقف مكتوف الأيدي تجاه مؤامراتهم، إذ قد يكون فشل مؤامرتهم مرهوناً بتصرف معين من قبل المؤمنين أنفسهم، ولولا ذلك لتبدلت الأمور، ووقع المحذور ـ أي أنه خبر مشروط بأمر اختياري لا بد من إنجازه، فإذا لم يتحقق الشرط، لم يجب تحقق المشروط، ويدل على هذا الإشتراط: نفس مبادرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لانتداب المسلمين لمواجهة المتآمرين..

3 ـ ولأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان يعلم بأحوال أصحابه، ويعرف من يقدم منهم ومن يحجم. فإنه عرف أن علياً (عليه‌السلام ) غير موجود بينهم بمجرد عدم إجابته طلبه، إذ لو كان حاضراً فلا بد أن يبادر إلى ذلك..

وكان (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يعلم أيضاً: أن أحداً غيره لم يكن على استعداد للتضحية في مثل هذه الحالات..

وقد ظهر: أنه على حق فيما قال، حين أخبره عامر بن قتادة بأن علياً (عليه‌السلام ) قد وعك في تلك الليلة..

4 ـ وحين قال عامر بن قتادة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أفتأذن لي أن أخبره؟!

٣٣٧

قال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): شأنك.

أي أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يصدر أمراً باستحضار علي (عليه‌السلام )، بل أرجع الأمر إلى عامر بن قتادة. ولو أنه أجابه بالإيجاب لتوهم متوهم أن علياً (عليه‌السلام ) قد اضطر للخروج إلى المتآمرين، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أراد منه ذلك. ولو ترك وشأنه، فلعله يؤثر السلامة على الخروج كما آثرها غيره.

5 ـ وقد أراد علي (عليه‌السلام ) أن يخرج وحده للمتآمرين، لأن من لم ينتدب لهم حين طلب منهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذلك لا يستحق أن ينال شرف المشاركة في أمر كان كارهاً له..لأن مشاركته هذه ستكون لأجل أن ينال المكاسب على يد غيره، ومن دون أن يقدم هو أي شيء يستحقها به..

6 ـ وقد أراد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإلباس علي (عليه‌السلام ) درعه، وإعطائه سيفه، وإركابه فرسه، وتعميمه، وتقليده بيده، أن يدل على كمال خصوصيته عنده، وعلى أنه يمثله أدق تمثيل.

وقد دل مجيء فاطمة بأولادها بعد انقطاع خبر علي (عليه‌السلام ) عنهم ثلاثة أيام، على أن لعلي (عليه‌السلام ) عيالاً هم أحب الخلق إلى الله، وكان لغير علي (عليه‌السلام ) زوجات، ولكن لا كفاطمة. وكان لهم أولاد، ولكنهم ليسوا مثل الحسنين، فإن كان حب العيال منع غيره من المخاطرة بنفسه، فلماذا لم يمنع علياً (عليه‌السلام ) حب هؤلاء الصفوة الذين لا نظير لهم على وجه الأرض من الخاطرة بنفسه؟!

٣٣٨

7 ـ قد يحاول البعض إثارة الشبهة حول صحة هذه الرواية من جهتين:

إحداهما: أن عامر بن قتادة ليس له ذكر في كتب تراجم الصحابة..

ونجيب:

إن الذين ترجموا للصحابة إنما ذكروا من وجدوا له رواية، أو من ورد له ذكر في حادثة، أو نحو ذلك.. ولا شيء يدل على أنهم قد استقصوا جميع الأحاديث، وكل المؤلفات في التاريخ، والعقيدة، والأخلاق والسياسة، وما إلى ذلك.. ولا يزال أهل التتبع يستدركون على السابقين ما فاتهم في مختلف الموضوعات، ومنها التراجم.

الثانية: إن هذا الحديث لم يتداوله كتاب السيرة، ولا تناقلته الألسن، بل بقي تداوله محصوراً في نطاق معين.

ونجيب:

أولاً: ما زال كتَّاب السيرة يستدرك اللاحق منهم على السابق، وأنت تجد في الكتب المتفرقة أحاديث وأحداثاً وتفاصيل كثيرة، لا تجدها في الكتب التي حظيت باهتمام رواد كتابة السيرة الرسمية، التي يهتم الحكام بتوجيه الأنظار إليها..

ثانياً: إن هذا الحدث مروي عن علي بن الحسين السجاد (عليه‌السلام )

٣٣٩

وهو يتضمن فضيلة كبرى لمن لم يزل محارباً بشراسة على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات..

والرواية التي ترد في كتب شيعة أهل البيت، وعن أحد أئمتهم (عليهم‌السلام ).. لا يسمح الآخرون لأنفسهم بأخذها وترويجها. كما لا يسمحون لأتباعهم بالإطلاع على كتب شيعة أهل البيت، ويحاولون محاصرة ثقافتهم، واستبعاد كل ما له ارتباط بها وبهم من قريب، أو من بعيد.

8 ـ ويبقى هنا سؤال: كيف يمكن أن نتصور إعطاء الجنة لشخص لمجرد أنه سبق غيره في حمل خبر علي (عليه‌السلام ) إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، والحال أن الصدفة قد تكون هي التي مكنت هذا من حمل الخبر إليه، وحرمت ذاك.

ولعل الذي عرف خبر علي (عليه‌السلام ) قبل غيره يكون من الفاسقين، أو من المنافقين؟!.

ونجيب:

أولاً: بأن الرواية نفسها قد أوضحت: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان على علم بما جرى عن طريق جبرئيل (عليه‌السلام )، وقد عرض (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على علي (عليه‌السلام ) أن يخبره بما كان..

فمن الذي قال: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يكن يعلم بتعليم من الله ـ بشخص الذي سيأتيه بخبر علي (عليه‌السلام )، وبأنه من أهل الجنة؟!

ثانياً: إن الذي يهتم بأن يدخل السرور على قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لا بد أن يسارع إلى إعلامه بمجيء علي (عليه‌السلام ).

أما من يكره علياً (عليه‌السلام )، ولا يهتم لسرور رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإنه سوف يتثاقل عن ذلك، بل هو سيسعى لحجب هذا الخبر السار عنه.. وسوف يسبقه غيره إلى إخباره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بمجيئه..

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347