لا يؤتمن على إبلاغ الرسالة، التي وكل بإبلاغها.. ولذلك لم يقل النبي (صلىاللهعليهوآله ): أبو بكر لا يقدر على التبليغ، بل قال: لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني..
٢ ـ وقد يقال: إن من الأهداف أنه لو قام أبو بكر بهذه المهمة لاستغلها هو ومؤيدوه فيما بعد، لادعاء مقامات تضر بسير الأمور كما يريده الله، من حيث إنها تساعده على اغتصاب الخلافة من صاحبها المنصوص عليه من الله ورسوله، وتثير الشبهة حين يدعي أبو بكر: أن هذه الإستنابة في التبليغ تشير إلى أهليته للقيام مقام النبي (صلىاللهعليهوآله ) في حياته (صلىاللهعليهوآله ) وبعد وفاته.. وهذا بالذات ما فعلوه، حين زعموا: أنه (صلىاللهعليهوآله ) صلى بالناس في مرض الرسول، بأمر منه (صلىاللهعليهوآله )، مع أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد عزله عن تلك الصلاة رغم مرضه الشديد..
صرحت الرواية المنسوبة إلى الإمام الحسن (عليهالسلام )، ووردت في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليهالسلام )، بأن المطلوب هو تصحيح الصورة التي في أذهان ضعفاء المسلمين عن هذا الرجل الذي يرشح نفسه لمقام يفقد المؤهلات له ولما هو أقل منه، ويكون ما جرى بمثابة إشارة لهم على هذه الحقيقة.
تقول الرواية المشار إليها:
إن جبرئيل قال لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عن (براءة): (ما أمرك ربك بدفعها إلى علي، ونزعها من أبي بكر سهواً، ولا شكاً، ولا استدراكاً على نفسه غلطاً، ولكن أراد أن يبين لضعفاء المسلمين: أن المقام الذي يقومه
أخوك علي (عليهالسلام ) لن يقومه غيره سواك يا محمد، وإن جلَّت في عيون هؤلاء الضعفاء من أمتك مرتبته، وشرفت عندهم منزلته)(١) .
٤ ـ قول النبي (صلىاللهعليهوآله ): لا يؤدي عني إلا أنا، أو رجل مني.. قد يشير إلى أنه ليس من حق النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يولي أحداً شيئاً من مهمات الإمام بعده، مثل تولية أمر التبليغ عن الله ورسوله غير علي (عليهالسلام ).. لأن هذا المقام خاص به صلوات الله وسلامه عليه، لأنه هو الحافظ للشريعة، وأحكامها، والكتاب وآياته، وهو المرجع للفقهاء والمبلغين، والمهيمن على حركتهم.
هل هذا من الأسباب أيضاً؟!:
وقد يقال: إنه (صلىاللهعليهوآله ) ـ بالإضافة إلى ما تقدم ـ خاف أن يضعف أبو بكر أمام المشركين، خوفاً من أن يغتالوه، أو أن يؤذوه. وهو لا يثق بنصرة أهل مكة له، لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام.
وقد أشار المعتزلي إلى ذلك، فقال: لعل السبب في ذلك، أن علياً (عليهالسلام )، من بني عبد مناف، وهم جمرة قريش في مكة، وعلي (عليهالسلام ) أيضاً شجاع لا يقام له، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة، والمهابة العظيمة، فإذا حصل مثل هذا البطل وحوله من بني عمه من هم أهل العزة، والقوة، والحمية، كان أدعى إلى نجاته من قريش،
____________
١- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٩٧ عن التفسير المنسوب للإمام العسكري ص٢٣١ و ٢٣٢ و (تحقيق مدرسة الإمام المهدي) ص٥٥٩.
وسلامة نفسه الخ..(١) .
ونجيب:
بأن علماءنا(٢) ناقشوا في ذلك، فقالوا: لو كان الغرض من استبدال أبي بكر بعلي (عليهالسلام ) هو سلامة من أرسله رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من الأذى كان الأحرى أن يرسل (صلىاللهعليهوآله ) العباس، أو عقيلاً، أو غيرهما ممن لم يكن لدى قريش حقد عليهم، لأنهم لم يشاركوا في قتل آبائهم، وإخوانهم.
وحديث الخوف من شجاعة علي (عليهالسلام ) لا ينفع هنا، فإن قريشاً كانت تجترئ على علي (عليهالسلام )، وتسعى لقتله في الحروب، وإن كانت تُمنى دائماً بالخزي والخيبة، فهل تكف عنه إذا وجدته وحده في مكة بالذات، وكان معها ألوف من أهل الشرك؟!
على أنهم قد زعموا: أن أبا بكر ذهب إلى مكة أميراً على الحاج(٣) ، فلماذا لم يخف من قريش ومن المشركين أن يغتالوه، إذا كان قد خاف من القتل، بسبب حمله لرسالة النبي (صلىاللهعليهوآله ) إليهم؟!.
____________
١- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص٢٠٠ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٤٢٣.
٢- راجع: بحار الأنوار ج٣٠ ص٤٢٣.
٣- فتح العزيز ج٧ ص٣١ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٤١٨ وعمدة القاري ج١٨ ص٢٦٠ وتحفة الأحوذي ج٨ ص٣٨٧ وجامع البيان للطبري ج١٠ ص٧٧ والتفسير الكبير للرازي ج١٥ ص٢١٩ والمعارف لابن قتيبة ص١٦٥.
جزع قريش:
وقالوا: لما أذَّن علي (عليهالسلام ) (ببراءة) في مكة أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام. جزعت قريش جزعاً شديداً، وقالوا: ذهبت تجارتنا، وضاعت عيالنا، وخربت دورنا، فأنزل الله تعالى:
( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١) ) (٢) .
نعم، إن هذا هو ما يهم أهل الدنيا، وطلاب زخرفها، والمهتمين بزبارجها وبهارجها، مع أن دعوة إبراهيم الله تعالى بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى ذلك الوادي، وأن يرزق أهله من الثمرات، كانت أقوى من كل تجاراتهم، وعلاقاتهم، وأوسع وأكبر من كل آمالهم وتوقعاتهم، وبهذه الدعوة يرزقهم الله، لا بكدِّهم وجدِّهم، لو كانوا يعقلون..
علي (عليهالسلام ) يتهدد المشركين:
ويلاحظ هنا: أن الأمور حين إبلاغ سورة براءة قد انقلبت رأساً على
____________
١- الآية ٢٤ من سورة التوبة.
٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٩٣ وتفسير القمي ج١ ص٢٨٤ وتفسير الميزان ج٩ ص٢١٦ والتفسير الأصفى ج١ ص٤٥٧ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢٩.
عقب، فبدلاً من أن يخاف علي (عليهالسلام ) المشركين على نفسه، كان هو الذي يتهددهم ويتوعدهم ويتحداهم، حتى لقد أبلغهم سورة براءة وكتاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وقد (لمع بسيفه)!(١) .
وفي نص آخر: (لما دخل مكة اخترط سيفه وقال: والله لا يطوف بالبيت عريان إلا ضربته بالسيف)(٢) .
وعن علي (عليهالسلام ): (فأتيت مكة، وأهلها من قد عرفتم، ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إرباً لفعل، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله، وولده، وماله، فبلغتهم رسالة النبي (صلىاللهعليهوآله ) وقرأت عليهم كتابه، فكلهم يلقاني بالتهديد والوعيد، ويبدي لي البغضاء، ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم)(٣) .
____________
١- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٨ وإقبال الإعمال ج٢ ص٣٩.
٢- بحار الأنوار ج٢١ ص٢٧٥ و ٢٦٧ وج٣٥ ص٢٩٦ وإعلام الورى ص١٣٢ و (ط مؤسسة آل البيت) ج١ ص٢٤٨ والحدائق الناضرة ج١٦ ص٩٤ وجواهر الكلام ج١٩ ص٢٧٦ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج١٣ ص٤٠١ و (ط دار الإسلامية) ج٩ ص٤٦٤ وجامع أحاديث الشيعة ج١١ ص٣٢٦ ومستدرك سفينة البحار ج٦ ص٥٩٧ وتفسير العياشي ج٢ ص٧٤ وجوامع الجامع ج٢ ص٤٥ ومجمع البيان ج٥ ص٩ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢١ ونور الثقلين ج٢ ص١٨٢ وقصص الأنبياء للراوندي ص٣٥١.
٣- الخصال ج٢ ص٣٦٩ و ٣٧٠ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٣٦٩ وبحار = = الأنوار ج٣٥ ص٢٨٦ وج٣٨ ص١٧١ والإختصاص للمفيد ص١٦٨ ونور الثقلين ج٢ ص١٧٨ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٩ وشرح الأخبار ج١ ص٣٠٤ وإقبال الأعمال ج٢ ص٣٧ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٥.
وقالوا أيضاً: (لما وصل علي (عليهالسلام ) إلى المشركين بآيات براءة لقيه خراش بن عبد الله ـ أخو عمرو بن عبد الله ـ الذي قتله علي (عليهالسلام ) مبارزةً يوم الخندق ـ وشعبة بن عبد الله أخوه، فقال لعلي (عليهالسلام ): ما تسيرنا يا علي أربعة أشهر، بل برئنا منك ومن ابن عمك، إن شئت، إلا من الطعن والضرب).
وقال شعبة: ليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح، وإن شئت بدأنا بك.
فقال علي (عليهالسلام ): أجل، أجل، إن شئتم فهلموا(١) .
وعن أبي جعفر الباقر (عليهالسلام ): (خطب علي (عليهالسلام ) الناس: واخترط سيفه، وقال: لا يطوفن بالبيت عريان الخ..)(٢) .
____________
١- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٩٠ و ٣٠٤ وإقبال الأعمال ص٣٢٠ و ٣٢١ و (ط ايران) ج٢ ص٤١ وراجع: مناقب آل أبي طالب ج١ ص٣٩٢ والصوارم المهرقة ص١٢٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٤٢٢ ونهج الإيمان ص٢٥١.
٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٩٦ و ٣٠٣ وتفسير العياشي ج٢ ص٧٤ و ٧٥ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٣٢٦ ـ ٣٢٨ والحدائق الناضرة ج١٦ ص٩٤ وجواهر = = الكلام ج١٩ ص٢٧٦ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج١٣ ص٤٠١ و (ط دار الإسلامية) ج٩ ص٤٦٤ وجامع أحاديث الشيعة ج١١ ص٣٢٦ ومستدرك سفينة البحار ج٦ ص٥٩٧ وجوامع الجامع ج٢ ص٤٥ ومجمع البيان ج٥ ص٩ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢١ ونور الثقلين ج٢ ص١٨٢ وتفسير الميزان ج٩ ص١٦٣.
وعن الامام الصادق (عليهالسلام ): أخذ علي (عليهالسلام ) الصحيفة، وأتى الموسم، وكان يطوف على الناس، ومعه السيف، ويقول: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..(١) . فلا يطوف بالبيت عريان بعد عامه هذا، ولا مشرك، فمن فعل، فإن معاتبتنا إياه بالسيف.
قال: وكان يبعثه إلى الأصنام فيكسرها، ويقول: (لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت)(٢) .
عمر شريك أبي بكر:
والشيء الذي قلما أشار إليه الباحثون هو: أن ثمة نصوصاً تصرح بأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد أرسل أبا بكر وعمر معاً ببراءة إلى أهل مكة، فانطلقا، فإذا هما براكب، فقال: من هذا؟!
قال: أنا علي. يا أبا بكر هات الكتاب الذي معك.
____________
١- الآيتان ١ و ٢ من سورة براءة.
٢- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٩٩ وتفسير فرات ص١٥٩.
فأخذ علي الكتاب، فذهب به، ورجع أبو بكر وعمر إلى المدينة، فقالا: ما لنا يا رسول الله؟!
قال: (ما لكما إلا خيراً، ولكن قيل لي: لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك)(١) .
ويؤيد شراكة عمر لأبي بكر في هذا الأمر: أن بعض الروايات صرحت: بأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد عرض حمل الكتاب إلى المشركين على جميع أصحابه، فكلهم تثاقل عن حمله، والمضي به إلى مكة، فندب منهم رجلاً فوجهه به(٢) .
وهذا يدل على أن عمر كان ممن تثاقل في الإستجابة لطلب الرسول (صلىاللهعليهوآله )، ولأجل هذا التثاقل الظاهر من الناس، كان لا بد للنبي (صلىاللهعليهوآله ) من أن يفرض على رجل بعينه القيام بذلك.. وهكذا كان.. وقد اختار (صلىاللهعليهوآله ) خصوص الذين لهم دعاوى عريضة، ويسعون للإستيلاء على أمر الأمة، وإبعاد صاحبه الشرعي.. وجرى ما جرى.
وشارك عمر أبا بكر فيما ترتب على إرجاعه من آثار، وما يمكن أن يكون له من دلالات كما شاركه في المسير.
____________
١- المستدرك للحاكم ج٣ ص٥١ وتخريج الأحاديث والآثار ج٢ ص٥٠ وشواهد التنزيل ج١ ص٣١٨ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص١٢٤.
٢- الخصال ج٢ ص٣٦٩ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٦ وج٣٨ ص١٧٢.
واللافت هنا: أن عمار بن ياسر هو الآخر قد شارك علياً (عليهالسلام ) في المسير إلى مكة، ولكن الناس يقتصرون على ذكر علي (عليهالسلام ) وقلما يذكرون عماراً.. تماماً كما يذكرون أبا بكر في حملة سورة البراءة ولا يذكرون عمر الذي كان معه أيضاً، لأن أنظار هؤلاء وأولئك تكون مشدودة للأهم من الرجلين.
ولا ندري لماذا تثاقل عمر أولاً، ثم عاد فذهب مع أبي بكر ثانياً.. مع العلم: بأن امتناع عمر عن تلبية طلب النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يكن هو المرة الأولى، فإنه في غزوة الحديبية امتنع أيضاً عن امتثال أمر النبي (صلىاللهعليهوآله ) له بالذهاب إلى مكة ليبلغ أشراف قريش بما جاء له النبي (صلىاللهعليهوآله )، وقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي(١) .
____________
١- راجع: تاريخ الأمم والملوك ج٢ ص٢٧٨ وإقبال الأعمال ج٢ ص٣٨ عنه، وعين العبرة في غبن العترة لأحمد آل طاووس ص٢٤ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٧ ومسند أحمد ج٤ ص٣٢٤ وتخريج الأحاديث والآثار ج٣ ص٣١٠ وجامع البيان للطبري ج٢٦ ص١١١ وتفسير الثعلبي ج٩ ص٤٧ وتفسير البغوي ج٤ ص١٩٣ وتفسير القرآن العظيم ج٤ ص٢٠٠ و ٢١٠ وتفسير الثعالبي ج٥ ص٢٥٤ والثقات لابن حبان ج١ ص٢٩٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٩ ص٧٨ والبداية والنهاية ج٤ ص١٩١ وعيون الأثر ج٢ ص١١٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٣١٨ وسبل الهدى والرشاد ج٥ ص٤٦.
متى أرسل النبي (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام )؟!:
وتقدم قول بعض الروايات: إن أبا بكر إنما سأل النبي (صلىاللهعليهوآله ) عن سبب إرسال علي (عليهالسلام ) إلى مكة، بعد أداء مناسك الحج، وذلك للإيهام بأن أبا بكر قد ذهب هو وعلي (عليهالسلام ) إلى مكة.. فلما رجعا استفهم عن سبب إلحاق علي به، ليحمل الرسالة دونه..
مع أن الأمر جرى على خلاف ذلك، لما يلي:
ألف: تقدم: أن الروايات ـ باستثناء واحدة منها ـ تصرح: بأنه حين أخذ علي (عليهالسلام ) الرسالة من أبي بكر، وتوجه إلى مكة، رجع هو إلى المدينة.
وفي بعضها: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أمر علياً بأن يرد أبا بكر.
وبعد اتفاق الروايات تقريباً على رجوع أبي بكر، فإن اختلافها فيما بينها في بعض الخصوصيات، يمكن معالجته بأدنى تأمل..
ب: لو قبلنا بأن أبا بكر واصل طريقه إلى مكة، فذلك لا يعني أنه هو الذي حج بالناس، إذ يمكن أن يكون قد حج تحت إمرة علي (عليهالسلام ) أيضاً.
ج: ويمكن أن يستدل على ذلك أيضاً بقولهم: إنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يؤمر على علي (عليهالسلام ) أحداً طيلة حياته..
أهلية أبي بكر للخلافة:
هذا، وقد استدل علماء الشيعة بهذه الواقعة على عدم صلاحية أبي بكر للخلافة، فضلاًً عن الإمامة، فقالوا: من لم يصلح لأداء سورة واحدة إلى أهل بلدة. فهو لا يصلح للرئاسة العامة، المتضمنة لأداء جميع الأحكام إلى
عموم الرعايا في سائر البلاد(١) .
أضاف الشريف المرتضى (رحمهالله ) قوله: (لو سلمنا أن ولاية الموسم لم تنسخ لكان الكلام باقياً، لأنه إذا كان ما ولي ـ مع تطاول الأزمان ـ إلا هذه الولاية، ثم سلب شطرها، والأفخم والأعظم منها، فليس ذلك إلا تنبيهاً على ما ذكرنا)(٢) .
ويؤكد ذلك: أن الذي أوكلت إليه المهمة، وهو علي (عليهالسلام )، كان خطر تعرضه لغدر الحاقدين عليه كبيراً جداً، أما أبو بكر الذي أعفي من المهمة، فقد تقدم: أنه كان أكثر مقبولية عندهم، والخطر عنه أبعد بسبب مواقفه الإيجابية، تجاه أسراهم، لأنه لم يتعرض أحد منهم لأي خطر من قبله مهما صغر.. ولغير ذلك من أسباب..
علي (عليهالسلام ) وعمار:
عرفنا: أن عماراً (رحمهالله ) رافق علياً (عليهالسلام ) إلى مكة، ويقول النص: إن فلاناً وفلاناً انزعجا من إرسال علي (عليهالسلام )، وأحبا أن يرسل من هو أكبر منه سناً، وقالا: بعث هذا الصبي؟! ولو بعث غيره إلى أهل مكة، وفي مكة صناديد قريش ورجالها، والله، الكفر أولى بنا مما نحن فيه.
____________
١- راجع: بحار الأنوار ج٣٠ ص٢١١ وج٣٥ ص٣١٠ ومنهاج الكرامة ص١٨١ ونهج الحق ص٢٦٥ وشرح إحقاق الحق (الأصل) ص٢٢٢.
٢- الشافي في الإمامة ج٤ ص١٥٥ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٤١٧ عنه، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص١٩٧ والصوارم المهرقة ص١٢٦.
ثم إنهما سارا إلى علي وعمار وخوفاهما بأهل مكة، وغلظا عليهما الأمر، وقالا لهما: إن أبا سفيان، وعبد الرحمان، وعبد الله بن عامر، وأهل مكة قد جمعوا لهم.
فقال علي (عليهالسلام ): حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومضيا، فلما دخلا مكة أنزل الله تعالى:( الَّذِينَ قَالَ لـَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) (١) .
ونقول:
١ ـ لعل انزعاج فلان وفلان قد كان بعد تثاقلهما أولاً، وبعد الإنتداب القسري لأبي بكر للمهمة، ثم عزله عنها، حيث فاجأهما هذا العزل، وأزعجهما أن يكون علي (عليهالسلام ) هو البديل، واستفاقا على ضربة معنوية هائلة، وموجعة جداً، فأحبا تدارك الأمر، ولو بأن يعلن علي (عليهالسلام ) انصرافه، أو تردده، وخوفه، بسبب تخويفهما إياه بجمع الناس..
كما أن نفس إظهار شيء من الحرص منهما على تولي هذه المهمة قد يعيد شيئاً من الإعتبار لمن فقده، مهما كان قليلاً وضئيلاً..
٢ ـ ماذا نقول لرجلين يريان الكفر أولى من الإيمان، لأجل أمر لا حقيقة له، بل هو أمر أرعن وتافه، وهو أن ذا السن الجاهل والقاصر
____________
١- الآيتان ١٧٣ و ١٧٤ من سورة آل عمران.
التفكير، والجبان، والناقص الإيمان، والذي يعاني من الكثير الكثير من العاهات، والنقائص لا بد أن يقدم على الأصغر منه سناً.
رغم أن الأصغر أشرف الخلق وأفضلهم، وأكرمهم، وأعلمهم، وأتقاهم وأحكمهم، وأعقلهم، وأشجعهم، وأصحهم إيماناً ويقيناً، وأكملهم في كل شيء..
مع العلم: بأن معادلة السن لو صحت لبطلت خلافة أبي بكر، لأن أباه كان حياً حين استدل على هذا الأمر، بالإضافة إلى وجود عشرات أو مئات من الصحابة كانوا أسن منه.
بل لو صح ذلك، لبطلت كل خلافة ورئاسة، بل كل إمامة ونبوة، حتى نبوة أولي العزم لأنهم جميعاً كان في قومهم من هم أسن منهم..
وكذلك الحال بالنسبة لنبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) فإن عمه العباس وكثيرين غيره كانوا أسن منه (صلىاللهعليهوآله )..
٣ ـ لا ندري كيف يجيز مسلم لنفسه ترجيح الكفر على الإيمان، لأجل تقديم الأصغر سناً على الأكبر، وما الذي عرف ورأى من هنات في الإسلام والإيمان حتى أصبح عنده رخيصاً، ومحتقراً، ويريد التخلص منه، وتنزيه نفسه عنه؟!
عودة علي (عليهالسلام ) حدث ودلالة:
تقول رواية لخصناها:
إن علياً (عليهالسلام ) انصرف إلى المدينة يَقْصِد في السير، وأبطأ
الوحي عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) في أمر علي (عليهالسلام )، وما كان منه، فاغتم لذلك غماً شديداً..
وكان من عادته (صلىاللهعليهوآله ) أنه إذا صلى الغداة استقبل القبلة، واستقبل علي (عليهالسلام ) الناس خلف النبي (صلىاللهعليهوآله )، فيستأذنون في حوائجهم، وبذلك أمرهم (صلىاللهعليهوآله ).
فلما غاب علي (عليهالسلام ) إلى مكة لم يجعل أحداً مكان علي (عليهالسلام )، بل كان هو نفسه (صلىاللهعليهوآله ) يستقبل الناس.
فأذن للناس.. فاستأذنه أبو ذر، فأذن له. فخرج يستقبل علياً (عليهالسلام )، فلقيه ببعض الطريق، فالتزمه وقبله، وسبقه إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وبشره بقدومه، فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ) لأبي ذر: (لك بذلك الجنة)(١) .
ثم ركب النبي (صلىاللهعليهوآله ) وركب معه الناس، فلما رآه أناخ ناقته، ونزل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فتلقاه، والتزمه وعانقه، ووضع خده على منكب علي (عليهالسلام ).
وبكى النبي (صلىاللهعليهوآله ) فرحاً بقدومه. وبكى علي (عليهالسلام ) معه..
ثم سأله عما صنع، فأخبره، فقال (صلىاللهعليهوآله ): (كان الله عز
____________
١- إقبال الأعمال لابن طاووس ج٢ ص٤٠ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٩.
وجل أعلم بك مني حين أمرني بإرسالك)(١) ..
ونقول:
لفت نظرنا في هذا النص أمور عديدة، فلاحظ منها ما يلي:
١ ـ إن النظام الذي تحدثت الرواية أنه كان قائماً بالنسبة لاستئذان الناس نبيهم ليذهبوا في حوائجهم، يشير إلى شدة الضبط والإنضباط الذي يهيء للقائد الإشراف المباشر والدقيق على حركة الناس معه، ويعطيه القدرة على التصرف ووضع الأمور في مواضعها، وفق معطيات دقيقة، ومعرفة تفصيلية، وإشراف على النتائج، وسيكون قراره متوافقاً مع الظروف الموضوعية القائمة، ومترافقاً مع معطيات النجاح والفلاح.
٢ ـ إن هذا الإجراء من شأنه أن يبلور بصورة عفوية شعوراً لدى كل فرد بارتباطه الفعلي والمستمر بقائده ورائده، ويعطيه المزيد من الشعور بالقيمة والأهمية لحضوره ولوجوده، ولحركتهم معه.. وتأثيره في المنظومة العامة. كما أنه يبعث فيه حيوية، تدفعه للتأثير الإيجابي والفاعل..
٣ ـ وقد أظهر النبي (صلىاللهعليهوآله ) إهتماماً بالغاً بسلامة علي (عليهالسلام )، حتى صار همّ أبي ذر منصرفاً إلى التعجيل باستجلاء خبر علي (عليهالسلام )، ليدخل السرور على قلب الرسول، معتبراً ذلك من أعظم القربات.
وقد ظهر مصداق ذلك بالمكافأة التي تلقاها من النبي (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- بحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٨ ـ ٢٩٠ وإقبال الأعمال ج٢ ص٤٠.
على بشارته بقدومه (عليهالسلام )، وهي قوله له: (لك بذلك الجنة).
وهي مكافأة لم يكن يتوقعها أبو ذر، ولا أحد ممن حضر وسمع، لأنهم لم يعرفوا علياً (عليهالسلام )، ليعرفوا قيمته عند الله وعند رسوله (صلىاللهعليهوآله ).. وهو ما أشار إليه (صلىاللهعليهوآله ) بقوله: (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا)(١) .
والمراد المعرفة التامة، أو فقل: معرفته حق معرفته..
٤ ـ إن استقبال النبي (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ) كان فريداً لم ير منه مثله، حتى حين قدم عليه جعفر من الحبشة، حيث استقبله (صلىاللهعليهوآله ) بخطوات.
ولكنه بالنسبة لعلي (عليهالسلام ) خرج من المدينة، وركب راحلته، وسار ما شاء الله أن يسير لاستقباله، ثم هو يضع خده على منكب على (عليهالسلام )، ويبكي علي (عليهالسلام )، ويبكي النبي (صلىاللهعليهوآله ) فرحاً بقدومه.
____________
١- راجع: مختصر بصائر الدرجات ص١٢٥ والمحتضر للحلي ص٧٨ و ٢٨٥ ومدينة المعاجز ج٢ ص٤٣٩ ومستدرك سفينة البحار ج٧ ص١٨٢ وتأويل الآيات ج١ ص١٣٩ و ٢٢١ ومشارق أنوار اليقين ص١٧٢ ومكيال المكارم ج١ ص٣٦٩ وراجع: مناقب آل أبي طالب ج٣ ص٦٠ وبحار الأنوار ج٣٩ ص٨٤.
الفصل الخامس: أقاويل.. لا مبرر لها..
نحن في حيرة من أمرنا:
ونريد ان نعترف هنا: أننا في حيرة شديدة من أمرنا في أبي بكر، فإن محبيه، إذا رأوا أن إظهار الفخامة والعظمة هو المفيد له، يجعلون حتى فراره من الزحف شجاعة، وابتعاده عن المعركة في بدر رياسة، ويدَّعون: أن من دلائل عظمته وشجاعته إقناعه عمر بن الخطاب بموت رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وينسبون له نفوذ الكلمة والإحترام والرياسة بين المشركين في مكة، فلم يعذبه المشركون لمكانته فيهم، ولم يمنعوه من إقامة المسجد من أجل ذلك، كما أن قريشاً تبذل فيه مائة ناقة لمن يمكّنها منه حين الهجرة، كما بذلت في رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
وعلى هذا فقس ما سواه.
وإذا احتاجوا لتخليصه من بعض المآزق إلى ادِّعاء ضعفه، وخوفه، وكونه بلا نصير، ولا عشيرة، ولا ظهير.. فإنهم يبادرون إلى ذلك، ويبالغون فيه ما شاؤا، وبلا رقيب ولا حسيب!!
من بدع الرافضة:
وقد تقدم: أن بعضهم زعم: أن حديث عزل أبي بكر عن الحج من بدع الرافضة..
وهذا كلام سيق على سبيل التهمة لجماعة كبيرة سماها الرافضة.. وصحته وفساده مرهون بما تثبته الوقائع والأدلة..
وسنرى: أن الروايات والشواهد من طرق محبي أبي بكر أنفسهم متضافرة على صحة ووقوع ما ادعى أنه من بدع الرافضة، باستثناء رواية واحدة أوردها محبو أبي بكر هي التي لا بد أن تبقى في قفص الإتهام، إن لم نقل: إنها موصومة بوصمة الإختلاق والإبتداع..
الثناء على أبي بكر في سورة البراءة:
ادعى بعض محبي أبي بكر: أن سبب أخذ الآيات من أبي بكر هو أن سورة براءة تضمنت ثناء عليه، فأحب أن يكون على لسان غيره.. إن المتأمل بالآيات التي ذكرت كلب أهل الكهف، والآيات التي ذكرت أبو بكر يتيقن أن كلب أهل الكهف أولى بالفخر من أبي بكر وأتباعه الذين هم أولى بالخزي.
ونقول:
أولاً: إنه يقصد بالثناء على أبي بكر قوله تعالى( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) وقد ذكرنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) حين الحديث عن الهجرة: أن هذه الآية تضمنت
____________
١- الآية ٤٠ من سورة التوبة.