شواهد عديدة، على أنها في مقام الذم، والتأنيب، والإدانة. فإن صاحبه يحزن ويخاف رغم أنه يرى المعجزات والكرامات تتوالى وهي تدل على أن الله حافظ لنبيه، فهو يرى نسج العنكبوت، والشجرة تنبت على باب الغار والحمامة الوحشية تبيض، وغير ذلك.
ويحاول النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يهدئه ويطمئنه، ثم تنزل الآية بنزول السكينة على الرسول، وإخراجه هو منها، مع أن أبا بكر هو الحزين الخائف، وتصرح بأن الله سبحانه أيد رسوله بجنودٍ لم يروها. ولم تأت على ذكر صاحبه في ذلك.
ومن كان هذا حاله، فإنه يحتاج إلى المزيد من العمل لتأكيد يقينه، وبلورة إيمانه..
ثانياً: إن الآيات التي أرسلها النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى مكة إن كانت عشراً، أو عشرين أو ثلاثين، فليست آية الغار من بينها، لأنها هي الآية الأربعون في تلك السورة.
ثالثاً: لو سلمنا أن آية الغار كانت من بين الآيات المرسلة، فيرد السؤال عن السبب في عدم التفات النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى هذا الأمر قبل أن يرسل أبا بكر!
وسؤال آخر عن السبب في تأخر نزول الوحي إلى حين خرج أبو بكر، وسار في البراري والقفار، باتجاه مكة، مع العلم بأن المسير إلى مكة يحتاج إلى تهيئة الأسباب، والإستعداد الذي يحتاج إلى بعض الوقت الذي يتسع ولا شك لنزول الوحي بتصحيح القرار، وحفظ ماء وجه أبي بكر؟!.
تأول بارد، ورأي سقيم كاسد:
وزعموا: أن السبب فيما جرى هو أن العقود والعهود لا يحلها إلا المطاع، والعاقد لها، أو رجل من أهل بيته(١) .
ونجيب:
أولاً: بأن المهمة التي أوكلت إلى أبي بكر أولاً، ثم علي ثانياً لم تكن نقض عهد، ولا حل عقد.
ثانياً: لو كان الأمر كذلك، فلماذا أرسل (صلىاللهعليهوآله ) أبا بكر أولاً، فإنه (صلىاللهعليهوآله ) كان عارفاً بالرسوم والأعراف في زمانه، كما كان يعرفها غيره..
ثالثاً: دعوى أن العهد لا ينقضه إلا من عقده، أو رجل من أهل بيته، لا تصح، فقد قال المعتزلي: (وما نسب إلى عادة العرب غير معروف، وإنما هو تأويل تأول به متعصبوا أبي بكر، لانتزاع براءة منه، وليس بشيء)(٢) .
ولم نسمع أن أحداً توقف في نقض عقد أو عهد حتى يبلغه إياه عاقده، أو أحد أقاربه(٣) .
____________
١- راجع: دلائل الصدق ج٢ ص٢٤٥ عن فضل بن روزبهان، وبقية المصادر تقدمت في بداية الحديث عن تبليغ سورة "براءة".
٢- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص٢٠٠ وراجع: بحار الأنوار ج٣٠ ص٤٢٢ وج٣٥ ص٣١٢ عنه.
٣- الشافي في الإمامة ج٤ ص١٥٠ والصراط المستقيم ج٢ ص٦ وبحار الأنوار ج٣ ص٣١٩.
على أننا قد ذكرنا: أنه ليس ثمة نقض عهد، بل الآية في سورة التوبة تأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم.
رابعاً: لو صح قول هؤلاء، فلماذا يخاف أبو بكر من أن يكون قد نزل فيه شيء؟!
خامساً: ما معنى أن يعترض أبو بكر على النبي (صلىاللهعليهوآله ) بالطريقة التي تقدمت. فإنها أظهرت حالة تمرد من أبي بكر على الرسول (صلىاللهعليهوآله )، فلاحظ قوله: ما لي؟! أنزل في قرآن؟!.
ويشير إلى ذلك أيضاً قوله: إنك أهلتني لأمر طالت إليه الأعناق، فلما توجهت له رددتني عنه!!
وما معنى أن يهتم أبو بكر بالجاه والمقام الدنيوي، كما دل عليه قوله: (أهلتني لأمر طالت إليه الأعناق)؟!
وما معنى سؤاله عن نزول القرآن فيه، هل كان يخفي شيئاً يخشى أن يظهره القرآن؟!
سادساً: لماذا لم يعترض أبو بكر من بداية الأمر على انتداب النبي (صلىاللهعليهوآله )، ويذكِّره: بأن المشركين لا يرضون بنقض عهدهم، لأن هذا النقض لا بد أن يكون منك أو من أحد أقاربك، فإن أعراف العرب تمنع من إرسالي؟!
كما أن أحداً من الصحابة لم يبادر إلى لفت نظر النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى هذا الأمر..
سابعاً: لو صح ذلك، فلماذا قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (لا
يؤدي عني إلا أنا أو علي)؟! روي ذلك عن يحيى بن آدم السلولي، وعن حبشي بن جنادة، وحفش، وعمران، وأبي ذر الغفاري، وروي أيضاً عن ابن عباس.
فلو كان (صلىاللهعليهوآله ) يريد الأخذ بأعراف الجاهلية لم يصح منه حصر الأمر به وبعلي (عليهالسلام )، بل لا بد من تعميمه لجميع أقاربه..
فإن قيل: الصحيح هو ما روي عنه (صلىاللهعليهوآله ): لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني، أو من أهل بيتي)(١) .
____________
١- راجع: المناقب للخوارزمي ص١٦٥ وعلل الشرائع ج١ ص١٨٩ وشرح الأخبار ج٢ ص١٧٩ وراجع ج١ ص٩٤ وأحكام القرآن لابن العربي ج٢ ص٤٥٣ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٥ وراجع ص٢٩٢ و ٣٠٧ وج٢١ ص٢٦٦ وج٣٠ ص٤١١ و ٤١٩ وج٣٤ ص٢٢١ وج٩٠ ص١٢٤ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٥ ص٤٤ وتفسير البحر المحيط ج١ ص٦٧٢ وراجع ج٥ ص٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٢٣٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٦٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج٤ ص٩٧٢ والإستغاثة ج٢ ص١٦ وتنبيه الغافلين ص٧٨ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٤٧ ومستدرك سفينة البحار ج١ ص٣١٥ والطرائف لابن طاووس ص٣٨ وفتح الباري ج٨ ص٦٦ وعمدة القاري ج١٨ ص١٧ وشواهد التنزيل ج١ ص٣٠٨ وراجع ص٣١٥ ونور الثقلين ج٢ ص١٧٨ وراجع ١٨٢ وجامع البيان ج١٠ ص٨٤ وراجع: الدر المنثور ج٣ ص٢٠٩ وأنساب الأشراف ص١٠٧ ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليهالسلام " للكوفي = = ج١ ص٤٧١ والصوارم المهرقة ص١٢٥ ومناقب أهل البيت "عليهمالسلام " للشيرواني ص٤٦٠ و ٤٦١ والغدير ج٦ ص٣٤٦ و ٣٥٠ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص٥٩٥ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص١٢٩ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص٩٢ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٧ ص٢٨٨ و ٢٩١ وج١٧ ص١٩٥ وتخريج الأحاديث والآثار ج٢ ص٤٩ وتفسير القمي ج١ ص٢٨٢ و ٣٤١ و ٤٢٠ ومجمع البيان ج٥ ص٨ ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص٢٥١ وخصائص الوحي المبين ص١٦٧ والصافي (تفسير) ج٢ ص٣٢٠ وتفسير الميزان ج٩ ص١٦٢ و ١٦٨ وتمهيد الأوائل ص٥٤٦ وتفسير النسفي ج٢ ص٧٧ والتفسير الكبير للرازي ج١٥ ص٢١٨ وتفسير البيضاوي ج٣ ص١٢٨.
ويجاب:
أولاً: لا دليل على صحة هذه الرواية، وكذب تلك.
ثانياً: لا مانع من أن تكون الروايتان رواية واحدة بأن يكون قد قال: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني، وهو علي مثلاً.. أو يكون قد قال ذلك في مناسبتين، ليعرف الناس أن المقصود بمن هو من أهل بيته خصوص علي (عليهالسلام )..
المؤاخذة على النوايا:
قد يقال: إن أبا بكر حين حمل الآيات إلى مكة لم يرتكب ذنباً، فلماذا يعاقبه الله ورسوله على هذا النحو، الذي يحمل معه فضيحة كبرى له أمام الناس، وهي تظهر ضعف أبي بكر، أو توجب التشكيك بأمانته، أو نحو ذلك؟! وهل
تصح العقوبة قبل الجناية؟! أو هل تصح العقوبة على النوايا؟!.
ونجيب:
أولاً: قد يقال في الجواب: إن أبا بكر كان يجري إتصالات، ويدبر مع غيره لإبعاد الخلافة بعد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عن صاحبها الشرعي، المنصوص عليه، وكفى بذلك ذنباً يستحق عليه العقوبة من الله ورسوله.
كما أن من حق أهل الحق أن يدبروا لإفشال المساعي التي تبذل لتضييع الحق، وإلقاء الأمة في متاهات الأهواء.
بل قد تكون هناك نوايا يجب أن تظهر، وقد علم بها علام الغيوب، وأراد إظهاراها بهذه الطريقة.
ثانياً: إن من الحق والخير للناس أن يمتحن الله ورسوله أولئك الذين يرشحون أنفسهم لمقامات خطيرة وحساسة تؤثر على مصير الأمة بأسرها.. لكي تظهر قدرات هؤلاء الناس، وملكاتهم، وخصائصهم، ونواياهم أيضاً، حتى لا يحملهم الناس ما لا طاقة لهم به، أو حتى لا يستجيب لهم الناس إذا دعوهم إلى مساعدتهم في الوصول إلى أهداف لا يحق لهم الوصول إليها، وقد يوجب وصولهم هذا بلاءات كبيرة، وإخفاقات خطيرة عليهم وعلى غيرهم.
وقد أخفق أبو بكر في هذا الإمتحان، فإنه حين أرجعه النبي (صلىاللهعليهوآله ) ظهر ضعفه، وتجلت معانٍ لا تليق بمن يطلب ما يطلبه هذا الرجل، فقد بكى، وانزعج، واهتم واغتم، وعاتب واشتكى، وأكثر الكلام
على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. ولم نره رضي بما رضيه له الله ورسوله، ولم يسلم له تسليماً.
وكان أبعد الناس عن القاعدة التي أطلقتها الحوراء زينب صلوات الله وسلامه عليها: (رضا الله رضانا أهل البيت)(١) .
وإنما كان يتعامل مع ما يجري على قاعدة: كاد المريب أن يقول خذوني، فقد كان خائفاً من أن يكون قد نزل في حقه شيء..
مع أن المفروض بمن يعلم أن الله تعالى أعدل العادلين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.. أن يعرف أن الله لا يظلمه، وأن رسوله لا يحيف عليه، فلو لم يكن قد صدر ما يخشى المؤاخذة عليه، أو فضح أمره فيه لم يكن معنى لخوفه، ولا لسؤاله، ولا ولا.. إلخ..
ولعل مما يدل على ذلك: أن الرواية عن علي (عليهالسلام ) تذكر: أن أبا بكر كان قد تثاقل عن حمل الكتاب كما تثاقل غيره، حتى لجأ النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى فرض ذلك عليه، وإلزامه به(٢) .
إن التثاقل عن حمل الكتاب حتى لو كان حباً بالراحة لعدم وجود
____________
١- راجع: بحار الأنوار ج٤٤ ص٣٦٧ واللهوف لابن طاووس ص٣٨ وكشف الغمة ج٢ ص٢٣٩ ومعارج الوصول ص٩٤ ومثير الأحزان ص٢٩ ولواعج الأشجان ص٢٣٩ و ٧٠ ونزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص٨٦ والمجالس الفاخرة للسيد شرف الدين ص٢٠٧ عن مقتل الخوارزمي ج١ ص١٨٦.
٢- الخصال ج٢ ص٣٦٩ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٣٨٦ وج٣٨ ص١٧٢.
خطر من المشركين على أبي بكر. لا بد أن يجعل أبي بكر يفرح حين يتم الإستغناء عنه.. وسيزيد ارتياحه حين يسأل النبي (صلىاللهعليهوآله ) إن كان قد نزل فيه شيء، فأجابه (صلىاللهعليهوآله ) بالنفي، حيث إن تحويل المهمة عنه إلى غيره، لم يكن لأجل أن قرآناً نزل بذمه.
لا يؤدي عنك إلا علي:
وقد يقال أيضاً:
إذا كان لا يؤدي عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلا هو أو علي (أو رجل منه)، فما معنى أن يرسل عشرات الكتب إلى الملوك، وإلى الأشخاص والقبائل، والبلاد والجماعات مع أشخاص من فئات شتى، ليسوا من أهل بيته أصلاً، فإن هذا تبليغ عنه.
ويجاب:
أولاً: لعل المقصود أن أبا بكر لا يؤدي عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) في خصوص هذا المورد الذي يحتاج إلى حزم وصلابة، وإصرار واقتدار، وعزة ومهابة، لا يملكها سوى علي (عليهالسلام ) حتى كان الطرف الآخر هُم قومه.
ثانياً: المقصود: التبليغ عنه فيما هو من شأنه كمبلغ عن الله، مما يرتبط بالشريعة والكتاب الذي له مساس بالإمامة من بعده، فإن إبرام العهود والمواثيق التي تحدثت الآيات في سورة براءة عنها، وعن تعاهدها بالوفاء، وعقاب ناقضها هي من صلاحيات النبي (صلىاللهعليهوآله )، ثم الإمام من بعده، وأين هذا الأمر من بعث الرسل في الحاجات المختلفة إلى هذه
الجهة أو تلك؟!
وبعبارة أكثر تفصيلاً: إن حامل الآيات بريد أن يعلن الحرب على من يصر على انتهاك حرمة المسجد الحرام بعد ذلك العام، وإبلاغ قرارات حازمة وحاسمة فيما يرتبط بالشأن العام، بما في ذلك إبطال سنن الجاهلية فيما يرتبط بعرفات.. وإنذار المشركين، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر، وأنه لا تجديد لعهد مشرك.
وهي قرارات تمس النبي (صلىاللهعليهوآله ) والخليفة من بعده مباشرة.. ولا بد من قطع أمل المشركين بالحصول على أي امتياز يقوي موقعهم.
ولعلهم يطمعون بالحصول على بعض التساهل من الخليفة بعد رسول الله إن كان فلان من الناس هو الخليفة، ولا سيما إذا كان قد عاش الشرك ومارسه طيلة عشرات السنين، فإنه لن يكون قادراً على اقناعهم ببراءته الحقيقية مما كان عليه، ولن يكون لكلامه ذلك التأثير فيهم.
أما إن كان الخليفة هو ذلك الذي قصم ظهر الشرك، وأبار أحلامهم، وأبطل كيدهم، فإن الأمر سيكون مختلفاً، لا سيما وأن علياً هو أخو الرسول، وهو منه بمنزلة هارون من موسى، فإرساله بهذه الرسالة إليهم سيقصم ظهورهم، ويميتهم في حسرتهم، ويقطع دابر كل أمل لهم.
ويؤكد هذه الحقيقة الشواهد التالية:
ألف: تقدم: أن بعض الروايات عن علي (عليهالسلام ) تقول: إنه (صلىاللهعليهوآله ) كتب الكتاب، وعرض على جميع أصحابه المضي به إلى
المشركين، فكلهم يرى التثاقل فيهم، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلاً، فوجهه به، فأتاه جبرئيل (عليهالسلام )، فقال: يا محمد، لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فأنبأني رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بذلك، ووجهني بكتابه ورسالته إلى مكة الخ..(١) .
ب: صرحت بعض نصوص الرواية بأكثر من ذلك، فعن الإمام الباقر (عليهالسلام ) قال: لما سرح رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أبا بكر بأول سورة (براءة) إلى أهل مكة أتاه جبرئيل (عليهالسلام )، فقال: يا محمد، إن الله تعالى يأمرك أن لا تبعث هذا، وأن تبعث علي بن أبي طالب (عليهالسلام )، وإنه لا يؤديها عنك غيره..
فأمر النبي (صلىاللهعليهوآله ) علي بن أبي طالب (عليهالسلام )، فلحقه، فأخذ منه الصحيفة، وقال: ارجع إلى النبي.
فقال أبو بكر: هل حدث في شيء؟!.
فقال: سيخبرك رسول الله.
فرجع أبو بكر إلى النبي (صلىاللهعليهوآله )، فقال: يا رسول الله، ما كنت ترى أني مؤد عنك هذه الرسالة؟!.
____________
١- الخصال ج٢ ص٣٦٩ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٦ وج٣٨ ص١٧١ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص١٢٨ وشرح الأخبار ج١ ص٣٠٤ والإختصاص للمفيد ص١٦٨ وإقبال الأعمال ج٢ ص٣٧ وحلية الأبرار ج٢ ص٣٦٥ ونور الثقلين ج٢ ص١٧٨.
فقال له النبي (صلىاللهعليهوآله )، أبى الله أن يؤديها إلا علي بن أبي طالب (عليهالسلام ).
فأكثر أبو بكر عليه من الكلام، فقال له النبي (صلىاللهعليهوآله ): كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار؟!(١) .
فإن قوله الأخير: (كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار)، قد جاء على سبيل التقريع والتشنيع والذم، وبيان السبب والمبرر لهذا الإجراء.
ولعل الوجه في ذلك: أن أبا بكر كان في الغار خائفاً فزعاً، إلى حد أن هذا الجزع كان له من الأثر السلبي الخطر وما أوجب نزول قرآن يندد به، ويتلى إلى يوم القيامة.. مع أنه كان يرى الآيات الدالة على حفظ الله تعالى لنبيه (صلىاللهعليهوآله )، مثل نسج العنكبوت، ونبات شجرة السدر، ووضع الحمامة الوحشية بيضها، ووقوفها على باب الغار.
ومع وجوده إلى جانب النبي (صلىاللهعليهوآله ).
ومع تطمينات نبي الرحمة له.
ومع عدم علم أحد من المشركين بمكانهما. و.. و.. إلى غير ذلك مما يشير إلى أنه في مأمن.. ولكنه بقي مرعوباً وخائفاً إلى هذا الحد، فكيف سيكون حاله إذاً أمام مئات أو ألوف من الناس، ممن يعرفون مكانه، وهو في بلدهم وفي قبضتهم، وجموعهم تحيط به، وليس النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى جانبه، ليهدئ من روعه، وهو ليس ممن تظهر الآيات والمعجزات
____________
١- إقبال الأعمال ج٢ ص٣٩ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٨٨.
المطمئنة له.
مع العلم: بأن أولئك القوم قد أصبحوا موتورين من الإسلام، الذي قتل صناديدهم، وآباءهم، وإخوانهم، وأبناء عشائرهم، وفتح بلادهم، وغنم أموالهم..
ج: لماذا يخاف أبو بكر من أهل مكة، فإنه لم يكن له أثر في ساحات القتال والنزال، بل كان من الفرارين، أو كان على رأسهم في كل موقع فر فيه أولئك الضعفاء كما جرى في أحد، وقريظة، وخيبر، وحنين، وذات السلاسل، وفدك و.. و..
وكان هو الساعي لفك أسرى المشركين في بدر.. ثم كان من المتخاذلين يوم عمرو بن عبد ود، ومن المخذلين يوم بدر، ولم يعرف له قتيل ولا جريح في أي من الحروب التي واجهها المسلمون في حياة الرسول.
على أنهم قد زعموا في مقابل ذلك: أن أبا بكر لم يتعرض للتعذيب في مكة، لأنه كان محبباً للمشركين، مقرباً إليهم.. وهو أول من بنى مسجداً في بني جمح ـ على حد زعمهم ـ في الوقت الذي كان المسلمون يعذبون فيه حتى الموت، نساء ورجالاً، كما جرى لياسر وسمية والدي عمار رضوان الله تعالى عليهم..
وهو الآن قد أصبح أكثر قرباً من الكثيرين من أهل مكة الذين كانوا من قومه، أو من إخوانه وأحبائه في الأيام الخالية، وقد أظهروا الإسلام الآن..
فإن ذلك كله يشير إلى أن احتمال الخطر على أبي بكر يكاد يلحق بالعدم.
د: أما علي (عليهالسلام ) فهو الذي أبار صناديدهم، وأكذب أحدوثتهم، وكانوا يتربصون به الدوائر، ويبغون له الغوائل، ومراجل حقدهم تغلي عليه أشد الغليان.
وهذا يدلنا على أن موقف علي (عليهالسلام ) هو الأصعب، وأن الخطر عليه أعظم، ولا سيما إذا واجههم بهذا القرار الحاد المتضمن للتهديد بالقتل، والوعيد بالحرب الضروس، فإن ذلك لا بد أن يستفزهم، ويثير حفيظتهم، فإذا وجدوه وحيداً بينهم، وفي عقر دارهم وموضع قوتهم، ومحل اجتماعهم، فلربما بادروا إلى الإنتقام منه، إن لم يكن بالعلن، فإنهم سوف يغتالونه بالسر ولن يجرؤ أحد من بني هاشم، أو من غيرهم على إظهار نفسه، في هذه المعمعة الهائلة التي لن يكون حصادها إلا الدمار والبوار.
قد يقال:
أولاً: قد يرى البعض: أن تثاقل أبي بكر عن إجابة طلب الرسةل (صلىاللهعليهوآله ) قد سهل القرار بعزله عن أدائها، لا سيما إذا كان ظهر: أن استمراره في المهمة قد يساعد بعض الناس على اتخاذ ذلك ذريعة لإضفاء صفات من العظمة والقداسة عليه، ترغِّب الناس بتأييده، أو تجعلهم يتقبلون سعيه لنيل مقام الخلافة الذي صرح الله ورسوله بأنه لغيره.. ويسهل عليهم غض الطرف على ما صدر منه من تصرفات في سياق هذا المقام من صاحه الشرعي..
ثانياً: ويبقى هنا سؤال عن سبب فرض النبي (صلىاللهعليهوآله ) على
أبي بكر القيام بهذه المهمة، ثم عزله عنها، أر يعد ذلك ظلماص له؟! فإن كان ذلك لأجل أنه لا يؤدي عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلا هو أو رجل منه، فلماذا ألزمه بالمهمة؟!
إلا إن قيل: أنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يكن يعرف بهذا الحكم، أو لأنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يكن يعرف مؤهلات أبي بكر، وأنه غير قادر على أداء المهمة بالنحو الذي يرضي الرسول (صلىاللهعليهوآله )، فهل حمل النبي (صلىاللهعليهوآله ) أبا بكر فوق طاقته؟! أم أن الأمر خطة إلهية لتعريف الناس بأن ما يدبر له أبي بكر ما هو إلا تعد على الله ورسوله، فاستحق بذلك تعريف الناس بأمره، لكي لا ينساقوا معه، ولينال هو جزاء على سعيه ذاك غير المشروع..
أبو بكر لم يعزل:
وهناك من أنكر أصل الواقعة، وأصر على أن أبا بكر هو المبلغ لآيات سورة براءة، ومن هؤلاء عباد بن سليمان، والقوشجي، وأضرابهما(١) .
واستدل بعضهم على ذلك: بأن عزل أبي بكر عن تبليغ سورة براءة قبل الوصول إلى موضعها، يلزم منه نسخ الفعل قبل حضور وقت العمل، وهو غير جائز(٢) .
____________
١- المغني للقاضي عبد الجبار ج٢ ص٣٥٠ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٣١٥ و ٣١٨ وراجع: منار الهدى ص١٨٧ عن القوشجي، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص٢٠٠.
٢- المغني لعبد الجبار ج٢٠ ص٣٥٠ وبحار الأنوار ج٣٠ ص٣١٥ و٣١٨.
ونجيب:
أولاً: إن إنكار أصل الواقعة استناداً إلى ما ذكر لا يلتفت إليه، اجتهاد في مقابل النص، إذ قد تضافرت الأخبار، واشتهرت الواقعة حتى أصبحت أوضح من الشمس، وأبين من الأمس، كما اعترف به القاضي عبد الجبار(١) .
ثانياً: هذا المورد ليس من موارد النسخ، لأنه ليس حكماً شرعياً كلياً، لكي يتعلق به النسخ.. وإنما هو أمر مرتبط بشخص بعينه هو أبو بكر، كانت هناك مصلحة بإعطائه كتاباً، وأمره بأن يبلغ مقالاً لأهل الموسم، فإذا حمل الكتاب، وبلغ به مكاناً بعينه انتهت تلك المصلحة وتبلورت مصلحة أخرى تتمثل بأخذ الكتاب منه، وإعطائه لعلي (عليهالسلام ) ليقرأه هو على أهل الموسم..
ولعل هذه المصلحة في ذلك كله هي إظهار فضل علي (عليهالسلام )، وعدم أهلية أبي بكر لما يطلبه ويسعى من أجله..
ثالثاً: جوز جمهور الأشاعرة، وكثير من علماء الأصول النسخ قبل حضور وقت العمل(٢) .
رابعاً: إذا دلت الأخبار المتواترة على وقوع النسخ قبل حضور وقت العمل، وأجمع نقلة الأخبار على حصوله، كان ذلك دليلاً على جوازه، وبه
____________
١- بحار الأنوار ج٣٠ ص٣١٥ و٣١٨.
٢- هداية المسترشدين ج١ ص٥٩٠ وبداية الوصول ج٤ ص٢٥٦ وعناية الأصول ج٢ ص٣٣٤.
يعلم أن ما يتشبث به القائل بالمنع، هو مجرد شبهة لا تصلح للوقوف عندها.
قصة براءة دليل إمامة أبي بكر:
قال الرازي: (قيل: قرر أبا بكر على الموسم، وبعث علياً خليفة (خلفه) لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر، ويكون ذلك جارياً مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر، والله أعلم).
قال: (وقرر الجاحظ هذا المعنى، فقال: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) بعث أبا بكر أميراً على الحاج، وولاه الموسم، وبعث علياً يقرأ على الناس سورة براءة، فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع، وكان أبو بكر الرافع بالموسم، والسائق لهم، والآمر لهم، ولم يكن ذلك لعلي)(١) .
وقد أجاب العلامة المجلسي على هذا بما ملخصه(٢) :
أولاً: إن تولي أبي بكر للموسم ممنوع، كما أظهرته النصوص.
ثانياً: إن جعل شخص أميراً لا يجعل الناس ملزمين بالصلاة خلفه.. (بل كل يعمل بتكليفه، من حيث ثبوت جامعيته لشرائط إمامة الصلاة وعدمها).
ثالثاً: إن علياً (عليهالسلام ) لم يكن من أهل الموسم، ليكون أبو بكر
____________
١- التفسير الكبير للرازي ج١٥ ص٢١٨ وبحار الأنوار ج٣٥ ص٢٩٩ عن تفسير فرات ص٥٤ وراجع: تحفة الأحوذي ج٨ ص٣٨٧.
٢- بحار الأنوار ج٣٠ ص٤١٨ فما بعدها.
أميراً عليه، بل هو مرسل إليهم برسالة.. وليس في الأخبار أي شيء يدل على أن علياً (عليهالسلام ) صلى خلف أبي بكر.
رابعاً: إن الصلاة خلف أبي بكر لا تعني ثبوت فضيلة له، على ما زعموه من جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر(١) .
خامساً: إن قول النبي (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ): (لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل منيٍٍٍ)، يدل على أنها تأدية خاصة، لا ينالها أحد من البشر، أما إمارة الحاج فيتولاها أي كان من الناس، براً كان أو فاجراً، وقد تولاها عتَّاب بن أسيد قبل أبي بكر، ولا تحتاج إلى أكثر من المعرفة بما هوالأصلح في سوق الإبل، والبهائم، ومعرفة المياه، والتجنب عن مواضع اللصوص ونحو ذلك.. فهو أمر إداري صرف..
سادساً: إن إمارة الحاج لا تستلزم خطابة، لتستلزم الإستماع.
____________
١- راجع: سنن أبي داود، كتاب الصلاة، الباب ٦٣ وراجع: فتح العزيز ج٤ ص٣٣١ والمجموع للنووي ج٥ ص٢٦٨ ومغني المحتاج ج٣ ص٧٥ والمبسوط للسرخسي ج١ ص٤٠ وتحفـة الفقهاء للسمرقندي ج١ ص٢٢٩ و ٢٤٨ وبدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني ج١ ص١٥٦ و ٣١١ و ٣١٢ والجوهر النقي للمارديني ج٤ ص١٩ والبحر الرائق ج١ ص٦١٠ وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج٢ ص٢٢٤ والمغني لابن قدامة ج٢ ص٢٥ والشرح الكبير لابن قدامة ج٢ ص٢٥ وج١١ ص٣٧٩ وكشاف القناع للبهوتي ج٦ ص٣٦٦ وتلخيص الحبير ج٤ ص٣٣١ وسبل السلام ج٢ ص٢٩.
سابعاً: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يأمر علياً (عليهالسلام ) بطاعة أبي بكر، ومجرد رفاقته له ـ لو صحت ـ لا تعني ائتماره بأمره..
الباب الحادي عشر: حجة الوداع.. ويوم الغدير..