الفصل الأول: علي (عليهالسلام ) في حجة الوداع
الذين حجوا مع النبي (صلىاللهعليهوآله ):
لقد حج النبي (صلىاللهعليهوآله ) في سنة عشر حجة الوداع، مع جمع كبير من المسلمين، وقد ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ): أن الذين قدموا على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في السنة العاشرة ليحجوا معه كانوا بشراً كثيراً، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، وكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، مدَّ البصر.
وقد ذكرت الروايات: أن الذين خرجوا معه (صلىاللهعليهوآله ) كانوا سبعين ألفاً(١) .
____________
١- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٠٢ وروضة الواعظين ص٨٩ والإحتجاج للطبرسي ج١ ص٦٨ واليقين لابن طاووس ص٣٤٤ والصافي (تفسير) ج٢ ص٥٣ ونور الثقلين ج٢ ص٧٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٣٠٨ وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهمالسلام " للنجفي ج٨ ص٤٨ وغاية المرام ج١ ص٣٢٧ وكشف المهم في طريق خبر غدير خم ص١٩ والسقيفة للمظفر ص١٧٤.
وقيل: كانوا تسعين ألفاً(١) .
ويقال: مائة ألف، وأربعة عشر ألفاً(٢) .
وقيل: كانوا مائة وعشرين ألفاً(٣) .
وقيل: كانوا مئة واربعة وعشرين ألفاً. ويقال أكثر من ذلك(٤) .
____________
١- الغدير ج١ ص٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٣٠٨ والنص والإجتهاد ص٥٧٧ ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص٥٢ عن السيرة الحلبية ج٣ ص٢٨٣ والسيرة النبوية لدحلان ج٣ ص٣ وتاريخ الخلفاء لابن الجوزي في الجزء الرابع، وتذكرة خواص الأمة ص١٨ ودائرة المعارف لفريد وجدي ج٣ ص٥٤٢ (غ ١/٩).
٢- الغدير ج١ ص٩ والمجموع للنووي ج٧ ص١٠٤ ومغني المحتاج ج١ ص٣٤٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٣٠٨ ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص٥٢ عن المصادر التي تقدمت.
٣- بحار الأنوار ج٣٧ ص١٥٠ عن ابن الجوزي، والغدير ج١ ص٩ و ٢٩٦ و ٣٩٢ عن تذكرة خواص الأمة ص١٨ والعدد القوية ص١٨٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٣٠٨ والنص والإجتهاد ص٢٠٦ وخلاصة عبقات الأنوار ج٨ ص٣٥٠ وج٩ ص١٩٦ ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص٥٢ عن المصادر التي تقدمت.
٤- الغدير ج١ ص٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٣٠٨ ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص٥٢.
أما قول بعضهم: إن الذين حجوا في تلك السنة كانوا أربعين ألفاً(١) ، فلعل المقصود: هو صحابته الذين كانوا يعيشون في المدينة وأطرافها(٢) .
قال العلامة الأميني: (وهذه عدة من خرج معه، أما الذين حجوا معه، فأكثرمن ذلك، كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي (عليهالسلام ) (أمير المؤمنين)، وأبي موسى)(٣) .
قالوا: (وأخرج معه نساءه كلهن في الهوادج، وسار معه أهل بيته، وعامة المهاجرين والأنصار، ومن شاء الله من قبائل العرب، وأفناء الناس)(٤) .
لماذا هذا الحشد؟!:
ونقول:
لم يكن هذا الحشد الهائل بصورة عفوية، بل كان بطلب من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) نفسه، فإنه إرسل الكتب إلى أقصى بلاد الإسلام، وأمر
____________
١- راجع: تفسير القرآن العظيم ج٢ ص٨٠ والبداية والنهاية ج٥ ص١٥٤ وج٤ ص٢٧٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢٧٠ ومقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص١٧٧.
٢- راجع المصادر في الهامش السابق.
٣- الغدير ج١ ص٩ ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص٥٢.
٤- الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج٣ ص٢٢٥ و (ط دار صادر) ج٢ ص١٧٣ وإمتاع الأسماع ص٥١٠ وإرشاد الساري ج٦ ص٤٢٩ والغدير ج١ ص٩ عنهم.
المؤذنين بأن يؤذنوا بأعلى أصواتهم: بأن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يحج في عامه هذا.
ومن الواضح: أن إخراج النبي (صلىاللهعليهوآله ) نساءه كلهن في الهوادج إلى الحج، وجمع هذه الأعداد الهائلة، لتسير معه، سوى من سار إلى مكة من دون أن يمر بالمدينة، وما والاها، وسوى الذين جاؤوا من اليمن مع ذلك، إن ذلك لم يكن أمراً عفوياً، ولا مصادفة، ولا كان استجابة لرغبة شخصية، ولا لشيء من أمور الدنيا، فرض على النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يجمع الناس حوله. فحاشاه من ذلك، فإن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لا يفكر ولا يفعل إلا وفق ما يريده الله تبارك وتعالى..
ولعل الهدف من كل هذا الحشد هو تحقيق أمور كلها تعود بالنفع العميم على الإسلام والمسلمين، ويمكن أن نذكر منها، ما يلي:
١ ـ إنه أراد للناس المتمردين، بل والمنافقين، والذين يحلمون بالإرتداد على الإسلام وأهله عند أول فرصة تسنح لهم، يريد لهم أن يروا عظمة الإسلام، وامتداداته الواسعة، وأنه لم يعد بإمكان أحد الوقوف في وجهه، أو إيقاف مده، فلييأس الطامحون والطامعون، وليراجع حساباتهم المتوهمون، وليعد إلى عقولهم المتهورون والمجازفون..
٢ ـ إنه يريد أن يربط على قلوب الضعفاء، ويشد على أيديهم، ويريهم عياناً ما يحصنهم من خدع أهل الباطل، وكيد أهل الحقد والشنآن.. ومن كل ما يمارسونه معهم من تخويف، أو تضعيف..
٣ ـ يريد أن ينصب علياً (عليهالسلام ) إماماً وخليفة من بعده أمام كل
هذه الجموع الهائلة، ليكونوا هم الشهداء بالحق على أنفسهم وعلى جميع الناس، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..
ثم أن يقطع الطريق على الطامحين والطامعين من أن يتمكنوا من خداع الآخرين ببعض الإدعاءات أو الإشاعات كما سنرى حين الحديث عما جرى في عرفات، ومنى، وفي طريق العودة، في غدير خم.
وأما أخذه لجميع نسائه معه، فلعله لأن فيهن من يريد أن يقيم عليها الحجة في ذلك كله، لأنها سيكون لها دور قوي في الإتجاه الآخر الذي يريد أن يحذر الناس من الإنغماس به، والمشاركة فيه..
يمنعهم من ركوب إبل الصدقة:
عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علي بن أبي طالب إلى اليمن، قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلما احتفر (كذا) إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا، وكنا قد رأينا في إبلنا خللاً، فأبى علينا وقال: إنما لكم منها سهم كما للمسلمين.
قال: فلما فرغ علي، وانطلق من اليمن راجعاً أمر علينا إنساناً، فأسرع هو فأدرك الحج، فلما قضى حجته قال له النبي (صلىاللهعليهوآله ): ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم.
قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي (عليهالسلام ) منعنا إياه، ففعل. فلما جاء عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، رأى أثر المراكب، فذم الذي أمره ولامه.
فقلت: أما إن لله علي لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق..
قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أريد أن أفعل ما كنت قد حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجاً من عند رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فلما رآني وقف معي، ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال: متى قدمت؟!
قلت: قدمت البارحة.
فرجع معي إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فدخل وقال: هذا سعد بن مالك بن الشهيد
قال: ائذن له.
فدخلت، فحييت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وحياني، وسلم علي، وساءلني عن نفسي، وعن أهلي، فأحفى المسألة، فقلت: يا رسول الله، ما(ذا) لقينا من علي من الغلظة، وسوء الصحبة والتضييق.
فانتبذ رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على فخذي ـ وكنت قريباً منه ـ وقال: [يا] سعد بن مالك بن الشهيد، مه بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه أخشن في الله!!
قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك سعد بن مالك، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري؟! لا جرم والله، لا أذكره بسوء أبداً، سراً ولا
علانية(١) .
ونقول:
١ ـ إن ما يثير الدهشة هنا: هو أن أبا سعيد الخدري قد أخذ على علي (عليهالسلام ) أمراً هو عين الحق والعدل، والإلتزام بأحكام الشرع الحنيف، فاتخذ منه ذريعة للطعن عليه، وسبباً للتشهير به..
ثم زاد على ذلك أنه اشتكاه لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) الذي كان كل همه وجهده مصروفاً لإقامة هذا العدل، ونشر هذه الأحكام، وحملهم على العمل بها..
فهل يمكن أن يصبر وأن يسكت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على هذا التجني والظلم الظاهر، الذي يريدون التسويق له، وأن يجعلوه نهجاً في الناس؟!
وكيف لم يفهم أبو سعيد وغيره: أن إبل الصدقة ليست ملكاً طلقاً له ولا لغيره. وأنها ليست لهم وحدهم، بل هي أمانة في أيديهم، لا بد من أن
____________
١- تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي (تحقيق المحمودي) ج١ ص٣٨٧ و ٣٨٨ و (ط دار الفكر) ج٤٢ ص٢٠٠ و ٢٠١ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٠ ص٣٠١ وج٢١ ص٦٣١ وج٣١ ص٤٦ و ٥١٦ عن مختصر تاريخ دمشق (ط دار الفكر) ج ١٧ ص ٣٥١ و (ط بيروت) ج١٧ ص٣٥٠ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٥ ص١٢٢ وج٧ ص٣٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢٠٤.
يؤدوها إلى أهلها من دون أدنى تصرف فيها..
٢ ـ إنه (عليهالسلام ) قد استفاد من الوسائل الطبيعية لاكتشاف ما حصل، حيث رأى أثر المراكب، فدله ذلك على ما جرى، فرتب الأثر على ما حصل عليه من معلومات، وذم ذلك الرجل الذي سمح لهم بركوب تلك الإبل..
٣ ـ لا ندري أية غلظة في علي (عليهالسلام ) ظهرت لأبي سعيد الخدري!! فهل المنع من التصرف بمال الغير، يعتبر غلظة، وتضييقاً؟! ولو سمح لهم بأن يغيروا على أموال غيرهم، هل يزول التضييق؟! وتزول صفة الغلظة عنه، ويصبح حسن الصحبة؟!..
٤ ـ إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بدأ مهمة إيقاظ أبي سعيد بالضرب على فخذ أبي سعيد.. ولم يكتف بمجرد نصيحته بالكلمة، فإن هذه الضربة لا بد أن تثير اهتمامه، وتنقله إلى جو أكثر جدية وحساسية، وتدفعه إلى تفهُّم الكلام الذي سيورده رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عليه بصورة أكثر دقة، وتنبهاً. وسيدرك أن القضية أكثر حساسية وأهمية وجدية مما يظن، وأن مواصلة هذا النهج ربما يجعلهم في مواجهة أمور تتصف بالخطورة الحقيقية على مستقبل علاقتهم برسول الله (صلىاللهعليهوآله ). وربما يضع علامة استفهام كبيرة حول التزامهم وحركتهم الدينية والإيمانية.
علي (عليهالسلام ) يلتقي النبي (صلىاللهعليهوآله ) في مكة:
لقد كان علي (عليهالسلام ) في اليمن حين جمع النبي (صلىاللهعليهوآله ) الناس وسار بهم إلى حجة الوداع.. ونزل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )
بمكة بالبطحاء هو وأصحابه، ولم ينزل الدور.
قالوا: وقدم علي (عليهالسلام ) من اليمن على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وهو بمكة، فدخل على فاطمة (سلام الله عليها) وقد أحلت، فوجد ريحاً طيبةً، ووجد عليها ثياباً مصبوغة، فقال: ما هذا يا فاطمة؟!
فقالت: أمرنا بهذا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
فخرج علي (عليهالسلام ) إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مستفتياً، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة؟!
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (أنا أمرت الناس بذلك، فأنت يا علي بما أهللت)؟!
قال: يا رسول الله، إهلالاً كإهلال النبي.
فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (قرّ على إحرامك مثلي، وأنت شريكي في هديي)(١) .
هل هذا تحريف متعمد؟!:
وقد روى ابن كثير وغيره النص المتقدم محرفاً، فقال: قدم علي من
____________
١- الكافي ج٤ ص٢٤٥ ـ ٢٤٧ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٠ ـ ٣٩٢ وراجع ج٣٨ ص٧٢ وراجع: تهذيب الأحكام ج٥ ص٤٥٤ ـ ٤٥٦ وجامع أحاديث الشيعة ج١٠ ص٣٥٠ ـ ٣٥٤ ومجمع البيان ج٢ ص٤٠ و ٤١ ومنتقى الجمان ج٣ ص١٢٢ و ١٢٣ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٣٩٤ وعوالي اللآلي ج٢ ص٩٠ و ٩١.
اليمن بِبُدْن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) محرشاً لفاطمة.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): صدقت ـ ثلاثاً ـ أنا أمرتها، يا علي بم أهللت؟!.
قال: قلت: اللهم إني أهلّ بما أهل به رسولك، قال: ومعي هدي.
قال: فلا تحل.
فكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي ساقه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من المدينة مئة بدنة(١) .
فيلاحظ: أن كلمة (مستفتياً) الواردة في الرواية عن أهل البيت صارت محرشاً، وبدل أن يكون مستفتياً لرسول الله (صلىاللهعليهوآله )، صار (محرشاً لفاطمة) (عليهاالسلام )، للإيحاء بأن فاطمة (عليهاالسلام ) لم تكن ـ بنظر علي (عليهالسلام ) ـ مأمونة على دينها، أو للدلالة على أن علياً (عليهالسلام ) كان ذا طبيعة عدوانية استفزازية، حتى بالنسبة لفاطمة (عليهاالسلام )..
أو أن المقصود هو الأمران معاً..
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٦٧ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٥ ص١٦٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢٩١ وراجع: مسند أبي يعلى ج١٢ ص١٠٧ وراجع ج٤ ص٩٥ والمنتقى من السنن المسندة ص١٢٢ والدرر لابن عبد البر ص٢٦٢ ومسند أحمد ج٣ ص٣٢٠.
الإجمال في النية:
ويلاحظ: أن نية علي (عليهالسلام ) في إهلاله كانت مجملة، لأنه أهل بما أهل به رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. والمفروض: أنه كان غائباً ولم يطلع ـ بحسب الظاهر ـ على نية رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، لأن علينا أن لا نحمل تصرفات النبي والإمام على أنها تستند إلى علم الإمامة، وعلم النبوة، وإلا لبطلت الأسوة والقدوة بهما..
فدلنا ظاهر حال علي (عليهالسلام ) هنا: على كفاية النية التي يكون تحديد المنوي فيها على سبيل الإجمال، إذ يكفي كون المنوي محدداً في واقع الأمر، وإن لم يعلمه صاحب النية تفصيلاً، ولا يجب تحديد حدوده واستحضار خصوصياته حين انشاء النية، والدخول في العمل..
وكانت نية رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) هنا محددة في واقع الأمر، فقصد علي (عليهالسلام ) ما قصده النبي إجمالاً، وأغناه ذلك عن التفصيل، إذ لا ترديد في النية، ولا في المنوي بحسب الواقع..
لماذا كان سؤال علي (عليهالسلام ):
وقد ذكرت الرواية المشار إليها: إن علياً (عليهالسلام ) كان يريد بسؤاله أن يعرف بماذا أحرم رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فهو يرى فاطمة (عليهاالسلام ) في حال تختلف عن الحال الذي كان عليه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. فسألها عن سبب ذلك، فلم تفصح له.
فسأل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فبين له أن حجها حج تمتع. أما
النبي (صلىاللهعليهوآله ) فكان حجه حج قران..
إذن فلم يكن علي (عليهالسلام ) جاهلاً بالحكم، بل هو لم يخبره أحد بطبيعة ما جرى عليه الحال.
هل ندم (صلىاللهعليهوآله ) على ما اختاره؟!:
قد يحاول البعض أن يدعي: أنه (صلىاللهعليهوآله ) قد أظهر أنه قد ندم على اختياره حج القران. وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر لاختيار حج التمتع..
غير أننا نقول:
أولاً: أنه (صلىاللهعليهوآله ) لا يقدم على فعل أمر من تلقاء نفسه، بل بوحي ودلالة إلهية..
ثانياً: إن المطلوب منه (صلىاللهعليهوآله ) في خصوص هذه الحجة هو حج القران، لكي يشرك علياً (عليهالسلام ) في الهدي، ويظهر فضل علي (عليهالسلام ) ومنزلته منه.. وليمهد لإعلان إمامته، وأخذ البيعة له في هذا الحج بالذات، في عرفة أو منى، أو في غدير خم. وهذا ما يفسر لنا أمره (صلىاللهعليهوآله ) للزهراء (عليهاالسلام ) بأن تحرم بحج التمتع، وأحرم هو بحج القران.
البدن التي نحرت:
قالوا: ثم انصرف (صلىاللهعليهوآله ) إلى النحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة بالحربة، وكان ينحرها قائمة معقولة اليسرى،
وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنيِّ عمره (صلىاللهعليهوآله ).
ثم أمسك، وأمر علياً (عليهالسلام ) أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمره أن يتصدق بجلالها، وجلودها، ولحومها، في المساكين، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئاً منها، وقال: (نحن نعطيه من عندنا)(١) ، وقال: (من شاء اقتطع)(٢) .
قال ابن جريج: قلت: من الذي أكل مع النبي (صلىاللهعليهوآله ) وشرب من المرق؟!
قال جعفر: علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) أكل مع النبي (صلىاللهعليهوآله ) وشرب من المرق(٣) .
وقول أنس: إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) نحر بيده سبع بدن قياماً(٤) .
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٦ و ٤٧٧ والمجموع للنووي ج٨ ص٣٦١ وقد تقدمت مصادره فراجع.
٢- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٦ و ٤٧٧ والمغني لابن قدامة ج٣ ص٥٥٨ وقد تقدمت مصادره فراجع.
٣- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص١٧٧ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص٣٤٠.
٤- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٧ ونيل الأوطار ج٥ ص٢١٣ وأحكام القرآن لابن العربي ج٣ ص٢٩٢ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج٢ ص١٨٥ وعمدة القاري ج١٠ ص٤٩.
حمله أبو محمد: على أنه (صلىاللهعليهوآله ) لم ينحر بيده أكثر من سبع بدن كما قال أنس، وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين(١) ، ثم زال عن ذلك المكان، وأمر علياً (عليهالسلام ) فنحر ما بقي.
أو أنه لم يشاهد إلا نحره (صلىاللهعليهوآله ) سبعاً فقط بيده، وشاهد جابر تمام نحره (صلىاللهعليهوآله ) للباقي، فأخبر كل واحد منهما بما رأى وشاهد. أو أنه (صلىاللهعليهوآله ) نحر بيده مفرداً سبع بدن كما قال أنس، ثم أخذ هو وعلي الحربة معاً، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين.
وقال عروة (غرفة) بن الحارث الكندي: أنه شاهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يومئذ أخذ بأعلى الحربة، وأمر علياً (عليهالسلام ) فأخذ بأسفلها، ونحرا بها البدن، ثم انفرد علي (عليهالسلام ) بنحر الباقي من المائة كما قال جابر(٢) .
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٧ وصحيح ابن خزيمة ج٤ ص٢٨٥.
٢- سبل الهدى والرشاد ج٧ ص٣٧٦ وج٨ ص٤٧٧ وسنن أبي داود ج١ ص٣٩٦ والمعجم الأوسط ج٣ ص١٧٣ والمعجم الكبير للطبراني ج١٨ ص٢٦٢ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج٣ ص١٢٥٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج٥ ص٢٣٨ والمغني لابن قدامة ج٣ ص٥٦٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٧ ص٤٣١ وطبقات المحدثين بأصبهان ج٣ ص٥١٤ وأسد الغابة ج٤ ص١٦٩ وتهذيب الكمال ج٢٣ ص٩٧ والمنتخب من ذيل المذيل ص٧٩ والبداية والنهاية ج٥ ص٢٠٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٣٧٦.
وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أربعة وستين، أو ستة وستين.
وجاء علي (عليهالسلام ) بأربعة وثلاثين، أو ستة وثلاثين، فنحر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ستة وستين، ونحر علي (صلىاللهعليهوآله ) أربعة وثلاثين بدنة(١) .
وفي الرواية الأخرى: نحر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ثلاثاً وستين نحرها بيده، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر الخ..(٢) .
وأمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أن يؤخذ من كل بدنة منها جذوة من لحم، ثم تطرح في برمة، ثم تطبخ، فأكل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٧ وعوائد الأيام ص٢٨ والكافي ج٤ ص٢٤٧ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٣ وجامع أحاديث الشيعة ج١٠ ص٣٥٤ وج١٢ ص٣٤ و ٤٩ وراجع: الصافي (تفسير) ج٣ ص٣٧٨.
٢- الكافي ج٤ ص٢٤٩ وذخيرة المعاد (ط.ق) ج١ ق٣ ص٥٥١ وعلل الشرائع ج٢ ص٤١٣ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج١١ ص٢٢٣ و (ط دار الإسلامية) ج٨ ص١٥٧ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٦ وج٩٦ ص٨٩ وجامع أحاديث الشيعة ج١٠ ص٣٥٧ ومستدرك سفينة البحار ج١٠ ص٦ وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهمالسلام " للنجفي ج٣ ص٤٥ ومنتقى الجمان ج٣ ص١٢١ وتفسير الميزان ج٢ ص٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٧٦ عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن جابر.
وعلي (عليهالسلام )، وحسيا من مرقها(١) .
وفي صحيح الحلبي عن علي (عليهالسلام ): أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ساق مئة بدنة(٢) .
____________
١- الكافي ج٤ ص٢٤٦ ـ ٢٤٨ ومجمع الفائدة والبرهان ج٧ ص٢٨٦ وذخيرة المعاد (ط.ق) ج١ ق٣ ص٦٧٠ وج١ ق٣ ص٦٧٠ والحدائق الناضرة ج١٤ ص٣١٨ وجواهر الكلام ج١٩ ص١٥٩ وجامع المدارك ج٢ ص٤٦٢ وتهذيب الأحكام ج٥ ص٤٥٧ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج١١ ص٢١٧ وج١٤ ص١٦٣ و (ط دار الإسلامية) ج٨ ص١٥٣ وج١٠ ص١٤٤ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٣ و ٣٩٥ وجامع أحاديث الشيعة ج١٠ ص٣٥٤ وج١٢ ص١٠١ وج١٢ ص١٠٤ ومنتقى الجمان ج٣ ص١٢٥ وج٣ ص٣٧٣ وج٣ ص٤٠١ وراجع المغني لابن قدامة ج١١ ص١٠٩ والشرح الكبير لابن قدامة ج٣ ص٥٧٩ وج٣ ص٥٨٢ والتمهيد لابن عبد البر ج٢ ص١١١ وتفسير البغوي ج٣ ص٢٨٤.
٢- الكافي (الفروع) ج٤ ص٢٤٨ و ٢٤٩ وذخيرة المعاد (ط.ق) ج١ ق٣ ص٥٥١ وجواهر الكلام ج١٨ ص٢١١ وعلل الشرائع ج٢ ص٤١٢ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج١١ ص٢٢٢ و (ط دار الإسلامية) ج٨ ص١٥٧ ومستدرك الوسائل ج٨ ص٧٥ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٥ وج٩٦ ص٨٨ وجامع أحاديث الشيعة ج١٠ ص٣٥٦ وج١٠ ص٤٥٥ و ٤٩٩ وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهمالسلام " للنجفي ج٣ ص٤٤ وتفسير العياشي ج١= = ص٨٩ ونور الثقلين ج١ ص١٨٥ وكنز الدقائق ج١ ص٤٦٥ وتفسير الميزان ج٢ ص٨٣ ومنتقى الجمان ج٣ ص١٢١.
وقد ذكر المجلسي: أن المقصود: هو أنه (صلىاللهعليهوآله ) ساق مئة بدنة، لكن ساق بضعاً وستين لنفسه، والباقي لأمير المؤمنين (عليهالسلام )، لعلمه بأنه (عليهالسلام ) يحرم كإحرامه، ويهل كإهلاله إلخ..(١) .
لكن قد تقدم قولهم: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) وعلياً (عليهالسلام ) ساقا البدن، فساق منها النبي (صلىاللهعليهوآله ) ستاً وستين، وساق علي (عليهالسلام ) أربعاً وثلاثين.
وقال ابن كثير: قدم علي من اليمن ببدن رسول الله (صلىاللهعليهوآله )(٢) .
فنسب ما جاء به علي (عليهالسلام ) إلى النبي (صلىاللهعليهوآله )، لأنه أخوه، ولأنهما تشاركا في مجموع المئة، ونحراها بصورة مشتركة.
وقد تقدم: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان يأخذ بأعلى الحربة، وعلي (عليهالسلام ) يأخذ بأسفلها إلى ثلاث وستين، ثم نحر علي (عليهالسلام ) الباقي، وأخذا من كل واحدة جذوة من لحم، وجعلاها في قدرٍ واحد، وأكلا منها، وحسيا من مرقها..
____________
١- مرآة العقول ج١٧ ص١١٦.
٢- سبل الهدى والرشاد ج٨ ص٤٦٧ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٥ ص١٦٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢٩١.
مضافاً إلى أن علياً (عليهالسلام ) أهل بما أهل به رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فنية علي (عليهالسلام ) معتمدة على نية النبي (صلىاللهعليهوآله )، ومتقومة بها..
مجموع البدن:
تذكر الروايات: أن الذي سِيقَ من البدن هو مئة بدنة..
وتذكر أيضاً: أن علياً (عليهالسلام ) نحر عن نفسه أربعاً وثلاثين، ونحر هو والنبي (صلى الله عليهما وآلهما) ثلاثاً وستين بدنة، فيصير المجموع سبعاً وتسعين وليس مئة.. فلعل إطلاق كلمة مئة قد جاء على سبيل التسامح لا لأجل التحديد.
أو يقال: كان المجموع مئة، وقد نحرت الثلاث الباقية تطوعاً.. أو يكون عمر علي (عليهالسلام ) آنئذٍ كان سبعة وثلاثين سنة أن كان عمره حين البعثة ثلاث عشرة سنة، أو أربع عشرة سنة.
أو تكون قد حسبت أيام زادت على الثلاث وستين سنة في عمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فنحرت بدنة لأجلها وأيام زادت على سني عمر علي (عليهالسلام )، فنحرت لها بدنة أيضاً.
ملاحظة ذات مغزى:
إذا كان (صلىاللهعليهوآله ) قد نحر من البدن على عدد سني عمره الشريف، وهو ثلاث وستون سنة.. فإن علياً (عليهالسلام ) قد نحر على عدد سني عمره أيضاً في ذلك الوقت، وهو أربع وثلاثون سنة.