وليس لأحد أن يدعي ـ على سبيل القطع واليقين ـ: بأن ذلك قد جاء على سبيل الصدفة.
يضاف إلى ذلك: أن مشاركة علي (عليهالسلام ) شارك النبي (صلىاللهعليهوآله ) في نحر البدن التي كانت على عدد سني عمره الشريف لا تخلو من إشارة إلى مشاركته (عليهالسلام ) له في كل حلو ومرّ.
وقد أنتجت هذه المشاركة كل ما عاش النبي (صلىاللهعليهوآله ) من أجله وهو إقامة دين الله سبحانه.. وكانت سني عمر علي (عليهالسلام )، التي عاشها مع النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد استغرقها ما نحره (صلىاللهعليهوآله ) متوافقاً مع سني عمره الشريف، فشارك كل منهما الآخر فيما يخصه، وأعانه عليه.. وهكذا كان الحال في كل ما يتصل بإقامة دين الله، ونشر شرائعه، وحقائقه..
لو أشرك النبي (صلىاللهعليهوآله ) أبا بكر:
ويمر الناس على هذا الحدث الجليل مرور الكرام، ونحن على يقين من أنه (صلىاللهعليهوآله ) لو أشرك أبا بكر في هديه كما أشرك علياً، بل لو أشركه في واحدة من هديه، ولو بأن يهتم بها، ويرعاها بالسقي، والإطعام لأقام أتباع أبي بكر الدنيا ولم يقعدوها في التحليل، والإستنتاج، والإستدلال على عظمة أبي بكر ومنزلته، وإمامته وخلافته.. وربما تجنح بهم الأوهام إلى ما هو أبعد من هذا بكثير..
وكيف لا يكون الأمر كذلك، ونحن نرى كيف تحولت أخطاء، وضعف وهنات أبي بكر وعمر إلى فضائل وكرامات، وإشارات ودلالات.. وسنرى
كيف أصبح قول عمر: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ليهجر فضيلة لعمر، وسبباً في إنقاذ الإسلام والأمة من أمر عظيم..
ولكن الأمر إذا تعلق بعلي (عليهالسلام )، فإن الألسنة تخرس، والأسماع تصم، والعيون تعمى، والمحابر تجف، والأقلام تلتوي وتتحطم، أو تعيا عن تسجيل عشر معشار الحقيقة، ثم هي تقتل ما سجلته بالتأويلات الباردة، والإحتمالات السقيمة، وقشور العبقريات، لاختراع المعارضات، والتحريف والتزييف، والسعي لإفراغ أعظم المواقف من محتواها، فهل نتوقع بعد هذا أن نجد في كلامهم ما ينفع ويجدي من الإستنطاق الموضوعي للنصوص، أو الإشارة إلى شيء ذي بال من الدلالات واللمحات؟!
الفصل الثاني: اضواء على ما جرى في عرفة.
للإمامة تاريخها:
صحيح أن موضوع الإمامة هو من أكثر الموضوعات حساسية، وأشدها أهمية.. وله تأثيره في الكثير الكثير من قضايا التاريخ، وفي فهمها، ومعرفة أسرارها وخلفياتها..
وصحيح أيضاً: أن أمير المؤمنين علياً (عليهالسلام ) هو محورها الأعظم، وهو أساسها وبه قوامها.. وأنه لا يمكن لمن يريد أن يبحث في أي شأن من شؤونه أن يتجاهل أمر الإمامة هذا..
ولكن من الواضح والصحيح أيضاً: أن إيفاء هذا الأمر حقه من البحث والتقصي غير ميسور، بل غير مقدور.. بل هو كإيفاء علي (عليهالسلام ) حقه من ذلك. وإن أياً كان من الناس لا يستطيع أن يدعي أنه قادر على استيفاء البحث في هذين الأمرين معاً، ولو حاول أن يتصدى لذلك، فإنه سوف ينتهي إلى الفشل الذريع، والخيبة القاتلة، والفضيحة الصلعاء والنكراء..
من أجل ذلك نقول:
لا بد لنا من تجنب الدعاوى الفارغة، وتحاشي استعراض العضلات المنتفخة بالأورام التي تنتج له الأسقام والآلام.. فلا ندعي أننا نريد أن نوفي سيرة أمير المؤمنين (عليهالسلام ) حقها.. أو نريد إعطاء موضوع الإمامة
حقه.. لأن نتيجة المغامرة ستكون غاية في الضعف، وفي منتهى الهزال، والتواضع..
لذلك آثرنا أن نحيل القارئ الكريم إلى ما أوردناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )، ولا سيما الأجزاء الثلاثة الأخيرة منه، ليطلع منها على بعض التفاصيل في الناحيتين التاريخية والعقائدية في موضوع الإمامة.. فإن ما ذكرناه هناك وما نذكره هنا ربما يعطي لمحة ولو محدودة ومتواضعة عن بعض معاناة النبي (صلىاللهعليهوآله ) وعلي (عليهالسلام ) فيما يرتبط بالعمل على ترسيخ موضوع الإمامة، وصيانته في ضمير ووجدان الأمة..
وإحالتنا هذه على كتاب الصحيح سوف تغنينا عن التعرض هنا لكثير مما ذكرناه هناك.. مع اعترافنا بأننا لم نوف كلا الأمرين حقهما، ونحن أعجز من ذلك.. فكيف نجيز لأنفسنا أن ندعيه..
ليلة عرفة تمهيد ليوم عرفة:
١ـ رووا: أنه خرج (صلىاللهعليهوآله ) على الحجيج عشية عرفة، فقال لهم: إن الله قد باهى بكم الملائكة عامة، وغفر لكم عامة، وباهى بعلي خاصة، وغفر له خاصة، إني قائل لكم قولاً غير محاب فيه لقرابتي: إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً (عليهالسلام ) في حياته وبعد موته(١) .
____________
١- الفصول المئة ج٣ ص٢٩١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٩ ص١٦٨ عن أحمد= = بن حنبل في المسند والفضائل، وبحار الأنوار ج٤٠ ص٨١ وج٣٩ ص٢٦٥ والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص٩٢ وينابيع المودة ج٢ ص٤٨٧ والتحفة العسجدية ص١٣٥ وغاية المرام ج٥ ص١٤٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٢٥٤ وج٢١ ص٢٩٦.
٢ ـ وعن فاطمة (عليهاالسلام )، قالت: خرج علينا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عشية عرفة، فقال: إن الله تبارك وتعالى باهى بكم وغفر لكم عامة، ولعلي خاصة، وإني رسول الله إليكم غير محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني: أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياته وبعد موته.
زاد في نص آخر: (إن الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد مماته)(١) .
____________
١- المعجم الكبير للطبراني ج٢٢ ص٤١٥ والمناقب للخوارزمي ص٧٨ والأمالي للصدوق ص٢٤٨ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٣٢ ودلائل الإمامة ص٧٤ والأمالي للمفيد ص١٦١ والأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه ص٣٣ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص٣ والعمدة لابن البطريق ص٢٠٠ والصراط المستقيم ج٢ ص٥٠ وكتاب الأربعين للشيرازي ص٤٦٢ وبحار الأنوار ج٢٧ ص٧٤ وج٣٩ ص٢٥٧ و ٢٧٤ و ٢٨٤ وكشف الغمة ج١ ص٩٢ و ١٠٥ وج٢ ص٧٨ ونهج الإيمان ص٤٥٢ والفصول المهمة لابن الصباغ ص١٢٥ و (ط دار الحديث) ج١ ص٥٨٥ عن معالم العترة النبوية، وكتاب الأربعين للماحوزي ص٢٤٣ وبشارة المصطفى ص٢٣٧.
ونقول:
يلاحظ هنا ما يلي:
أولاً: إن يوم عرفة قد شهد حدثاً هاماً يرتبط بالنص النبوي على إمامة علي (عليهالسلام ).. ويأتي هذا الموقف من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عشية ليلة في سياق الإعداد لما سيقوم به في اليوم التالي..
ثانياً: إنه (صلىاللهعليهوآله ) قد ضمن كلامه ما يدل على أنه كان يتوقع اتهامه بمحاباة قرابته، لكي يسقطوا كلامه في حقه عن الإعتبار بالرغم من أن اتهاماً من هذا القبيل يُخرج من يطلقه عن دائرة التقوى، بل عن دائرة الإيمان، لتضمنه اتهام النبي (صلىاللهعليهوآله ) بالإنقياد إلى الهوى، وتجاوز ما يمليه عليه الوحي الإلهي، ليصبح (صلىاللهعليهوآله ) خارج دائرة العصمة، ولا يبقى مأموناً على ما أتمنه الله عليه..
ثالثاً: إنه أخبرهم: بأن الله تعالى قد باهى بهم، وغفر لهم عامة، وباهى وغفر لعلي خاصة، وفي هذا النص كلام من عدة جهات، هي:
ألف: إن علياً (عليهالسلام ) معصوم لا يصدر منه الذنب، إلا إن كان المقصود الذنب الذي هو من قبيل ما ورد في أول سورة الفتح:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ) (١) .
حيث ثبت: أن المراد بالذنب: هو ما كان قومه يعدونه ذنباً، وهو مجيئه
____________
١- الآيتان ١ و ٢ من سورة الفتح.
بهذا الدين. فإنهم غفروا له ذلك، وصاروا يعتبرونه فضلاً وسداداً.. شاهدنا على ذلك: أنه لو كان بالذنب معصية لما كافأه عليه بالفتح المبين، لأن المذنب يعاقب ولا يكافأ.
أو أن المراد: أن الله تعالى غفر لعلي ما يراه (عليهالسلام ) ذنباً في جنب الله، وإن لم يكن كذلك في الواقع. حيث يرى: أن عبادته لا تليق بمقام الألوهية الأقدس.. ويعتبر نفسه مذنباً ومقصراً في أداء واجبه..
ب: إن المراد بمغفرة ذنوبهم عامة: هو مغفرة ذنوب من تاب منهم وأناب، وعزم على عدم العود للمعاصي. أما المصر على معصية الله، وعلى مخالفة ما يأتي به نبيه الأكرم (صلىاللهعليهوآله )، ولا سيما فيما يرتبط بإمامة وصيه من بعده، فلا تشمله المغفرة، لا عموماً ولا خصوصاً.
رابعاً: إنه (صلىاللهعليهوآله ) قد ربط السعادة كل السعادة بحب علي (عليهالسلام ) في حياة علي وبعد موته.. ولم يزد على ذلك..
فهنا سؤلان:
أولهما: ما معنى التأكيد على حب علي (عليهالسلام ) في الحياة وبعد الممات؟!
ونجيب:
لعل السبب في تعميم الحب إلى ما بعد الممات: هو أن حبه في هذه الحالة يكون صادقاً وحقيقياً، وليس حباً مصلحياً، ولا متأثراً بمؤثرات خارجية، بل هو يحبه لأنه يراه مستحقاً للحب..لا لشيء آخر.
الثاني: لقد اقتصر على ذكر الحب، ولم يشر إلى الطاعة والقبول بحكمه
وخلافته، لأن الحديث عن السعادة التامة في الدنيا والآخرة، وأي شيء آخر غير الحب قد لا يحققهما معاً، حتى الطاعة والإنقياد، فإن الإنسان قد يطيع الحاكم خوفاً، أو طمعاً، أو حباً بالسلامة، أو لغير ذلك.. أما الحب الحقيقي فهو يدعوه للطاعة في الدنيا، ويجعله أهلاً لشفاعته في الآخرة.
وبعد ما تقدم نقول، ونتوكل على خير مسؤول:
حديث عرفات:
ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) نصوصاً تدل على ما جرى للنبي (صلىاللهعليهوآله ) في عرفات، وهي التالية:
ذكرت الروايات الصحيحة: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، خطب الناس في حجة الوداع؛ في عرفة، فلما ذكر حديث الثقلين(١) ، ثم ذكر عدد الأئمة، وأنهم اثنا عشر، واجهته فئات من الناس بالضجيج والفوضى، إلى حد أنه لم يتمكن من إيصال كلامه إلى الناس.
وقد صرح بعدم التمكن من سماع كلامه كل من: أنس، وعبدالملك بن عمير، وعمر بن الخطاب، وأبي جحيفة، وجابر بن سمرة(٢) ، ولكن رواية
____________
١- راجع: حديث الثقلين للوشنوي ص١٣ وما ذكره من مصادر..
٢- راجع: كشف الغطاء (ط.ق) ج١ ص٧ والسنة في الشريعة الإسلامية لمحمد تقي الحكيم ص٦٣ والأمالي للصدوق ص٣٨٧ و ٤٦٩ والخصال ص٤٧٠ و ٤٧١ و ٤٧٢ وإكمال الدين ص٦٨ و ٢٧٢ و ٢٧٣ وكفاية الأثر ص٥١ و ٧٦ و ٧٧ و ٧٨ = = وشرح أصول الكافي ج٢ ص٢٤٠ وج٥ ص٢٣٠ وج٧ ص٣٧٤ وكتاب الغيبة للنعماني ص١٠٤ و ١٠٥ و ١٢٠ و ١٢١ و ١٢٢ و ١٢٣ و ١٢٤ والغيبة للطوسي ص١٢٨ و ١٢٩ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٤٨ و ٢٤٩ و ٢٥٤ والعمدة لابن البطريق ص٤١٦ و ٤١٧ و ٤١٨ و ٤٢٠ و ٤٢١ والطرائف لابن طاووس ص١٧٠ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣١ و ٢٣٤ و ٢٣٥ و ٢٣٦ و ٢٣٧ و ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٦٩ و ٢٩٨ و ٣٦٢ و ٣٦٣ و ٣٦٤ و ٣٦٥ وكتاب الأربعين للماحوزي ص٣٨١ و ٣٨٦ وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص٣٨٥ والإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي ص١٩٣ والملاحم والفتن لابن طاووس ص٣٤٥ والمسلك في أصول الدين للمحقق الحلي ص٢٧٤ وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص٤١٨ وإعلام الورى ج٢ ص١٥٩ و ١٦٢ وكشف الغمة ج١ ص٥٧ و ٥٨ ومسند أحمد ج٥ ص٨٧ و ٨٨ و ٩٠ و ٩٢ و ٩٣ و ٩٤ و ٩٥ و ٩٦ و٩٧ و ٩٨ و ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ و ١٠٦ و ١٠٧ و ١٠٨ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج٨ ص١٢٧ وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج٦ ص٣ و ٤ وسنن أبي داود ج٢ ص٣٠٩ وسنن الترمذي ج٣ ص٣٤٠ والمستدرك للحاكم ج٣ ص٦١٧ و ٦١٨ وشرح مسلم للنووي ج١٢ ص٢٠١ ومجمع الزوائد ج٥ ص١٩٠ وفتح الباري ج١٣ ص١٨١ وعمدة القاري ج٢٤ ص٢٨١ ومسند أبي داود الطيالسي ص١٠٥ و ١٨٠ ومسند ابن أبي الجعد ص٣٩٠ والآحاد والمثاني ج٣ ص١٢٦ و ١٢٧ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص٥١٨ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٣ و ٤٤ و ٤٦ والمعجـم الأوسـط ج٣ ص٢٠١ وج٦ ص٢٠٩ والمعجـم الكـبـير ج٢ ص١٩٥ = = و١٩٦ و ١٩٧ و ٢١٤ و ٢١٨ و ٢٢٣ و ٢٢٦ و ٢٣٢ و ٢٤١ و ٢٤٩ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٥ وج٢٢ ص١٢٠ والرواة عن سعيد بن منصور لأبي نعيم الأصبهاني ص٤٤ والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص٩٥ والكامل لابن عدي ج٢ ص٣٨٦ وطبقات المحدثين بأصبهان ج٢ ص٩٠ وتاريخ بغداد ج٢ ص١٢٤ وج١٤ ص٣٥٤ وتاريخ مدينة دمشق ج٥ ص١٩١ وسير أعلام النبلاء ج٨ ص١٨٤ وج١٤ ص٤٤٤ وذكر أخبار إصبهان ج٢ ص١٧٦ والبداية والنهاية ج١ ص١٧٧ وج٦ ص٢٧٨ و ٢٧٩ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج١٢ ص٣٠٢ و ٢٠٣ وينابيع المودة ج٣ ص٢٨٩.
هذا الأخير، كانت أكثر صراحة ووضوحاً.
ويبدو أنه قد حدّث بما جرى مرات عديدة، فرويت عنه بأكثر من طريق. وبأكثر من تعبير يشير إلى المعنى الثابت، ونختار بعض نصوص تلك الرواية ـ ولا سيما ما ورد منها في الصحاح والكتب المعتبرة، فنقول:
١ ـ في مسند أحمد؛ حدّثنا عبد الله، حدثني أبو الربيع الزهراني، سليمان بن داود، وعبيد الله بن عمر القواريري، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: خطبنا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعرفات ـ وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يخطب بمنى.
وهذا لفظ حديث أبي الربيع: فسمعته يقول:
(لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم ـ ثم لغط
القوم، وتكلموا ـ فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)؛ فقلت لأبي: يا أبتاه، ما بعد كلّهم؟!
قال: (كلّهم من قريش)(١) .
وحسب نص النعماني: (وتكلم الناس، فلم أفهم، فقلت لأبي..)(٢) .
٢ ـ عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً، يُنصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة.
قال: (فجعل الناس يقومون ويقعدون)(٣) .
____________
١- مسند أحمد ج٥ ص٩٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٤ و ٣٧ وكتاب الغيبة للنعماني ص١٢٣ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص١٩٦ وراجع: الأمالي للصدوق ص٣٨٧ والخصال ص٤٧٥ وكمال الدين ص٢٧٣ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣١ و ٢٤١ وغاية المرام ج٢ ص٢٧١.
٢- الغيبة للنعماني ص١٢١ و ١٢٢وعن عوالم العلوم ص١٥٣/١٠٦ ح١٦.
٣- مسند أحمد ج٥ ص٩٩ وراجع ص٩٨ و ١٠١ والغيبة للنعماني ص١٠٥ والغيبة للطوسي ص١٢٩ وإعلام الورى ص٣٨٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج٢ ص١٦٢ والإستنصار لأبي الفتح الكراجكي ص٢٥. وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣٧ و ٢٩٩ وراجع ص٢٣٥ و ٢٦٨ وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص٤١٨ ومنتخب الأثر ص٢٠ وغاية المرام ج٢ ص٢٥٤ و ٢٧٥ وراجع ص٢٧٤ والخصال ص٤٧٠ و ٤٧٢ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٥٠ والملاحم والفتن لابن طاووس ص٣٤٥ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٥.
زاد الطوسي: (وتكلم بكلمة لم أفهمها، فقلت لأبي، أو لأخي:..)(١) .
وفي حديث آخر عن جابر بن سمرة صرّح فيه: (أن ذلك كان في حجة الوداع)(٢) .
ومن المعلوم: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يحج إلا هذه الحجَّة..(٣) .
____________
١- الغيبة للطوسي ص٨٨ و ٨٩ و (ط مؤسسة المعارف الإسلامية) ص١٢٨ و ١٢٩ وكتاب الغيبة للنعماني ص١٠٥ وإعلام الورى ص٣٨٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج٢ ص١٦٢ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٣٧ و ٢٩٩ وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص٤١٨ ومنتخب الأثر ص٢٠ وغاية المرام ج٢ ص٢٥٤ و٢٧٥.
٢- مسند أحمد ج٥ ص٨٧ والثقات لابن حبان ج٧ ص٢٤١.
٣- راجع: السيرة الحلبية (ط سنة ١٣٩١ هـ) ج٣ ص٢٨٩ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش السيرة الحلبية أيضاً) ج٣ ص٢ وصحيح ابن خزيمة ج٤ ص٣٥٢ ومسند زيد بن علي ص٢٢٠ وعمدة القاري ج٤ ص٢٧١ وج٩ ص١٢٥ وج١٨ ص٣٦ و ٤٠ و ٤١ وج٢٥ ص٦٢ وشرح مسلم للنووي ج٨ ص٢٣٦ وأضواء البيان للشنقيطي ج٤ ص٣٣١ والبداية والنهاية ج٤ ص٢٠٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٣٤٢ واختلاف الحديث للشافعي ص٥٦٨ ومعرفة السنن والآثار ج٣ ص٥١٥ وسنن النسائي ج٥ ص١٦٣ ومسند أبي يعلى ج٤ ص٢٣ وعون المعبود ج٥ ص١٣٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج٤ ص٣٤٢ وج٥ ص٦ والكافي ج٤ ص٢٤٤ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٩٩ ومستدرك سفينة البحار ج٢ ص١٨٧ والتمهيد لابن عبد البر ج١٦ ص١٧٤.
٣ ـ عن جابر بن سمرة، قال: (خطبنا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعرفات؛ فقال: لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً، ظاهراً على من ناواه حتى يملك اثنا عشر، كلهم ـ قال: فلم أفهم ما بعد ـ قال: فقلت لأبي: ما قال بعد كلّهم؟
قال: (كلّهم من قريش)(١) .
وعن أبي داود وغيره: ـ وإن لم يصرّح بأن ذلك كان في عرفات ـ زاد قوله: كلّهم تجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاماً من النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم أفهمه، فقلت لأبي..(٢) .
____________
١- مسند أحمد ج٥ ص٩٣ وفي ص٩٦ في موضعين وص٩٨ و ١٠١، وكتاب الغيبة للنعماني ص١٢٣ والإكمال في أسماء الرجال ص٣٤ و ١٨٣.
٢- سنن أبي داود السجستاني ج٤ ص١٠٦ و (ط دار الفكر) ج٢ ص٣٠٩ ومسند أبي عوانة ج٤ ص٤٠٠ وتاريخ الخلفاء ص١٠ و ١١ وراجع: فتح الباري ج١٣ ص١٨١ وكرر عبارة "كلهم تجتمع عليه الأمة" في ص١٨٢ و ١٨٣ و ١٨٤.
وذكرها أيضاً في: الصواعق المحرقة ص١٨ وفي إرشاد الساري ج١٠ ص٢٧٣ وينابيع المودة ص٤٤٤ و(ط دار الأسوة) ج٣ ص٢٨٩.
وراجع: الغيبة للطوسي ص٨٨ و الغيبة للنعماني ص١٢١ و ١٢٢ و ١٢٣ و ١٢٤ والبحار ج٣٦ ص٣٦٥ وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص٣٨٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص١٨ وج١٩ ص٦٢٩.
وفي لفظ آخر: (كلهم يعمل بالهدى ودين الحق)(١) .
وفي بعض الروايات: ثم أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟
قال: قال: (كلهم من بني هاشم)(٢) .
٤ ـ وذكر في نص آخر: أن ذلك كان في حجة الوداع، وقال:
ثم خفي عليّ قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مني؛ فقلت: يا أبتاه، ما الذي خفي عليّ من قول رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ؟!
قال: يقول (كلهم من قريش).
قال: فأشهد على إفهام أبي إيّاي: قال: (كلهم من قريش)(٣) .
____________
١- الخصال ج٢ ص٤٧٤ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٤٧٤ وعيون أخبار الرضا "عليهالسلام " للصدوق ج٢ ص٥٥ والبحار٣٦ ص٢٤٠ عنه وعن عيون أخبار الرضا "عليهالسلام ". وفتح الباري ج١٣ ص١٨٤ وعمدة القاري ج٢٤ ص٢٨٢ وتاريخ بغداد ج٤ ص٢٥٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٥ ص١٨٩ والبداية والنهاية ج٦ ص٢٨٠ وإمتاع الأسماع ج١٢ ص٣٠٦ وشرح إحقاق الحق ج١٣ ص٤٧ وج١٩ ص٦٢٩.
٢- ينابيع المودة ص٤٤٥ و (ط دار الأسوة) ج٢ ص٣١٥ وج٣ ص٢٩٠ عن كتاب: مودة القربى للسيد علي الهمداني (المودة العاشرة) وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٠ عن مودة القربى (ط لاهور) ص٤٤٥.
٣- مسند أحمد ج٥ ص٩٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٢.
٥ ـ وبعد أن ذكرت رواية أخرى عنه حديث أن الأئمة اثنا عشر قال: ثم تكلم بكلمة لم أفهمها، وضج الناس؛ فقلت لأبي: ما قال؟(١) .
٦ ـ ولفظ مسلم عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ومعي أبي؛ فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة؛ فقال كلمة صمّنيها الناس.
فقلت لأبي: ما قال؟
قال: (كلهم من قريش)(٢) .
وعند أحمد وغيره: فقلت لأبي ـ أو لابني ـ: ما الكلمة التي أصمّنيها الناس؟!.
قال: (كلهم من قريش)(٣) .
٧ ـ وعن جابر بن سمرة قال: كنت عند النبي (صلىاللهعليهوآله )، فقال: يلي هذا الأمر اثنا عشر، فصرخ الناس؛ فلم أسمع ما قال، فقلت لأبي
____________
١- مسند أحمد ج٥ ص٩٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٥.
٢- صحيح مسلم ج٦ ص٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص١ عنه، والعمدة لابن البطريق ص٤٢١ و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص٤١٨ الإكمال في أسماء الرجال ص٣٤.
٣- مسند أحمد ج٥ ص١٠١ والخصال ج٢ ص٤٧٠ و ٤٧٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٣٩ والبحار ج٣٦ ص٢٣٥ وراجع: النهاية في اللغة ج٣ ص٥٤ ولسان العرب ج١٢ ص٣٤٣ ونقل عن كتاب: القرب في محبة العرب ص١٢٩.
ـ وكان أقرب إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مني ـ فقلت: ما قال رسول الله؟
فقال: قال: (كلّهم من قريش، وكلهم لا يُرى مثله)(١) .
٨ ـ ولفظ أبي داود: فكبر الناس، وضجوا، ثم قال كلمة خفية..(٢) .
ولفظ أبي عوانة: فضج الناس.
وقد قال النبي (صلىاللهعليهوآله ) كلمة خفيت عليّ..(٣) .
وعلى كل حال.. فإن حديث الاثني عشر خليفة بعده (صلىاللهعليهوآله )، والذي قال فيه (صلىاللهعليهوآله ) كلمة لم يسمعها جابر، وغيره ـ ممن كان حاضراً، وروى الحديث.. أو لم يفهمها، أو خفض بها صوته، أو خفيت عليه، أو نحو ذلك ـ إن هذا الحديث ـ مذكور في كثير من المصادر
____________
١- إكمال الدين ج١ ص٢٧٢ ـ ٢٧٣ و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص٦٨ و ٢٧٣ والخصال ج٢ ص٤٧٣ وراجع: البحار ج٣٦ ص٢٣٩.
٢- سنن أبي داود ج٤ ص١٠٦ و (ط دار الفكر) ج٢ ص٣٠٩ ومسند أحمد ج٥ ص٩٨ وفتح الباري ج١٣ ص١٨١ والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص٩٥ وإرشاد الساري ج١٠ ص٢٣٧ والبحار ج٣٦ ص٣٦٥ تاريخ بغداد ج٢ ص١٢٤ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٩ ص٩٤.
٣- مسند أبي عوانة ج٤ ص٣٩٤ والخصال ج٢ ص٤٧١ والبحار ج٣٦ ص٢٣٦ والمستدرك للحاكم ج٣ ص٦١٧ والمعجم الكبير ج٢ ص١٩٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص٢٩ و ٤١.
والمراجع، فليراجعها طالبها(١) .
ونقول:
إن ملاحظة الحدث المتقدم: تفرض على الباحث التأمل ملياً في كل ما جرى، فإنه على درجة عالية جداً من الخطورة، ونستطيع نحن أن نفتح للقارئ باب التأمل من خلال لفتات ولمحات نشير إليها ضمن العناوين التالية:
علي (عليهالسلام ) امتداد للرسول (صلىاللهعليهوآله ):
وذكرت الروايات: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) خطب الناس في منى،
____________
١- راجع المصادر التالية: صحيح مسلم ج٦ ص٣ بعدة طرق، ومسند أحمد ج٥ ص٩٣ و ٩٢ و ٩٤ و ٩٠ و ٩٥ و ٩٦ و ٩٧ و ٩٨ و ٨٩ و ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ و ١٠٦ و ١٠٧ و ١٠٨ ومسند أبي عوانة ج٤ ص٣٩٤ وحلية الأولياء ج٤ ص٣٣٣ وإعلام الورى ص٣٨٢ والعمدة لابن البطريق ص٤١٦ ـ ٤٢٢ وإكمال الدين ج١ ص٢٧٢ و ٢٧٣ والخصال ج٢ ص٤٦٩ و ٤٧٥ وفتح الباري ج١٣ ص١٨١ ـ ١٨٥ والغيبة للنعماني ص١١٩ ـ ١٢٥ وصحيح البخاري ج٤ ص١٥٩ وينابيع المودة ص٤٤٤ ـ ٤٤٦ وتاريخ بغداد ج٢ ص١٢٦ وج١٤ ص٣٥٣ ومستدرك الحاكم ج٣ ص ٦١٨ وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامش المستدرك) نفس الصفحة، ومنتخب الأثر ص١٠ ـ ٢٣ عن مصادر كثيرة، والجامع الصحيح ج٤ ص٥٠١ وسنن أبي داود ج٤ ص١١٦ وكفاية الأثر ص٤٩ إلى آخر الكتاب، والبحار ج٣٦ ص٢٣١ إلى آخر الفصل، وإحقاق الحق (الملحقات) ج١٣ ص١ ـ ٥٠ عن مصادر كثيرة..
وخطبهم في عرفات، ولكن قد ظهر أن ثمة فرقاً قد ظهر بين الموقفين..
فقد أظهر الله الكرامة للنبي (صلىاللهعليهوآله ) في منى.. ولم يحصل مثل ذلك في عرفات.
فقد ذكروا: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان في منى يخطبهم، ويصل صوته إلى كل من كان في منى(١) .
ولكنه حين خطبهم في عرفات كان (صلىاللهعليهوآله ) يخطبهم وكان علي (عليهالسلام ) يقف في مكان آخر، ويوصل كلامه إلى من هم في الجهة الأخرى(٢) .
____________
١- راجع المصادر المتقدمة في الفصل السابق.
٢- راجع: مسند أحمد ج٣ ص٤٧٧ والبداية والنهاية ج٥ ص٢١٧ وتاريخ مدينة دمشق ج١٨ ص٤ و ٥ وأسد الغابة ج٢ ص١٥٥ وج٥ ص١١ وتهذيب الكمال ج٩ ص٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٣٩٦ وأدب الإملاء والإستملاء ص١٠١ والسنن الكبرى للبيهقي ج٢ ص٣٤٣ و (ط دار الفكر) ج٣ ص٢٤٧ وج٥ ص١٤٠ والسنن الكبرى للنسائي ج٢ ص٤٤٣ والمعجم الكبير ج٥ ص١٩ وإمتاع الأسماع ج٦ ص٣٨٩ والمغني لابن قدامة ج١ ص٦٢٤ وتحفة الأحوذي ج٥ ص٣١٩ وسبل الهدى والرشاد ج٧ ص٣١٢ و ٣١٤ وج٨ ص٢١٢ وج٩ ص١٣٨ وتلخيص الحبير لابن حجر ج٤ ص٦٢١ وسنن أبي داود ج١ ص٤٣٧ وج٢ ص٢٦٣ ونيل الأوطار ج٢ ص٩٠ وكشف اللثام (ط.ج) ج٦ ص٧٨ و (ط.ق) ج١ ص٣٥٦ والمجموع للنووي ج٨ ص٩٠.
وقد يمكن أن نستفيد من هذا: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) كان في المواضع المشابهة من حيث كثرة الحاضرين، يمارس هذه الطريقة لإبلاغ كلامه. أي أنه كان يجعل في الجهة الأخرى من يبلغ كلامه لمن هو بعيد عنه..
ولعل من إشارات هذا الحدث:
أولاً: إرادة الإيحاء بأن علياً (عليهالسلام ) امتداد لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في حياة الرسول وبعد مماته.
ثانياً: إنه تعالى قد تعامل مع الناس هنا ـ أي في عرفات ـ بمنطق المألوف لهم، دون أن يمارس أي نوع من التصرف الغيبي ليفسح لهم المجال للتعبير عن موقفهم، وإظهار دخائل أنفسهم، حيث إنهم قد يحجمون عن ذلك رهبة وخوفاً حين يرون آثار الغيب..
مكان خطبة الرسول (صلىاللهعليهوآله ):
إختلفت الروايات في المكان الذي خطب فيه الرسول (صلىاللهعليهوآله )، وتصدت له قريش، هل هو: المسجد(1) ، أو منى، أو عرفات كما تقدم؟!
____________
1- راجع بالنسبة لخصوص هذه الطائفة من الروايات: الخصال ج2 ص469 و 472 وكفاية الأثر ص50 ومسند أبي عوانة ج4 ص398 وإكمال الدين ج1 ص272 وحلية الأولياء ج4 ص333 وبحار الأنوار ج36 ص234 و 269 و 363 والمعجم الكبير للطبراني ج2 ص197 ومنتخب الأثر ص19 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص251 وغاية المرام ج2 ص251 و 273 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص17 و 33 وج29 ص95.
وهل حدث ذلك ثلاث مرات، فكان (صلىاللهعليهوآله ) يواجه بالضجيج والفوضى؟! أم هي مرة واحدة؟! اختلف الرواة في تحديدها بسبب النسيان! مع العلم بأن حدثاً كهذا لا ينسى! أم أن الإختلاف في التحديد نشأ عن تلاعب متعمد، يهدف إلى التلاعب بالحقيقة، وجعلها موضع شبهة؟!
كل ذلك محتمل، وقد يؤكد لنا احتمال التعمد: أن حدثاً كهذا شهده عشرات الألوف من الناس، الذين كانوا يتحركون بحركة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ويطبقون أعمالهم على عمله، ويهتمون بعدم الإبتعاد عنه حتى لا يفوتهم شيء مما يصدر منه، لا بد أن نتوقع أن يرويه لنا المئات، وليس العشرات من الناس وحسب.. فلماذا لم ينقله لنا إلا قلة قليلة جداً، إذا قيسوا إلى ما نتوقعه في مثل هذه الحالات؟!
وإن كان هذا الحدث قد تكرر، فالمتوقع أن يشير رواته إلى هذا التعدد، حتى لو قل عددهم.
وقد يؤيد هذا التعدد أيضاً تصريحهم بأنه (صلىاللهعليهوآله ) خطب في حجة الوداع خمس خطب: في مكة، وفي عرفات، ويوم النحر بمنى، ويوم النفر بمنى، ويوم النفر الأول أيضاً.
كلهم من قريش:
ونحن على يقين من أن قريشا لا تغضب لو اقتصر (صلىاللهعليهوآله ) على كلمة: (كلهم من قريش)، ولكنها كانت تعلم: أن الأمر سيتجاوز ذلك إلى ذكر بني هاشم، ثم التصريح باسم من لم تزل قريش
تكرهه وتبغضه ـ كما دلت عليه النصوص الكثيرة(1) ـ لا سيما وأنه (صلىاللهعليهوآله ) قد ذكر حديث الثقلين في نفس خطبته، وكان ولا يزال يصرح لهم بإمامة أمير المؤمنين (عليهالسلام ) من بعده.
وهذا الإبلاغ لو تم في عرفات وفق ما رسم له، فسوف لا تبقى لمناوئي علي (عليهالسلام ) أية فرصة للتخلص أو التملص، والمناورة، وسوف يتحتم عليهم تجرع الغصة، وتضيع منهم الفرصة، فلا بد لهم من درء هذا الخطر الداهم، فحاولوا قطع كلامه، فلم يمكنهم ذلك، وضجت قريش وعجت، وكذلك فعل أنصارها ومحبوها، حتى لا يتمكن أحد من سماع ما يقول رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
وهكذا كان، فلم يسمع جابر كلمة (كلهم من قريش)، ويبدو أن كلمة: كلهم (من بني هاشم)، قد جاءت بعدها، فلم يسمعها أيضاً إلا أقل القليل.
التمرد على الرسول (صلىاللهعليهوآله ):
هذا.. وقد كانت هناك قلة من الصحابة تلتزم بأوامره (صلىاللهعليهوآله )، وتنتهي بنواهيه، وتضع نفسها في موقع التسليم والرضا، والأكثرون هم أصحاب الطموحات، وطلاب اللبانات، أو من الذين غُلِبُوا على أمرهم فاستسلموا، بل إن الأكثرية الساحقة من هؤلاء الحاضرين إنما
____________
1- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم "صلىاللهعليهوآله " ج31 ص135 ـ 158.
أعلنت إسلامها بعد فتح مكة.
وكان من بين هؤلاء ثلة كانوا يتبركون بفضل وضوء رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وحتى ببصاقه، ونخامته، ويدّعون الحرص على امتثال أوامر الله سبحانه بتوقيره، وبعدم رفع أصواتهم فوق صوته(1) ، وبالتأدّب
____________
1- راجع الآيتين 1 و 2 من سورة الحجرات.
وقد ورد أنّ هذه الآيات نزلت حينما حصل اختلاف فيما بين أبي بكر وعمر حول تأمير بعض الأشخاص. فقد روي: أن عبد الله بن الزبير أخبرهم: أنه قدم ركب من بني تميم على النبي "صلىاللهعليهوآله "، فقال أبو بكر: أمَّر القعقاع معبد بن زرارة.
وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس.
قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.
قال عمر: ما أردت خلافك.
فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَهِ وَرَسُولِهِ ) إلى قوله تعالى:( ..أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون ) [الآيتان 1 و 2 من سورة الحجرات].
ويلاحظ:( أن المراد من الإيمان قوله تعالى في الآية: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا? هو الإيمان بمعناه العام ـ أي إظهار الإسلام ـ لا الخاص. ويدل على ذلك قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ) [الآية 136 من سورة النساء].
راجع في الحديث الذي ذكرناه آنفـاً: الدر المنثـور ج6 ص83 ـ 84 عن البخـاري، = = وابن المنذر، وابن مردويه، وأسباب النزول ص218 و (ط أخرى) ص257 وصحيح البخاري ج3 ص122 و (ط دار الفكر) ج5 ص116 وج6 ص47 والجامع الصحيح ج5 ص387 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص205 ـ 206 ولباب التأويل ج4 ص164 وفتح القدير ج5 ص61 والجامع لأحكام القرآن ج16 ص300 ـ 301 وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج26 ص72 والبداية والنهاية ج5 ص50 وتاريخ مدينة دمشق ج9 ص191 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص78 وسنن النسائي ج8 ص226 وعمدة القاري ج18 ص19 وج19 ص181 و 184 وتحفة الأحوذي ج9 ص108 والسنن الكبرى للنسائي ج3 ص465 وج6 ص466 ومسند أبي يعلى ج12 ص193 وشرح معاني الآثار ج4 ص172 وزاد المسير ج7 ص177 وتفسير الثعلبي ج9 ص70 وتفسير البغوي ج4 ص209 وأضواء البيان للشنقيطي ج7 ص401 والإحكام لابن حزم ج6 ص804 وتفسير الآلوسي ج26 ص133 ولباب النقول ص178 وتفسير الثعالبي ج5 ص267 وبحار الأنوار ج30 ص278 والطرائف ص403 وعين العبرة في غبن العترة ص4 والغدير ج7 ص223.
معه، وبأن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله و.. و..
لكن الذي حدث أن نفس هؤلاء بمجرد إحساسهم بأنه (صلىاللهعليهوآله ) يريد الحديث عن الأئمة الاثني عشر، وبيان مواصفاتهم ـ ويتجه نحو تحديدهم بصورة أدق، وأوفى وأتم ـ قد ثارت ثائرتهم. وذلك بسبب خشيتهم من إعلان إمامة من لا يرضون إمامته، وخلافة من يرون أنه قد
وترهم، وأباد خضراءهم في مواقفه المشهورة، دفاعاً عن الحق والدين ـ ألا وهو علي أمير المؤمنين (عليهالسلام )، فظهر حقدهم، وعلا ضجيجهم، وزاد صخبهم، ومن التعبيرات التي وردت في الروايات واصفة حالهم:
(ثم لغط القوم وتكلموا)(1) .
أو: فلم أفهم قوله بعد (كلهم)، فقلت لأبي: ماذا قال؟! الخ..
أو: (وتكلم الناس فلم أفهم)(2) .
أو: (وضج الناس)(3) .
أو: (فقال كلمة أصمّنيها الناس)(4) .
____________
1- مسند أحمد ج5 ص99 والمعجم الكبير ج2 ص196 وكتاب الغيبة للنعماني ص123 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص34 ومكاتيب الرسول ج1 ص595 وج3 ص727.
2- الغيبة للنعماني ص121 وعوالم العلوم ص153 / 106 ح16.
3- مسند أحمد ج5 ص93 ومسند أبي عوانة ج4 ص394 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص29 و 35.
4- راجع: مسند أحمد ج5 ص98 و 101 وصحيح مسلم ج6 ص4 والخصال ج2 ص470 و 472 وبحار الأنوار ج36 ص235 و 266 و 362 والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج3 ص54 ولسان العرب ج12 ص343 وإثبات الهداة ج1 ص535 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص39 وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص386 والعمدة لابن بطريق ص421.
أو: (صمّنيها الناس)(1) .
وفي نسخة: (صمّتنيها الناس)(2) .
أو: (فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال)(3) .
أو: (فكبر الناس، وضجوا)(4) .
أو: (فجعل الناس يقومون، ويقعدون)(5) .
____________
1- راجع: العمدة لابن البطريق ص418 و 421 وصحيح مسلم ج6 ص4 والديباج على مسلم ج4 ص440 والإكمال في أسماء الرجال ص34 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص1.
2- راجع: شرح مسلم للنووي ج12 ص203 والديباج على مسلم ج 4 ص 440 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج29 ص93.
3- الخصال ص473 وإكمال الدين ج1 ص272 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص68 و 273 وإثبات الهداة ج1 ص494 و 507 وبحار الأنوار ج36 ص239.
4- مسند أحمد ج5 ص98 وسنن أبي داود ج4 ص106 و (ط دار الفكر) ج2 ص309 وفتح الباري ج13 ص181 وبحار الأنوار ج36 ص365 وإرشاد الساري ج1 ص273 والكفاية للخطيب البغدادي ص95 وتاريخ بغداد ج2 ص124 وإحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص20 وج29 ص94.
5- مسند أحمد ج5 ص99 وإثبات الهداة ج1 ص546 والخصال ج2 ص75 وبحار الأنوار ج36 ص237 و 299 وكتاب الغيبة للنعماني ص105 وإعلام الورى ص384 و (ط مؤسسة آل البيت) ج2 ص162 وتقريب المعارف لأبي الصلاح = = الحلبي ص418 والغيبة للطوسي ص88 و 89 و (ط مؤسسة المعارف الإسلامية) ص129 وغاية المرام ص194 ومنتخب الأثر ص20.
المجتمعون في منى وعرفات:
1 ـ المجتمعون في موسم الحج هم من كل بلد، وحي، وقبيلة. قدموا ليحجوا مع أكرم وأعظم وأشرف خلق الله، الذي يتمنى كل أحد أن يراه ولو مرة واحدة في حياته، ولو من بعيد..
وهم حين يرجعون من سفرهم هذا المحفوف بالأخطار سيحدثون بكل ما مر بهم، وسيصغي إليهم الناس بشغف وشوق لكل كلمة كلمة، وسيلذ لهم كل حديث منهم حتى لو كان في الظروف العادية لا يعني لهم شيئاً.. فكيف إذا كانوا يحدثونهم عن أعظم نبي، وأقدس وأغلى، وأشرف وأفضل مخلوق في الدنيا؟!
والذين رأوه (صلىاللهعليهوآله ) في حجته تلك ستبقى الذكريات محفورة في قلوبهم طيلة حياتهم، وسيحرص الناس بدورهم على استخراج كل كلمة من أولئك الحجاج، وسيتأملونها بدقة وشغف وحرص..
فإذا رأى هؤلاء وأولئك أن أقرب الناس إلى الرسول، الذين يدعون التقوى، والزهد والعلم، والمكانة عنده، والأثرة لديه، يعاملونه بطريقة تخالف أبسط قواعد الأدب، وبنحو يمس قداسته، ويقوض هيبته، ويبطل تدبيره، فإن ذلك سيكون له وقع الصاعقة عليهم..
2 ـ وإذا كان هذا هو السفر الأخير الذي يرون فيه الرسول، فسيكون
حرصهم على وعي ما يجري فيه أشد وآكد، لأن ذكراه ستكون عزيزة، ومقرونة بمؤثر عاطفي، خصوصاً بعد أن يفقد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من بينهم، أو يصلهم خبر وفاته بعد أيام يسيرة من وصول بعضهم إلى بلده، أو قبل أن يصلوا إلى ديارهم بالنسبة للبعض الآخر..
3 ـ إن ما ذكرناه يشير إلى أنه (صلىاللهعليهوآله ) كان يريد أن يصل ما يرونه ويسمعونه إلى كل بلد، وحي، وبيت دخل إليه الإسلام، ولن يستطيع أحد التمويه أو التشويه، فالناس قد رأوا الوقائع بأنفسهم، ووعوها ونقلوها إلى أهلهم وإخوانهم، ولن يمكن مصادرة هذه المعرفة منهم، ولا منعها من الإنتشار والوصول، فقد وصلت وانتهى الأمر..
4 ـ إنه مهما ادعى ذلك الفريق لنفسه بعد ذلك من الطاعة والإنقياد لرسول الله، ومن التقوى والزهد، أو ادعى تغير الأحوال، وعدول النبي (صلىاللهعليهوآله ) عن تدبيره الأول فقد أصبح الشك في صحة كل ما يقوله هؤلاء المتجرؤون ممكناً، وإذا جاء الناس ما يدل على خلافه، لم يكن مستغرباً ولا مستهجناً..
من هم المتجرؤون؟!:
هناك أكثرية صامتة ومستضعفة منصرفة إلى أعمالها، ومنشغلة بتحصيل لقمة عيشها، وفيها الكثير من البسطاء والسذج ممن ليس له بصر بالسياسة، ولا يعرف الكثير عن ألاعيب الساسة، بل هو ينقاد لكل قائد، ويخضع لكل متسلط، بدءاً من كبير العائلة، إلى رئيس العشيرة، ثم الوالي، وانتهاءاً بأي ملك وحاكم، سواء أكان نبياً أم جباراً.
ولا نريد هنا أن نتحدث عن هذه الأكثرية، بل نريد أن نتحدث عن الناشطين في المجتمع الإسلامي في حياة النبي (صلىاللهعليهوآله ) فنقول:
هناك فريق من الصحابة عرف عنهم التزامهم بالحق، ومناصرته، وعدم تخطيه، وهم أفاضل الصحابة، وأماثلهم، كسلمان وعمار، والمقداد، وأبي ذر، وأبي الهيثم بن التيهان، وثلة من بني هاشم، وآخرين، وعلى رأس هؤلاء جميعاً علي (عليهالسلام ).. وقد دلت سيرتهم على صدق التزامهم واستقامتهم.
وهناك فريق آخر التزم طريق النفاق، وإظهار الطاعة والإيمان، وإبطان الخلاف..
وقد كثر هؤلاء بعد فتح مكة حيث رجح الكثيرون اللجوء إلى التريث والمجارات بانتظار مرور ما اعتبروه عاصفة لا بد لهم من الإنحناء لها، وبعد أن تعود المياه إلى مجاريها، يكون لكل حادث حديث.
وهناك فريق ثالث يهتم بمصالحه، ويسعى لتحقيق طموحاته التي أذكاها التوسع الهائل، والإنتشار السريع للإسلام، وما جلب ذلك لهم منافع، وما بسط لهم من نفوذ. ولا يهم هذا الفريق كثيراً ما يجري حوله خارج هذا السياق..
ولا شك في أنه كان من بين هؤلاء من يريد أن يحتفظ بلبوس الدين، وأن يراعي أحكامه، وأن يعمل بشرائعه، ولكنه انساق وراء تقديرات خاطئة، أو خضع لضغوط أجواء وتأثير محيط موبوء.
ولم يكن هذان الفريقان يرتاحان لتأكيدات النبي (صلىاللهعليهوآله )
على مقام وفضل علي (عليهالسلام )، ولا سيما ما كان يعلنه من وزارته له، ووصايته وإمامته من بعده.. ولشدَّ ما كانا ينزعجان ويحرجان وهما يواجهان الآيات القرآنية التي كانت تنزل في حقه (عليهالسلام )، وبيان فضله، والتنويه بمقامه، وجهاده وتضحياته..
قريش هي السبب:
وكان المهاجرون هم حملة لواء المناوأة لعلي (عليهالسلام )، والساعون لانتزاع الخلافة منه بكل قوة وعزم، وبعد الفتح كثر حولهم المنحرفون عنه، والحاقدون عليه، بعد أن أبطل كيدهم، وخضد شوكتهم.
وكان عامة أهل مكة ومحيطها يسيرون في هذا الإتجاه.. ومن ورائهم الكثير الكثير من القبائل والفئات التي أعلنت إسلامها أو استسلامها في سنة تسع وعشر من الهجرة، أي قبل فترة يسيرة جداً، ولم يتفقهوا بعد في الدين، ولا فهموا معانيه، ولا طبقوا أحكامه، ولا تربوا على مفاهيمه، ولا استبانت لهم حقائقه ودقائقه..
فاستفاد من هؤلاء المهاجرون القرشيون الطامحون والطامعون، الذين ذهبوا إلى الحج وهم بضع عشرات، كما استفادوا من أجواء مكة ومحيطها. فإنهم يعتبرونها وما وراءها الرصيد الأكبر، والثقل الحقيقي، والعضد القوي لهم، فبادروا إلى مواجهة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بذلك القدر من الجفاء، وبهذه الحدة!
أضواء على ما جرى في عرفة:
ونلاحظ: أن ما جرى في عرفة.. وما صدر من أولئك الناس من إساءات وأذى لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. قد أسهم إسهاماً كبيراً في تعريف الأمة بالتقي الوفي، والمطيع والصادق. وتمييزه عن المتآمر الطامح لما ليس له، المتجرئ على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، والساعي لتحقيق مآربه الخاصة بكل ثمن..
وقد توفرت عناصر كثيرة جعلت هذا الأمر من أوضح الواضحات لكل الناس: كبيرهم، وصغيرهم، عالمهم، وجاهلهم، مؤمنهم، وفاسقهم، ونذكر من هذه العناصر ما يلي:
1 ـ إن يوم عرفة هو يوم يجتمع فيه الحجيج كله في صعيد واحد.. ولا يجوز لهم الخروج منه، والتفرق عنه.. أما في منى، أو في مكة، فالناس يتفرقون في حاجاتهم العبادية أو غيرها..
2 ـ إنه يوم عبادة وابتهال، ودعاء ومناجات، وطلب حوائج الدنيا والآخرة، وإظهار الندم، والتوبة والإستغفار..
3 ـ وهو يوم يهتم فيه الإنسان بنفسه وبمصيره، وتصفية حساباته مع ربه، ولا يهتم فيه بالدنيا وحطامها، ولا يمارس فيه السياسة، ولا يسعى فيه لنيل المقامات الدنيوية.
وهو يوم يهيء الإنسان لإلتزام جادة التقوى، والإنسجام مع الأوامر الإلهية، والإنضباط على أساسها، والخضوع للمشيئة الربانية.
4 ـ وقد لفت النبي (صلىاللهعليهوآله ) نظرهم إلى فضل هذا اليوم،
فأقروا له ـ كما جاء في خطبة عرفة في حجة الوداع حين سألهم عن يومهم، وعن شهرهم، وغير ذلك..
5 ـ وهو يوم لا نظير له في حياة هؤلاء الناس، لأنهم يجتمعون بحضور، وبرعاية خير خلق الله، وأشرف، وأقدس، وأفضل المخلوقات.
فإذا بادر النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى بيان أمر ما في هذا اليوم، فلا بد أن يروا أنه من الأمور الهامة جداً، في دنياهم وفي آخرتهم.. ويرى كل فرد ٍ فردٍ منهم أن عليه أن يهتم بكل توجيه وكل كلمة تصدر منه وعنه (صلىاللهعليهوآله )، ويلاحقها بدقة وبانتباه فائق..
فإذا رأى أن أصحاب هذا النبي (صلىاللهعليهوآله ) في هذا المقام بالذات يتمردون عليه، ويسيئون الأدب معه، وهم يدعون التقوى، والورع والإخلاص، والتوبة، و.. و.. فإن ذلك سيشكل مفاجأة له تصل إلى حد الصدمة.
6 ـ للإحرام خصوصيته أيضاً، فالجميع في عرفة وهو المكان المقدس، وكلهم على صفة الإحرام ـ الذي انعقد بتلبيتهم داعي الله، وبراءتهم من الشرك، والإقرار بالمملوكية له تعالى، ومالكيته لكل شيء.. وبأن الحمد والنعمة له تعالى.
وفي الإحرام يمتنعون عن الملذات، ويمارسون تجربة السيطرة على أنفسهم، وعلى دوافعهم الغريزية، والإمتناع عن إيذاء أي مخلوق، حتى النملة والقملة..
ويشعرون بمساواة غنيهم لفقيرهم، والملك بالسوقة، والعبد بالسيد،
والعالم بالجاهل أمام محكمة العدل الإلهية..
فهل يعقل بعد هذا أن يؤذوا رسول الله، أو أن يظلموا أيا من عباد الله، أو أن يتمردوا على الله، أو أن يطمعوا بالدنيا، ويؤثروها على الآخرة؟!
7 ـ وفي موسم الحج يأتي الناس من كل حي وقبيلة وبلد، وينقلون ما رأوه، وما سمعوه لمن وراءهم.. ولا بد أن يحجزهم هذا ويردعهم عن الإنسياق وراء الإنفعالات الطائشة، ويصدهم عن التصرفات المشينة..
8 ـ إن وجود الرسول يساعد على فهم ما يجري وعلى نشره على أوسع نطاق، كما شرحناه فيما سبق.
9 ـ قد تمازج الحدث المثير للإستهجان والإستغراب مع المشاعر العاطفية والروحية، والبُعد العقيدي حيث سيعقبه بفترة وجيزة ارتحال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) إلى الرفيق الأعلى..
ومن الواضح: أن العلاقة بالحدث حين تترافق مع هزة مشاعرية وعاطفية، فإنها تصبح أكثر صفاء وعمقاً ورسوخاً، وأبعد أثراً في مجال الإلتزام والوفاء..
10 ـ إن للمكان أيضاً خصوصيته، فإنه من أقدس الأمكنة.
11 ـ وللزمان أيضاً خصوصيته، فإن الحدث جاء في يوم من أيام الله الكبرى.
12 ـ وللمناسبة دورها، فإن الحدث جاء في سياق أداء إحدى أهم عبادات الإسلام، وهي عبادة الحج..
13 ـ واختار (صلىاللهعليهوآله ) أسلوب خطاب الجماعة، لا الأفراد
والأشخاص، ربما ليفهمهم أن هذا واجب على الجميع، فلا يختص بفرد دون فرد، ولا بفئة دون أخرى.
نتائج وآثار:
ثم إننا لا نريد أن نستقصي هنا آثار ونتائج هذا الحدث.. وإنما نريد لفت النظر إلى أمور بعينها منها، فنقول:
1 ـ إن ما جرى في عرفات، قد أخرج قضية الإمامة وسواها من يد جماعة تسعى لاحتكار القرار فيها وفي غيرها. وهم القرشيون، الذين يدعون أنهم هم أهل الحل والعقد في هذا الأمر كما في غيره.. وأصبحت من مسؤوليات الأمة بأسرها، فعلى الأمة أن تطالب بالعمل بتوجيهات رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وتنفيذ أوامره فيها..
ولعل هذا هو أهم إنجاز حصل في موقف النبي (صلىاللهعليهوآله ) هذا في عرفة، فقد منع هذه الجماعة من ممارسة الإقطاع السياسي والديني القائم على أسس ومفاهيم جاهلية، دونما أثارة من علم، ولا دليل يهدي إلى الرشد، وإنما من منطلق الأهواء الشيطانية، والأطماع الرخيصة، والأهواء والغرائز، والأحقاد المقيتة والبغيضة.
2 ـ وإنجاز آخر تحقق أيضاً، وهو أن موقف النبي (صلىاللهعليهوآله ) هذا قد دفع أولئك الناس إلى الإقدام على حركة تفضح كثيراً مما اختزنته نفوسهم. وهي حركة يفهمها الناس كلهم: الذكي والغبي، المرأة والرجل، والعالم والجاهل، والعدو والصديق، والمسلم وغير المسلم.. وهو أنهم أساءوا الأدب مع نبيهم، وعرف الناس أنهم لا يوقرونه، ولا ينقادون له،
ولا يطيعون الله فيما أمرهم فيه
فقد رأى الجميع: أن هؤلاء الذين يدَّعون: أنهم يوقرون رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ويتبركون بفضل وضوئه، وببصاقه، وحتى بنخامته ـ رأوا ـ أنهم لا يعملون بالتوجيهات الإلهية التي تقول:
( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِه ) ِ (1) .
( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) (2) .
( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (3) .
( أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (4) .
وغير ذلك من آيات تنظم تعاملهم، وتضع الحدود، وترسم معالم السلوك معه (صلىاللهعليهوآله )، مما يكون الفسق والخروج عن الدين، في تجاهله، وفي تعديه.
هذا إلى جانب اعترافهم بما له (صلىاللهعليهوآله ) من فضل عليهم، وأياد لديهم، فإنه هو الذي أخرجهم ـ بفضل الله ـ من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وأبدلهم الذل بالعز، والشقاء بالسعادة، والنار بالجنان.
____________
1- الآية 1 من سورة الحجرات.
2- الآية 2 من سورة الحجرات.
3- الآية 7 من سورة الحشر.
4- الآية 59 من سورة النساء.
يضاف إلى ذلك كله: ادِّعاء هؤلاء أنهم قد جاؤوا مع هذا الرسول الأكرم والأعظم، في هذا الزمان الشريف، إلى هذا المكان المقدس ـ عرفات ـ لأداء إحدى أهم شعائر الإسلام، وهي فريضة الحج، ولِعبادة الله سبحانه، وطلب رضاه، معلنين بالتوبة، وبالندم على ما فرطوا به في جنب الله، منيبين إليه سبحانه، ليس لهم في حطام الدنيا مطمع، ولا في زخارفها مأرب.
وهم يظهرون أنفسهم بمظهر من يسعى لإنجاز عمل صالح يوجب غفران ذنوبهم، ورفعة درجاتهم.
نعم، رغم ذلك كله: فإنه (صلىاللهعليهوآله ) استطاع أن يري الجميع بأم أعينهم: كيف أن حركة بسيطة منه (صلىاللهعليهوآله ) قد فضحتهم، وكشفت ما أبطنوه، حيث تبدل موقفهم من نبيهم بالذات، وظهر أنهم قد تحولوا إلى وحوش كاسرة، ضد هذا النبي بالذات.
وظهر كيف أنهم لا يوقرونه، ويرفعون أصواتهم فوق صوته، ويجهرون له بالقول أكثر من جهر بعضهم لبعضهم، ويعصون أوامره، ويتجاهلون زواجره.. و.. و.. كل ذلك رغبة في الدنيا، وزهداً في الآخرة، وعزوفاً عن الكرامة الإلهية، وعن طلب رضى الرحمن.
3 ـ الكل يعلم أن هؤلاء إذا كانوا لا يوقرون رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فلا يمكن أن يتوقع أحد منهم الرفق والتوقير لغيره، لأن البشر كلهم دونه.
وقد أظهرت الأحداث اللاحقة هذه الحقيقة، حيث ضربوا ابنته حتى الإستشهاد، وأسقطوا جنينها.. فهل يمكن أن نتصور موقفهم تجاه علي
(عليهالسلام ) الذي طفحت قلوبهم بالحقد عليه، ولهم قِبله ترات وثارات آبائهم، وإخوانهم وأبنائهم، الذين قتلهم على الشرك؟!
ولا يمكن لهؤلاء واتباعهم أن يقدموا أي تعليل لما صدر منهم إلا الإصرار على الباطل الصريح، والجحود للحق الظاهر والواضح.
من الرابح؟!:
وظنوا أنهم ربحوا المعركة، حين تمكنوا من منع النبي (صلىاللهعليهوآله ) من إعلان إمامة علي (عليهالسلام ) على الحجيج ولكنهم كانوا يدركون أيضاً ـ وهم الدهاة المهرة ـ أن مكانتهم قد تزعزعت لدى الكثيرين..
فلا بد لهم من التدارك والترقيع، ولو بالإعتذار اللساني عما صدر وبدر، واعتبارها مجرد غلطة جرَّت لهم الندم والألم.
وإن لم يمكن الإعتذار، فمن الممكن ادعاء ذلك، ثم زعم أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) عفا وصفح، وأثنى عليهم ومدح..
وربما يدعون أيضاً أنه أسر إليهم: أنه لم يرد إعلان إمامة علي (عليهالسلام ) في عرفات، بل أراد مجرد التنويه بإسمه، وإظهار فضله..
فكان لا بد من سد الطريق عليهم، ومنعهم من ذلك. وهذا ما حصل بالفعل كما سنوضحه.
الخروج السريع من مكة:
وقد جاءت الخطوة النبوية التالية لتفسد عليهم ما دبروه، وهي المبادرة إلى الخروج من مكة، فإنه بعد أن انتهى النبي (صلىاللهعليهوآله ) من أداء
المناسك وبعد نفره من منى.. قيل: دخل مكة، وطاف بالبيت، وبقي إلى صباح اليوم التالي، ثم ارتحل(1) .
ولكن هذا غير دقيق ولا صحيح، بل الصحيح المروي عن أهل البيت (عليهمالسلام ) هو أنه لم يطف بالبيت ولا زاره، بل نفر حتى انتهى إلى الأبطح، فطلبت عائشة العمرة، فأرسلها، فاعتمرت، ثم أتت النبي (صلىاللهعليهوآله )، فارتحل من يومه، ولم يدخل المسجد الحرام، ولم يطف بالبيت(2) . وكان هذا آخر عهد بالبيت والمسجد الحرام.
وقولهم: إنه صلى الصبح ثم طاف بالبيت سبعاً، ووقف في الملتزم وبين الركن الذي فيه الحجر الأسود، والزق جسده بجدار الكعبة.. ثم ارتحل.
____________
1- السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص406 و 407 و 410 و 411 والمغازي للواقدي ج3 ص1114 وراجع: مغني المحتاج ج1 ص472. والسيرة الحلبية (ط سنة 1391 هـ) ج3 ص307 و (ط دار المعرفة) ج3 ص334 والمجموع ج4 ص363 وج8 ص249 وتحفة الأحوذي ج3 ص90 ومصادر كثيرة من كتب أهل السنة.
2- الكافي ج4 ص248 وبحار الأنوار ج21 ص393 وج96 ص327 وراجع: تهذيب الأحكام ج5 ص275 و 457 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص217 و 218 وج14 ص284 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص153 وج8 ص154 وج10 ص229 ومستطرفات السرائر لابن إدريس ص553 وجامع أحاديث الشيعة ج10 ص355 و 455 وج12 ص207 ومنتقى الجمان ج3 ص125 والحدائق الناضرة ج14 ص319.
غير دقيق أيضاً..
فقد روي عن جابر قال: خرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من مكة عند غروب الشمس، وصلى المغرب في سرف(1) .
مما يعني: أن وقوفه في الملتزم، وإلزاق جسده بجدار الكعبة لم يحصل، وإن كان قد حصل، فلا بد أن يكون إما قبل النفر من منى، أو في عمرة القضاء.
ولا بد أن يفاجئ الناس هذا الإجراء النبوي، وهم الذين يعلمون أنه (صلىاللهعليهوآله ) أحرص الناس على تعظيم البيت، والإلتزام بالسنن فيه..
نعم.. إن مبادرته (صلىاللهعليهوآله ) للخروج من مكة لا بد أن تثير الهواجس الكثيرة، وستنهال الأسئلة الغزيرة عن سبب ذلك.. وسيدرك الجميع أنه لو لم يكن ثمة ما هو أخطر لما فعل (صلىاللهعليهوآله )، وسيراقبون حركته بدقة، وسيتوقعون ما يكون منه، وسيدققون في دلالاته ومراميه، وسيربطون ذلك بما حصل في عرفة، ولو بنحو غائم.. إلى أن تنجلي لهم الأمور بموقفه العظيم في يوم الغدير.. كما سنرى.
وأما السبب في هذا كله، فهو أنه (صلىاللهعليهوآله ) كان يعلم: أن
____________
1- راجع: مسند أحمد ج3 ص305 والمعجم الأوسط للطبراني ج2 ص134 والجامع لأحكام القرآن ج10 ص305 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص412 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج8 ص247.