الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ١٠
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 334
أكان من بني عبد مناف أو من غيرهم.
5 ـ إن ذلك كله يشير إلى أن موازنته بين بني عبد مناف وبين تيم كانت لبيان أمر واقعي، وهو: أن بني عبد مناف هم أهل الفضل والسؤدد والكرامة، والإلتزام بالقيم والمبادئ، فلا يعقل صرف الأمر عنهم إلى أناس ليسوا بهذه المثابة.. وهو يتوقع مؤازرة بني ابيه الأمويين للحق الثابت.
ولكن بما أن الكلام قد جاء بطريقة توحي بالمنطق القبلي، كان لا بد من اعتراض علي (عليهالسلام ) لوضع الأمور في نصابها، وبعيداً عن الحدة.. فجاء بصيغة سؤال يكفي للتخلص من مفاعيله توضيح المراد من كلمة غلبكم التي وردت على لسان خالد..
د: أبو بكر لم يحفلها على خالد:
قول الرواية: إن أبا بكر لم يحفلها (أو لم يحقدها) على خالد بن سعيد، لم يظهر وجهه..
أولاً: لأنه لا ينسجم مع ما ذكرته الرواية التي بعدها، فهي تقول:
إن أبا بكر أطاع عمر في بعض الأمر، وعصاه في بعضه؛ حيث صرف خالداً عن وجهه، وجعله في تيماء، ليكون ـ حسب زعمهم ـ ردءاً..
ثانياً: إن تولية أبي بكر لخالد بن سعيد، يراد من خلالها تأليف بني أمية، وكسر الحزازاة التي يجدونها في نفوسهم، بعد أن أصبح تيمي أميراً عليهم. وهو ما لم يكونوا يتوقعونه في أيام نفوذ كلمتهم، وظهور أمرهم في الجاهلية..
ثالثاً: إن عزل خالد بعد نصبه، سيزيد من تعقيد الأمور في هذا الإتجاه، فأبقاه أبو بكر في ظاهر الأمر، ولكنه أفرغه من محتواه حين جعله في تيماء، فارغاً من أي فائدة، فاقداً لدوره الذي يتوقع من مثله..
ثم أرضى سائر الأمويين بتأميره يزيد بن أبي سفيان مكانه..
وكل ذلك يظهر حنكة أبي بكر، وتعمقه في سياساته وخططه بطابعها الخاص.
هـ: خالد.. وجبَّة الديباج:
وقد زعمت رواية سيف: أن خالداً حين قدم من اليمن بعد وفاة النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان يلبس جبة ديباج.. وأن عمر أمر بتمزيقها عليه. فمُزِّقت. ونحن نكاد لا نصدّق ذلك..
فأولاً: إن خالداً لم يكن ليلبس الحرير، بعد ما علم من نهي رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) عن لبسه.. ولو فعل ذلك، فلا بد أن يتوقع اعتراض المسلمين عليه في ذلك.. فما الذي يدعوه لوضع نفسه موضع المؤاخذة والمهانة؟!
ثانياً: إن عمر لم يكن هو الحاكم، ولم يكن حكم أبي بكر قد ثبت واستقر بعد، لا سيما مع وجود المعترضين والمعارضين له، والخوف من ازديادهم وتكثرهم.. ولم يكن ليحتمل أحد من عمر أن يتطفل عليه في أمثال هذه الأمور، بل هو سوف يثأر لنفسه، ويبادر إلى رد الإهانة بمثلها.
ثالثاً: هل كان الناس يأتمرون بأمر عمر آنئذٍ، حتى إذا صاح بمن يليه من الناس، وأمرهم بالإعتداء على أحد القادة بادروا إلى تنفيذ أمره، ومزقوا
عليه جبته؟! إلا إن كانوا يخشون من أن يستعين مرة أخرى ببني أسلم وسواهم من الأعراب الذين كانوا حول المدينة، وكانوا قد استعانوا بهم في إقامة وتثبيت خلافة أبي بكر. وكانوا جيشاً جراراً ربما يصل عدده إلى الألوف. ولعل قسماً منهم كان لا يزال في المدينة..
و: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم:
ثم إنه بالرغم من أن علياً (عليهالسلام ) يوجه سؤاله الإنكاري إلى خالد، فيقول: أمغالبة ترى، أم خلافة؟!.. فإن الرواية تقول:
إن خالداً لم يتراجع عن مفهوم المغالبة، بل أكده بقوله: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم. مع أنه يعلم أن علياً (عليهالسلام ) لا يتفاعل مع هذا المنطق، بل هو لا يرضى بإثارة الأمور على هذا النحو..
يضاف إلى ذلك: أن الرواية الآتية في فصل: (احتجاجات ومناشدات)، والتي تضمنت احتجاج الإثني عشر صحابياً على أبي بكر تبين: أن خالداً كان يرى أن المعيار في أمر الخلافة هو نص النبي (صلىاللهعليهوآله ) على أمير المؤمنين (عليهالسلام )، وتقريره أن الحق له دون سواه..
ز: السكوت المحير:
وبعد.. فإن الرواية تذكر: أن عمر بن الخطاب يقول لخالد بن سعيد: (فض الله فاك، والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت، ثم لا يضر إلا نفسه).
ولم تذكر شيئاً عن جواب خالد على هذا الكلام البالغ في جرأته وقسوته.. مع أن طبيعة الأمر تقتضي أن يجيبه خالد ولو برد كلامه عليه في
أدنى الفروض..
فما الذي منع خالداً من الجواب؟! هل هو الخوف من عمر؟! وهذا ما لا نتوقعه من أمثال خالد..
أم الخوف من تهديده المبطن بأن الحكم سوف لا ينفعه بنافعة أو خاف من التهديد بأن يكون الحكم كله ضدّه، وسوف يتعرض لأضرار بالغة تلحقه كشخص؟!
ولكن هل يمكن أن نصدق أن من يبادر إلى المعارضة بهذه الشدة والحدة، لا يتوقع أي ضرر ربما يلحق به نتيجة لمعارضته؟! أم ماذا؟!
أم أنه رأى أنه يقصد بذلك غيره، ممن لا يعنيه أمره؟!
ح: كذبة خالد:
تذكر الرواية الآنفة الذكر: أن عمر بن الخطاب وصف خالد بن سعيد بأنه يكذب كذبة، لا يفارق الأرض مدل بها، وخائض فيها. فلا يستنصر به.
ونقول:
أولاً: ليس في كلام خالد ما يصح وصفه بالكذب، بل مجرد كلام تحريضي، قائم على قواعد المفاضلة العشائرية، بين بني عبد مناف، وبين قبيلة تيم، وهي قبيلة أبي بكر..
ثانياً: قول عمر عن كذبة خالد: (لا يفارق الأرض مدل بها، وخائض فيها) لم نفهم له معنى. فإن كلمة خالد ليست هي السبب في إثارة موضوع غاصبية أبي بكر للخلافة من صاحبها الشرعي، بل هو موضوع مثار من
اللحظة الأولى.
وقد ارتكبت من أجله الجرائم، وواجه الناس فيه الأهوال، ولحقهم الكثير من الهضم والظلم، سواء بالنسبة لعلي (عليهالسلام ) نفسه، أو بالنسبة للسيدة الزهراء (عليهاالسلام )، فضلاً عن آخرين تعرضوا لكثير من الأذى في هذا السبيل..
فإذا كان تداول هذا الموضوع والخوض فيه، وعدم مفارقة الأرض لخائضٍ فيه ليس بسبب موقف خالد بن سعيد، فلماذا يحمِّله عمر بن الخطاب مسسؤولية ذلك؟!
ثالثاً: إذا كان خالد قد كذب هذه الكذبة الكبيرة، فمن المصلحة أن يستنصر به أبو بكر، لتكون نصرته لأبي بكر من أدلة تكذيبه لنفسه، ويكون ذلك أقوى لحجة أبي بكر، وأولى من استبعاد خالد، وإقصائه عن موقعه..
ط: فعلة خالد بن سعيد:
وقد حاولت روايات سيف: أن تضعف من موقف خالد، بادعاء أنه ارتكب خطأً في مواجهاته مع جيش الروم، ومني بهزيمة نتيجة لذلك.
والذي يثير الإنتباه هنا: أن هذا الذي ينسب إلى خالد بن سعيد هو برواية سيف بن عمر، وهو متهم فيما ينقله، فقد أظهرت الوقائع أنه يسعى للطعن في الفئة التي لم تبادر إلى تأييد خلافة أبي بكر وعمر، أو من ظهر منهم تردد في ذلك.. وهذا المورد ليس بعيداً عن هذه الأجواء، إذا أخذ موقف خالد بن سعيد بنظر الإعتبار..
عمرو وطلحة وعلي (عليهالسلام ):
لما رجع عمرو بن العاص من البحرين، أخبرهم: أن العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهى إليهم، فتفرقوا، وتحلقوا حلقاً. وأقبل عمر يريد التسليم على عمرو، فمرّ بحلقة، وهم في شيء من الذي سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة: عثمان، وعلي، وطلحة والزبير، وعبد الرحمان، وسعد، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: فيم أنتم؟!
فلم يجيبوه، فقال: ما أعلمني بالذي خلوتم عليه، فغضب طلحة، وقال: تالله يا بن الخطاب، لتخبرنا بالغيب!
قال: لا يعلم الغيب إلا الله. ولكن أظن قلتم: ما أخوفنا على قريش من العرب، وأخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر.
قالوا: صدقت.
قال: فلا تخافوا هذه المنزلة. أنا ـ والله ـ منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم. والله، لو تدخلون معاشر قريش جحراً لدخَلْتُه في آثاركم، فاتقوا الله فيهم.
ومضى إلى عمرو، فسلم عليه، ثم انصرف إلى أبي بكر(1) .
ونقول:
إننا نرتاب كثيراً في صحة بعض مضامين هذه الرواية، وذلك لما يلي:
____________
1- تاريخ الأمم والملوك ج3 ص258 و 259 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص448 والكامل في التاريخ ج2 ص353 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص211.
أولاً: لماذا يبالغ عمرو بن العاص في إظهار حجم العساكر التي تتهيأ لمهاجمة المدينة؟!
هل يريد بذلك خدمة أبي بكر من خلال تخويف الفريق الآخر بهذه العساكر، لكي يسلِّموا لأبي بكر، ويرضوا باغتصابه لأمر الخلافة، الذي جعله الله تعالى لأمير المؤمنين (عليهالسلام )؟!
أم أنه يريد أن يحرك أبا بكر ليبادر للتفاوض معه، ويقدم له الإمتيازات، ليكون معه وإلى جانبه ضد خصومه؟!
ثانياً: إننا لم نر أثراً يذكر لهذه العساكر، فأين ذهبت؟! وماذا صنعت؟! وهل وصلت إلى المدينة أم لم تصل؟. ومن هم قادتها؟! وكيف تعامل أبو بكر معهم ومعها؟!
ثالثاً: ما هذه المصادفة التي جمعت أهل الشورى في جلسة واحدة، ثم جاءت بعمر بن الخطاب ليصول عليهم، ويقرعهم بمر القول، ويحذرهم، ويعرِّض بهم باتهامهم في تقواهم لله تبارك وتعالى؟!..
رابعاً: إن هذا الذي ذكره عمر للمتحدثين، من أنهم قد تداولوه في حديثهم ليس من الأسرار التي يُتكتّم عليها من عمر.. فلماذا يسكتون حين مر بهم عمر؟! وما الذي يمنعهم من إخباره بمضمونه؟!
أم أن عمر قد سمع ذلك منهم، ثم تظاهر بعدم السماع، ليؤكد لهم عبقريته في استخراج ما في ضمائرهم؟!
أم أن الهدف هو إظهار قوة عمر وجرأته حتى على هؤلاء الجماعة الكبار، حتى لو كان علي (عليهالسلام ) بينهم؟!..
خامساً: كيف اتفق هؤلاء الستة على هذا القول، الذي تكتموا عليه أمام عمر، مع أن أكثرهم كان إلى جانب عمر ومن حزبه، ومن أنصار أبي بكر، ولا سيما عثمان، وعبد الرحمان بن عوف، وكذلك سعد بن أبي وقاص، ثم طلحة..
كما أن الزبير كان قد أنهى معارضته لهم، ور ضي بالبيعة لأبي بكر منذ اليوم الأول، وانتهى الأمر.
سادساً: إذا صح كلام عمر لهم حول تبعية العرب لقريش، وأن قريشاً هي التي يخشى على العرب منها، وليس العكس.. فلماذا كان الأمر على عكس ما قاله عمر؟!
ولماذا ارتدت العرب بعد وفاة الرسول؟!
ولماذا منعوا (الزكاة) عن أبي بكر؟!
ولماذا احتاج أبو بكر إلى حربهم؟! حتى إنهم ليدَّعون: أنه خرج بنفسه لمحاربة معارضيه من العرب، مع أنه قرشي..
سابعاً: إن هذا النص يريد أن يتوصل إلى اتهام علي (عليهالسلام ) بالخيانة، وبقلة الدين، وبأنه طامح وطامع، وبأنه يريد أن يورد الناس الهلكات بسبب أطماعه هذه..
لأن سائر أهل الجلسة كانوا موافقين لعمر وأبي بكر فيما فعلاه من اغتصاب الخلافة من أهلها، وفي غير ذلك من أمور..
الفصل السابع: إحتجاجات... ومناشدات..
بداية توضيحية:
وقد جرت بين علي (عليهالسلام ) وأبي بكر احتجاجات كثيرة، لا يمكننا إيرادها بأجمعها، وبعضها تضمن أموراً قد لا تناسب لذائقة كثيرين، إما من ناحية استثقالهم ما يتضمن منها معجزة إلهية تقهر عقولهم.. أو من ناحية إظهار تلك الإحتجاجات حقائق لا يتوقعونها، من حيث إنها تتسبب بإسقاط هالة القداسة التي أحاطوا بها أناساً هم أبعد ما يكون عنها..
وقد تضمن الكتاب الشريف (بحار الأنوار) وكثير من كتب الحديث المعتبرة غاية الإعتبار: الكثير الكثير من هذه الأحاديث.. فلا بد من إحالة القارئ إليها، والتعويل عليها لمن أراد التوسع في هذا الموضوع..
أما نحن، فنكتفي هنا بذكر نماذج يسيرة ثم ننصرف ـ بالرغم عنا ـ إلى غيرها..
والموارد التي اخترناها وآثرنا أن نعرضها كما هي، ومن دون تصرف أو تعليق سوى بعض ما يقتضيه التوضيح أو التصحيح، هي التالية:
مناشدات علي (عليهالسلام ) لأبي بكر:
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهمالسلام ) قال: لما كان من أمر أبي بكر، وبيعة الناس له، وفعلهم بعلي بن أبي طالب (عليهالسلام ) ،
ما كان، لم يزل أبو بكر يظهر له الإنبساط، ويرى منه الإنقباض، فكبر ذلك على أبي بكر، وأحب لقاءه، واستخراج ما عنده، والمعذرة إليه مما اجتمع الناس عليه، وتقليدهم إياه أمر الأمة، وقلة رغبته في ذلك، وزهده فيه. فأتاه في وقت غفلة، وطلب منه الخلوة، وقال له:
والله يا أبا الحسن، ما كان هذا الأمر مواطاة مني، ولا رغبة فيما وقعت فيه، ولا حرصاً عليه، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة، ولا قوة لي بمال، ولا كثرة العشيرة، ولا استيثاراً به دون غيري، فما لك تضمر عليَّ ما لم أستحقه منك، وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه، وتنظر إليَّ بعين الشناءة لي؟!
فقال له (عليهالسلام ): فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه، ولا حرصت عليه، ولا وثقت بنفسك في القيام به؟!
قال: فقال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (إن الله لا يجمع أمتي على ضلال)، فلما رأيت إجماعهم اتبعت قول النبي (صلىاللهعليهوآله )، وأحلت(1) أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من الضلال، فأعطيتهم قود الإجابة، ولو علمت أن أحداً يتخلف لامتنعت!
قال: فقال علي (عليهالسلام ): أما ما ذكرت من حديث النبي (صلىاللهعليهوآله ): إن الله لا يجمع أمتي على ضلال، أفكنت من الأمة، أم لم أكن؟!
____________
1- أي حكمت باستحالة ذلك.
قال: بلى.
قال: وكذلك العصابة الممتنعة عنك، من سلمان، وعمار، وأبي ذر، والمقداد، وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟!
قال: كل من الأمة.
فقال علي (عليهالسلام ): فكيف تحتج بحديث النبي (صلىاللهعليهوآله ) وأمثال هؤلاء قد تخلفوا عنك، وليس للأمة فيهم طعن، ولا في صحبة الرسول ونصيحته منهم تقصير؟!
قال: ما علمت بتخلفهم إلا من بعد إبرام الأمر، وخفت إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدين عن الدين، وكان ممارستهم إلىَّ إن أجبتهم أهون مؤنة على الدين، وإبقاءً له من ضرب الناس بعضهم ببعض، فيرجعون كفاراً، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم!
فقال علي (عليهالسلام ): أجل، ولكن أخبرني عن الذي يستحق هذا الأمر، بما يستحقه؟!
فقال أبو بكر: بالنصيحة، والوفاء، ودفع المداهنة، والمحاباة، وحسن السيرة، وإظهار العدل، والعلم بالكتاب والسنة، وفصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها، وانتصاف المظلوم من الظالم للقريب والبعيد.. ثم سكت.
فقال علي (عليهالسلام ): والسابقة والقرابة؟!
فقال أبو بكر: والسابقة والقرابة.
قال: فقال علي (عليهالسلام ): أنشدك بالله، يا أبا بكر، أفي نفسك تجد
هذه الخصال، أو فيَّ؟!
قال أبو بكر: بل فيك يا أبا الحسن.
قال: أنشدك بالله، أنا المجيب لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قبل ذكران المسلمين، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا صاحب الأذان لأهل الموسم ولجميع الأمة بسورة براءة، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا وقيت رسول الله بنفسي يوم الغار، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، ألي الولاية من الله مع ولاية رسوله في آية زكاة الخاتم، أم لك؟!
قال: بل لك.
قال: فأنشدك بالله، أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبي (صلىاللهعليهوآله ) يوم الغدير، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، ألي الوزارة من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) والمثل من هارون وموسى، أم لك؟!
قال: بل لك.
قال: فأنشدك بالله، أبي برز رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وبأهل بيتي وولدي في مباهلة المشركين من النصارى، أم بك وبأهلك وولدك؟!
قال: بكم.
قال: فأنشدك بالله، ألي ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس، أم لك ولأهل بيتك؟!
قال: بل لك ولأهل بيتك.
قال: فأنشدك بالله، أنا صاحب دعوة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وأهلي وولدي يوم الكساء: اللهم هؤلاء أهلي، إليك لا إلى النار، أم أنت؟!
قال: بل أنت، وأهلك، وولدك.
قال: فأنشدك بالله، أنا صاحب الآية:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (1) ، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي ردت له الشمس لوقت صلاته فصلاها ثم توارت، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الفتى الذي نودي من السماء: (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)، أم أنا؟!
____________
1- الآية 7 من سورة هل أتى.
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي حباك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) برايته يوم خيبر، ففتح الله له، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي نفست عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ود، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي ائتمنك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على رسالته إلى الجن فأجابت، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: أنشدك بالله، أنا الذي طهره رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من السفاح من آدم إلى أبيه بقوله (صلىاللهعليهوآله ): خرجت أنا وأنت من نكاح لا من سفاح، من آدم إلى عبد المطلب، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا الذي اختارني رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وزوجني ابنته فاطمة (عليهاالسلام )، وقال: الله زوجك إياها في السماء، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا والد الحسن والحسين سبطيه وريحانتيه إذ يقول:
(هما سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما)، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أخوك المزين بجناحين يطير في الجنة مع الملائكة، أم أخي؟!
قال: بل أخوك.
قال: فأنشدك بالله، أنا ضمنت دين رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وناديت في المواسم بإنجاز مواعيده، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا الذي دعاه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) والطير عنده يريد أكله، فقال: (اللهم ايتني بأحب خلقك إليَّ وإليك بعدي، يأكل معي من هذا الطير)، فلم يأته غيري، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا الذي بشرني رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين على تأويل القرآن، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا الذي دل عليه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعلم القضاء وفصل الخطاب بقوله: (علي أقضاكم)، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك الله، أنا الذي أمر لي رسول الله (صلىاللهعليهوآله )
أصحابه بالسلام علي بالإمرة في حياته، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنا الذي شهدت آخر كلام رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، ووليت غسله ودفنه، أم أنت؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي سبقت له القرابة من رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي حباك الله عز وجل بالدينار عند حاجته إليه، وباعك جبرئيل (عليهالسلام )، وأضفت محمداً (صلىاللهعليهوآله )، فأطعمت ولده، أم أنا؟!
قال: فبكى أبو بكر! وقال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي جعلك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على كتفه في طرح صنم الكعبة وكسره، حتى لو شئت أن أنال أفق السماء لنلتها، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي قال لك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أنت صاحب لواي في الدنيا والآخرة، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي أمرك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بفتح بابه في مسجده عندما أمر بسد أبواب جميع أهل بيته وأصحابه، وأحل لك فيه ما أحله الله له، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي قدمت بين يدي نجوى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) صدقة فناجيته، إذ عاتب الله عز وجل قوماً، فقال:( ءأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) (1) ، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله، أنت الذي قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لفاطمة: زوجتك أول الناس إيماناً، وأرجحهم إسلاماً. في كلام له، أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: فأنشدك بالله يا أبا بكر، أنت الذي سلمت عليه ملائكة سبع سماوات يوم القليب أم أنا؟!
قال: بل أنت.
قال: ..فلم يزل علي (عليهالسلام ) يورد مناقبه التي جعل الله عز وجل له ورسوله (صلىاللهعليهوآله ) دونه، ودون غيره.
ويقول أبو بكر: بل أنت.
____________
1- الآية 13 من سورة المجادلة.
قال: فبهذا وشبهه يستحق القيام بأمور أمة محمد (صلىاللهعليهوآله )، فما الذي غرك عن الله تعالى وعن رسوله ودينه، وأنت خلو مما يحتاج أهل دينه.
قال: فبكى أبو بكر وقال: صدقت يا أبا الحسن، أنظرني قيام يومي، فأدبِّر ما أنا فيه، وما سمعت منك.
قال: فقال علي (عليهالسلام ): لك ذلك يا أبا بكر.
فرجع من عنده، وطابت نفسه يومه، ولم يأذن لأحد إلى الليل، وعمر يتردد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي (عليهالسلام ).
فبات في ليلته، فرأى في منامه كأن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) تمثل له في مجلسه، فقام إليه أبو بكر ليسلم عليه، فولى عنه وجهه، فصار مقابل وجهه، فسلم عليه، فولى وجهه عنه.
فقال أبو بكر: يا رسول الله! أمرت بأمر لم أفعله؟!
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أرد عليك السلام وقد عاديت من والاه الله ورسوله؟! رد الحق إلى أهله.
فقلت: من أهله؟!
قال: من عاتبك عليه، علي.
قلت: فقد رددت عليه يا رسول الله، ثم لم يره.
فأصبح وبكَّر إلى علي (عليهالسلام ) وقال: ابسط يدك يا أبا الحسن أبايعك، وأخبره بما قد رأى.