الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٢
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 356
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 356
الحسين يفعل ذلك، وانقطع ذلك بعده، رضوان الله تعالى عليهم وسلامه.
قال ابن عون: فلا يأتي أحد من خلق الله إلى علي بحق ولا باطل إلا أعطاه(1) .
____________
1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 قسم 2 ص89 و (ط دار صادر) ج2 ص319.
الفصل الثامن : هـجـرة علـي(عليهالسلام)
هجرة أمير المؤمنين(عليهالسلام) :
واستمر رسول الله(صلىاللهعليهوآله) في هجرته المباركة حتى قرب من المدينة، فنزل بادئ ذي بدء في قباء، في بيت عمرو بن عوف، فأراده أبو بكر على دخول المدينة، وألاصه فأبى، وقال: ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن أمي وأخي، وابنتي، يعني علياً وفاطمة (عليهماالسلام )(1) .
____________
1- راجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص35 و (ط دار الحديث) ج1 ص302 من دون ذكر للاسم، وأمالي الشيخ الطوسي ج2 ص83 و (ط دار الثقافة) ص469 وإعلام الورى ص66 و (ط مؤسسة آل البيت) ج1 ص153 وحلية الأبرار ج1 ص149 و 158 و 159 وبحار الأنوار ج19 ص64 و 106 و 115 و 116 وج22 ص366 وج55 ص367 والخرائج والجرائح ج1 ص150 والدرجات الرفيعة ص411 وأعيان الشيعة ج1 ص238 و 376 وكشف الغمة ج2 ص32 والكافي ج8 ص339 و 340 ومختصر بصائر الدرجات ص129 و 130 ومستدرك الوسائل ج16 ص23 وجامع أحاديث الشيعة ج4 ص86 وج19 ص417 والمحتضر للحلي ص106 وكتاب الأربعين للماحوزي ص328 واللمعة البيضاء ص641 ونفس الرحمن للنوري ص99 وقصص الأنبياء للراوندي ص335.
فلما أمسى فارقه أبو بكر، ودخل المدينة، ونزل على بعض الأنصار، وبقي رسول الله بقباء، نازلاً على كلثوم بن الهدم(1) .
ثم كتب رسول الله(صلىاللهعليهوآله) إلى أخيه علي(عليهالسلام) كتاباً يأمره بالمسير إليه، وقلة التلوم. وأرسل الكتاب مع أبي واقد الليثي.
فلما أتاه كتاب النبي(صلىاللهعليهوآله) تهيأ للخروج والهجرة، فأعلم من كان معه من ضعفاء المؤمنين، وأمرهم أن يتسللوا، ويتخفوا تحت جنح الليل إلى ذي طوى، وخرج(عليهالسلام) بفاطمة بنت الرسول، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وتبعهم أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله( صلىاللهعليهوآله) ، وأبو واقد، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فأمره(عليهالسلام) بالرفق، فاعتذر بخوفه من الطلب.
فقال أمير المؤمنين(عليهالسلام) : إربع عليك، فإن رسول الله(صلىاللهعليهوآله) قال لي: (أي حين سفره من الغار كما تقدم) يا علي أما إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه.
وأدركه الطلب قرب ضجنان، وهم سبع فوارس متلثمون، وثامنهم مولى للحارث بن أمية، يدعى جناحاً.
____________
1- إعلام الورى ص66 و (ط مؤسسة أهل البيت) ج1 ص152 وبحار الأنوار ج19 ص106 عنه.
فأنزل علي(عليهالسلام) النسوة، وأقبل على القوم منتضياً السيف، فأمروه بالرجوع، فقال: فإن لم أفعل؟!
قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.
ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها، فحال علي(عليهالسلام) بينهم وبينها، فاهوى جناح بسيفه، فراغ علي(عليهالسلام) عن ضربته، وتختله علي(عليهالسلام) فضربه على عاتقه، فأسرع السيف مضياً فيه، حتى مس كاثبة فرسه، وشد عليهم بسيفه، وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد آليت لا أعبد غير الواحـد
فتصدع القوم عنه، وقالوا: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب.
قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه، وأهريق دمه، فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه، فقال لهما: أطلقا مطاياكما.
ثم سار ظاهراً حتى نزل بضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أم أيمن مولاة الرسول(صلىاللهعليهوآله) فعبدوا الله تلك الليلة قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلى بهم علي(عليهالسلام) صلاة الفجر ثم سار بهم، فجعلوا يصنعون ذلك في كل منزل، حتى قدم المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم.
( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً.. ) .
إلى قوله:( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى.. ) (1) .
ولما بلغ النبي(صلىاللهعليهوآله) قدومه(عليهالسلام) ، قال: ادعوا لي علياً.
قيل: يا رسول الله، لا يقدر أن يمشي.
فأتاه(صلىاللهعليهوآله) بنفسه، فلما رآه اعتنقه، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً.
وقال(صلىاللهعليهوآله) لعلي(عليهالسلام) : يا علي، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك ـ والذي نفسي بيده ـ إلا مؤمن قد امتحن قلبه للإيمان ولا يبغضك إلا منافق أو كافر(2) .
____________
1- الآيات 191 ـ 195 من سورة آل عمران.
2- راجع فيما ذكرناه: أمالي الشيخ الطوسي ج2 ص83 ـ 86 و (ط دارالثقافة) ص472 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص183 و 184 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص160 وحلية الأبرار ج1 ص152 و 153 وبحار الأنوار ج19 ص64 ـ 67 و 85 وكشف الغمة ج2 ص33 وتأويل الآيات ج1 ص127 والبرهان ج1 ص332 و 333 عن الشيباني في نهج البيان، وعن الإختصاص للشيخ المفيد، وإعلام الورى ص190 وإمتاع الأسماع للمقريزي ج1ص48 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص69 وأسد الغابة ج4 ص19 وأعيان الشيعة ج1 ص377 وفضائل أمير المؤمنين "عليهالسلام " للكوفي ص180 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص51 وج8 ص341 وج18 ص68 وج21 ص293 وج30 ص14.
وهذه الرواية تضع علامة استفهام على من هاجر قبله إلى المدينة مع الرسول.
ونقول:
البنات ربائب مرة أخرى:
وقد تضمن النص المتقدم دلالة أخرى على أن أم كلثوم على الأقل لم تكن بنتاً، للنبي( صلىاللهعليهوآله) ، وهو قول النبي(صلىاللهعليهوآله) لأبي بكر، حول دخول المدينة: "ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن أمي وأخي، وابنتي يعني فاطمة(عليهاالسلام) .
وفي نص أخر: حتي يقدم ابن أمي وأخي، وابنتي، علياً وفاطمة (عليهماالسلام )(1) .
فإن المفروض: أن أم كلثوم كانت في مكة، فلماذا لم يشر إليها النبي(صلىاللهعليهوآله) في كلامه؟! بل تحدث عن بنت واحدة ينتظر قدومها عليه، وهي فاطمة(عليهاالسلام) .
فإما لم يكن للنبي(صلىاللهعليهوآله) بنت اسمها أم كلثوم، أو أن أم كلثوم كانت متمردة علي أبيها، ولا تطيع أوامره، أو تختار البقاء مع المشركين في مكة، ولا تهاجر مع أبيها.. وهذا ما لم يشر التاريخ إلى شيء منه، ولا مجال لادعائه.
____________
1- تقدمت مصادر الحديث.
ابن أمي، وأخي:
وعن قوله(صلىاللهعليهوآله) عن علي(عليهالسلام) : "ابن أمي وأخي" نقول:
إن اختياره(صلىاللهعليهوآله) لهذا التعبير للدلالة على موقع علي(عليهالسلام) منه، يدلنا على أنه قد قصد به أن يظهر فضل فاطمة بنت أسد من جهة، ومكانة علي(عليهالسلام) منه من جهة أخرى، فهو(صلىاللهعليهوآله) يعتبرها أمه، ويرى علياً(عليهالسلام) أخاه..
وكأنه(صلىاللهعليهوآله) يجعل كون علي(عليهالسلام) ابن أمه بمثابة المرتكز الطبيعي لاعتباره أخاً له، وفي هذا تعميق لمعنى الأخوة بينهما من حيث إن هذه الأخوة قد تجاوزت نطاق الإفتراض والإعتبار لتلامس الأخوة النسبية الواقعية، ولتصبح العلاقة غير خاضعة للرفع والوضع، والإعتبار القابل للنقض باعتبار آخر..
النبي(صلىاللهعليهوآله) لا يدخل المدينة وحده:
إن رفض النبي(صلىاللهعليهوآله) دخول المدينة، من دون علي(عليهالسلام) وفاطمة، قد يشير إلى أنه( صلىاللهعليهوآله) ، يريد أن يستكمل العناصر المكونة للصورة التي تقدم النموذج للإنسان الإلهي وللتدبير الربوبي، والخطة الإلهية للبشر في مسيرتهم نحو الأهداف التي رسمها الله لهم. فثمة نبوة ورسالة، وثمة حاكمية إلهية، واستمرار لهذه الحاكمية، كما أن ثمة نموذجاً حياً للإنسان الإلهي، والتربية الربانية..
ولذلك أراد(صلىاللهعليهوآله) أن يدخل المدينة مع وصيه ووزيره، ومن رضيه الله تعالى إماماً وولياً للبشر كلهم.
وتلك هي الصورة التي يريد أن يقدمها لأهل المدينة التي سوف تكون منطلقه في إقامة دين الله، وهداية عباد الله إلى الله تبارك وتعالى..
أبو بكر يغضب ويشمئز:
وقد جاء في بعض روايات الهجرة: أنه في نفس اليوم الذي وصل فيه النبي(صلىاللهعليهوآله) إلى قباء ونزل على كلثوم بن الهدم أصرّ عليه أبو بكر ليدخل المدينة، فرفض وأخبره: أنه لا يريم (أي لا يفارق ولا يبرح مكانه) حتى يقدم عليه ابن عمه، وأخوه في الله، وأحب أهل بيته إليه، الذي وقاه بنفسه، على حد تعبيره( صلىاللهعليهوآله) .
فغضب أبو بكر، واشمأز، وفارق النبي( صلىاللهعليهوآله) ، ودخل المدينة في تلك الليلة، وبقي(صلىاللهعليهوآله) ينتظر أمير المؤمنين(عليهالسلام) حتى وافاه بالفواطم، وأم أيمن(1) في النصف من ربيع الأول، لأن
____________
1- راجع فيما ذكرناه كتاب: بحار الأنوار ج19 ص106 و 115 و 116 و 75 و 76 و64 وإعلام الورى ص66 والخرائج والجرائح ج1 ص145 وراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ ص35 و (ط دار الحديث) ج1 ص303 وأمالي الشيخ الطوسي ج2 ص83 و (ط دار الثقافة) ص470 وكشف الغمة ج2 ص33 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص485 وراجع: الكافي ج8 ص340 ومختصر بصائر الدرجات ص130 والسيرة الحلبية ج2 ص53 و (ط دار المعرفة) ج2 ص233 والطرائف لابن طاووس ص410 والمحتضر للحلي ص106 وحلية الأبرار ج1 ص149 و 150 و 159 وكتاب الأربعين للماحوزي ص329 ونور الثقلين ج1 ص423 والكنى والألقاب ج1 ص172.
النبي(صلىاللهعليهوآله) قدم إلى قباء في الثاني عشر.
وقيل: بقي(صلىاللهعليهوآله) في قباء بضع عشرة ليلة(1) .
وقيل: أقام هناك اثنتين وعشرين ليلة(2) . من ربيع الأول، وقد وافاه علي(عليهالسلام) بعد ثلاثة أيام(3) . ونزل مع رسول الله "صلى الله " عليه
____________
1- السيرة الحلبية ج2 ص53 و55 عن البخاري.
2- السيرة الحلبية ج2 ص55 عن ابن عقبة.
3- راجع: إمتاع الأسماع ص48 و (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص68 والمستدرك للحاكم ج3 ص397 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج2 ص729 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص626 وراجع ص625 وج30 ص15و 558 و 617 و 618 وبحار الأنوار ج19 هامش ص106 وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج42 ص69 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص305 وأنساب الأشراف ص91 والبداية والنهاية ج3 ص197 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج3 ص242 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص270 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص47 وسبل الهدى والرشاد ج3 ص267 وينابيع المودة ج2 ص149 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص22.
على كلثوم بن الهدم(1) .
ويرى البعض: أن الذي قدم بالعيال هو زيد بن حارثة وأبو رافع(2) .
ورفع الحلبي التنافي: باحتمال أن يكون الكتاب الذي أرسله إلى علي(عليهالسلام) من قباء قد أرسله معهما، ثم رافقا علياً في الطريق، وعادا معه(3) .
فنسب البعض المجيء بالعيال إليهما، وتجاهل دور أمير المؤمنين(عليهالسلام)
____________
1- راجع: كنز العمال ج16 ص685 وتاريـخ مدينة دمشق ج42 ص69 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص305 وأنساب الأشراف ص91 والبداية والنهاية ج3 ص197 و (ط دار إحيـاء الـتراث العـربي) ج3 ص242 وشرح إحقـاق الحـق = = (الملحقات) ج8 ص625 وج30 ص15 و 558 و 617 و618 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص22 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص15 وإمتاع الأسماع ج1 ص68 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص270 وجواهر المطالب ج1 ص47 وسبل الهدى والرشاد ج3 ص267 وينابيع المودة ج2 ص149.
2- راجع: المستدرك للحاكم ج4 ص5 وفتح الباري ج7 ص176 و 205 والطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص62 والمنتخب من ذيل المذيل للطبري ص94 ومجمع الزوائد ج9 ص227 والمعجم الكبير للطبراني ج23 ص25 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج4 ص1937 وأسد الغابة ج5 ص583 وسير أعلام النبلاء ج2 ص152 و 269 والسيرة الحلبية ج2 ص53 و (ط دار المعرفة) ج2 ص233.
3- السيرة الحلبية ج2 ص53 و (ط دار المعرفة) ج2 ص233.
الرائد، وموقفه في الدفاع عنهما لحاجة في نفسه قضاها.
لا مبرر للإصرار:
تحدثت الروايات أن أبا بكر ألاص(1) النبي(صلىاللهعليهوآله) ليدخل المدينة، فأبى. فتركه ودخلها وحده.
ونقول:
لا معنى لأن يقترح أحد على رسول الله(صلىاللهعليهوآله) شيئاً، فضلاً عن أن يصر عليه في أي من الأمور، بل عليه أن يسلّم لرسول الله(صلىاللهعليهوآله) في كل شيء، عملاً بقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) .
ويتأكد لزوم هذا التسليم إذا كان هذا الأمر يرتبط بالنبي(صلىاللهعليهوآله) نفسه، وبدعوته وحركته في محيطه، فإنه أدرى بما يريده الله تعالى منه، وأعرف بما يصلح له وبما لا يصلح، وهذا بالذات هو حال النبي(صلىاللهعليهوآله) فيما يرتبط بدخوله إلى المدينة في ذلك الوقت بالذات..
ويزيد الأمر غرابة: أن يقدم أبو بكر على ترك رسول الله(صلىاللهعليهوآله) في قباء، ويدخل هو المدينة وحده.. فإن هذا ليس هو المتوقع من صحابي يهمه أمر رسول الله(صلىاللهعليهوآله) والإستزادة من بركات
____________
1- ألاصه: أي حركه واراده كالذي يريد أن يقتلع الوتد من موضعه.
2- الآية 56 من سورة الأحزاب.
وجوده، والإستفادة من علمه، وتربيته وتوجيهاته.
لماذا الغضب والإشمئزاز؟!:
وقد ذكرت بعض الروايات المتقدمة: أن النبي(صلىاللهعليهوآله) قال: "لست أريم حتى يقدم ابن عمي، وأخي في الله عز وجل، وأحب أهل بيتي إلي، فقد وقاني بنفسه من المشركين.
قال: فغضب عند ذلك أبو بكر، واشمئز، وداخله من ذلك حسد لعلي(عليهالسلام) إلخ..".
ويستوقفنا هنا: أن النبي(صلىاللهعليهوآله) لم يبرر مقامه في قباء إلا بأمر واحد، وهو انتظاره قدوم علي(عليهالسلام) ..
ثم وصف علياً(عليهالسلام) بأوصاف عالية، تميزه على جميع ما عداه.
والأهم من ذلك: أنه(صلىاللهعليهوآله) قدم الدليل والمبرر لهذه الأوصاف، الذي لا مجال لإنكاره ولا للتأويل أو التلاعب فيه..
وقد أوضح هذا المبرر: أن هذا الكلام ليس مجرد كلام إنشائي، قد يتم التراجع عنه، أو إشراك شخص آخر فيه.
وبعبارة أخرى.. إن التضحية التي قدمها علي(عليهالسلام) ، وهي وقايته لرسول الله(صلىاللهعليهوآله) بنفسه ليلة المبيت، أمر تفرد به علي(عليهالسلام) ولا يشاركه فيه غيره. فلا مجال إذن لمشاركة أحد له في الحب الذي نتج عن هذه التضيحة.. إلا بتضحيات مماثلة.. وهي مما لا يتوقع حصوله من أحد سواه..
من أجل ذلك: وجد أبو بكر نفسه أمام طريق مسدود، فتضايق إلى حد الغضب، وأخذه حب الإستئثار بهذه الفضيلة لنفسه، وأنى له بذلك، وهو لا يستطيع أن يضحي بأي شيء حتى لرسول الله( صلىاللهعليهوآله) ، كما أظهرته الوقائع طيلة حياة النبي( صلىاللهعليهوآله).
أبو بكر في بناء مسجد قباء:
وبعد وصول أمير المؤمنين(عليهالسلام) إلى رسول الله( صلىاللهعليهوآله) ، وهو لم يزل في قباء بادر(صلىاللهعليهوآله) إلى تأسيس مسجد قباء المعروف..
وزعمت بعض الروايات أيضاً: أنه(صلىاللهعليهوآله) أمر أبا بكر بأن يركب الناقة، ويسير بها، ليخط المسجد على ما تدور عليه، فلم تنبعث به، فأمر عمر فكذلك، فأمر علياً(عليهالسلام) فركبها، فانبعثت به، ودارت به، فأسس المسجد على حسب ما دارت عليه..
وقال( صلىاللهعليهوآله) : إنها مأمورة(1) .
ولكن سيأتي أن ذلك إنما كان في مسجد المدينة، لا في قباء.
____________
1- مجمع الزوائد ج4 ص11 وعمدة القاري ج7 ص259 وسبل الهدى والرشاد ج3 ص268 وكنز العمال ج13 ص139 والمعجم الكبير للطبراني ج2 ص246 ووفاء الوفاء ج1 ص251 وتاريخ الخميس ج1 ص338 والإكمال في أسماء الرجال ص34 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج23 ص501 وراجع: تاريخ جرجان ص144 وفي عبارته سقط.
ونقول:
هناك استفادات ومناقشات، واشارات تجعلنا نشير إلى الأمور التالية:
إنها مأمورة:
هناك أمور تمر على الناس في حياتهم تبقى لها آثار عميقة في وجدانهم، وتختزنها ذاكرتهم، ويكون لها دور كبير في تعميق الإيمان، وترسيخ القناعات، بعد أن تكون الآيات والمعجزات والبراهين والدلالات العقلية قد أخذت بيد الإنسان إلى الخضوع والبخوع، والتسليم، وإبعاد الشبهات وازالة الريب.
ومن المفردات التي كان(صلىاللهعليهوآله) يعتمد عليها في ذلك تلك الأحداث التي تظهر الكرامة الإلهية، وتدل على علاقة شخص بعينه بالغيب، وفوزه بالرعاية الإلهية. وقضية انبعاث الناقة هنا بعلي دون سواه من هذا القبيل.
الرفق بالضعائف:
تقدم: أنه حين جاء كتاب رسول الله(صلىاللهعليهوآله) علياً(عليهالسلام) ، أعلم من كان معه من ضعفاء المؤمنين، وأمرهم بالتخفي بالليل، وأن يتسللوا إلى ذي طوى..
وخرج(عليهالسلام) بالفواطم، فجعل أبو واقد يسوق بالرواحل فأعنف بها فأمره(عليهالسلام) بالرفق بالنسوة، إنهن من الضعائف.
فاعتذر بأنه يخاف الطلب، فأخبره بأن النبي(صلىاللهعليهوآله) قال
له: إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه.
ونقول:
في هذا النص اشارات عديدة، نذكر منها..
1 ـ إن علياً(عليهالسلام) آثر أن يستصحب معه ضعفاء المؤمنين، لا سيما وأن النبي(صلىاللهعليهوآله) قد قال له: إنه لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه، فإن هذا يجعله يطمئن إلى سلامته، وسلامة من معه أيضاً.
فأحب أن يستفيد من هذه الفرصة لتخليص خصوص الضعفاء من براثن مشركي قريش..
وهذا هو المتوقع من علي الذي يعتصر قلبه ألماً لما يشاهده من أذى أهل الشرك لأولئك الضعفاء، وها هو يجد الفرصة لتخليصهم، فلماذا لا يغتنمها؟!
2 ـ ولا بد لأولئك الضعفاء من التخفي بالليل والتسلل إلى ذي طوى، لأن الضمانة لهم لم تتوفر بعد، لأنهم لم ينضووا بعد تحت جناح أمير المؤمنين(عليهالسلام) ، لكي يكون هو الحامي والكفيل.
3 ـ وقد صرح(عليهالسلام) بأن النسوة من الضعائف، فأشرك معهن غيرهن في صفة الضعف، ربما ليدلنا على أن الضعف ليس صفة لخصوص النسوة اللاتي حملهن معه، ليكون غيرهن من النساء لسن كذلك.. بل الضعف هو صفة المرأة بصورة عامة، فإن جسدها لا يحتمل العنف، لأن المهمة التي خلقت من أجل القيام بها، تحتاج إلى هذا النوع من المزايا المهمة جداً في نطاق القيام بالوظيفة التي أوكلت إليها، وهن ضعاف بالقياس إلى
مهمات الرجال. وهن أقوياء فيما يرتبط بما اعدهن الله تعالى له.. فضعفهن مزية لهن، وإنما يتصف بالسلبية إذا أريد لهن أن يقمن بوظائف لا تصلح لهن، ولا يصلحن لها.
4 ـ ولا بد لنا من عطف النظر على هذا اليقين الذي أظهره(عليهالسلام) بتحقق ما أخبره به رسول الله( صلىاللهعليهوآله) ، فصار يتصرف وفق ما يفرضه عليه ذلك اليقين.
ولا بد أن يكون(عليهالسلام) قد قصد بنقل قول رسول الله(صلىاللهعليهوآله) في تلك اللحظة لأبي واقد، فيقترن بذلك التصرف المستند لهذا الإخبار النبوي، لكي يعطي الآخرين درساً في عمق الإيمان، وفي التسليم التام لما يخبر به الأنبياء صلوات الله عليهم، ولتكون مشاهدة تحقق ما يخبرون به، من مفردات معجزاتهم التي تعمق الإيمان في نفوس أهل البصيرة والإيمان.
إنه علي(عليهالسلام) .. وليس عمر!!:
وقد تقدم: أنه(عليهالسلام) بعد أن قتل أحد الفرسان السبعة الذين هاجموه، وتضعضع سائرهم عنه، قال لهم: "من سره أن أفري لحمه، وأهريق دمه، فليتبعني، أو فليدن مني".
ولكن نفوس شانئي علي(عليهالسلام) ، التي تنضح بالحقد والضغينة، أغارت ـ كما هي العادة ـ على هذه الفضيلة لعلي(عليهالسلام) ايضاً، لكي تستلبها، وتمنحها إلى غيره..
ثم أمعنت في التزوير والكيد بزعمها أنه(عليهالسلام) نفسه هو الذي
حكى هذه القصة عن فلان من الناس، لأن نقل الحديث عنه(عليهالسلام) سيكون أوقع في النفوس، وأبعد عن الشبهة، وأدعى للقبول..
فرووا عن علي(عليهالسلام) أنه قال: ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يديه أسهماً، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال:
"شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، فمن أراد أن تثكله أمه، أو يؤتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي".
قال علي(عليهالسلام) : فما تبعه أحد، ثم مضى لوجهه(1) .
ونحن لا نريد أن نقول: إن عدم لحوقهم به كان استهانة به، وازدراء له..
ولا نريد أن نقول أيضاً: إنه أمنهم، ففعل ما لا خطر فيه عليه، وأن ذلك يثير الريب في أن يكون على تفاهم تام معهم.. إذ ليس لدينا شاهد
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ج44 ص51 وأسد الغابة ج4 ص58 ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج4 ص387 عن ابن عساكر، والسيرة الحلبية ج2 ص21 و 22 و (ط دار المعرفة) ج2 ص183 و 184 وكنز العمال ج14 ص221 و 222 و (ط مؤسسة الرسالة) ج12 ص575 عن ابن عساكر، وأشار إليه في نور الأبصار ص15.