الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٢

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 356
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 356
تاريخي يؤيد هذا أو ذاك..
ولكننا نرى:
إن أصل هذه المزعمة مكذوب عليه.. أو مصنوع له، إن أردنا أن نتوخى الدقة في التعبير.. والشواهد على ذلك كثيرة..
أولاً: إن هذا ليس هو عمر بن الخطاب الذي نعرفه، فلعله عمر آخر لم نسمع به!!. لأن عمر الذي نعرفه كان يشتد على المؤمنين في حالات السلم، ويضعف ويتراجع ويهرب أمام الأعداء في حالات النزال والقتال، فهو الفرّار في أحد، وقريظة، وخيبر، وحنين، وذات السلاسل، ولم نره أظهر نفسه في حرب الخندق..
ثانياً: إنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً، حتى جاءه العاص بن وائل السهمي فأجاره.. كما رواه البخاري وغيره(١) .
____________
١- راجع: صحيح البخاري (ط مشكول) ج٥ ص٦٠ و ٦١ و (ط دار الفكر) ج٤ ص٢٤٢ ففيه روايتان بهذا المعنى، وتاريخ الإسلام للذهبي ج٢ ص١٠٤ و (ط دار الكتاب العربي) ج١ ص١٧٦ وعمدة القاري ج١٧ ص٤ والإكمال في أسماء الرجال ص١٢٢ وسبل الهدى والرشاد ج٢ ص٣٧٤ وعيون الأثر ج١ ص١٦٣ ونسب قريش لمصعب الزبيري ص٤٠٩ وتاريخ عمر لابن الجوزي ص٢٦ والسيرة الحلبية ج١ ص٣٣٢ و (ط دار المعرفة) ج٢ ص١٧ ومقدمة فتح الباري ص٣٦٦ والسيرة النبوية لدحلان ج١ ص١٣٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج١ ص٣٧٤ والبداية والنهاية ج٣ ص٨٢ ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار النصر) ج٢ ص٩ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٤ ص٤٢.
وكانت مشورته في بدر على رسول الله( صلىاللهعليهوآله) .. تنضح بالتخويف من قريش، وجبروتها، وخيلائها.. فلم يرضها رسول الله( صلىاللهعليهوآله) (١) .
ثالثاً: إنه لم يجرؤ على حمل رسالة النبي(صلىاللهعليهوآله) لقريش عام الحديبية، بحجة أن بني عدي لا ينصرونه إن أوذي، وحملها عثمان(٢) .
____________
١- مغازي الواقدي ج١ ص٤٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٢ ص٣٨٦ وبحار الأنوار ج١٩ ص٢١٧ و ٢٤٧ وتفسير القمي ج١ ص٢٥٨ وتفسير أبي حمزة الثمالي ص١٨١ ومجمع البيان ج٤ ص٤٣٢ والأصفى ج١ ص٤٢٥ والصافي ج٢ ص٢٧٤ ونور الثقلين ج٢ ص١٢٤ والميزان ج٩ ص٢٥ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٢ ص١٠٦ وإمتاع الأسماع ج١ ص٩٣ وج٩ ص٢٤١ وعيون الأثر ج١ ص٣٢٧ وسبل الهدى والرشاد ج٤ ص٢٦ والدر المنثور ج٣ ص١٦٦ عن دلائل النبوة للبيهقي.
٢- راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ق١ ص٧٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج٤ ص١٣٣ وجامع البيان ج٢٦ ص١١١ وعين العبرة ص٢٤ وتفسير القرآن العظيم ج٤ ص٢٠٠ و ٢٠١ والثقات ج١ ص٢٩٩ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٩ ص٧٨ وتاريخ الأمم والملوك ج٢ ص٢٧٨ والبداية والنهاية ج٤ ص١٩١ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج٢ ص٦١٨ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج٣ ص٧٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٣١٨ وسبل الهدى والرشاد ج٥ ص٤٦ وتفسير الثعالبي ج٥ ص٢٥٤ وعن عيون الأثر ج٢ ص١١٩ وكنز العمال ج١٠ ص٤٨٢.
رابعاً: إنهم يزعمون: أن أبا بكر كان أشجع الصحابة، استناداً إلى موقفه عند استشهاد رسول الله( صلىاللهعليهوآله) (١) ونحن وإن كنا نرى أن ذلك غير صحيح أيضاً.. بدليل ما رأيناه من حزنه في الغار، وأنه لاذ في مواطن النزال بالفرار، غير أننا نقول: ـ على سبيل الالزام ـ لماذا لم يهاجر أبو بكر ظاهراً، وهاجر عمر كذلك؟!..
خامساً: هل يمكن أن نقول: إن عمر كان أشجع من النبي( صلىاللهعليهوآله) ، حيث خرج(صلىاللهعليهوآله) إلى الغار متخفياً في الليل، وعمر هاجر ظاهراً ومهدداً ومتوعداً؟!
سادساً: لماذا احتاج رسول الله(صلىاللهعليهوآله) إلى الهجرة، فقد كان بإمكان عمر أن يمنع الناس من أذيته في مكة؟! أو لماذا لم يحمه حتى يهاجر ظاهراً منها؟!
ولماذا ترك أهل مكة يحصرون النبي(صلىاللهعليهوآله) والهاشميين في الشعب، وبقي هو حراً طليقاً في مكة..
____________
١- راجع: الجامع لأحكام القرآن ج٤ ص٢٢٢ والغدير ج٧ ص٢١٣ وعن السيرة الحلبية ج٣ ص٣٥٤. وراجع: الفتح المبين لدحلان (بهامش سيرته النبوية) ج١ ص١٢٣ ـ ١٢٥ والوافي بالوفيات ج١ ص٦٦ وعن نور الأبصار للشبلنجي ج١ ص١٠٧.
وكذلك كان حال أبي بكر، فإن هؤلاء يزعمون أن عمر وأبا بكر قد أسلما قبل حصر المسلمين في الشعب..
واذا كانت لعمر هذه الشجاعة، فلماذا لم يعز الاسلام به، رغم زعمهم أن النبي(صلىاللهعليهوآله) دعا أن يعز الاسلام به؟!
فإما أن يقرّوا بأنهما قد أسلما بعد خروج المسلمين من الشعب، أو يقروا بأنهما كانا قد أسلما قبل ذلك، وقد أخفيا إسلامهما تقيةً وخوفاً، أو أن يذكروا لنا السبب في عدم تعرض قريش لهما، إن كان إسلامهما ظاهراً طيلة تلك السنين..
وفي جميع الأحوال نقول:
إن الصحيح: هو ما قدمناه من أن علياً(عليهالسلام) هو الذي قال ذلك القول، وردّ الذين لحقوا به حين هجرته خائبين خاسرين، بعد أن قتل أحد فرسانهم.
ولكنهم أغاروا على هذه الفضيلة ظناً منهم أنها مستورة، أو غير مشهورة، لأنهم كانوا في أشد الضيق من كرامات وجهاد ومواقف علي، خصوصاً مبيته في فراش رسول الله(صلىاللهعليهوآله) ليلة الهجرة، مع ظهور ضعف أبي بكر في حزنه الذي حكاه الله عنه..
فحاولوا إطراء أبي بكر في الغار بما لا مزيد عليه، ثم حاولوا أن يمنحوا عمر بن الخطاب هذه الفضيلة على لسان علي(عليهالسلام) ، لأن ذلك أوقع في النفس، وأبعد عن الشبهة، وأدعى إلى القبول والتسليم..
ولكن الله تعالى قد فضح أمرهم، وأكذب أحدوثتهم، وهو المستعان على ما يصفون..
آليت لا أعبد غير الواحد:
ولسنا بحاجة إلى التذكير: بأن علياً(عليهالسلام) في هذه الواقعة بالذات لم يقل: إني أدافع عن نفسي وعن المستضعفين الذين معي، بل اعتبر نفسه بصدد الدفاع عن عقيدته، وهي عقيدة التوحيد، وعبادة الله الواحد في مقابل الشرك..
وكان هذا هو كل همه(عليهالسلام) هنا. ولذلك قال:
خَلّوا سبيل الجاهِدِ المجاهِدِ آليتُ لا أَعبدُ غيرَ الواحدِ
وهذا الاعلان الصريح هو الاشد ايلاماً، لقلوب المشركين..
علي(عليهالسلام) أول الأمة هجرة:
وتقدم: أن النبي(صلىاللهعليهوآله) قال لعلي(عليهالسلام) : إنه(عليهالسلام) أول الأمة هجرة إلى الله ورسوله، مع أن هناك من هاجر إلى الحبشة، وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بحوالي ثمان سنوات، كما أن هناك من هاجر إلى المدينة قبله، مثل مصعب بن عمير الذي ذهب إلى المدينة ليعلم أهلها. وهو أول من هاجر إليها مع ابن أم مكتوم(١) . كما أن أبا بكر الذي
____________
١- راجع: الإستيعاب (ط دار الجيل) ج٤ ص١٤٧٣ وأسد الغابة ج٣ ص٢١١ وج٤ ص٥٩ و ١٠٣ و ٣٦٩ وسير أعلام النبلاء ج١ ص١٤٥ و ٣٦١ والإصابة ج٤ ص٤٩٥ وج٦ ص٩٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج١ ص٣١٥ و ٣٣٢ والبداية والنهاية ج٣ ص٢١١ و ٢٣٠ وإمتاع الأسماع ج١ ص٥٢ وج٩ ص١٩١ و ٢٠٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج٢ ص٢٢١ و ٢٥٣ وكنز العمال ج١٦ ص٦٦٧ ومسند أحمد ج١ ص٣ وج٤ ص٢٨٤ و ٢٩١ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج٤ ص٢٦٣ و ٢٦٤ وج٦ ص٨٢ والمستدرك للحاكم ج٢ ص٦٢٦ وج٣ ص٦٣٤ = = والسنن الكبرى للبيهقي ج٩ ص١٠ وفتح الباري ج١١ ص٢٣٨ وج١٣ ص١٤٧ وعمدة القاري ج١٧ ص٣٦ و ٥٩ و ٦٠ وج١٩ ص٢٨٨ ومسند أبي داود ص٩٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج٨ ص٣٣١ وج٨ ص٤٥٧ وكتاب الأوائل ص٤٣ والسنن الكبرى للنسائي ج٦ ص٥١٣ ومسند أبي يعلى ج٣ ص٢٦٢ وصحيح ابن حبان ج١٤ ص١٩٠ وج١٥ ص٢٩٠ وتفسير القرآن العظيم ج٤ ص٥٣٢ والإتقان في علوم القرآن ج١ ص٤٥ والدر المنثور ج٦ ص٣٣٧ وفتح القدير ج٥ ص٤٢٢ وتفسير الآلوسي ج٣٠ ص١٠١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج١ ص٢٣٤ وج٣ ص١١٧ وج٤ ص٢٠٦ و ٣٦٧ والثقات لابن حبان ج١ ص١٢٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٣ ص٣٨٠.
اشتد حزنه وخوفه في الغار حتى انزل الله فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
ونجيب:
أولاً: صحيح أن هناك من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، ولكن هجرتهم كانت لأغراض مختلفة، ومنها، أو أهمها التخلص من العذاب والآلام التي
يقاسونها.. ولم يكن علي(عليهالسلام) من هؤلاء، بل هو يرى أن أحلى أيامه هي حين يكون مع الله ومع رسوله، ولا يقيم وزناً لكل ما يجري عليه من أذايا، والآم وبلايا، مهما اشتدت.. وذلك على قاعدته التي أطلقها(عليهالسلام) : لَأَلفُ ضربةٍ بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش(١) .
وعلى قاعدته الأخرى: فزت ورب الكعبة(٢) .
____________
١- راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج٢ ص٢ والكافي ج٥ ص٥٣ و ٥٤ وتهذيب الأحكام ج٦ ص١٢٣ وروضة الواعظين ص٣٦٣ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة = = آل البيت) ج١٥ ص١٤ و ١٧ و (ط دار الإسلامية) ج١١ ص٨ و ١٠ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٢ ص٢٦٩ وج٣ ص٢٨٩ والإرشاد للمفيد ج١ ص٢٣٨ والأمالي للطوسي ص١٦٩ و ٢١٦ وعيون الحكم والمواعظ للواسطي ص١٥٤ وبحار الأنوار ج٣٢ ص٦١ وج٣٢ ص١٠٠ و ١٨٩ و ١٩٤ وج٣٣ ص٤٥٥ وج٣٤ ص١٤٦ وج٦٨ ص٢٦٤ وج٧٤ ص٤٠٣ وج٩٧ ص١١ و ١٤ و ٤٠ وجامع أحاديث الشيعة ج١٣ ص٧ و ١٢٧ ومستدرك سفينة البحار ج٩ ص٤٥٨ و الإمام علي بن أبي طالب "عليهالسلام " للهمداني ص٦٠٣ ونهج السعادة ج١ ص٢٩٦ و ٣٠١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١ ص٣٠٦ وج٧ ص٣٠٠ وتاريخ اليعقوبي ج٢ ص٢٠٩ وكتاب الفتوح لابن أعثم ج٢ ص٤٦٨ والجمل للمفيد ص١٩٠ والمناقب للخوارزمي ص١٨٥ ومطالب السؤول ص٢١٣ وكشف الغمة ج١ ص٢٤١ وينابيع المودة ج١ ص٤٦٤.
٢- راجع: خصائص الأئمة ص٦٣ وشرح الأخبار ج٢ ص٤٤٢ والمسترشد ص٤ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٣٨٥ وج٣ ص٩٥ والطرائف لابن طاووس ص٥١٩ وحلية الأبرار ج٢ ص٦٣ و ٣٩١ ومدينة المعاجز ج٣ ص٤٠ وبحار الأنوار ج٤١ ص٢ وج٤٢ ص٢٣٩ وشجرة طوبى ج١ ص٦٤ ونهج السعادة ج٧ ص١١١ و ١٢٤ و ١٢٥ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج٣ ص١١٢٥ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٩ ص٢٠٧ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٥٦١ وأسد الغابة ج٤ ص٣٨ وأنساب الأشراف ص٤٨٨ و ٤٩٩ والجـوهـرة في = = نسب الإمام علي وآله ص١١٤ والوافي بالوفيات ج١٨ ص١٧٣ والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج١ ص١٣٨ و(تحقيق الشيري) ج١ ص١٨٠ والدر النظيم ص٢٧١ وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج٢ ص٩٦ و ٩٧ وقصص الأنبياء للجزائري ص٣٩٦ وينابيع المودة ج١ ص٢٠٣ وج٢ ص٣٢ وج٣ ص١٤٥.
ثم على قاعدة: كيف طعم الموت عندك يا بني؟!
قال: أحلى من العسل(١) .
بالاضافة إلى قاعدة:
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب ارباً لما مال الفؤاد إلى سواكـا..
____________
١- راجع: وسيلة الدارين في أنصار الحسين ص٢٥٣ ومدينة المعاجز ج٤ ص٢١٥ و ٢٢٨ والهداية الكبرى ص٢٠٤.
فلم يكن علي بالذي يترك رسول الله( صلىاللهعليهوآله) ، ويهرب من الأذى إلى أي بلد كان.. بل هو أينما كان يهاجر إلى الله وإلى رسوله.. وهو لم يترك مكة إلا بعد أن تلبدت آفاقها بظلمات الشرك والبغي، والبعد عن الله، ولمعت أنوار الهداية والتقوى في أجواء المدينة، فاجتذبته تلك الأنوار، فالتحق بها حباً وشغفاً، وشوقاً ولهفاً..
فعلي(عليهالسلام) هو أول الأمة هجرة إلى الله وإلى رسوله، ومعه الطاهرة المعصومة السيدة فاطمة الزهراء "صلوات الله عليها"..
ثانياً: إن الذين هاجروا قبل علي(عليهالسلام) إلى الحبشة أو إلى غيرها، لم تكن هجرتهم إلى رسول الله، لأنه(صلىاللهعليهوآله) لم يكن قد خرج من مكة بعد..
ثالثاً: إن إرسال مصعب بن عمير إلى المدينة ليفقه الناس، لا يعد هجرة له. بل هو شخص انتدب لمهمة، ففعل ما انتدب له..
الباب الثالث : من الهجرة.. إلى أحد..
الفصل الأول : بناء المسجد والمؤاخاة..
لا يستوي من يعمر المساجد:
لقد هاجر رسول الله(صلىاللهعليهوآله) من مكة إلى المدينة، وانتشر الإسلام وانطلق من هذا البلد الجديد، بجهد وجهاد رسول الله(صلىاللهعليهوآله) وهدايته ورعايته، وبتضحيات أهل بيته الطاهرين، والخيرة الأصفياء من صحبه الميامين..
وفي بدايات هجرته المباركة أسس(صلىاللهعليهوآله) مسجد قباء، ثم مسجده في المدينة.
وحدث في بناء هذا المسجد المبارك بين عثمان بن عفان وعمار بن ياسر ما دعا رسول الله إلى التدخل لصالح عمار..
وملخص ما جرى ـ وإن كنا نرى أن بعض ما أغضب علياً وعماراً قد حذف من الرواية ـ كما يلي:
إن عثمان كان في بناء المسجد (كما زعم الراوي: نظيفاً متنظفاً). وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب، فأنشأ يقول:
لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها، وهو لا يدري من يعني بها فمرّ بعثمان، فقال: يا ابن سمية بمن تعرّض؟! ـ ومعه جريدة ـ فقال: لتكفن، أو لأعترضن بها وجهك..
فسمعها النبي( صلىاللهعليهوآله) ، وكان يستظل ببيت أم سلمة، فغضب وقال: إن عماراً جلدة ما بين عيني وأنفي..
إلى أن تذكر الرواية: أنه(صلىاللهعليهوآله) قال لعمار: "لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية"(١) .
ونقول:
ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم(صلىاللهعليهوآله) الجزء الخامس أموراً كثيرة ترتبط بهذه القضية، يمكن لمن أراد الإطلاع
____________
١- السيرة النبوية لابن هشام ج٢ ص١٤٢ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج٢ ص٣٤٥ وتاريخ الخميس ج١ ص٣٤٤ والأعلاق النفيسة ووفاء الوفاء ج١ ص٣٢٩ والسيرة الحلبية ج٢ ص٧٢ و (ط دار المعرفة) ج٢ ص٢٦٢ وقاموس الرجال (الطبعة الأولى) ج٧ ص١١٨ وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج٢ ص٤٣ وبحـار الأنوار ج٣٠ ص٢٣٨ وراجع ج٣٣ ص١٢ وخـلاصـة عبقات الأنوار ج٣ ص٣٩ و ٥٠ والدرجات الرفيعة ص٢٥٩ وعن العقد الفريـد ج٢ ص٢٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج٣ ص٣٣٦ والمسترشد ص٦٥٨ وغوالي اللآلي ج١ ص١١٣ وكشف الغمة ج١ ص٢٦٠. وراجع: الغديـر ج٩ ص٢١ و ٢٢ و ٢٧ عن مصادر كثيرة.
عليها أن يرجع إليه، غير أننا نذكر هنا ما يلي:
متى كان بناء المسجد؟!:
لقد بنى النبي الأعظم(صلىاللهعليهوآله) مسجده بعد هجرته إلى المدينة، ثم بنى بيوته حوله، ثم جدد بناءه بعد عام خيبر، أي في السنة السابعة للهجرة(١) .
والظاهر: هو أن قضية عمار وعثمان قد وقعت في هذا البناء الثاني.
ويشهد لذلك:
أولاً: أن عمرو بن العاص وابنه عبد الله كانا حاضرين حين قال النبي(صلىاللهعليهوآله) لعمار: تقتلك الفئة الباغية.
وقد ذكرا ذلك لمعاوية حين قتل عماراً في صفين، وقالا: إنهما سمعا رسول الله(صلىاللهعليهوآله) يقول: في حقه ما قال.. فاخترع معاوية مقولة أن الذي قتل عماراً هو من وضعه بين أسيافهم، يعني علياً(عليهالسلام) (٢) .
____________
١- وفاء الوفاء ج١ ص٣٣٨.
٢- الفتوح لابن أعثم ج٣ ص١١٩ و ١٣٠ والثقات لابن حبان ج٢ ص٢٩١ وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج٢ ص٣١٣ و ٣١٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٣ ص٢٥٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج٨ ص٧٢٣ ومسند أحمد ج٢ ص١٦٤ وج٥ ص٢١٣ والمناقب للخوارزمي ص١٦٠ و (ط مركز النشر الإسلامي) ص٢٣٣ ووفاء الوفاء ج١ ص٢٣١ و ٢٣٢ ونور الأبصار ص٩٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٣ ص٥٧٨ و ٥٧٩ والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج١ ص١١٠ و (تحقيق الشيري) ج١ ص١٤٦ وكشف الغمة = = ج١ ص٢٦٢ وتاريخ الأمم والملوك ج٥ ص٤١ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج٤ ص٢٨ والمستدرك للحاكم ج٣ ص٣٨٥ وج٢ ص١٥٥ والبداية والنهاية ج٧ ص٢٨١ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج٦ ص٢٤٠ وج٧ ص٢٩٩ وتذكرة الخواص ج١ ص٤١٨ وبحار الأنوار ج٣٣ ص١٦ و ٧ والمصنف للصنعاني ج١١ ص٢٤٠ وراجع: وشرح الأخبار ج١ ص٤١٢ ومعاني الأخبار ص٣٥ والإحتجاج ج١ ص٢٦٦ والمعيار والموازنة ص٩٦ وتهذيب الكمال ج١٧ ص١١٣ وجامع أحاديث الشيعة ج٨ ص٤١٥ وجامع الشتات للخواجوئي ص١٥١ ومجمع الزوائد ج٩ ص٢٩٧ وج٧ ص٢٤٢ عن أحمد في المسند، والطبراني، وعن فتح الباري، وعن مصادر كثيرة.
فبلغ ذلك علياً(عليهالسلام) فقال: "فإذاً رسول الله(صلىاللهعليهوآله) هو الذي قتل حمزة، وألقاه بين رماح المشركين(١) .
ثانياً: يشهد لذلك أيضاً: أن الرواية المتقدمة نفسها قد صرحت: بأن النبي(صلىاللهعليهوآله) كان يستظل ببيت أم سلمة حين قال عثمان ما قال، ومعلوم: أنه(صلىاللهعليهوآله) قد بنى المسجد قبل بناء بيوته في
____________
١- راجع: تذكرة الخواص ج١ ص٤١٩ والعقد الفريد ج٥ ص٩٠ وبحار الأنوار ج٣٣ ص١٦و ٧ ـ ٨ والإحتجاج ج١ ص٤٣١ ونور الأبصار ص٩٨.
مطلع الهجرة(١) .
ما قاله علي(عليهالسلام) ليس تعدياً:
بالنسبة للرجز الذي قاله أمير المؤمنين(عليهالسلام) ، وردده بعده عمار نقول:
إنه(عليهالسلام) قد قرر في شعره حقيقة لا غبار عليها.. مفادها: أن هناك نوعين من الناس، لا مجال للتسوية بينهما:
الأول: من يكون كل همه عمران المساجد، فهو لا يفتر ولا يستكين، ولا يمل ولا يكل من السعي في ذلك، لأنه يريد أن يهيء للناس كل ما يساعدهم على ذكر الله، والتبتل إليه، ومحاولة تزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم، فلا يصرف أية لحظة فيما عدا ذلك..
____________
١- زاد المعاد ج١ ص٢٥ والسيرة الحلبية ج٢ ص٨٧ و (ط دار المعرفة) ج٢ ص٢٨٧ و ٢٥١ وبحار الأنوار ج١٥ ص٣٧١ وج١٩ ص١٢٥ وج٣١ ص٤٢٨ وج٣٣ = = ص١٨٢ وإمتاع الأسماع ج١٠ ص٦٩ و ٩١ والعدد القوية ص١٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج٣ ص٣٤٨ وج١٢ ص٥٢ وإعلام الورى ج١ ص١٥٩ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج١ ص٣٣١ ومستدرك الوسائل ج١٤ ص٣٠٢ وشجرة طوبى ج١ ص٥٨ وراجع: مناقب آل أبي طالب ج١ ص١٦١ والبداية والنهاية ج٨ ص٦٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج١ ص٣٥٦ و الدرر لابن عبد البر ص٨٨.
ويرى: أن صرف أية لحظة في أي شأن دنيوي آخر خسارة له، وتضييع للثواب الجزيل.. وقد يؤدي إلى تباطؤ عباد الله عن عبادته تبارك وتعالى، وإلى إفساح المجال للمغريات والشهوات، ووسوسة شياطين الإنس والجن، لإبعاد الإنسان عن الله، وإغوائه واغرائه..
الثاني: من يكون همه صيانة ثوبه من أن يلحق به غبار هذه العبادة المرضية لله تعالى.. وحفظاً لمظهره الخارجي، في الوقت الذي لم يظهر منه أنه يهتم بصيانة باطنه عما يبعده عن الله سبحانه، كما لم يظهر منه أنه يهتم بصيانة دين الناس، وسلامة أخلاقهم.. يحتاج إلى الزجر والتذكير بما يوجبه عليه ربه، ودعوته إلى العمل بما يرضي الله تبارك وتعالى، وأن يلزم نفسه بامتثال أوامر الرسول، فلا يلبس ثياب التجمل في الموضع الذي يجب أن يلبس فيه ثياب التبذل، ليكون عائقاً له عن اداء واجبه، وامتثال أوامر النبي(صلىاللهعليهوآله) الصادرة له، ولغيره فيكون بعمله هذا محرضاً لغيره على التباطؤ في القيام بما طلبه الرسول(صلىاللهعليهوآله) منهم.
ولم يكن علي(عليهالسلام) بالذي يظلم أحداً، ولا هو بالذي يفتئت على الناس، أو يعتدي عليهم، فلولا أنه عرف من عثمان بحسب عشرته أنه يستحق هذا التعريض، أو أن هذا التعريض سيكون مفيداً ، ورادعاً لغيره عن أن يقتدي به لما أقدم على ما أقدم عليه.
عثمان نظيف متنظف:
إن مراجعة عبارات الراوي للحادثة المتقدمة تبين أنه قد حاول تلطيف الأمور، والإيحاء ببراءة عثمان، وإظهاره بصورة المظلوم المعتدى عليه من