• البداية
  • السابق
  • 364 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23469 / تحميل: 7638
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

غير أن الظاهر هو: أن أبا سفيان بعد أن سمع جواب علي "عليه‌السلام ": لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.. عدل عن توجيه الخطاب لعلي ليوجهه إلى عمر، مصرحاً باسمه، فقال حسب رواية العسكري: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب.

فقال: إنها(١) .

وهي إجابة لا يمكن قبولها من عمر، حيث إن ظاهرها أنه يوافق أبا سفيان

____________

١- راجع الهامش السابق.

٢٢١

على ما قال.

وإجابة علي "عليه‌السلام " بتعليم من النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " هي الحق والصواب بعينه، لتضمنها تقويض اعتزاز أبي سفيان بنتائج الحرب، ولأنها أوضحت: أن المعيار في الفلاح والنجاح ليس هو النتائج التي تحصل في الدنيا، بل المعيار في الوقوف على قيمة ما حصل في الدنيا هو آثاره في الآخرة..

وهي هنا عكس ما يتمناه أبو سفيان والمشركون، فإن قتلى المسلمين في الجنة، فلا خوف عليهم، وقتلى المشركين في النار، فهم الخاسرون الحقيقيون.

الوصول إلى المهراس فضيلة:

وعن أبي جعفر "عليه‌السلام " في حديث مناشدة علي "عليه‌السلام " لأهل الشورى قال "عليه‌السلام ": نشدتكم بالله، هل فيكم أحد سقى رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " من المهراس غيري؟!

قالوا: لا(١) .

____________

١- الإحتجاج ص٧٣ و ٧٤ و (ط دار النعمان) ج١ ص١٩٩ ـ ٢٠٣ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٦٩ وج٣١ ص٣٣٧ و ٣٨٠ عنه، ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج٣ ص٢١٧ ـ ٢٢١ وغاية المرام ج٢ ص١٢٩ ـ ١٣٢ و ٣٣٠ والأمالي للطوسي ص٥٥١.

٢٢٢

وهذا يدل على عدم صحة قول ابن الأثير وابن إسحاق في الحديث: "إنه "صلى‌الله‌عليه‌وآله " عطش يوم أحد، فجاء علي بماء من المهراس، فعافه، وغسل به الدم عن وجهه"(١) .

ولعل الأوضح والأقرب إلى الإعتبار هو ما روي عن أبي عبد الله "عليه‌السلام "، من أن النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " قال: يا علي أين كنت؟!

قال: يا رسول الله، لزقت بالأرض (أي لم أفر، ولم أتحرك من مكاني).

فقال: ذلك الظن بك.

فقال: يا علي، ائتني بماء أغسل عني.

فأتاه في صحفة (ولعل الصحيح: جحفة)، فإذا رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله "

____________

١- النهاية لابن الأثير (ط مؤسسة إسماعيليان) ج٥ ص٢٥٩ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٦٩ و ٧٤ وراجع ج٤٠ ص٨ وراجع: السنن الكبرى للبيهقي ج١ ص٢٦٩ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٣٦ والدرر لابن عبد البر ص١٥٠ وموارد الظمآن ج٧ ص١٥٢ والثقات لابن حبان ج١ ص٢٣٠ ومعجم البلدان ج٥ ص٢٣٢ وتاريخ الأمم والملوك ج٢ ص٢٠٠ والبداية والنهاية ج٤ ص٤٠ والسيرة النبوية لابن إسحاق ج٣ ص٣١٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج٣ ص٦٠٢ والدر النظيم ص١٦١ وعيون الأثر ج١ ص٤٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٧٠ ومستدرك سفينة البحار ج١٠ ص٥٣١ وسبل الهدى والرشاد ج٤ ص٢١٠ ولسان العرب ج٦ ص٢٤٨ وج٩ ص٣٨.

٢٢٣

قد عافه، وقال: ائتني في يدك.

فأتاه بماء في كفه، فغسل رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " عن لحيته(١) .

ومعنى ذلك: أنه "عليه‌السلام " قد أتى بالماء من المهراس مرتين:

إحداهما: ليشرب رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله ".

والأخرى: ليغسل النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " وجهه.

وحين جاءه بالماء ليغسل وجهه عاف الماء الذي كان في الجحفة أو الصحفة، وطلب منه أن يأتيه بماء آخر في كفه. فأتاه به.

ولكن يبقى أن نشير إلى أن المجيء بالماء من المهراس، لا بد أن تكون له خصوصية تجعل منه أمراً يكون التفرد به فضيلة يمكن المناشدة بها، ومن حيث إمتناع الآخرين عن المجيء بالماء من المهراس، ربما لخوفهم من وجود كمين للمشركين، وكان علي "عليه‌السلام " وحده هو المستجيب له دونهم.

____________

١- بحار الأنوار ج٢٠ ص٩١ و ٩٢ وتفسير العياشي ج١ ص٢٠١ ومستدرك الوسائل ج٢ ص٦١٠ و ٦١١.

٢٢٤

الفصل الرابع :

جراح علي (عليه‌السلام )

٢٢٥

٢٢٦

٢٢٧

جراح علي (عليه‌السلام ) في أحد:

١ ـ في مجمع البيان، وتفسير علي بن إبراهيم، وأبان بن عثمان: أنه أصاب علياً "عليه‌السلام " يوم أحد، ستون جراحة(١) .

٢ ـ في تفسير القشيري، قال أنس بن مالك: إنه أتى رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " بعلي، وعليه نيف وستون جراحة(٢) . فجعل رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " يمسحها، وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن(٣) .

____________

١- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج٢ ص١١٩ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٨٥ وبحار الأنوار ج٤١ ص٣ وج١٠٩ ص٤٣ وتفسير مجمع البيان ج٢ ص٤٠٩ وتفسير كنز الدقائق ج٢ ص٢٥٢ وتفسير الميزان ج٤ ص٦٧.

٢- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج٢ ص١١٩ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٨٥ وعين العبرة في غبن العترة ص٣٦ وحلية الأبرار ج٢ ص٤٢٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٣ وج٤١ ص٣ وتفسير مجمع البيان ج٢ ص٣٩٩ والجامع لأحكام القرآن ج٤ ص٢١٩ وراجع: عمدة القاري ج١٧ ص١٤٠.

٣- بحار الأنوار ج٢٠ ص٢٣ وتفسير الثعلبي ج٣ ص١٧٣ والجامع لأحكام القرآن ج٤ ص٢١٩ ومجمـع البـيـان ج٢ ص٥٠٩ و (ط مـؤسسـة الأعلمـي) ج٢ = = ص٣٩٩ وعمدة القاري ج١٧ ص١٤٠ وعين العبرة في غبن العترة ص٣٦ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٢٣.

٢٢٨

٣ ـ قيل: أصابت علياً "عليه‌السلام " في أحد أربعون جراحة، فأخذ "صلى‌الله‌عليه‌وآله " الماء على فمه فرشه على الجراحات كلها، فكأنها لم تكن من وقتها(١) .

٤ ـ قال أبان: أمر النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا: قد خفنا عليه.

فدخل النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة، فجعل النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " يمسحه بيده ويقول: إن رجلاً لقى هذا في الله لقد أبلى وأعذر. فكان يلتئم.

فقال علي "عليه‌السلام ": الحمد لله الذي لم أفر ولم أول الدبر. فشكر الله تعالى له ذلك في موضعين من القرآن، وهو قوله تعالى:( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) (٢) و( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (٣) "(٤) .

____________

١- الخرائج والجرائح ج١ ص١٤٨ وبحار الأنوار ج٢٠ ص٧٨ ومستدرك سفينة البحار ج٢ ص٤٧.

٢- الآية ١٤٥ من سورة آل عمران.

٣- الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.

٤- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج٢ ص١١٩ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٨٥ وحلية الأبرار ج٢ ص٤٢٨ وبحار الأنوار ج٤١ ص٣ وتفسير مجمع = = البيان ج٢ ص٤٠٩ وتفسير كنز الدقائق ج٢ ص٢٥٢ والتفسير الصافي ج١ ص٣٩٠ وتفسير الميزان ج٤ ص٦٧.

٢٢٩

٥ ـ قيل: كان بعلي "عليه‌السلام " نيف وسبعون(١) .

وفي رواية: أنه أصابته "عليه‌السلام " في أحد في وجهه ورأسه، وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحه(٢) .

٦ ـ عن الشعبي: انصرف علي بن أبي طالب "عليه‌السلام " من وقعة "أحد" وبه ثمانون جراحة، تدخل فيها الفتائل. فدخل عليه رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " وهو على نطع، فلما رآه بكى، وقال: إن رجلاً يصيبه هذا في سبيل الله لحق على الله ان يفعل به ويفعل.

فقال على "عليه‌السلام " مجيباً له، وبكى: بأبي وأمي أنت يا رسول الله،

____________

١- تفسير الثعلبي ج٣ ص١٧٣ وراجع: شجرة طوبى ج٢ ص٢٧٩.

٢- راجع الرواية والأقوال المشار إليها في: بحار الأنوار ج٢٠ ص٢٣ و ٥٤ و ٧٠ و ٧٨ وج٤١ ص٣ وج٤٠ ص١١٤ و ١١٥ وج٩ ص٥٠٨ و ٤٥٤ وج١٠٨ ص٢٧٩ وتفسير مجمع البيان ج٢ ص٥٠٩ ومستدرك سفينة البحار ج٢ ص٤٧ و ٤٨ وج٧ ص٥٧٣ وتفسير القمي ج١ ص١١٦ والخصال ج١ ص٣٦٨ وشجرة طوبى ج٢ ص٢٧٩ وعن الخرائج والجرائح

٢٣٠

الحمد الذي لم يرني وليت عنك، ولا فررت، بأبي وأمي كيف حرمت الشهادة؟!

فقال له "صلى‌الله‌عليه‌وآله ": إنها من ورائك إن شاء الله.

ثم قال له النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله ": إن أبا سفيان قد أرسل يوعدنا ويقول: ما بيننا وبينكم حمراء الأسد.

فقال علي "عليه‌السلام ": لا، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أرجع عنهم ولو حملت على أيدي الرجال.

فأنزل الله عز وجل:( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (١) . ونزلت الآية فيه قبلها:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) (٢) .

ثم ترك الشكاية في ألم الجراحة، فشكت المرأتان إلى رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " ما يلقى وقالتا: يا رسول الله، قد خشينا عليه مما تدخل الفتائل في موضع الجراحات من موضع إلى موضع. وكتمانه ما يجد من الألم.

قال: فعدَّ ما به من أثر الجراحات عند خروجه من الدنيا، فكانت ألف

____________

١- الآية ١٤٦ من سورة آل عمران.

٢- الآية ١٤٥ من سورة آل عمران.

٢٣١

جراحة من قرنه إلى قدمه "صلوات الله عليه"(١) .

ونقول:

هل هذا تصحيف؟!:

لعل تصحيفاً وقع في كلمتي سبعين وتسعين، بسبب التشابه بالرسم بينهما، مع عدم وجود النقط في السابق. وربما وقع التصحيف بين الستة والسبعة والتسعة، فإنها متقاربة في رسم الخط أيضاً.

كثرة جراح علي (عليه‌السلام ) :

إن تعرض علي "عليه‌السلام " للجراح بهذه الكثرة وبهذا النحو، حتى أصبح، مثل المضغة، وهو قرحة واحدة يدل:

ألف: على ضراوة المعركة وشدتها.. وعلى كثرة الرجال الذين واجههم "عليه‌السلام "، وكأنه كان قد استفرد بين الأعداء.. بعد فرار جميع المسلمين من ساحة القتال إلى الجبال.

ب: يدل على أنه "عليه‌السلام " لم يكن يلبس درعاً يحميه من سيوف ورماح أعدائه..

____________

١- الإختصاص ص١٥٨ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٢٦ وج٤٠ ص١١٤ وسعد السعود لابن طاووس ص١١٢ عن ما نزل من القرآن في أهل البيت، وراجع: حلية الأبرار ج٢ ص٤٣٤ ومستدرك سفينة البحار ج٢ ص٤٧ وتأويل الآيات ج١ ص١٢٣.

٢٣٢

ج: على أن بعد صيته في الشجاعة بين أعدائه بسبب حرب بدر وغيرها.. لم يمنعهم من مهاجمته اعتماداً على كثرتهم.

د: يدل على عدم صحة ما زعموه من أنه "عليه‌السلام " لم يجرح قط.

علي (عليه‌السلام ) أبلى وأعذر:

لا شك في أن لهذه الجراح آلامها وآثارها في ضعف من تصيبه عن الحركة بسبب النزف الكثير الذي ينشأ عنها..

وهذا يؤكد على أن صموده "عليه‌السلام " بالرغم من ذلك يعد من أعظم الكرامات له.. فضلاً عن أن غير علي "عليه‌السلام " لو واجه مثل هذا الموقف، فلا شك أن كثرة العدو، والشعور بالوحدة في المواجهة سوف تزيده ضعفاً، إذ يجتمع الضعف الروحي والضعف الجسدي، فصموده في وجه الأعداء في هذه الحال يعتبر إنجازاً فريداً، وموقفاً مجيداً..

وهذا يفسر لنا قوله "صلى‌الله‌عليه‌وآله ": "إن رجلاً لقي هذا في الله لقد أبلى وأعذر".

الحمد لله لم أفر:

وما ذكرناه آنفاً: يفسر أيضاً قول علي "عليه‌السلام ": "الحمد لله الذي لم يرني أفر، ولم أول الدبر". فإن الناس قد فروا من دون أن يجري عليهم ما جرى على علي "عليه‌السلام "، فلم تتكاثر الرجال عليهم، ولم يروا أنفسهم في وحدة ولا وحشة. كما أنهم لم يصابوا بجراح تعد بالعشرات، حتى يصير

٢٣٣

الواحد منهم كالمضغة، أو كالقرحة الواحدة. ولم يتعرض أي منهم لألم الجراح، ولا لنزف الدماء، فمن جرى عليه الذي جرى على علي "عليه‌السلام "، لا بد أن يحمد الله تعالى على صموده، وعدم فراره.

وكان لا بد أن يعرِّض "عليه‌السلام " بالفارين، الذين أهمتهم أنفسهم، ولم يهتموا لنبيهم، ولا لدينهم، ولا لشرفهم وكرامتهم، مع أن دعاواهم عريضة، وطموحاتهم كبيرة..

امرأتان تداويان جراح علي (عليه‌السلام ) :

وقد ذكرت رواية أبان: أن أم سليم، وأم عطية كانتا تداويان جراح علي "عليه‌السلام "، بأمر رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله ".

وأشارت إلى ذلك رواية الشعبي أيضاً. وقد كان يمكن أن تتولى فاطمة الزهراء "عليها‌السلام " أو صفية، أو غيرها من المحارم مداواته..

ولكن لعل المداواة قد حصلت في ظروف معينة تمنع من حضورهن ومداواتهن له..

ويجاب:

بأن ظاهر الرواية: هو أن هذه المداواة قد حصلت في داخل المدينة، لأنها صرحت بعيادة المسلمين له.. ولا شيء يمنع من مداواة محارمه له في هذه الحال.

إلا إذا كان "صلى‌الله‌عليه‌وآله " لا يريد أن يؤذي مشاعر الأرحام برؤية الحالة الصعبة جداً التي كان علي "عليه‌السلام " يعاني منها، حتى ان

٢٣٤

جسمه كان قرحة واحدة، علماً بأن هذه الأوضاع الصعبة لا تسمح بيقظة المشاعر الريبة الجنسية، ولا سيما إذا كان النساء الموكليتن بالمداواة كنَّ ممن تقدمت بهن السنَّ وتجاوزن هذه المراحل.

ولكن نفس أمر رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " لهاتين المرأتين بمداواة علي "عليه‌السلام " يدل على أن مداواة المرأة للرجل مأذون بها في ظروف معينة.. مع الأخذ بنظر الإعتبار احتمال أن لا تكون هاتان المرأتان في سن الشباب. ومع ملاحظة: أن الإذن بالمداواة لا يعني السماح باللمس المباشر، حيث تمكن المداواة بدونه، كما لا يعني السماح بالنظر إلى المواضع التي يحظر نظر الأجنبية إليها..

فلا بد من الإقتصار على القدر المتيقن، والأخذ بالإحتياط في كل مورد، يحتمل مدخليته في الجواز.

مداواة المرأة للرجل:

وعدا عن ذلك.. فإننا يمكن أن ندَّعي: أن السيرة كانت قائمة في زمن النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " وبعده على تولي النساء معالجة وتمريض الرجال..

فقد كان لرفيدة خيمة في المسجد تعالج فيها المرضى، وتداوي الجرحى، ولما جرح سعد بن معاذ أمر النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " أن يجعل في خيمتها حتى يعوده، وكان "صلى‌الله‌عليه‌وآله " يعوده في الصباح

٢٣٥

والمساء(١) ..

كما أنها كانت تداوي جرحى المسلمين يوم بني قريضة(٢) .

____________

١- السيرة النبوية لابن هشام ج٣ ص٢٥٠ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج٣ ص٧٢٠ والإصابة ج٤ ص٣٠٢ و ٣٠٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج٨ ص١٣٦ عن ابن إسحاق، وعن البخاري في الأدب المفرد، وفي التاريخ بسند صحيح، وأورده المستغفري من طريق البخاري، وأبو موسى من طريق المستغفري، والتراتيب الإدارية ج٢ ص١١٣ وج١ ص٤٦٢ و ٤٥٣ ـ ٤٥٤ عمن تقدم، والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج٤ ص٣١١ والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج٨ ص٣٨٧ عن الإصابة، والطبقات الكبرى لابن سعد ج٣ ص٤٢٧ وتاريخ الأمم والملوك ج٢ ص٢٤٨ و ٢٤٩ وعيون الأثر ج٢ ص٥٣ وتاريخ الإسـلام للذهبي ج٢ ص٣٢٤ وفتح البـاري ج٧ ص٣١٧ = = والأدب المفرد للبخاري ص٢٤٠ وجامع البيان ج٢١ ص١٨٤ وتفسير الثعلبي ج٨ ص٢٧ وتفسير البغوي ج٣ ص٥٢٣ وتفسير الآلوسي ج٢١ ص١٧٧ وسير أعلام النبلاء ج١ ص٢٨٧ وراجع: تهذيب الكمال ج٣٥ ص١٧٤ وتهذيب التهذيب ج١٢ ص٣٦٩ والبداية والنهاية ج٤ ص١٣٩ وإمتاع الأسماع ج١ ص٢٤٨ وج٩ ص٢٥٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٢٣٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٢ ص٦٦٥.

٢- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج٨ ص٣٨٧ عن نهاية الإرب ج١٧ ص١٩١.

٢٣٦

وقيل: أن كعيبة بنت سعيد الأسلمية كانت لها خيمة في المسجد لمداواة المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ عندها تداوي جرحه حتى مات. وهي أخت رفيدة(١) ولعل خيمتهما واحدة.

وكانت كل من: ليلى الغفارية، وأم كبشة القضاعية، وأم سلمة، ومعاذة الغفارية، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأم سليم، وربيع بنت معوذ، وأم زياد الأشجعية في ست نسوة، وأم أيمن، وأم سنان الأسلمية، وأم عطية الأنصارية(٢) كن كلهن يخرجن معه "صلى‌الله‌عليه‌وآله " في

____________

١- الإصابة ج٤ ص٣٩٦ و (ط دار الكتب العلمية) ج٨ ص٢٩٧ والتراتيب الإدارية ج٢ ص١١٣ وج١ ص٤٥٤ وسبل الهدى والرشاد ج٥ ص١٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٨ ص٢٩١ والثقات لابن حبان ج٣ ص٣٥٨ وتهذيب التهذيب ج١٢ ص٣٦٩ وكتاب المحبر للبغدادي ص٤١٠ وإمتاع الأسماع ج١ ص٢٤٨.

٢- راجع فيما تقدم، كلاً أو بعضاً: التراتيب الإدارية ج٢ ص١١٣ ـ ١١٦ ومسند أحمد ج٥ ص٢٧١ و ٨٤ وج٦ ص٤٠٧ وفي ج٦ ص٣٥٨ عن امرأة غفارية: أنها خرجت معه "صلى‌الله‌عليه‌وآله " لذلك، وقاموس الرجال ج١١ ص٣٣ و ٤٨ وسنن البيهقي ج٩ ص٣٠ ونوادر المخطوطات ج١ ص٦١ كتاب المردفات من قريش للمدائني، والإصابة ج٤ ص٤٠٢ و ٣٠١ و ٤٣٣ و ٤٨٧ و ٤٥٤ وفيها عن أبي داود والنسائي، وابن أبي عاصم، والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج٤ ص٣١١ و ٤٧٢ و ٤٠٤ وأسد الغابة ج٥ ص٥٤٣ و ٤٥١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٨ ص٢١٤ و ١٧٦ ترجمة أم سنان الأسلمية، وصحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩هـ) ج٢ ص٩٧ وسنن الدارمي ج٢ ص٢١٠ وسائر المصادر التي في الهوامش التالية، وفي تراجم المذكورات في كتب الرجال، والمعجم الصغير ج١ ص١١٧ ولسان الميزان ج٦ ص١٢٧ و ٢٠٩ و ٢٣٢ وراجع: الكافي ج١ ص٤٥ وسنن أبي داود ج٣ ص١٨ وكنز العمال ج٤ ص٣٤٥.

٢٣٧

الغزوات لمداواة الجرحى، ومعالجة المرضى.. بل إن أم عطية قد خرجت معه "صلى‌الله‌عليه‌وآله " في سبع غزوات من أجل ذلك(١) وامرأة أخرى

____________

١- صحيح مسلم (ط دار الفكر) ج٥ ص١٩٩ ومسند أحمد ج٥ ص٨٤ وج٦ ص٤٠٧ ونيـل الأوطـار ج٨ ص٦٣ وسنن ابن ماجـة ج٢ ص٩٥٢ وتحفـة = = الأحوذي ج٥ ص١٦٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج٧ ص٧٢٧ ومسند ابن راهويه ج٥ ص٢١١ و ٢١٢ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص٢٧٨ والمعجم الكبير للطبراني ج٢٥ ص٥٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٨ ص٤٥٥ وشرح السير الكبير للسرخسي ج١ ص٢٠١ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٥ ص٢٩٠.

٢٣٨

خرجت معه في ست غزوات من أجل ذلك أيضاً(١) .

وعن أنس، قال: كان رسول الله "صلى‌الله‌عليه‌وآله " يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء ويداوين الجرحى(٢) .

وعن ربيع بنت معوذ: كنا مع النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى(٣) .

____________

١- مسند الحميدي ج١ ص١٧٥ والبخاري (ط سنة ١٣٠٩هـ) ج١ ص١١٥ و (ط دار الفكر) ج١ ص٨٣ وج٢ ص٩ و ١٧٢ ومسند أحمد ج٥ ص٨٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج٣ ص٣٠٦ وفتح الباري (المقدمة) ص٢٥٢ وعمدة القاري ج٣ ص٣٠٢ وج٩ ص٢٩٤ وعون المعبود ج٣ ص٣٤٤ وصحيح ابن خزيمة ج٢ ص٣٦٠.

٢- صحيح مسلم (ط دار الفكر) ج٥ ص١٩٦ وسنن أبي داود ج١ ص٥٦٩ وسنن الترمذي ج٣ ص٦٨ ونيل الأوطار ج٨ ص٦٣ والشرح الكبير لابن قدامة ج١٠ ص٤٢٧ والمجموع للنووي ج١٩ ص٢٧٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج٩ ص٣٠ والسنن الكبرى للنسائي ج٤ ص٣٦٩ ومسند أبي يعلى ج٦ ص٥٠ والإستذكار لابن عبد البر ج١ ص٣٠٢ وسبل الهدى والرشاد ج٩ ص١١٢ والمنتقى لابن تيمية ج٢ ص٧٦٨ عن مستدرك الحاكم، وأحمد، ومسلم.

٣- صحيح البخاري (هامش فتح الباري) ج٦ ص٦٠ و (ط دار الفكر) ج٣ ص٢٢٢ وج٧ ص١٢ وفتح الباري ج١٠ ص١١٥ وعمدة القاري ج١٤ ص١٦٩ وج٢١ ص٢٣٠ والأعلام للزركلي ج٣ ص١٥ ونيل الأوطار ج٨ ص٦٣ ومسند أحمد ج٦ ص٣٥٨ وتحفة الأحوذي ج٥ ص١٦٣ والسنن الكبرى للنسائي ج٥ ص٢٧٨ والمعجم الكبير ج٢٤ ص٢٧٦ وأسد الغابة ج٥ ص٤٥١ والإصابة ج٤ ص٣٠١ و (ط دار الكتب العلمية) ج٨ ص١٣٣ وسبل الهدى والرشاد ج٩ ص١١٢.

٢٣٩

وعن حشرج بن زياد الأشجعي، عن جدته أم أبيه، أنها قالت: إنها خرجت في خيبر مع خمس نسوة أخريات لأجل مداواة الجرحى وغير ذلك، فأسهم لهن "صلى‌الله‌عليه‌وآله " تمراً(١) .

وعن الزهري: كانت النساء تشهدن مع النبي "صلى‌الله‌عليه‌وآله " المشاهد، ويسقين الماء (المقاتلة) ويداوين الجرحى(٢) ، ومثل ذلك عن مالك

____________

١- راجع: مسند أحمد ج٥ ص٢٧١ وج٦ ص٣٧١ والمصنف لابن أبي شيبة ج٧ ص٧٢٨ وج٨ ص٥٢٣ والآحاد والمثاني ج٦ ص٨١ والمعجم الكبير ج٢٥ ص١٣٧ وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج٤ ص٥٣٨ وأسد الغابة ج٥ ص٥٨٤ و ٦٣١ وتهذيب الكمال ج٦ ص٥٠٥ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج٨ ص٣٩٦ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج٤ ص٢٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٣ ص٣٨٨ والتراتيب الإدارية ج٢ ص١١٥ عن أبي داود، وفيه: حنين، بدل خيبر، وهما تكتبان في القديم على نحو واحد، وبلا نقط، وهو سبب الإشتباه.

٢- التراتيب الإدارية ج٢ ص١١٥ عن الصنعاني، وفتح الباري ج٦ ص٥٨.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

( بيان)

تتكلّم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم و هو القرآن الكريم فهو الغرض الأصليّ و لذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله و يبتدئ به ثمّ يعود إليه فصلاً بعد فصل فقد افتتح بقوله:( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إلخ ثمّ قيل:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ) إلخ، و قيل - و هو في خاتمة الكلام -:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) إلخ.

و لازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الاُصول الثلاثة الّتي هي أساس دعوته الحقّة و هي الوحدانيّة و النبوّة و المعاد فبسطت الكلام فيها و ضمّنته التبشير و الإنذار.

و السورة مكّيّة لشهادة مضامين آياتها على ذلك و هي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) خبر مبتدإ محذوف، و المصدر بمعنى المفعول، و التقدير هذا منزّل من الرحمن الرحيم، و التعرّض للصفتين الكريمتين: الرحمن الدالّ على الرحمة العامّة للمؤمن و الكافر، و الرحيم الدالّة على الرحمة الخاصّة بالمؤمنين للإشارة إلى أنّ هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم.

قوله تعالى: ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) خبر بعد خبر، و التفصيل يقابل الإحكام و الإجمال، و المراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكّن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه و تعقّل مقاصده و إلى هذا يشير قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: 1، و قوله:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: 4.

و قوله:( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) حال من الكتاب أو من آياته، و قوله:( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

٣٦١

اللّام للتعليل أو للاختصاص، و مفعول( يَعْلَمُونَ ) إمّا محذوف و التقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الّذي نزّل به و هم العرب و إمّا متروك و المعنى لقوم لهم علم.

و لازم المعنى الأوّل أن يكون هناك عناية خاصّة بالعرب في نزول القرآن عربيّاً و هو الّذي يشعر به أيضاً قوله الآتي:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ ) الآية و قريب منه قوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: 199.

و لا ينافي ذلك عموم دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعامّة البشر لأنّ دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مرتّبة على مراحل فأوّل ما دعي دعي الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثمّ كان يدعو بعد ذلك سرّاً مدّة ثمّ أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) الشعراء: 214 ثمّ اُمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: 94 ثمّ اُمر بدعوة الناس عامّة كما يشير إليه قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: 158، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: 19.

على أنّ من المسلّم تاريخاً أنّه كان من المؤمنين به سلمان و كان فارسيّاً، و بلال و كان حبشيّاً، و صهيب و كان روميّاً، و دعوته لليهود و وقائعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، و كذا كتابه إلى ملك إيران و مصر و الحبشة و الروم في دعوتهم إلى الإسلام كلّ ذلك دليل على عموم الدعوة.

قوله تعالى: ( بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) ( بَشِيراً وَ نَذِيراً ) حالان من الكتاب في الآية السابقة، و المراد بالسمع المنفيّ سمع القبول كما يدلّ عليه قرينة الإعراض.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية. قال الراغب: الكنّ ما يحفظ فيه الشي‏ء قال: الكنان الغطاء الّذي يكنّ فيه الشي‏ء و الجمع أكنّة نحو غطاء و أغطية قال تعالى:( وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) . انتهى.

٣٦٢

فقوله:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه من التوحيد كأنّها مغطّاة بأغطية لا يتطرّق إليها شي‏ء من خارج.

و قوله:( وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ ) أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئاً من هذه الدعوة، و قوله:( وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ ) أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شي‏ء ممّا تريد فقد أيأسوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبول دعوته بما أخبروه أوّلاً بكون قلوبهم في أكنّة فلا تقع فيها دعوته حتّى يفقهوها، و ثانياً بكون طرق ورودها إلى القلوب و هي الآذان مسدودة فلا تلجها دعوة و لا ينفذ منها إنذار و تبشير، و ثالثاً بأنّ بينهم و بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجاباً مضروباً لا يجمعهم معه جامع و فيه تمام الإياس.

و قوله:( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) تفريع على ما سبق، و لا يخلو من شوب تهديد، و عليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.

و قيل: المعنى فاعمل على دينك فإنّنا عاملون على ديننا، و قيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإنّنا عاملون في هلاكك، و لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) في مقام الجواب عن قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) على ما يعطيه السياق فمحصّله قل لهم: إنّما أنا بشر مثلكم اُعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضاً و اُكلّمكم كما يكلّم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتّى يكون بيني و بينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أنّ الّذي أقول لكم و أدعوكم إليه وحي يوحى إليّ و هو إنّما إلهكم الّذي يستحقّ أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرّقون.

و قوله:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) أي فإذا لم يكن إلّا إلهاً واحداً لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده و نفي الشركاء عنه و استغفروه فيما صدر عنكم من الشرك و الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ )

٣٦٣

تهديد للمشركين الّذين يثبتون لله شركاء و لا يوحّدونه، و قد وصفهم من أخصّ صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة و كفرهم بالآخرة.

و المراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء و المساكين لوجه الله فإنّ الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة و هي من أقدم السور المكّيّة.

و قيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس و تطهيرها من أوساخ الذنوب و قذارتها و إنماؤها نماء طيّباً بعبادة الله سبحانه، و هو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.

و قوله:( وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم و هو إنكار المعاد، و لذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنّهم معروفون بالكفر بالآخرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع بل متّصل دائم كما فسّره بعضهم، و فسّره آخرون بغير معدود كما قال تعالى:( يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) المؤمن: 40.

و جوّز أن يكون المراد أنّه لا أذى فيه من المنّ الّذي يكدر الصنيعة، و يمكن أن يوجّه هذا الوجه بأنّ في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق و إن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى:( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: 22.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) الآية. أمره ثانياً أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانيّة في خلق السماوات و الأرض و تدبير أمرهما بعد ما أمره أوّلاً بدفع قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ) إلخ.

و الاستفهام للتعجيب و لذا اُكّد المستفهم عنه بإنّ و اللّام كأنّ المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله و قولهم بالأنداد مع ظهور المَحَجّة و استقامة الحجّة.

٣٦٤