(أن الروايات متفقة على أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما. ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة، وكلمة (أنفسنا) على علي فقط).
ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا، حتى راجت على كثير من أهل السنة.
ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية، فإن كلمة (نساءنا) لا يقولها العربي ويريد بها بنته، لا سيما إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم.
وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان.
ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم، لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم.
وكل ما يفهم من الآية أمر النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الإجتماع رجالاً ونساءً، وأطفالاً، ويبتهلون إلى الله بأن يلعن هو الكاذب فيما يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه، وثقته بما يقول. كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب، سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم، على امترائهم في حجاجهم، ومماراتهم فيما يقولون، وزلزالهم فيما يعتقدون، وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد، متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه، وإبعاده من رحمته؟! وأي جراءة على
الله، واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟!
قال: أما كون النبي (صلىاللهعليهوآله ) والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليهالسلام ) فحسبنا في بيانه قوله تعالى:( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ) (١) فالعلم في هذه المسائل الإعتقادية لا يراد به إلا اليقين.
وفي قوله:( نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ.. ) (٢) وجهان:
أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر، فأنتم تدعون أبناءنا، ونحن ندعو أبناءكم، وهكذا الباقي.
وثانيهما: أن كل فريق يدعو أهله، فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا، وأنتم كذلك.
ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم من القول بالتخصيص(٣) .
ونقول:
إننا نذكر هنا ما أوردناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )(٤) . وهو كما يلي:
أولاً: ما زعمه من أن مصادر هذا الحديث هم الشيعة غير صحيح، فقد
____________
١- الآية ٦١ من سورة آل عمران.
٢- الآية ٦١ من سورة آل عمران.
٣- تفسير المنار ج٣ ص٣٢٢ و ٣٢٣ وتفسير الميزان ج٣ ص٢٣٦.
٤- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ( صلىاللهعليهوآله ) ج٢٩ ص١٢ ـ ١٧.
روي هذا الحديث في صحاح أهل السنة ومجاميعهم الحديثية والتفسيرية وبطرقهم. ومن غير المعقول أن يكون الشيعة قد دسوا هذه الروايات في تلك المجاميع.. إذ إن ذلك يؤدي إلى سقوطها، ومنها صحيح مسلم والترمذي، وتفسير الطبري، والدر المنثور، وسائر صحاح ومصادر أهل السنة..
ثانياً: لو صح ما زعمه، لأفسح المجال للقول: بأن الدس في كتب أهل السنة ميسور لكل أحد، من قبل الشيعة وغيرهم، والنتيجة هي: أن تصبح روايات أهل السنة كلها مسرحاً لتلاعب جميع الفئات، ولا مجال للوثوق بها، وتسقط بذلك عن الإعتبار..
ثالثاً: إن كان المقصود بالشيعة خصوص الصحابة والتابعين الذين رووا هذا الحديث، فالأمر يصبح أشد خطورة، إذ هو يؤدي إلى نسبة جماعة من أئمة أهل السنة، ورواة حديثهم، وفقهائهم، إلى التشيع والشيعة، مع أنه لا يرتاب أحد في تسننهم، بل فيهم من هو من الأركان في التسنن..
رابعاً: بالنسبة لقوله عن الشيعة: (ويحملون كلمة نساءنا على فاطمة، وكلمة أنفسنا على علي فقط) نقول:
إن التعبير بالنساء والأبناء جار وفق ما يقتضيه طبعه العام، وإن كان مصداقه ينحصر في فرد واحد، تماماً كما هو الحال في قوله تعالى:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) . إذ لا مصداق للمفهوم العام سوى علي بن أبي طالب (عليهالسلام )
____________
١- الآية ٥٥ من سورة المائدة.
حين تصدق بالخاتم وهو راكع، وهي قضية يعرفها كل أحد.
وكذلك الحال في قوله:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، التي لا يقصد بها سوى الأئمة الإثني عشر..
ومن المعلوم: أن الله لا يأمر بإطاعة أمثال فرعون ويزيد ونمرود.
ومنه: آية التطهير التي قصد بها خصوص الخمسة أصحاب الكساء.
وكذلك الحال في قوله تعالى:( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) ، مع أن المقصود بها خصوص أصحاب الكساء والتسعة من ذرية الإمام الحسين (عليهالسلام ). كما دلت عليه الروايات.
ولا يقصد بها من كان من الضالين، أو الجبارين، كالذين قتلوا واضطهدوا أبناء عمهم من أبناء علي (عليهالسلام )، والذين أحرقوا قبر الأمام الحسين (عليهالسلام )، وإن كانوا من قرابته (صلىاللهعليهوآله ).
ومنه: قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ) (٣) ، ونحن نعلم أن إثبات بنات للنبي (صلىاللهعليهوآله) غير الزهراء (عليهاالسلام) صعب المنال، فراجع كتابنا (بنات النبي أم ربائبه)، وكتاب: (القول الصائب في إثبات الربائب)، وكتاب: (البنات ربائب)، وكتاب (ربائب النبي شبهات وردود)..
____________
١- الآية ٥٩ من سورة النساء.
٢- الآية ٢٣ من سورة الشورى.
٣- الآية ٥٩ من سورة الأحزاب.
خامساً: بالنسبة لقوله: (إن العربي لا يطلق كلمة نساءنا على بنت الرجل، لا سيما إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم) نقول:
ألف: إن الذين أوردوا هذه الروايات التي طبقت الآية على علي وفاطمة (عليهماالسلام )، كانوا من العرب الأقحاح، الذين عاشوا في عصر النبوة وبعده، وقد سجلها أئمة اللغة، وعلماء البلاغة في كتبهم ومجاميعهم، ولم يسجلوا أي تحفظ على هذه الروايات..
ب: لو صح إشكال هذا الرجل، فهو وارد على قوله هو أيضاً، فإنه يزعم: أن وفد نجران لم يكن معه نساءٌ ولا أولادٌ، فما معنى أن تقول الآية:( نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ؟!. فكيف يمكنه تطبيق الآية ) ؟!.
ج: إن المقصود هو أن يُبْلِغَهم أنه يباهلهم في قضية بشرية عيسى بجميع الأصناف البشرية التي لها خصوصية الإشتراك في العلم والأهلية، وفي الدعوى، وفي إثباتها. وهم هنا من النساء والأطفال والرجال، حتى لو لم يكن الجامعون للشرائط المشار إليها منهم سوى فرد واحد من كل صنف.
فهو كقول القائل: شرفونا وسنخدمكم: نساءً، ورجالاً، وأطفالاً. أي أن جميع الأصناف سوف تشارك في خدمتهم، حتى لو شارك واحد أو اثنان من كل صنف.
سادساً: زعم هذا القائل: أن ظاهر الآية هو أن المطلوب هو دعوة المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب جميع نسائهم ورجالهم
وأبنائهم، ويجمع النبي جميع أبناء ونساء ورجال المؤمنين، ثم يبتهلون.
ونقول:
إن هذا لا يمكن أن يكون هو المراد من الآية، لأنه من طلب المحال. ويحق للنصارى أن يرفضوا هذا الطلب، لأنه يثبت أن ثمة تعنتاً، وطلباً لما لا يكون. وهو يستبطن الإعتراف بصحة ما عليه النصارى.. إذ لو لم يكونوا على حق لما لجأ إلى التعنت وطلب المحال.
سابعاً: قد يقال: إن كان المقصود هو: نساء وأبناء الوفد، ونساء وأبناء النبي، فيرد إشكال: إنه لم يكن مع الوفد نساء وأبناء..
ويجاب عنه:
بأن الناس كثيراً ما كانوا يسافرون ومعهم نساؤهم وأبناؤهم. وكان النبي (صلىاللهعليهوآله ) يصطحب معه في حروبه إحدى زوجاته، وكان المشركون يأتون بنسائهم في حروبهم، كما كان الحال في بدر، وأحد، رغم الأخطار المحدقة.
أما الوفود فلا يحتمل فيها مواجهة أخطار، أو تعرض لأذى، وأسر وسبي إلا في حدود ضئيلة، فالداعي إلى استصحاب النساء والأطفال، لا يواجهه أي مانع أو رادع..
ثامناً: زعم هذا القائل: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى (عليهالسلام ). ونقول:
لا شك في أن الآية تدل على يقين النبي (صلىاللهعليهوآله ) بذلك، وقد دل فعل النبي (صلىاللهعليهوآله ) في المباهلة على أن الذين أخرجهم
معه كانوا أيضاً على يقين من ذلك.
ودل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( فَنَجْعَلْ لَعْنتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) . حيث إنهم جميعاً كانوا شركاء في الدعوى، وعلى يقين من صحتها. ووعي تام لتفاصيلها، ومعرفة بدقائقها وحقائقها.
وأما بالنسبة لسائر المؤمنين فلا شيء يثبت أنهم كانوا على يقين من ذلك، فلعل بعضهم كان خالي الذهن عن كثير من التفاصيل. وربما لو عرضت عليه لتحير فيها.
بل لقد صرح القرآن بأن الشكوك كانت تراود أكثرهم، فقال:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (٢) .
تاسعاً: ونضيف إلى ما تقدم:
ألف: إنه لا معنى لقوله: إن الآية قد تعني أن يفوض إلى النصارى دعوة الأبناء والنساء من المؤمنين، ويدعو المؤمنون أبناء ونساء النصارى في المباهلة، إذ كيف يسلط النبي (صلىاللهعليهوآله ) النصارى على أبناء ونساء المؤمنين، ثم يطلب من النصارى أن يسلطوه على دعوة نسائهم وأبنائهم.. في حين أن المباهلة لا تحتاج إلى ذلك، بل يمكن أن يأتي كل فريق بمن أحب، لكي يباهل بهم الجماعة التي تأتي من قبل الفريق الآخر؟!
ب: لو صح ما ذكره، فقد كان المطلوب هو المشاركة في دعوة الفريقين
____________
١- الآية ٦١ من سورة آل عمران.
٢- الآية ١٠٦ من سورة يوسف.
لمن ذكرتهم الآية من الفريقين معاً، أي أن يدعو المسلمون أبناءهم وأنفسهم ونساءهم، وأبناء وأنفس ونساء النصارى أيضاً.
ج: لو صح ذلك، لتخير كل فريق ما قد لا يتوقعه الفريق الآخر، إذ قد يتخير من الزوجات زينب بنت جحش مثلاً، وليس عائشة، ولا يتخير فاطمة.
وقد يتخير من الأبناء الحسن فقط دون الحسين، وقد يتخير من الأنفس نفس رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
عاشراً: بالنسبة لدعوة النبي (صلىاللهعليهوآله ) نفسه نقول:
إن الشيعة لا يقولون بأن الآية تفرض ذلك، بل هم يقولون: إن المراد بقوله:( وَأَنْفُسَنَا ) (١) هو الرجال من أهل بيت الرسول (صلىاللهعليهوآله )، الذين يكون حضورهم بمثابة حضور نفس النبي (صلىاللهعليهوآله )، وهم إنما يحضرون بدعوة بعضهم بعضاً(٢) .
المباهلة بأعز الناس:
زعم بعضهم: أن آية المباهلة قد دلت على لزوم إحضار كل فريق أعز شيء عنده، وأحب الخلق إليه في المباهلة، والأعز والأحب هو الأبناء، والنساء، والأنفس (الأهل والخاصة).
____________
١- الآية ٦١ من سورة آل عمران.
٢- راجع: تفسير الميزان ج٣ ص٢٤٢ و ٢٤٣.
ثم تقدم بعض آخر خطوة أخرى فزعم: أن إشراك أهل البيت في المباهلة أسلوب اتبعه النبي (صلىاللهعليهوآله ) للتأثير النفسي على الطرف الآخر، ليوحي لهم بثقته بما يدَّعيه.
ونقول:
١ ـ إن قوله هذا الأخير يؤدي إلى إبعاد قضية المباهلة عن مستوى الجدية، لتصبح مجرد مناورة، تهدف إلى التأثر النفسي على الطرف الآخر..
٢ ـ إن هذه المباهلة لم تكن إقتراحاً نبوياً، بل هي تدبير إلهي، يكون دور النبي (صلىاللهعليهوآله ) فيه هو الإبلاغ والإجراء للأمر الصادر من الله تعالى.
٣ ـ إن الإختيار الإلهي لهؤلاء الصفوة، يدل على أن لهم قيمة كبرى عند الله تعالى، فليست القضية مجرد حب شخص النبي (صلىاللهعليهوآله ) لابنته أو لصهره، أو لابن بنته.
٤ ـ إن ما يراد إثباته بالمباهلة هو بشرية عيسى (عليهالسلام ).. والآية تدل على أن نفس المشاركين في المباهلة هم الذين يدعون بشرية عيسى، ويتحملون مسؤولية الكذب والصدق في دعواهم هذه، ولأجل ذلك قال:( فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) ..
وهذا معناه: أن الحسنين (عليهماالسلام ) قد بلغا في الفهم، والعلم والفضل، ووضوح الرؤية والإختيار حداً يجعلون أنفسهم أمام الله ضمانة
____________
١- الآية ٦١ من سورة آل عمران.
على صدقهم في هذا الأمر..
فعليٌّ، وفاطمة، والحسنان(عليهمالسلام) شركاء في الدعوى، وفي الدعوة إلى المباهلة لإثباتها. وهذا من أفضل المناقب التي خص الله بها أهل بيت نبيه(١) .
وتقدم قول الزمخشري: (وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء).
وقال الطبرسي وغيره: (قال ابن أبي علان ـ وهو أحد أئمة المعتزلة ـ: هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.
وقال أصحابنا: إن صغر السن ونقصانها عن حد البلوغ لا ينافي كمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حداً لتعلق الأحكام الشرعية)(٢) .
على أن من الثابت عندنا: أنه يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة، ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن، لم يمنع ذلك من كونهم أكمل البشر عقلاً.. إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة على مكانهم من الله تعالى، واختصاصهم.
ويؤيده من الأخبار قول النبي (صلىاللهعليهوآله ): (ابناي هذان
____________
١- راجع: تفيسر الميزان ج٣ ص٢٢٤ ودلائل الصدق ج٢ ص٨٤ والإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) للهمداني ص٢٧٠.
٢- ومن الواضح: أنه قد لوحظ في ذلك عامة الناس وغالبهم.
إمامان، قاما، أو قعدا)(١) .
ونكتفي هنا بهذا المقدار، وبقية الكلام حول حديث المباهلة أوردناه في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) أواخر الجزء الثامن والعشرين، وأوائل الجزء التاسع والعشرين، وإنما ذكرنا هنا خصوص ما يرتبط بأمير المؤمنين (عليهالسلام ).
____________
١- مجمع البيان ج٢ ص٤٥٢ و ٤٥٣ و ٣١١ وغنية النزوع للحلبي ص٢٩٩ والسرائر لابن إدريس ج٣ ص١٥٧ وجامع الخلاف والوفاق للقمي ص٤٠٤ والإرشاد للمفيد ج٢ ص٣٠ والفصول المختارة للشريف المرتضى ص٣٠٣ والمسائل الجارودية للمفيد ص٣٥ والنكت في مقدمات الأصول للمفيد ص٤٨ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٤١ و ٣٦٨ وبحار الأنوار ج١٦ ص٣٠٧ وجوامع الجامع للطبرسي ج٣ ص٧٠ وإعلام الورى ج١ ص٤٠٧. وكلام ابن أبي علان موجود في التبيان أيضاً ج٢ ص٤٨٥، وفي بحار الأنوار للمجلسي بحث حول إيمان علي ( عليهالسلام )، وهو لم يبلغ الحلم.
علي (عليهالسلام ) في اليمن..
خالد وعلي في اليمن:
عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام.
قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا.
ثم إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) بعث علي بن أبي طالب مكان خالد، وأمره أن يقفل خالداً، وقال:
(مر أصحاب خالد: من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل).
قال البراء: فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا علي، ثم صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأسلمت همدان جميعاً.
فكتب علي إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بإسلامهم.
فلما قرأ رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه وقال: (السلام على همدان)، مرتين.
زاد في نص آخر أنه (صلىاللهعليهوآله ) قال أيضاً: نِعم الحي همدان،
ما أسرعها إلى النصر! وأصبرها على الجهد ! فيهم أبدال، وفيهم أوتاد(١) .
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢٣٥ و ٤٢٧ عن البيهقي في السنن بإسناد صحيح، والدلائل، والمعرفة، وعن البخاري مختصراً، وقال في الهامش: أخرجه البيهقي في السنن ج٢ ص٣٦٦ و ٣٦٩ وفي الدلائل ج٥ ص٣٦٩ والبخاري ج٧ ص٦٦٣ (٤٣٤٩). وراجع: المواهب اللدنية للزرقاني ج٥ ص١٧٦ و ١٧٧ وج٤ ص٣٤.
وأشار في مكاتيب الرسول ج٣ ص٣٨٧ إلى المصادر التالية أيضاً: السيرة الحلبية ج٣ ص٢٥٩ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج٣ ص٣١ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج٢ ص٣٠٠ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج٣ ص١٣١ و ١٣٢ وأنساب الأشراف للبلاذري ج١ ص٣٨٤ وعن فتح الباري ج٨ ص٥٣ وينابيع المودة ص٢١٩ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج٢ ص٨٣٣ و (في ط أخرى) ج٢ ق٢ ص٥٥ وبحار الأنوار ج٢١ ص٣٦٠ و ٣٦٣ عن إعلام الورى، وغيره، وج٣٨ ص٧١ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص١٢٩ والإرشاد للمفيد (رحمهالله) ص٢٨ والبداية والنهاية ج٥ ص١٠٥ وزاد المعاد ج٣ ص٣٦ ومجموعة الوثائق السياسية ص١٣٢/٨٠ عن إمتاع الأسماع للمقريزي ج١ ص٥٠٤ و ٥٠٩ و ٥١٠، وحياة الصحابة ج١ ص٩٥ والعدد القوية ص٢٥١ والتنبيه والإشراف ص٢٣٨ وذخائر العقبى ص١٠٩ وتاريخ الخميس ج٢ ص١٤٥ وملحقات إحقاق الحق ج١٨ ص٦٤ وج٢١ ص٦٢٠ عن: الجامع بين الصحيحين ص٧٣١ ونثر الدر المكنون ص٤٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج٤ ص٢٠١ من طرق كثيرة، والتدوين للقزويني ج٢ ص٤٢٩.
وعند البخاري عن البراء أنه قال عن سفره ذاك: (فغنمت أواق ذوات عدد)(١) .
علي (عليهالسلام ) في اليمن:
قال محمد بن عمر، وابن سعد، واللفظ للأول: بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علياً إلى اليمن في شهر رمضان، وأمره أن يعسكر بقناة، فعسكر بها حتى تتامّ أصحابه. فعقد له رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لواءً، وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة، فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه. وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار، وجعل له ذراعاً بين يديه، وشبراً من ورائه، وقال له: (امض ولا تلتفت).
فقال علي (عليهالسلام ): يا رسول الله، ما أصنع؟!
قال: (إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، وادعهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن قالوا: نعم، فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا، فمرهم بالزكاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك. والله، لَأَن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت).
فخرج علي (عليهالسلام ) في ثلاثمائة فارس، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم وسبايا، نساءً وأطفالاً، ونعماً وشاءً، وغير ذلك.
____________
١- صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج٥ ص١١٠ وراجع: عمدة القاري ج١٨ ص٦ وسبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢٣٥.
فجعل علي (عليهالسلام ) على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً. ثم لقي جمعهم، فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا، ورموا أصحابه بالنبل والحجارة.
فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال صف أصحابه، ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي، فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن خزاعي، فقتله الأسود، وأخذ سلبه.
ثم حمل عليهم علي (عليهالسلام ) وأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا، وتركوا لواءهم قائماً، وكفَّ علي (عليهالسلام ) عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا.
وتقدم نفر من رؤسائهم، فبايعوه على الإسلام وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا. وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق الله تعالى.
وجمع علي (عليهالسلام ) ما أصاب من تلك الغنائم، فجزأها خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله، ثم أقرع عليها، فخرج أول السهمان سهم الخمس، وقسم علي (عليهالسلام ) على أصحابه بقية المغنم. ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً.
وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس، ثم يخبرون رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بذلك فلا يردُّه عليهم، فطلبوا ذلك من علي (عليهالسلام )، فأبى، وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يرى فيه رأيه(١) .
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢٣٨ والسيرة الحلبيـة ج٣ ص٢٠٦ والطبقـات = = الكبرى لابن سعد ج٢ ق١ ص١٢٢ وشرح المواهب اللدنية ج٥ ص١٧٧ عن ابن سعد، وراجع: إمتاع الأسماع ج٢ ص٩٦ و ٩٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢١ ص٦٢٧.
وأقام فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر.
فأتى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أن يوافيه الموسم، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي (عليهالسلام ) بذلك، فانصرف علي (عليهالسلام ) راجعاً.
فلما كان بالفتق تعجل إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يخبره الخبر، وخلَّف على أصحابه والخمس أبا رافع، فوافى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بمكة قد قدمها للحج.
وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن، أحمال معكومة، ونعم وشاء مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم. فسأل أصحاب علي (عليهالسلام ) أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها، فكساهم منها ثوبين ثوبين.
فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي (عليهالسلام ) ليتلقَّاهم ليقدم بهم، فرأى على أصحابه الثياب، فقال لأبي رافع: ما هذا؟!
فقال: (كلموني، ففرِقْت من شكايتهم، وظننت أن هذا ليسهل عليك، وقد كان مَنْ قبلك يفعل هذا بهم).
فقال: (قد رأيت امتناعي من ذلك، ثم أعطيتهم؟! وقد أمرتك أن
تحتفظ بما خلَّفت، فتعطيهم)؟!.
فنزع علي (عليهالسلام ) الحلل منهم.
فلما قدموا على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) شكوه، فدعا علياً (عليهالسلام )، فقال: (ما لأصحابك يشكونك)؟!
قال: ما أشكيتهم، قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس حتى يقدم عليك، فترى فيه رأيك.
فسكت رسول الله (صلىاللهعليهوآله )(١) .
ونقول:
إن هذا النص قد تضمن أموراً عديدة يحسن الوقوف عندها، وهي التالية:
امضِ ولا تلتفت:
تقدم: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) حين أرسل علياً (عليهالسلام ) إلى اليمن قال له: إذهب ولا تلتفت.. وهذه هي نفس الكلمة التي قالها (صلىاللهعليهوآله ) له في خيبر حين أرسله لقتل مرحب فقتله، وقلع باب الحصن، ولا ندري إن قد قال له هذه الكلمة في غير هذين الموردين.
ولعل سبب ذلك هو:
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢٣٩ وراجع: إمتاع الأسماع ج٢ ص٩٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢١ ص٦٢٨.
1 ـ اشتراك خيبر واليمن في أن ظهور الإسلام فيهما فيه إسقاط لهيمنة اليهود على المنطقتين، وكسر لشوكتهم، وإذلال لهم.
2 ـ إن هذه الحادثة تمهد لإظهار مدى طاعة علي (عليهالسلام )، وإلتزامه بحرفية الأوامر النبوية، وعلى الناس أن يوازنوا بينه وبين غيره ممن يحاولون مناوأته، ويعرضون صدورهم لأمور لا يقدرون عليها، أوليسوا أهلاً لها، مع أنهم يتصرفون من خلال أهوائهم وطموحاتهم الدنيوية.
3 ـ إن هذا التوجيه النبوي الكريم يعطي درساً في أنه يجب الكف عن التوسع الإجتهادي في امتثال الأوامر الصادرة عن القيادة، ولا سيما إذا كانت قيادة معصومة، مسددة بالوحي الإلهي..
4 ـ هو يشير إلى أن من يكلفه النبي، والإمام والقائد المنصوب من أحدهما بمهمة جهادية، فعليه أن يكون كل همه تنفيذ الأمر الصادر إليه، وإنجاز المهمة، وأن يقطع تعلقاته بكل ما يمكن أن يصرفه عن مهمته هذه مهما كان..
لا تقاتلهم حتى يقاتلوك:
وكان علي (عليهالسلام ) يعرف ما كان يجب عليه فعله.. ولكنه أراد أن يسمع الناس كيف أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) يحتم على الناس أن لا يقاتلوا أحداً حتى يقاتلوهم.. لأن المهمة منحصرة في الدعوة إلى الله، وإصلاح أمر الناس، وسلوك طريق الرشاد والسداد.
فما ذكرته بعض الروايات المتقدمة، من أنه (عليهالسلام ) لما وصل إلى أدنى ما يريد من مذحج فرق أصحابه، فأتوه بنهب وسبايا، قبل أن يلقى
لهم جمعاً، فلما لقيهم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، لا يتنافى مع ما ذكرناه. لأن الأصحاب هم الذين أتوا بالنهب والسبايا، ولعله بمبادرة منهم، ولكنه (عليهالسلام ) لم يتصرف بما جاؤوا به، بل جمعه في مكان، ووكل به من يحفظه حتى يدعو أهل الحي، فإن قبلوا الدعوة رد المال والسبي إليهم، وإن أبوا كانوا من المحاربين.. فيجري عليهم أحكام أهل الحرب.. فيكون ما فعله (عليهالسلام ) منسجماً مع وصية النبي (صلىاللهعليهوآله ) له بأن لا يقاتلهم حتى يقاتلوه؟! فهو لم يقاتلهم، ولا دليل على أنه رضي من أصحابه ما فعلوه، بل ظاهر فعله أنه لم يرض به. ولعل الرواية مختصرة، أو أن ما فعله خالد نسب لعلي (عليهالسلام ).
وكثرة أفراد السرية لم يكن لأجل أن مهمتهم كانت قتالية، بل لأجل صيانة حرية الدعاة، وحفظهم من أي سوء قد يتعرضون له من أهل العدوان أو الطغيان..
التدرج في الدعوة:
ويلاحظ: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أراد أن تكون الدعوة تدريجية وعلى مراحل.. وأن المطلوب انحصر بأمور ثلاثة، ومنع من طلب الزائد عليها:
أولها: أن يشهدوا الشهادتين.. فإذا فعلوا لم يجز التعرض لهم بشيء، بل هو قد منع من التدقيق في أي شيء آخر، وبعد أن يتحقق ذلك، ينتقل إلى الطلب.
الثاني: وهو أن يصلُّوا.. فإن فعلوا ذلك، انتقل إلى الطلب.
الثالث: وهو أن يزكوا.
ثم قال (صلىاللهعليهوآله ): ولا تبغ منهم غير ذلك..
ومعنى ذلك: أن على من يشارك في تلك السرايا أن يعرف حده فيقف عنده، فلا يسعى للإبتزاز، أو للحصول على الغنائم بإسم الدين، أو باسم الدعوة..
كما أن على الذين يطلب منهم الدخول في هذا الدين أن لا يتوهموا: أن هذه الدعوة تخفي وراءها الطمع بأموالهم، أو بنسائهم، أو بالهيمنة عليهم.
لمن يعود نفع هذه المطالب؟!:
وإذا فكروا فيما يطلب منهم، فسيجدون أن الشهادتين من أعمال القلب، التي ليس فيها مكسب مادي أو معنوي لغير من يشهدهما..
وأن الصلاة هي صلة بين الإنسان وربه.
وأن الزكاة نفع يعود على الفقراء والمساكين الذين هم منهم، ويعيشون معهم، ولا يتحرج أحد في برهم، وسد حاجاتهم.. ولا يجوز للنبي (صلىاللهعليهوآله ) ولا لأحد من أهل بيته أن يستفيد منها بشيء، ولو بمقدار حبة.
دلالات إرجاع خالد:
وحول أمر النبي (صلىاللهعليهوآله ) علياً بأن يقفل خالداً إليه نقول:
إن هذا يضع علامة استفهام كبيرة حول خالد، وحول طبيعة أدائه، وسلامة تصرفاته، ويؤكد هذه الشبهة حوله أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يلزم أحداً ممن كان معه بالرجوع أو بالمضي.
فهل الهدف من ذلك هو الإشارة إلى أنهم لا مسؤولية لهم عما جرى،
وأن المسؤولية منحصرة بشخص خالد..
أو أن الهدف هو تحقيق فرز طبيعي وطوعي لمن كان منسجماً مع مسلكية خالد، عمن لم يكن كذلك، بل كان لا يوافقه الرأي، ولا يرضى مسلكيته، ويكون هذا الفريق الأخير هو الذي يلتحق بعلي (عليهالسلام ).
غير أن النصوص المتوفرة لا تحدد لنا طبيعة الخلل الذي ظهر من خالد، ولم تشر إلى من أيده فيه.. ونحن لا نستغرب شحة النصوص في ذلك، ما دام أن الأمر يرتبط برجل كان بمجرد وفاة رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) سيف السلطةالذي اشهرته في وجه معارضيها ممن رفض البيعة لأبي بكر..
كما أن هذا الأمر يرتبط أيضاً بعلي (عليهالسلام ) الذي لم يزل محارباً على كل صعيد، وتمارس ضده مختلف أساليب القهر، والتزوير والتحامل.. وإلى يومنا هذا..
يقبلون من علي (عليهالسلام )، لا من خالد:
وقد يقال: إن الإسلام الذي دعا إليه خالد أهل اليمن هو الإسلام الذي دعا إليه علي (عليهالسلام )، فلماذا لم يقبلوا دعوة خالد، وقبلوا دعوة علي؟!.. مع أن خالداً بقي ستة أشهر يدعوهم.. وعلي (عليهالسلام ) ذهب إليهم، وصلى بأصحابه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأسلمت همدان كلها في ساعة واحدة!
وأجاب البعض: بأن الناس الذين لا يقبلون دعوة الدعاة إلى الإسلام، يواجهون التجريدات العسكرية، وبذلك تحمل القوة الحربية رسالة هؤلاء
الدعاة السلمية، وحين ذهب خالد إلى اليمن سنة عشر، ولم تثمر جهوده طيلة ستة أشهر، عززت قوة خالد بجيش يقوده علي، فأسلمت همدان في يوم واحد(1) .
ونقول:
هذا كلام باطل من عدة جهات.
فأولاً: إن خالداً أرسل إلى اليمن في سنة ثمان، بعد الفراغ من غزوة الفتح، وحنين، والطائف. وقد أرسله (صلىاللهعليهوآله )، حين كان لا يزال بالجعرانة..
ثانياً: إن علياً (عليهالسلام ) ذهب إلى خالد بعد ستة أشهر لكي يقفله، فأقفله ومن معه إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، لا ليعينه، وبعد أن ذهب إليهم، وصلى بأصحابه، وقرأ كتاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، أسلمت همدان في يوم واحد..
ثالثاً: إن قبائل اليمن لا تنحصر بهمدان، فكانت همدان هي البادئة بالإسلام ثم تبعها غيرها، أي أن أهل اليمن لم يسلموا دفعة واحدة خوفاً من السيف، كما زعمه ذلك القائل.
رابعاً: إن هذا الرجل يريد أن يدعى أن هؤلاء أسلموا تحت وطأة التهديد والجبر والقهر.. وأن الإسلام كان يفرض على الناس بقوة
____________
1- نشأة الدولة الإسلامية (تأليف عون شريف قاسم) ص227 و 240.
السيف.. وهو كلام باطل جزماً، فقد قال تعالى:( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .
وقال:( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (2) .
وقال:( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (3) .
والقتال في الإسلام كان دفاعياً، أو استباقاً لخطر يكون المشركون قد أعدوا واستعدوا له بالفعل، ويريدون الإنقضاض على المسلمين على حين غفلة منهم، ولم يكن في أي وقت هجومياً إبتدائياً..
والجواب الأقرب والأصوب هو التالي:
أولاً: إن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب(4) ، وقد أسلم خالد أو استسلم في سنة ثمان، أي قبل أشهر يسيرة من إرساله إلى اليمن، بعد أن بقي يحارب الله ورسوله أكثر من عشرين سنة، رغم ما يراه من معجزات وكرامات، وما يشاهده من محاسن الإسلام، التي كان يجسدها سلوك النبي والوصي صلى الله عليهما وعلى آلهما، والأخيار من الصحابة..
____________
1- الآية 256 من سورة البقرة.
2- الآية 99 من سورة يونس.
3- الآية 29 من سورة الكهف.
4- راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص287 وراجع: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص8 وشرح اللمعة للشهيد الثاني ج1 ص661 وإثنا عشر رسالة للمحقق الداماد ج8 ص1 و 3 و 20 و 28 والحديقة الهلالية للشيخ البهائي ص13.
ولم يدخل في الإسلام إلا بعد أن أيقن بسطوع نجمه، وظهوره على الدين كله.. وأفول نجم الشرك، وصيرورته إلى البوار والتلاشي والسقوط في حمأة الذل والخزي والعار..
فكان خالد ـ كما أظهرته سيرة حياته وممارساته قبل وبعد سفره إلى اليمن ـ لا يزال يعيش مفاهيم الجاهلية، وعصبياتها، وانحرافاتها، وتهيمن عليه أهواؤه وشهواته وغرائزه..
أما علي (عليهالسلام ) فهو الرجل الإلهي الخالص، الذي وهب كل حياته ووجوده لله تعالى.. ورضاه عنده كان هو الأغلى والأسمى والأعلى.
فإذا دعا خالد إلى الإسلام، فإن دعوته لن تخرج من قلبه كي تدخل في قلوب الآخرين، ولن تكون أكثر من حركات يجريها، أو كلمات يؤديها، تنوء بثقل الشكليات ولا تتجاوز التراقي أو اللهوات..
ثانياً: لعل خالداً لم يستوف شرائط الدعوة، مع أولئك الناس، أي أنه لم يدع إلى سبيل الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ولا جادلهم بالتي هي أحسن..
أو أن الناس لم يروا محاسن الإسلام في تصرفاته، ولا في أقواله وكلماته، فهو يترك ما يأمرهم به، ويرتكب ما ينهاهم عنه..
ولعله أساء إليهم، أو حاول أن يبتزهم في أموالهم، أو يتجاوز على أعراضهم.. أو أن يفرض عليهم الإسلام، والخضوع لأوامره ونواهيه، أي أنه قدم لهم دعوة لسانية مقرونة بكثير من الصوارف والمنفرات العملية..
وربما يدلنا على ذلك، ما ورد في النصوص المتقدمة من أنه (صلىاللهعليهوآله ) أمر علياً (عليهالسلام ) بأن يقفل خالداً إليه، أما من كان مع
خالد فهم بالخيار بين القفول والبقاء..
أما علي (عليهالسلام ) فإنه بمجرد وصوله إلى أولئك القوم أفهمهم بطريقة عفوية، وعملية أنه ملتزم بفروض الطاعة والعبودية لله تعالى من خلال إلتزامه بالإسلام، الذي يجعل من المتفرقين عشائرياً، ومناطقياً، وطبقاتياً، أو غير ذلك نموذجاً فذاً في مجتمعاتهم ـ سواء من الناحية الإقتصادية، أو العرقية، أو الثقافية، أو غير ذلك من خصوصيات جعلها الله تعالى من أسباب التكامل، والتعاون بين البشر، فجعلت منها الأهواء أسباباً للتفرق والتشتت والتمزق.
وأفهمهم أيضاً أن هذا الدين سبب للقوة، والتعاون، والتوحد في الله كأنهم بنيان مرصوص، لهم نهج واحد، وقائد واحد، وهدف واحد.
يرسل الخمس للنبي (صلىاللهعليهوآله ):
لا شك في أن الخمس للنبي (صلىاللهعليهوآله )، ولبني هاشم، ولكنه كان يرى أن في الناس حاجة، ولهم بالمال رغبة، فكان يعطيهم إياه رفقاً بهم، ومراعاةً لحالهم.
ولكنهم صاروا يستأثرون بهذا الخمس، فيعطيه قادة السرايا إلى خيلهم الخاص، ثم يخبرون النبي (صلىاللهعليهوآله ) بما فعلوا، فلا يطالبهم به..
ولكن علياً (عليهالسلام ) أبى أن يعطي الخمس لهؤلاء، رغم طلبهم ذلك، وحمله الى النبي (صلىاللهعليهوآله )، فلما رجعوا إلى النبي (صلىاللهعليهوآله ) شكوا علياً (عليهالسلام )، فسأله فأخبره، فسكت (صلىاللهعليهوآله ).. فنلاحظ هنا ما يلي:
1 ـ لم يكن من اللائق أن يستأثر أولئك القادة بالخمس بقرار من عند أنفسهم، ومن دون استئذان من صاحبه (صلىاللهعليهوآله )
2 ـ وأقبح من ذلك: أن يشتكوا علياً (عليهالسلام ) إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، لأنه أراد أن يوصل الحق إلى صاحبه، وأن يلتزم بقواعد الدين، فلا يتصرف في مال الغير بدون إذن.
بل إن شكواهم هذه تفيد: أنهم أصبحوا يرون الخمس صار لهم، وها هم يطالبون صاحبه الشرعي بأن يصحح ما يرونه خطأ وقع فيه وكيله ونائبه..
3 ـ إنهم يريدون أن يستفيدوا من هذا المال الذي لا حق لهم به، في صلاتهم، وفي حجهم، وفي سائر شؤونهم، غير متحرجين من ذلك.
4 ـ إن علياً (عليهالسلام ) قد وضع حداً لهذه التصرفات.. ولولاه (عليهالسلام ) لصار ذلك سنة جارية، ولأصبح من العسير إعادة الحق إلى أهله..
5 ـ لو أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أراد أن يفعل ذلك لاتهموه بالإمساك والبخل والعياذ بالله..
6 ـ إنهم قد انتهزوا فرصة غياب علي (عليهالسلام ) لمعاودة السعي لنقض قراره، ومحاولة الحصول على تلك الأموال التي لا حق لهم بها..
وكأنهم ظنوا أن غيبته (عليهالسلام ) تزيل عنه صفة الأمين الذي لا بد أن يؤدي الأمانة إلى أهلها.
7 ـ إنه (عليهالسلام ) رفض المبررات التي ساقها أبو رافع لتقسيمه
الحلل على أفراد السرية، والمبررات هي:
ألف: خاف من شكايتهم..
ب : ظن أن الأمر يسهل على علي (عليهالسلام ).
ج: إن من كان قبل علي (عليهالسلام ) كان يفعل ذلك..
وهي مبررات لا قيمة لها.
فأولاً: لا معنى للخوف من شكايتهم، إذا كان علي (عليهالسلام ) منعهم أمراً لا يستحقونه.
ثانياً: إن علياً مؤتمن على مال الغير، فلا بد من تأدية ذلك المال إلى صاحبه، من دون تفريط، فكيف يسهل عليه إعطاؤه لغير صاحبه؟!
ثالثاً: إن فعل السابقين على علي (عليهالسلام ) إذا كان خطأ لم يجز لعلي (عليهالسلام ) ولا لغيره أن يتأسى بهم فيه..
التكريم والتعظيم:
وقد بادر النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى تعميم علي (عليهالسلام ) بيده بصورة لافتة، ميزت فعله عما هو مألوف ومعهود، وأخذ عمامته وجعلها مثنية مربعة في رأس الرمح.. وقد فعل ذلك بعد أن تتام أصحابه (عليهالسلام )..
وهذا كله يعد من التكريم والتعظيم لعلي (عليهالسلام )، الذي يشد أنظار الناس، ويثير لديهم مشاعر متمازجة بالإعجاب والرضا، ويفسح المجال لسياحات مرضية في آفاق البهاء والصفاء، والجمال والجلال، والمحبة والرضا.
هل كان ثمة غنائم؟!:
ملاحظة الروايات تعطي: أنها لا تخلو من شائبة ثم إن خلط فيما بينها..
ولعل الأقرب إلى الحقيقة هو السياق التالي:
أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أرسل خالداً إلى اليمن، ثم أرسل علياً بعده.. وبعد رجوعهما أرسل (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) في سرية، وخالداً في سرية أخرى، وقال لهما النبي (صلىاللهعليهوآله ): إن التقيتما فعلي الأمير.
ثم فتحت بعض الحصون على يد أمير المؤمنين (عليهالسلام )، وأخذ منها سبايا وغنائم، فحصل البراء من الغنائم على أواقي ذوات عدد..
ولا ندري إن كان خالد قد حصل على بعض السبايا من قتاله في مجال آخر أو لا. ولكن من الثابت أن علياً (عليهالسلام ) اصطفى جارية من السبي وأخذها من الخمس.. فشكوه إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. إلى آخر ما جرى..
سرور النبي (صلىاللهعليهوآله ) بإسلام همدان:
لا شك في أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان أحرص الناس على إخراج الناس من الظلمات إلى النور.. مما يعني أنه أشد الناس سروراً بما يتحقق من ذلك.
ولكن الملاحظ هنا هو أن سروره (صلىاللهعليهوآله ) بإسلام همدان كان غير عادي، إذا قورن بما أظهره من سرور في موارد أخرى قد يكون
الذين أسلموا فيها أكثر عدداً، أو أن لهم موقعاً ـ كقريش ـ أشد حساسية، وأعظم أهمية مما عُرِف لقبيلة همدان في اليمن.
فهل تراه (صلىاللهعليهوآله ) كان ينظر في ذلك إلى الغيب، وتكشف له الحجب عن موقف سوف تتخذه قبيلة همدان، يحبه رسول الله (صلىاللهعليهوآله )؟!
إننا إذا راجعنا التاريخ، فلا نجد لهمدان موقفاً مميزاً سوى مناصرتها لعلي (عليهالسلام )، حتى استحقت منه القول الشهير:
فلو كنت بواباً على باب جنةٍ لقلت لهمدان ادخلوا بسلام(1)
____________
1- مناقب آل أبي طالب ج1 ص394 وبحار الأنوار ج32 ص477 وج38 ص71 وأصدق الأخبار للسيد محسن الأمين ص9 والغدير ج11 ص222 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص552 والإمام علي بن ابي طالب ( عليهالسلام ) للهمداني ص770 ومكاتيب الرسول ج2 ص556 و 575 ومواقف الشيعة ج1 ص390 ونهج السعادة ج5 ص43 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص217 وج8 ص78 وتفسير الآلوسي ج19 ص149 وتاريخ مدينة دمشق ج45 ص487 والأعلام للزركلي ج8 ص94 وأنساب الأشراف للبلاذري ص322 والأنساب للسمعاني ج5 ص647 والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص25 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص252 وتاريخ الكوفة للسيد البراقي ص234 و 531 وأعيان الشيعة ج1 ص410 و 489 و 505 و 553 وج2 ص515 وج4 ص160 و 366 وج7 ص43 و 243 و 245 وج9 = = ص234 وصفين للمنقري ص274 و 437 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص604 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليهالسلام ) لابن الدمشقي ج2 ص255 والخصائص الفاطمية للشيخ الكجوري ج2 ص110.
وهذا لا ينافي ما ثبت عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): من أنه قسيم الجنة والنار، لأن المقصود بهذا الشعر المبالغة في مدح هذه القبيلة، حتى إنها لتستحق أن لا ينظر في أعمال أفرادها، فيؤخذ المسيء بإسائته، ةالمحسن بإحسانه.. بل هي بمجرد أن ترد عليه، فإنه يصدرها مباشرة إلى الجنة.
ومن أمثلة نصرة همدان هذه:
1 ـ أنه حين أراد أهل الكوفة بعد موت يزيد (لعنه الله) أن يؤمروا عليهم الخبيث المجرم عمر بن سعد لعنه الله واخزاه، جاءت نساء همدان، وربيعة، وكهلان، والأنصار، والنخع إلى الجامع الأعظم صارخات، باكيات، معولات، يندبن الحسين (عليهالسلام ) ويقلن: أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد ان يكون أميراً علينا على الكوفة؟!
فبكى الناس، وأعرضوا عنه(1) .
____________
1- مروج الذهب ج2 ص105 ومقتل الحسين للمقرم ص246 عنه. وأنصار الحسين ( عليهالسلام ) للشيخ محمد مهدي شمس الدين ص199 عن المبرد (أبي العباس محمد بن يزيد) في: الكامل (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاتة ـ مطبعة نهضة مصر) (غير مؤرخة) ج1 ص223.
2 ـ إنه حين طعن الإمام الحسن (عليهالسلام ) دعا ربيعة وهمدان. فأطافوا به ومنعوه، فسار ومعه شوب من غيرهم(1) .
____________
1- كشف الغمة للأربلي ج2 ص163 وراجع: الأخبار الطوال ص217 والإرشاد للمفيد ج2 ص12 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص41 وأعيان الشيعة ج1 ص569.
علي (عليهالسلام ) في بني زبيد..
علي (عليهالسلام ) في بني زبيد:
وقالوا: (وجه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علي بن أبي طالب، وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن، وقال: (إذا اجتمعتما فعلي الأمير، وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير)(1) .
فاجتمعا. وبلغ عمرو بن معد يكرب مكانهما. فأقبل على جماعة من قومه(2) . فلما دنا منهما قال: دعوني حتى آتي هؤلاء القوم، فإني لم أسمَّ لأحد قط إلا هابني.
فلما دنا منهما نادى: أنا أبو ثور، وأنا عمرو بن معد يكرب.
فابتدره علي وخالد، وكلاهما يقول لصاحبه: خلني وإياه، ويفديه بأمه وأبيه.
____________
1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص386 و 246 عن مناقب الإمام الشافعي لمحمد بن رمضان بن شاكر، وفي هامشه عن: المعجم الكبير للطبراني ج4 ص14 والإصابة ج3 ص18 والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج2 ص522 و (ط دار الجيل) ج3 ص1203 وأسد الغابة ج4 ص133.
2- أي مترئِّساً على جماعة من قومه.
فقال عمرو إذ سمع قولهما: العرب تُفَزَّع بي، وأراني لهؤلاء جزراً.
فانصرف عنهما.
وكان عمرو فارس العرب، مشهوراً بالشجاعة. وكان شاعراً محسناً(1) .
وقالوا أيضاً: إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعث خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وقال له: (إن مررت بقرية فلم تسمع أذاناً، فاسبهم).
فمر ببني زبيد، فلم يسمع أذانا، فسباهم.
فأتاه عمرو بن معد يكرب، فكلمه فيهم، فوهبهم له، فوهب له عمرو سيفه الصمصامة، فتسلمه خالد. ومدح عمرو خالداً في أبيات له(2) .
ونقول:
1 ـ لقد ظن عمرو بن معدي كرب أن جميع الناس على شاكلته، من حيث تعلقهم بالحياة الدنيا، وخشيتهم من الموت، فكلما زادت احتمالات تعرضهم للخطر ازداد حبهم لما يقرِّبهم من السلامة والأمن..
وقد اعتاد أن يرى ذوي السطوة والنفوذ يدفعون من هم تحت أيديهم
____________
1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص246 و 386 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1204 والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج4 ص569 وعيون الأثر ج2 ص292.
2- سبل الهدى والرشاد ج6 ص246 عن ابن أبي شيبة من طرق. وفي هامشه عن: الإصابة ج3 ص18 و (ط دار الكتب العلمية) ج4 ص569 وتاريخ مدينة دمشق ج46 ص377 وراجع: كنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج4 ص483.
إلى مواجهة الأخطار، ودرئها عن أنفسهم، وأن يستغنوا بذلك عن التعرض لها ومكابدتها. ولكنه رأى هؤلاء القادمين عليه يتسابقون إلى الموت حباً بسلامة إخوانهم ففاجأه ذلك.
2 ـ إن غرور ابن معد يكرب بنفسه، واعتماده على بعد صيته دفعه إلى التهويل باسمه على هؤلاء القادمين، فلم يجد عندهم ما تعوده في غيرهم، فاضطر إلى التراجع الذليل، ولم يكلف نفسه عناء خوض معركة لعلها هي أول معركة حقيقية يشهدها في حياته.
فرضي بوصمة الخوف والجبن، والتراجع الذليل، حين أعلن أن هؤلاء القادمين يعتبرونه جزراً.
3 ـ إننا نلمح في هذه الواقعة: أن ما كان يشاع عن هذا الرجل بين الناس كانت تشوبه شائبة التزوير للحقائق، وهو إعلام معتمد على التهويل الكاذب، وعلى الدعايات الفارغة.
ولعل عمرواً كان يبطش ببعض الضعفاء، أو الجبناء، أو يغدر ببعض الآمنين، ثم يخلط ذلك بكثير من الشائعات التي تصل إلى حد الخرافة، ويشيعه بين الناس على أنه بطولات، وإنجازات، وهي لا تعدو كونها أوهاماً وخيالات باطلة.
ولأجل ذلك كله كان عمرو بن معدي كرب هذا قد عرف بالكذب بين الناس.
فقد رووا: أنه كان يحدث بحديث، فقال فيه: لقيت في الجاهلية خالد بن الصقعب، فضربته وقددته، وخالد في الحلقة.
فقال له رجل: إن خالداً في الحلقة.
فقال له: أسكت يا سيء الأدب، إنما أنت مُحدَّث، فاسمع أو فقم.
ومضى في حديثه، ولم يقطعه، فقال له رجل: أنت شجاع في الحرب والكذب معاً.
قال: كذلك أنا تام الآلات(1) .
أسئلة بلا جواب:
وقد ادعت الرواية المتقدمة: أن عمرواً انصرف عن علي (عليهالسلام ) فهنا أسئلة تحتاج إلى جواب، فهل كان علي (عليهالسلام )، وخالد بن سعيد، ومن معهما يقصدون بني زبيد؟!
أم كانوا يقصدون قوماً آخرين؟!
أم كانوا يقصدون دعوة كل من يصادفونه إلى الإسلام؟!
فإن كانوا يقصدون بني زبيد.. فعلى أي شيء اتفقوا مع عمرو وجماعته؟!
وكيف تركوهم ينصرفون من دون دعوة؟!
وإن كانوا يقصدون قوماً غيرهم، فمن هم أولئك القوم؟!
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ج46 ص389 وقال في هامشه: رواه المعافي بن زكريا في الجليس الصالح الكافي ج2 ص214 و 215 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص362.