الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٦
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 329
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 329
حديث المنزلة ليس عاماً:
وقالوا: إن المراد بقوله (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ) أنت مني بمنزلة هارون من موسى: أنه بمنزلته في أهل بيته، لا في الأمة كلها..
ونجيب:
أولاً: إن أكثر نصوص حديث المنزلة لم تخص المنزلة بكونها في الأهل، بل أطلقتها، فمن أين جاءت هذه الإضافة..
ثانياً: لو كانت هذه الإضافة موجودة، وكان (صلىاللهعليهوآله ) يريد بها أن يرد على ما روجه المنافقون في سبب إبقائه علياً (عليهالسلام ) في المدينة، فهي لا تكفي لذلك، ولا توجب تطييب خاطر علي (عليهالسلام )..
ثالثاً: إن حديث المنزلة قد صدر عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مناسبات كثيرة، فما المبرر لتكراره، إذا كان المقصود هو خلافته في أهله؟! فإن ذلك لا يستحق هذا التأكيد، وهذا الحديث إنما يشير إلى أن المطلوب هو إفهام الناس أن علياً (عليهالسلام ) شبيه بهارون في جميع مزاياه. وأظهرها وأشهرها أخوته، وكونه من أهله، وشراكته في الأمر، وشد أزره، ووزارته، وإمامته للناس في غياب أخيه موسى.
وقال تعالى:( وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) . ولو كان المراد خصوص الخلافة في الأهل لم يكن هناك داع لجعله بمنزلة هارون من موسى، بل يكون كأي إنسان آخر يوصيه مسافر برعاية شؤون أهله أيام سفره.
رابعاً: لو كانت خلافة علي (عليهالسلام ) لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) منحصرة في أهله لوقعت المنافاة بين صدر الكلام وذيله، لأن صدرها يقول: إنه يستخلفه في أهله، وذيلها يجعله كهارون من موسى، الذي كان خليفة لموسى في قومه لا في أهله.
وقد صرحت الآيات المباركة بأن موسى (عليهالسلام ) طلب من الله تعالى أن يشرك هارون في أمره، وأن يجعله وزيراً له.
أين ومتى قيل حديث المنزلة؟!:
وحديث المنزلة قاله رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مواقف كثيرة، وتبوك واحدة منها، فقد قاله في:
1 ـ يوم المؤاخاة الأولى(2) .
____________
1- الآيات 29 ـ 32 من سورة طه.
2- راجع: بحار الأنوار ج38 ص334 وج8 ص330 وإثبات الهداة ج3 باب 10 ح 619 و 761 وعن كنز العمال ج15 ص92 وج6 ص390 وتذكرة الخواص ص23 وفرائد السمطين ج1 ص115 و 121 وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ = = ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج1 ص107 وينابيع المودة ص65 و 57 والأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص402 ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج1 ص301 و 316 وشرح الأخبار ج2 ص476 وكنز الفوائد ص282 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص33 والعمدة لابن البطريق ص167 و 169و 230 و 232 والطرائف لابن طاووس ص53 و 71 و 148 وكتاب الأربعين للشيرازي ص98.
2 ـ يوم المؤاخاة الثانية(1) .
3 ـ يوم تسمية الحسن والحسين (عليهماالسلام )(2) .
4 ـ في حجة الوداع(3) .
____________
1- راجع: المناقب للخوارزمي ص7 وتذكرة الخواص ص20 والفصول المهمة لابن الصباغ ص21 ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج5 ص31.
2- علل الشرائع ص137 و 138 وينابيع المودة ص220 وفرائد السمطين ج2 ص103 ـ 105 والأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص156 والأمالي للطوسي ص367 وعيون أخبار الرضا ج1 ص28 ومعاني الأخبار ص57 وروضة الواعظين ص154 ومستدرك الوسائل ج15 ص144 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص189 وكتاب الأربعين للشيرازي ص103 والجواهر السنية للحر العاملي ص238 و243 و 244 و 266.
3- بحار الأنوار ج37 ص256 ودعائم الإسلام ج1 ص16 والأمالي للطوسي ص521 والغدير ج1 ص268 ووفيات الأعيان لابن خلكان ج5 ص231 وكنز الفوائد ص282.
5 ـ في منى(1) .
6 ـ يوم غدير خم(2) .
7 ـ يوم المباهلة(3) .
8 ـ في غزوة تبوك.
9 ـ عند الرجوع بغنائم خيبر(4) .
____________
1- بحار الأنوار ج37 ص260 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص29 والدر النظيم ص284.
2- بحار الأنوار ج37 ص206 وتفسير العياشي ج1 ص332 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص73 واليقين لابن طاووس ص348 والصافي (تفسير) ج2 ص45 ودعائم الإسلام ج1 ص16.
3- بحار الأنوار ج21 ص343 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص142 والمناقب للخوارزمي ص108 وعن الطرائف ج1 ص148 ـ 149 ح224 عن المناقب لابن المغازلي، وعن العمدة لابن البطريق ص46.
4- الأمالي للصدوق ص85 و (ط مؤسسة البعثة) ص156 وإثبات الهداة ج3 باب10 ح243 والمناقب للخوارزمي ص76 و 96 ومقتل الحسين للخوارزمي ج1 ص45 وكفاية الطالب ص264 ومجمع الزوائد ج9 ص131 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص449 وينابيع المودة ص130 وكنز الفوائد ص281 والمسترشد للطبري ص634 وروضة الواعظين ص112 ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج1 ص249 وشرح الأخبار ج2 ص381 و 412 والعقد النضيد ص82 والمحتضر للحلي ص172 وحلية الأبرار ج2 ص69.
10 ـ يوم كان يمشي مع النبي (صلىاللهعليهوآله )(1) .
11 ـ في حديث: لحمه لحمي، حين خاطب (صلىاللهعليهوآله ) أم سلمة بهذا القول(2) .
12 ـ يوم سد الأبواب(3) .
____________
1- إثبات الهداة ج3 باب10 ح108 وعيون أخبار الرضا ( عليهالسلام ) ج1 ص12.
2- بحار الأنوار ج32 ص348 وج37 ص254 و257 و337 وج38 ص122 و132 و 341 وج40 ص14 والأمالي للطوسي ج1 ص50 وعن كنز العمال ج6 ص154 الحديث رقم (2554) ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج5 ص31 وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج1 ص78 والمناقب للخوارزمي ص86 وينابيع المودة ص50 و 55 و 129 ومجمع الزوائد ج9 ص111 وكفاية الطالب ص168 (ط الحيدرية) وميزان الإعتدال ج2 ص3 وفرائد السمطين ج1 ص150 وشرح الأخبار ج2 ص201 و 544 وعلل الشرائع ج1 ص66 والتحصين لابن طاووس ص566 واليقين لابن طاووس ص161 و 173 و 185 و 334 و 371 و 415 ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج1 ص354 ـ 355.
3- ينابيع المودة ص88 ومناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص255 وترجمة الإمام علي بن أبي طالب لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج1 ص266 والإحتجاج للطبرسي ج2 ص145 وعلل الشرائع ج1 ص201 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج2 ص208 و (ط دار الإسلامية) ج1 ص487 وشرح = = الأخبار ج2 ص204 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص40 والعمدة لابن البطريق ص177 والصراط المستقيم ج1 ص231.
13 ـ يوم بدر(1) .
14 ـ يوم نام الصحابة في المسجد(2) .
15 ـ في قضية الإختصام في ابنة حمزة (عليهالسلام )(3) .
16 ـ يوم كان أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة في حضرة النبي (صلىاللهعليهوآله )، والنبي (صلىاللهعليهوآله ) متكئ على علي (عليهالسلام )(4) .
____________
1- المناقب للخوارزمي ص84.
2- كفاية الطالب ص284 وبحار الأنوار ج37 ص260 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص139 والمناقب للخوارزمي ص109 وكشف اليقين ص282 و ينابيع المودة ج1 ص160.
3- الخصائص للنسائي (ط الحيدرية) ص18 وترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج1 ص338.
4- راجع: كنز العمال (ط2) ج15 ص109 و 108 والمناقب للخوارزمي ص19 وينابيع المودة ص202 وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج1 ص321 والفصول المهمة لابن الصباغ ص110 والرياض النضرة (ط2) ج2 ص207 و 215 والأربعون حديثاً لابن بابويه ص20 وذخائر العقبى ص58.
17 ـ في قضية بني جذيمة(1) .
18 ـ يوم عرج به(2) .
19 ـ في مرض موته (صلىاللهعليهوآله )(3) .
20 ـ يوم الإنذار(4) .
21 ـ يوم حنين(5) .
الإستثناء دليل عموم المنزلة:
قال علماؤنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم: إن استثناء النبوة يدل على أن جميع منازل هارون من موسى (عليهماالسلام ) ثابتة لعلي (عليهالسلام )، باستثناء منزلة النبوة، فإن الإستثناء دليل العموم.
ونقول:
إننا بغض النظر عن إفادة الإستثناء، لذلك نلاحظ:
أن نفس قول القائل لأحدهم: أنت مني بمنزلة فلان، يراد به أن أظهر
____________
1- الأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص237 وعلل الشرائع ج2 ص473 ومستدرك الوسائل ج18 ص366.
2- كمال الدين ص250 ـ 251 والمحتضر للحلي ص246 ـ 247.
3- كمال الدين ص262ـ 264.
4- كنز الفوائد للكراجكي ص280.
5- الروضة في فضائل أمير المؤمنين ص74.
منازل ذلك الرجل وأقربها إلى فهم الناس ثابتة للمخاطب..
فلا بد من ملاحظة حال ذينك الشخصين مع بعضهما البعض، فإن كان ذلك القائل أباً أو أخاً أو ابناً كانت منزلة الطرف الآخر منصرفة إلى هذه المعاني، أعني الأبوة، والبنوة والأخوة وما إلى ذلك، وإن كان معلماً أو وزيراً، فإن الكلام ينصرف إلى هذه المعاني أيضاً.
وأظهر خصوصية كانت بين هارون وموسى، هي: أخوته، وشد أزره، وشراكته في الأمر، وقيامه مقامه في غيبته، وكونه أولى الناس به حياً وميتاً.
أما خصوصية النبوة فغير مرادة هنا، لأنها قد استثنيت مباشرة من قِبَلِ النبي (صلىاللهعليهوآله )، فبقيت سائر المنازل مشمولة لكلامه كما كانت.
هل حديث المنزلة خاص بتبوك؟!:
وقال بعضهم: (هارون لم يكن خليفة موسى، إلا في حياته لا بعد موته، لأنه مات قبل موسى، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك، كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور، لقوله تعالى:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (1)(2) .
ونقول:
أولاً: إن هذا يؤدي إلى أن يكون قول النبي (صلىاللهعليهوآله )
____________
1- الآية 142 من سورة الأعراف.
2- فتح الباري ج7 ص60.
متناقضاً، إذ لو كان المقصود هو خلافته له في حياته في خصوص غزوة تبوك لم يكن معنى لقوله: (إلا أنه لا نبي بعدي)، بل كان الأحرى أن يقول: إلا أنه لا نبي معي..
ثانياً: إن كان المراد استخلافه (عليهالسلام ) في خصوص غزوة تبوك، فلا حاجة إلى حديث المنزلة من الأساس، لأنه (صلىاللهعليهوآله ) قد استخلف ابن أم مكتوم وغيره على المدينة مرات كثيرة: في بدر، والفتح، وقريظة، وخيبر و.. و.. إلخ..
ثالثاً: العبرة إنما هي بعموم اللفظ، لا بخصوصية المورد، فكيف إذا تضمن الكلام ما يشبه التصريح باستمرار المنزلة إلى ما بعد وفاة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )؟!
ويوضح ذلك: أن هارون، وإن كان قد خلف موسى عند ذهابه إلى الطور، لمنزلته منه.. فإنه أيضاً له منزلة الشراكة في الأمر، والشريك يتابع أمور شريكه في حياته وبعد وفاته، وله (عليهالسلام ) أيضاً منزلة الأخوة، فلو أن موسى (عليهالسلام ) مات قبل هارون، فإن هارون لا بد أن يتابع أمور شريكه ويرعاها بعد وفاته، كما أنه سيكون بسبب أخوته أولى بأخيه من جميع بني إسرائيل، وسيقوم مقامه في كل ما هو من شؤون الأخوة والشراكة.
حديث المنزلة في سطور:
لا بد من ملاحظة ما يلي:
ألف: إن هارون كان له من موسى المنازل التالية:
1 ـ منزلة الأخوة.
2 ـ الوزارة المجعولة من الله.
3 ـ كونه من أهله.
4 ـ أنه مصدق له..
5 ـ أنه ردء له.
6 ـ أنه شريكه في أمر الدين.
7 ـ يشد أزره وعضده.
8 ـ أنه خليفته في قومه حال غيبته.
9 ـ أن وظيفته الإصلاح.
وقد دلت الآيات القرآنية على هذه الأمور كلها، فقد قال تعالى:( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) (1) .
وقال:( ..وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (2) .
وقال:( وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (3) .
____________
1- الآية 34 من سورة القصص.
2- الآية 35 من سورة الفرقان.
3- الآيات 29 ـ 32 من سورة طه.
وقال:( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ.. ) (1) .
وقال:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) (2) .
ب: قال العلامة الطباطائي (رحمهالله ) عن نبي الله هارون (عليهالسلام ) في سورة الصافات: (أشركه الله تعالى مع موسى (عليهماالسلام ): في المنّ، وإيتاء الكتاب، والهداية إلى الصراط المستقيم، وفي التسليم، وأنه من المحسنين، ومن عباده المؤمنين [الصافات: 114 ـ 122] وعده مرسلاً [طه: 47]، ونبياً [مريم: 53]، وأنه ممن أنعم عليهم [مريم: 58]، وأشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة، من الإحسان، والصلاح، والفضل، والإجتباء، والهداية [الأنعام: 84 ـ 88]) انتهى(3) .
ج: ليس المراد بإشراكه في حفظ الدين، ونشره، وتبليغه، ما هو على حد شراكة المؤمنين معه في ذلك، من حيث يجب على كل مؤمن، التبليغ والإرشاد والدعوة إلى الله، والدفاع عن الحق والدين، وتعليم الأحكام.. بل هي شراكة خاصة في كل أمره (صلىاللهعليهوآله )، باستثناء نزول الوحي الخاص بالنبوة وإنزال القرآن عليه.
وتظهر آثار هذه الشراكة في وجوب طاعته (عليهالسلام )، وفي حجية
____________
1- الآية 35 من سورة القصص.
2- الآية 142 من سورة الأعراف.
3- الميزان (تفسير) ج16 ص44.
قوله، وفي كل ما أعطاه الله إياه من علم خاص، ومن عرض أعمال العباد عليه، ومن طاعة الجمادات له، ومن التصرفات والقدرات الخاصة، مثل طي الأرض، ورؤيته من خلفه، وكونه تنام عيناه ولا ينام قلبه، والإسراء والمعراج إلى السماوات لرؤية آيات الله تبارك وتعالى، وما إلى ذلك.
د: إنه (عليهالسلام ) من أهل النبي (صلىاللهعليهوآله ) والأهل يعيشون مع بعضهم بعفوية وشفافية ووضوح، فأهل النبي يشاهدون أحواله، ويطَّلعون على ما لا يطلع عليه سائر الناس، فإذا كان وزيره، وشريكه منهم، فإن معرفته بكل هذه الأمور المعنوية تنطلق من معرفته الواقعية بكل حالاته وخفاياه، وباطنه وظاهره..
ولا بد أن يدخل إلى ضمير هذا الوزير الشريك، وإلى خلجات نفسه، وحنايا روحه، ويلامس شغاف قلبه، بصفته نبياً مقدساً وطاهراً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولا يريد لنفسه ردءاً وشريكاً ووزيراً بعيداً عنه، قد يفرض غموضه احترامه عليه، أو يخشى ويحذر ما يجهله منه..
إن هذا الإشراف المباشر على حالات هذا النبي، والعيش معه بعفوية الأهل والأحبة، ومن دون أن يكون هناك أي داع لتحفظه معهم، أو للتحفظ معه.. يعطي للإنسان السكينة والطمأنينة إلى صحة الرؤية، وسلامة المعرفة، وواقعيتها، فيترسخ الإيمان بصحة نبوته في العقل، ويتبلور صفاؤه في الوجدان، ويتجذر طهره في أعماق النفس، وينساب هداه في الروح والضمير إنسياب الدم في العروق..
وهذه خصوصية لا يمكن أن توجد إلا لدى الأنبياء (عليهمالسلام )،
ومن هم في خطهم من الأولياء، والخلّص من المؤمنين..
أما من عداهم من أهل الدنيا.. فلا يمكن أن تستقيم لهم الأمور إلا بوضع الحجب، وإنشاء الحواجز أمام الناس، حتى أقرب الناس إليهم، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم فضلاً عن غيرهم.. لمنعهم من المعرفة بحقيقة سلوكهم، وبواقع نواياهم، وبما تكنّه ضمائرهم.. لأن معرفة الناس بذلك سوف تجر لهم الداء الدوي، والبلاء الظاهر والخفي..
هـ: أما الأخوّة التي ينشدها النبي في الوزير: فقد تعني فيما تعنيه الأمور التالية:
أولاً: المساواة.. والإشتراك.. والمماثلة في الميزات.. والشبه في الصفات..
ولذلك نلاحظ: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كما ذكر المؤرخون كان يؤاخي بين كل ونظيره، ممن هو أقرب الناس إليه في الخُلُق، وفي السيرة، وفي الطموح، وفي المستوى الفكري والعقلي، وسائر الصفات.
مع العلم: بأننا لا نجد ملكاً يعترف لأي مخلوق، سواء أكان وزيراً، أو قريباً، أو حتى ولداً بالمساواة معه في الصفات والأخلاق، وسائر الميزات. بل هو يعطي لنفسه مقاماً متميزاً عن الناس كلهم، ويسعى لتعمية الأمر عليهم، ويتوسل إلى ذلك بأساليب شتى من الإبهام والإيهام، والإدّعاءات الزائفة، والمظاهر الخادعة.
ثانياً: إن هذا التشابه أو التقارب في الميزات من شأنه: أن يفرض تساوياً في الحقوق.. وهذا مرفوض أيضاً في منطق أهل الدنيا، فإن الرؤساء والملوك فيها، إن لم يجدوا لأنفسهم خصوصية، فلابد من انتحالها، والتظاهر
بما يوهم الخصوصية.
فكيف يمكن أن يرضوا بالمساواة مع غيرهم في الحقوق والمزايا؟!
و: إن استثناء النبوة في كلام رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من منازل علي (عليهالسلام ) يفيد: أن المراد بمنزلة هارون من موسى: هو سائر مراتبها، ومختلف متعلقاتها. أي أن هذا الإستثناء يفيد عموم المنزلة وشمولها لكل الأمور والجهات والمراتب.
فهو بمنزلته في لزوم الطاعة، وفي حجية قوله، وفي حاكميته، وفي القضاء، والعطاء، والسلم، والحرب والسفر، والحضر، وفي الحياة، وبعد الممات.. وفي كل شيء..
من أحداث تبوك..
قسمة غنائم تبوك:
روي: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لما غزا تبوك استخلف علياً (عليهالسلام ) على المدينة، فلما نصر الله رسوله (صلىاللهعليهوآله )، وأغنم المسلمين أموال المشركين ورقابهم، جلس (صلىاللهعليهوآله ) في المسجد، وجعل يقسم السهام على المسلمين، فدفع إلى كل رجل سهماً سهماً، ودفع إلى علي سهمين.
فقام زائدة بن الأكوع فقال: يا رسول الله، أوحي نزل من السماء، أو أمر من نفسك؟! تدفع إلى المسلمين سهماً سهماً، وتدفع إلى علي سهمين.
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): أنشدكم الله، هل رأيتم في ميمنة عسكركم صاحب الفرس الأغر المحجل، والعمامة الخضراء، لها ذؤابتان مرخاتان على كتفه، بيده حربة، وحمل على الميمنة فأزالها، وحمل على القلب فأزاله؟!
قالوا: نعم يا رسول الله لقد رأينا ذلك.
قال: ذلك جبريل، وإنه أمرني أن أدفع سهمه إلى علي بن أبي طالب.
قال: فجلس زائدة مع أصحابه، وقال قائلهم شعراً:
علي حوى سهمين من غير أن غزا غزاة تبوك حبذا سهم مسهمِ(1)
ونقول:
أولاً: دلت هذه الرواية على: أنه قد جرى في تبوك قتال، وحصل المسلمون على غنائم، قسمها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بين المسلمين.
ويؤيد ذلك حديث مناشدة علي (عليهالسلام ) لأهل الشورى، حيث قال لهم: (أفيكم أحد كان له سهم في الحاضر، وسهم في الغائب)؟!
قالوا: لا(2) .
____________
1- راجع المصادر التالية: السيرة الحلبية ج3 ص142 عن الزمخشري في فضائل العشرة، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج23 ص281 و282 عن غاية المرام (نسخة جستربيتي) ص73 وج31 ص565 وتفسير آية المودة للحنفي المصري ص74 عنه، وعمدة القاري ج16 ص215 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص78 وقال محقق الكتاب: والحديث رواه الحلواني في الباب الثالث من كتاب مقصد الراغب، كما رواه أيضا الخفاجي في الثالثة عشرة من خصائص علي ( عليهالسلام ) من خاتمة تفسير آية المودة الورق 74 /ب/. ورواه قبلهم جميعاً الحافظ السروي في عنوان: (محبة الملائكة إياه) من كتابه مناقب آل أبي طالب (ط بيروت) ج2 ص238.
2- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) من تاريخ مدينة دمشق ج3 ص93 واللآلي المصنوعة ج1 ص362 والضعفاء الكبير للعقيلي ج1 ص211 و 212 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج42 ص435 ومناقب علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) لابـن مـردويـه ص131 وفيـه بـدل (الحاضر) و (الغائب): = = (الخاص) و (العام) وكنز العمال ج5 ص725 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص379 ومسند فاطمة ( عليهاالسلام ) للسيوطي ص21 عنه، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص323 والمناقب للخوارزمي ص315.
ولم يغب علي (عليهالسلام ) عن أي من الغزوات إلا غزوة تبوك.
وقال ابن العرندس المتوفى في حدود سنة 840هـ:
وتبوك نازل شوسها فأبادهم ضرباً بصارم عزمة لن يفللا(1)
ثانياً: لعل غنائم دومة الجندل التي أخذت في تبوك قد بقيت على حالها، ولم تقسم إلا بعد العودة إلى المدينة، فقسمها (صلىاللهعليهوآله ) في المسجد وأعطى علياً (عليهالسلام ) منها.
ثالثاً: ولا مانع من أن يكون المقصود بالمسجد هو المسجد الذي استحدث في ذلك المكان الذي قسمت فيه الغنائم. ولعله كان هو الموضع الذي اختاره (صلىاللهعليهوآله ) طيلة إقامته في تبوك.
رابعاً: ربما تكون قد حصلت احتكاكات بين المسلمين، وبين بعض جماعات المشركين في مناطق تبوك، فنصر الله المسلمين عليهم، وغنمهم أموالهم.
خامساً: إن ذلك، وإن كان لم يكن له شاهد صريح، ولكن نفس ما روي من أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أعطى علياً سهمين يدل على حصول شيء من ذلك.. ولكن المؤرخين أهملوا ذكر هذا الأمر لما فيه من
____________
1- الغدير ج7 ص8 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ لمحمد الريشهري ج9 ص76.
التنويه بعلي (عليهالسلام )، وإظهار لفضائله، وإشاعتها ـ فأراحوا أنفسهم، ومن هم على شاكلتهم من تجشم المخارج والتأويلات، حين يواجههم المؤمنون بالحقيقة.
ثمة ما هو أعجب:
وتذكر الروايات: أنه (صلىاللهعليهوآله ) وهو عائد من تبوك إلى المدينة مروا بمساكن ثمود، وحدث أصحابه ببعض ما جرى لهم.. وقال:
(ألا أنبؤكم بأعجب من ذلك؟! رجل من أنفسكم، فينبؤكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله تعالى لا يعبأ بعذابكم شيئاً الخ..)(1) .
ونقول:
لقد اقتصر (صلىاللهعليهوآله ) على ذكر علامة واحدة لرجل هو من أنفسهم، ينبؤهم بما كان وما هو كائن، ثم أمرهم (صلىاللهعليهوآله ) بالإستقامة والسداد..
____________
1- سبل الهدى والرشاد ج5 ص446 و 447 عن مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وابن إسحاق، وقال في هامشه: أخرجه البخاري ج8 ص125 (4419) ومسلم ج4 ص2286 (38 و 39/2980) وأحمد ج2 ص9 و 58 و 72 و 74 و 113 و 137 والبيهقي في الدلائل ج5 ص233 وفي السنن ج2 ص451 والحميدي (653) وعبد الرزاق (1625) والطبراني في الكبير ج12 ص457 وانظر الدر المنثور ج4 ص104.