حديث المنزلة ليس عاماً:
وقالوا: إن المراد بقوله (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ) أنت مني بمنزلة هارون من موسى: أنه بمنزلته في أهل بيته، لا في الأمة كلها..
ونجيب:
أولاً: إن أكثر نصوص حديث المنزلة لم تخص المنزلة بكونها في الأهل، بل أطلقتها، فمن أين جاءت هذه الإضافة..
ثانياً: لو كانت هذه الإضافة موجودة، وكان (صلىاللهعليهوآله ) يريد بها أن يرد على ما روجه المنافقون في سبب إبقائه علياً (عليهالسلام ) في المدينة، فهي لا تكفي لذلك، ولا توجب تطييب خاطر علي (عليهالسلام )..
ثالثاً: إن حديث المنزلة قد صدر عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مناسبات كثيرة، فما المبرر لتكراره، إذا كان المقصود هو خلافته في أهله؟! فإن ذلك لا يستحق هذا التأكيد، وهذا الحديث إنما يشير إلى أن المطلوب هو إفهام الناس أن علياً (عليهالسلام ) شبيه بهارون في جميع مزاياه. وأظهرها وأشهرها أخوته، وكونه من أهله، وشراكته في الأمر، وشد أزره، ووزارته، وإمامته للناس في غياب أخيه موسى.
وقال تعالى:( وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) . ولو كان المراد خصوص الخلافة في الأهل لم يكن هناك داع لجعله بمنزلة هارون من موسى، بل يكون كأي إنسان آخر يوصيه مسافر برعاية شؤون أهله أيام سفره.
رابعاً: لو كانت خلافة علي (عليهالسلام ) لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) منحصرة في أهله لوقعت المنافاة بين صدر الكلام وذيله، لأن صدرها يقول: إنه يستخلفه في أهله، وذيلها يجعله كهارون من موسى، الذي كان خليفة لموسى في قومه لا في أهله.
وقد صرحت الآيات المباركة بأن موسى (عليهالسلام ) طلب من الله تعالى أن يشرك هارون في أمره، وأن يجعله وزيراً له.
أين ومتى قيل حديث المنزلة؟!:
وحديث المنزلة قاله رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مواقف كثيرة، وتبوك واحدة منها، فقد قاله في:
١ ـ يوم المؤاخاة الأولى(٢) .
____________
١- الآيات ٢٩ ـ ٣٢ من سورة طه.
٢- راجع: بحار الأنوار ج٣٨ ص٣٣٤ وج٨ ص٣٣٠ وإثبات الهداة ج٣ باب ١٠ ح ٦١٩ و ٧٦١ وعن كنز العمال ج١٥ ص٩٢ وج٦ ص٣٩٠ وتذكرة الخواص ص٢٣ وفرائد السمطين ج١ ص١١٥ و ١٢١ وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ = = ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص١٠٧ وينابيع المودة ص٦٥ و ٥٧ والأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص٤٠٢ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٣٠١ و ٣١٦ وشرح الأخبار ج٢ ص٤٧٦ وكنز الفوائد ص٢٨٢ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٣٣ والعمدة لابن البطريق ص١٦٧ و ١٦٩و ٢٣٠ و ٢٣٢ والطرائف لابن طاووس ص٥٣ و ٧١ و ١٤٨ وكتاب الأربعين للشيرازي ص٩٨.
٢ ـ يوم المؤاخاة الثانية(١) .
٣ ـ يوم تسمية الحسن والحسين (عليهماالسلام )(٢) .
٤ ـ في حجة الوداع(٣) .
____________
١- راجع: المناقب للخوارزمي ص٧ وتذكرة الخواص ص٢٠ والفصول المهمة لابن الصباغ ص٢١ ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج٥ ص٣١.
٢- علل الشرائع ص١٣٧ و ١٣٨ وينابيع المودة ص٢٢٠ وفرائد السمطين ج٢ ص١٠٣ ـ ١٠٥ والأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص١٥٦ والأمالي للطوسي ص٣٦٧ وعيون أخبار الرضا ج١ ص٢٨ ومعاني الأخبار ص٥٧ وروضة الواعظين ص١٥٤ ومستدرك الوسائل ج١٥ ص١٤٤ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٨٩ وكتاب الأربعين للشيرازي ص١٠٣ والجواهر السنية للحر العاملي ص٢٣٨ و٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٦٦.
٣- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٥٦ ودعائم الإسلام ج١ ص١٦ والأمالي للطوسي ص٥٢١ والغدير ج١ ص٢٦٨ ووفيات الأعيان لابن خلكان ج٥ ص٢٣١ وكنز الفوائد ص٢٨٢.
٥ ـ في منى(١) .
٦ ـ يوم غدير خم(٢) .
٧ ـ يوم المباهلة(٣) .
٨ ـ في غزوة تبوك.
٩ ـ عند الرجوع بغنائم خيبر(٤) .
____________
١- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٦٠ ومستدرك سفينة البحار ج١٠ ص٢٩ والدر النظيم ص٢٨٤.
٢- بحار الأنوار ج٣٧ ص٢٠٦ وتفسير العياشي ج١ ص٣٣٢ والإحتجاج للطبرسي ج١ ص٧٣ واليقين لابن طاووس ص٣٤٨ والصافي (تفسير) ج٢ ص٤٥ ودعائم الإسلام ج١ ص١٦.
٣- بحار الأنوار ج٢١ ص٣٤٣ ومناقب آل أبي طالب ج٣ ص١٤٢ والمناقب للخوارزمي ص١٠٨ وعن الطرائف ج١ ص١٤٨ ـ ١٤٩ ح٢٢٤ عن المناقب لابن المغازلي، وعن العمدة لابن البطريق ص٤٦.
٤- الأمالي للصدوق ص٨٥ و (ط مؤسسة البعثة) ص١٥٦ وإثبات الهداة ج٣ باب١٠ ح٢٤٣ والمناقب للخوارزمي ص٧٦ و ٩٦ ومقتل الحسين للخوارزمي ج١ ص٤٥ وكفاية الطالب ص٢٦٤ ومجمع الزوائد ج٩ ص١٣١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٢ ص٤٤٩ وينابيع المودة ص١٣٠ وكنز الفوائد ص٢٨١ والمسترشد للطبري ص٦٣٤ وروضة الواعظين ص١١٢ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٢٤٩ وشرح الأخبار ج٢ ص٣٨١ و ٤١٢ والعقد النضيد ص٨٢ والمحتضر للحلي ص١٧٢ وحلية الأبرار ج٢ ص٦٩.
١٠ ـ يوم كان يمشي مع النبي (صلىاللهعليهوآله )(١) .
١١ ـ في حديث: لحمه لحمي، حين خاطب (صلىاللهعليهوآله ) أم سلمة بهذا القول(٢) .
١٢ ـ يوم سد الأبواب(٣) .
____________
١- إثبات الهداة ج٣ باب١٠ ح١٠٨ وعيون أخبار الرضا ( عليهالسلام ) ج١ ص١٢.
٢- بحار الأنوار ج٣٢ ص٣٤٨ وج٣٧ ص٢٥٤ و٢٥٧ و٣٣٧ وج٣٨ ص١٢٢ و١٣٢ و ٣٤١ وج٤٠ ص١٤ والأمالي للطوسي ج١ ص٥٠ وعن كنز العمال ج٦ ص١٥٤ الحديث رقم (٢٥٥٤) ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج٥ ص٣١ وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٧٨ والمناقب للخوارزمي ص٨٦ وينابيع المودة ص٥٠ و ٥٥ و ١٢٩ ومجمع الزوائد ج٩ ص١١١ وكفاية الطالب ص١٦٨ (ط الحيدرية) وميزان الإعتدال ج٢ ص٣ وفرائد السمطين ج١ ص١٥٠ وشرح الأخبار ج٢ ص٢٠١ و ٥٤٤ وعلل الشرائع ج١ ص٦٦ والتحصين لابن طاووس ص٥٦٦ واليقين لابن طاووس ص١٦١ و ١٧٣ و ١٨٥ و ٣٣٤ و ٣٧١ و ٤١٥ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٣٥٤ ـ ٣٥٥.
٣- ينابيع المودة ص٨٨ ومناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص٢٥٥ وترجمة الإمام علي بن أبي طالب لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٢٦٦ والإحتجاج للطبرسي ج٢ ص١٤٥ وعلل الشرائع ج١ ص٢٠١ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٢ ص٢٠٨ و (ط دار الإسلامية) ج١ ص٤٨٧ وشرح = = الأخبار ج٢ ص٢٠٤ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٤٠ والعمدة لابن البطريق ص١٧٧ والصراط المستقيم ج١ ص٢٣١.
١٣ ـ يوم بدر(١) .
١٤ ـ يوم نام الصحابة في المسجد(٢) .
١٥ ـ في قضية الإختصام في ابنة حمزة (عليهالسلام )(٣) .
١٦ ـ يوم كان أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة في حضرة النبي (صلىاللهعليهوآله )، والنبي (صلىاللهعليهوآله ) متكئ على علي (عليهالسلام )(٤) .
____________
١- المناقب للخوارزمي ص٨٤.
٢- كفاية الطالب ص٢٨٤ وبحار الأنوار ج٣٧ ص٢٦٠ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص١٣٩ والمناقب للخوارزمي ص١٠٩ وكشف اليقين ص٢٨٢ و ينابيع المودة ج١ ص١٦٠.
٣- الخصائص للنسائي (ط الحيدرية) ص١٨ وترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٣٣٨.
٤- راجع: كنز العمال (ط٢) ج١٥ ص١٠٩ و ١٠٨ والمناقب للخوارزمي ص١٩ وينابيع المودة ص٢٠٢ وترجمة الإمام علي ( عليهالسلام ) من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج١ ص٣٢١ والفصول المهمة لابن الصباغ ص١١٠ والرياض النضرة (ط٢) ج٢ ص٢٠٧ و ٢١٥ والأربعون حديثاً لابن بابويه ص٢٠ وذخائر العقبى ص٥٨.
١٧ ـ في قضية بني جذيمة(١) .
١٨ ـ يوم عرج به(٢) .
١٩ ـ في مرض موته (صلىاللهعليهوآله )(٣) .
٢٠ ـ يوم الإنذار(٤) .
٢١ ـ يوم حنين(٥) .
الإستثناء دليل عموم المنزلة:
قال علماؤنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم: إن استثناء النبوة يدل على أن جميع منازل هارون من موسى (عليهماالسلام ) ثابتة لعلي (عليهالسلام )، باستثناء منزلة النبوة، فإن الإستثناء دليل العموم.
ونقول:
إننا بغض النظر عن إفادة الإستثناء، لذلك نلاحظ:
أن نفس قول القائل لأحدهم: أنت مني بمنزلة فلان، يراد به أن أظهر
____________
١- الأمالي للصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص٢٣٧ وعلل الشرائع ج٢ ص٤٧٣ ومستدرك الوسائل ج١٨ ص٣٦٦.
٢- كمال الدين ص٢٥٠ ـ ٢٥١ والمحتضر للحلي ص٢٤٦ ـ ٢٤٧.
٣- كمال الدين ص٢٦٢ـ ٢٦٤.
٤- كنز الفوائد للكراجكي ص٢٨٠.
٥- الروضة في فضائل أمير المؤمنين ص٧٤.
منازل ذلك الرجل وأقربها إلى فهم الناس ثابتة للمخاطب..
فلا بد من ملاحظة حال ذينك الشخصين مع بعضهما البعض، فإن كان ذلك القائل أباً أو أخاً أو ابناً كانت منزلة الطرف الآخر منصرفة إلى هذه المعاني، أعني الأبوة، والبنوة والأخوة وما إلى ذلك، وإن كان معلماً أو وزيراً، فإن الكلام ينصرف إلى هذه المعاني أيضاً.
وأظهر خصوصية كانت بين هارون وموسى، هي: أخوته، وشد أزره، وشراكته في الأمر، وقيامه مقامه في غيبته، وكونه أولى الناس به حياً وميتاً.
أما خصوصية النبوة فغير مرادة هنا، لأنها قد استثنيت مباشرة من قِبَلِ النبي (صلىاللهعليهوآله )، فبقيت سائر المنازل مشمولة لكلامه كما كانت.
هل حديث المنزلة خاص بتبوك؟!:
وقال بعضهم: (هارون لم يكن خليفة موسى، إلا في حياته لا بعد موته، لأنه مات قبل موسى، بل المراد استخلافه بالمدينة حين ذهابه إلى تبوك، كما استخلف موسى هارون عند ذهابه إلى الطور، لقوله تعالى:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (١)(٢) .
ونقول:
أولاً: إن هذا يؤدي إلى أن يكون قول النبي (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- الآية ١٤٢ من سورة الأعراف.
٢- فتح الباري ج٧ ص٦٠.
متناقضاً، إذ لو كان المقصود هو خلافته له في حياته في خصوص غزوة تبوك لم يكن معنى لقوله: (إلا أنه لا نبي بعدي)، بل كان الأحرى أن يقول: إلا أنه لا نبي معي..
ثانياً: إن كان المراد استخلافه (عليهالسلام ) في خصوص غزوة تبوك، فلا حاجة إلى حديث المنزلة من الأساس، لأنه (صلىاللهعليهوآله ) قد استخلف ابن أم مكتوم وغيره على المدينة مرات كثيرة: في بدر، والفتح، وقريظة، وخيبر و.. و.. إلخ..
ثالثاً: العبرة إنما هي بعموم اللفظ، لا بخصوصية المورد، فكيف إذا تضمن الكلام ما يشبه التصريح باستمرار المنزلة إلى ما بعد وفاة رسول الله (صلىاللهعليهوآله )؟!
ويوضح ذلك: أن هارون، وإن كان قد خلف موسى عند ذهابه إلى الطور، لمنزلته منه.. فإنه أيضاً له منزلة الشراكة في الأمر، والشريك يتابع أمور شريكه في حياته وبعد وفاته، وله (عليهالسلام ) أيضاً منزلة الأخوة، فلو أن موسى (عليهالسلام ) مات قبل هارون، فإن هارون لا بد أن يتابع أمور شريكه ويرعاها بعد وفاته، كما أنه سيكون بسبب أخوته أولى بأخيه من جميع بني إسرائيل، وسيقوم مقامه في كل ما هو من شؤون الأخوة والشراكة.
حديث المنزلة في سطور:
لا بد من ملاحظة ما يلي:
ألف: إن هارون كان له من موسى المنازل التالية:
١ ـ منزلة الأخوة.
٢ ـ الوزارة المجعولة من الله.
٣ ـ كونه من أهله.
٤ ـ أنه مصدق له..
٥ ـ أنه ردء له.
٦ ـ أنه شريكه في أمر الدين.
٧ ـ يشد أزره وعضده.
٨ ـ أنه خليفته في قومه حال غيبته.
٩ ـ أن وظيفته الإصلاح.
وقد دلت الآيات القرآنية على هذه الأمور كلها، فقد قال تعالى:( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) (١) .
وقال:( ..وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (٢) .
وقال:( وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (٣) .
____________
١- الآية ٣٤ من سورة القصص.
٢- الآية ٣٥ من سورة الفرقان.
٣- الآيات ٢٩ ـ ٣٢ من سورة طه.
وقال:( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ.. ) (١) .
وقال:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) (٢) .
ب: قال العلامة الطباطائي (رحمهالله ) عن نبي الله هارون (عليهالسلام ) في سورة الصافات: (أشركه الله تعالى مع موسى (عليهماالسلام ): في المنّ، وإيتاء الكتاب، والهداية إلى الصراط المستقيم، وفي التسليم، وأنه من المحسنين، ومن عباده المؤمنين [الصافات: ١١٤ ـ ١٢٢] وعده مرسلاً [طه: ٤٧]، ونبياً [مريم: ٥٣]، وأنه ممن أنعم عليهم [مريم: ٥٨]، وأشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة، من الإحسان، والصلاح، والفضل، والإجتباء، والهداية [الأنعام: ٨٤ ـ ٨٨]) انتهى(٣) .
ج: ليس المراد بإشراكه في حفظ الدين، ونشره، وتبليغه، ما هو على حد شراكة المؤمنين معه في ذلك، من حيث يجب على كل مؤمن، التبليغ والإرشاد والدعوة إلى الله، والدفاع عن الحق والدين، وتعليم الأحكام.. بل هي شراكة خاصة في كل أمره (صلىاللهعليهوآله )، باستثناء نزول الوحي الخاص بالنبوة وإنزال القرآن عليه.
وتظهر آثار هذه الشراكة في وجوب طاعته (عليهالسلام )، وفي حجية
____________
١- الآية ٣٥ من سورة القصص.
٢- الآية ١٤٢ من سورة الأعراف.
٣- الميزان (تفسير) ج١٦ ص٤٤.
قوله، وفي كل ما أعطاه الله إياه من علم خاص، ومن عرض أعمال العباد عليه، ومن طاعة الجمادات له، ومن التصرفات والقدرات الخاصة، مثل طي الأرض، ورؤيته من خلفه، وكونه تنام عيناه ولا ينام قلبه، والإسراء والمعراج إلى السماوات لرؤية آيات الله تبارك وتعالى، وما إلى ذلك.
د: إنه (عليهالسلام ) من أهل النبي (صلىاللهعليهوآله ) والأهل يعيشون مع بعضهم بعفوية وشفافية ووضوح، فأهل النبي يشاهدون أحواله، ويطَّلعون على ما لا يطلع عليه سائر الناس، فإذا كان وزيره، وشريكه منهم، فإن معرفته بكل هذه الأمور المعنوية تنطلق من معرفته الواقعية بكل حالاته وخفاياه، وباطنه وظاهره..
ولا بد أن يدخل إلى ضمير هذا الوزير الشريك، وإلى خلجات نفسه، وحنايا روحه، ويلامس شغاف قلبه، بصفته نبياً مقدساً وطاهراً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ولا يريد لنفسه ردءاً وشريكاً ووزيراً بعيداً عنه، قد يفرض غموضه احترامه عليه، أو يخشى ويحذر ما يجهله منه..
إن هذا الإشراف المباشر على حالات هذا النبي، والعيش معه بعفوية الأهل والأحبة، ومن دون أن يكون هناك أي داع لتحفظه معهم، أو للتحفظ معه.. يعطي للإنسان السكينة والطمأنينة إلى صحة الرؤية، وسلامة المعرفة، وواقعيتها، فيترسخ الإيمان بصحة نبوته في العقل، ويتبلور صفاؤه في الوجدان، ويتجذر طهره في أعماق النفس، وينساب هداه في الروح والضمير إنسياب الدم في العروق..
وهذه خصوصية لا يمكن أن توجد إلا لدى الأنبياء (عليهمالسلام )،
ومن هم في خطهم من الأولياء، والخلّص من المؤمنين..
أما من عداهم من أهل الدنيا.. فلا يمكن أن تستقيم لهم الأمور إلا بوضع الحجب، وإنشاء الحواجز أمام الناس، حتى أقرب الناس إليهم، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم فضلاً عن غيرهم.. لمنعهم من المعرفة بحقيقة سلوكهم، وبواقع نواياهم، وبما تكنّه ضمائرهم.. لأن معرفة الناس بذلك سوف تجر لهم الداء الدوي، والبلاء الظاهر والخفي..
هـ: أما الأخوّة التي ينشدها النبي في الوزير: فقد تعني فيما تعنيه الأمور التالية:
أولاً: المساواة.. والإشتراك.. والمماثلة في الميزات.. والشبه في الصفات..
ولذلك نلاحظ: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كما ذكر المؤرخون كان يؤاخي بين كل ونظيره، ممن هو أقرب الناس إليه في الخُلُق، وفي السيرة، وفي الطموح، وفي المستوى الفكري والعقلي، وسائر الصفات.
مع العلم: بأننا لا نجد ملكاً يعترف لأي مخلوق، سواء أكان وزيراً، أو قريباً، أو حتى ولداً بالمساواة معه في الصفات والأخلاق، وسائر الميزات. بل هو يعطي لنفسه مقاماً متميزاً عن الناس كلهم، ويسعى لتعمية الأمر عليهم، ويتوسل إلى ذلك بأساليب شتى من الإبهام والإيهام، والإدّعاءات الزائفة، والمظاهر الخادعة.
ثانياً: إن هذا التشابه أو التقارب في الميزات من شأنه: أن يفرض تساوياً في الحقوق.. وهذا مرفوض أيضاً في منطق أهل الدنيا، فإن الرؤساء والملوك فيها، إن لم يجدوا لأنفسهم خصوصية، فلابد من انتحالها، والتظاهر
بما يوهم الخصوصية.
فكيف يمكن أن يرضوا بالمساواة مع غيرهم في الحقوق والمزايا؟!
و: إن استثناء النبوة في كلام رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من منازل علي (عليهالسلام ) يفيد: أن المراد بمنزلة هارون من موسى: هو سائر مراتبها، ومختلف متعلقاتها. أي أن هذا الإستثناء يفيد عموم المنزلة وشمولها لكل الأمور والجهات والمراتب.
فهو بمنزلته في لزوم الطاعة، وفي حجية قوله، وفي حاكميته، وفي القضاء، والعطاء، والسلم، والحرب والسفر، والحضر، وفي الحياة، وبعد الممات.. وفي كل شيء..
من أحداث تبوك..
قسمة غنائم تبوك:
روي: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لما غزا تبوك استخلف علياً (عليهالسلام ) على المدينة، فلما نصر الله رسوله (صلىاللهعليهوآله )، وأغنم المسلمين أموال المشركين ورقابهم، جلس (صلىاللهعليهوآله ) في المسجد، وجعل يقسم السهام على المسلمين، فدفع إلى كل رجل سهماً سهماً، ودفع إلى علي سهمين.
فقام زائدة بن الأكوع فقال: يا رسول الله، أوحي نزل من السماء، أو أمر من نفسك؟! تدفع إلى المسلمين سهماً سهماً، وتدفع إلى علي سهمين.
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): أنشدكم الله، هل رأيتم في ميمنة عسكركم صاحب الفرس الأغر المحجل، والعمامة الخضراء، لها ذؤابتان مرخاتان على كتفه، بيده حربة، وحمل على الميمنة فأزالها، وحمل على القلب فأزاله؟!
قالوا: نعم يا رسول الله لقد رأينا ذلك.
قال: ذلك جبريل، وإنه أمرني أن أدفع سهمه إلى علي بن أبي طالب.
قال: فجلس زائدة مع أصحابه، وقال قائلهم شعراً:
علي حوى سهمين من غير أن غزا غزاة تبوك حبذا سهم مسهمِ(١)
ونقول:
أولاً: دلت هذه الرواية على: أنه قد جرى في تبوك قتال، وحصل المسلمون على غنائم، قسمها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بين المسلمين.
ويؤيد ذلك حديث مناشدة علي (عليهالسلام ) لأهل الشورى، حيث قال لهم: (أفيكم أحد كان له سهم في الحاضر، وسهم في الغائب)؟!
قالوا: لا(٢) .
____________
١- راجع المصادر التالية: السيرة الحلبية ج٣ ص١٤٢ عن الزمخشري في فضائل العشرة، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٢٣ ص٢٨١ و٢٨٢ عن غاية المرام (نسخة جستربيتي) ص٧٣ وج٣١ ص٥٦٥ وتفسير آية المودة للحنفي المصري ص٧٤ عنه، وعمدة القاري ج١٦ ص٢١٥ وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج١ ص٧٨ وقال محقق الكتاب: والحديث رواه الحلواني في الباب الثالث من كتاب مقصد الراغب، كما رواه أيضا الخفاجي في الثالثة عشرة من خصائص علي ( عليهالسلام ) من خاتمة تفسير آية المودة الورق ٧٤ /ب/. ورواه قبلهم جميعاً الحافظ السروي في عنوان: (محبة الملائكة إياه) من كتابه مناقب آل أبي طالب (ط بيروت) ج٢ ص٢٣٨.
٢- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) من تاريخ مدينة دمشق ج٣ ص٩٣ واللآلي المصنوعة ج١ ص٣٦٢ والضعفاء الكبير للعقيلي ج١ ص٢١١ و ٢١٢ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج٤٢ ص٤٣٥ ومناقب علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) لابـن مـردويـه ص١٣١ وفيـه بـدل (الحاضر) و (الغائب): = = (الخاص) و (العام) وكنز العمال ج٥ ص٧٢٥ والموضوعات لابن الجوزي ج١ ص٣٧٩ ومسند فاطمة ( عليهاالسلام ) للسيوطي ص٢١ عنه، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٣١ ص٣٢٣ والمناقب للخوارزمي ص٣١٥.
ولم يغب علي (عليهالسلام ) عن أي من الغزوات إلا غزوة تبوك.
وقال ابن العرندس المتوفى في حدود سنة ٨٤٠هـ:
وتبوك نازل شوسها فأبادهم ضرباً بصارم عزمة لن يفللا(١)
ثانياً: لعل غنائم دومة الجندل التي أخذت في تبوك قد بقيت على حالها، ولم تقسم إلا بعد العودة إلى المدينة، فقسمها (صلىاللهعليهوآله ) في المسجد وأعطى علياً (عليهالسلام ) منها.
ثالثاً: ولا مانع من أن يكون المقصود بالمسجد هو المسجد الذي استحدث في ذلك المكان الذي قسمت فيه الغنائم. ولعله كان هو الموضع الذي اختاره (صلىاللهعليهوآله ) طيلة إقامته في تبوك.
رابعاً: ربما تكون قد حصلت احتكاكات بين المسلمين، وبين بعض جماعات المشركين في مناطق تبوك، فنصر الله المسلمين عليهم، وغنمهم أموالهم.
خامساً: إن ذلك، وإن كان لم يكن له شاهد صريح، ولكن نفس ما روي من أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أعطى علياً سهمين يدل على حصول شيء من ذلك.. ولكن المؤرخين أهملوا ذكر هذا الأمر لما فيه من
____________
١- الغدير ج٧ ص٨ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ لمحمد الريشهري ج٩ ص٧٦.
التنويه بعلي (عليهالسلام )، وإظهار لفضائله، وإشاعتها ـ فأراحوا أنفسهم، ومن هم على شاكلتهم من تجشم المخارج والتأويلات، حين يواجههم المؤمنون بالحقيقة.
ثمة ما هو أعجب:
وتذكر الروايات: أنه (صلىاللهعليهوآله ) وهو عائد من تبوك إلى المدينة مروا بمساكن ثمود، وحدث أصحابه ببعض ما جرى لهم.. وقال:
(ألا أنبؤكم بأعجب من ذلك؟! رجل من أنفسكم، فينبؤكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله تعالى لا يعبأ بعذابكم شيئاً الخ..)(١) .
ونقول:
لقد اقتصر (صلىاللهعليهوآله ) على ذكر علامة واحدة لرجل هو من أنفسهم، ينبؤهم بما كان وما هو كائن، ثم أمرهم (صلىاللهعليهوآله ) بالإستقامة والسداد..
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٤٤٦ و ٤٤٧ عن مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وابن إسحاق، وقال في هامشه: أخرجه البخاري ج٨ ص١٢٥ (٤٤١٩) ومسلم ج٤ ص٢٢٨٦ (٣٨ و ٣٩/٢٩٨٠) وأحمد ج٢ ص٩ و ٥٨ و ٧٢ و ٧٤ و ١١٣ و ١٣٧ والبيهقي في الدلائل ج٥ ص٢٣٣ وفي السنن ج٢ ص٤٥١ والحميدي (٦٥٣) وعبد الرزاق (١٦٢٥) والطبراني في الكبير ج١٢ ص٤٥٧ وانظر الدر المنثور ج٤ ص١٠٤.
ولم يخبرهم بما سيكون حالهم معه، وحاله معهم، ربما لكي لا تتوهم الجبرية في جريان الأمور.. وليفهمهم أن الأمر بيدهم، فإن التزموا طريق الإستقامة على جادة الحق، والسداد في الأقوال والأفعال ربحوا، وإلا فسينالهم ما نال قوم صالح حين عقروا الناقة، ولا يعبأ الله بعذابهم شيئاً.
ثم قدم لهم دليلاً حسياً، فأخبرهم بما يجري في تلك الليلة مباشرة، مما لا يمكن أن يعلمه أحد إلا الله تعالى.. ثم أمرهم بأمره، ثم ظهر صدق كلامه في تلك الليلة بالذات، وجرى عليهم نفس ما وصفه لهم..
التوضيح.. والتطبيق:
وحين نتصفح تاريخ أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فإننا لا نجد فيهم من كان يخبر بما كان وما يكون غير علي (عليهالسلام )، وقد بلغ من كثرة أخباره أن صاروا يتهمونه بالكذب والعياذ بالله، فقد:
1 ـ سمع أعشى همدان (وهو غلام) حديثه (عليهالسلام )، فاعتبره حديث خرافة(1) .
2 ـ وكان قوم تحت منبره (عليهالسلام )، فذكر لهم الملاحم، فقالوا: قاتله الله، ما أفصحه كاذباً(2) ..
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص289 وبحار الأنوار ج34 ص299 وج41 ص341.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص136.
وهناك قضية أخرى تشبه هذه القضية أيضاً، فراجعها(1) ..
3 ـ وحين أخبر الناس بأنه لو كسرت له الوسادة لحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من آية إلا وهو يعلم أين ومتى، وفي من نزلت.
قال رجل من القعود تحت منبره: يا لله وللدعوى الكاذبة(2) !!
4 ـ وكان ميثم التمار يحدث ببعض العلوم والأسرار الخفية، فيشك قوم من أهل الكوفة، وينسبون أمير المؤمنين (عليهالسلام ) إلى المخرقة، والإيهام، والتدليس الخ(3) ..
5 ـ وقال (عليهالسلام ): (والله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة، ثم لو شئت لحدثتكم إلى أن تغيب الشمس، لا أخبركم إلا حقاً، ثم لتخرجن فتزعمن: أني أكذب الناس وأفجرهم..)(4) .
6 ـ وقال مخاطباً أهل العراق: (ولقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب! قاتلكم الله)(5) ..
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص136.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص136.
3- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص291 وبحار الأنوار ج34 ص302.
4- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص128.
5- راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص119 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص99 والإختصاص ص155 عن كتاب ابن دأب، والإرشاد للمفيد = = ص162 والفصول المختارة ص262 والإحتجاج ج1 ص255 وينابيع المودة ج3 ص435 وبحار الأنوار ج34 ص103 و 136 وج35 ص421 وج38 ص269 وج40 ص111 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص127 ونهج الإيمان ص164 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليهالسلام ) ج1 ص321.
7 ـ وقد تحدث ابن أبي الحديد عن أن قوماً من عسكر أمير المؤمنين (عليهالسلام ) كانوا يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) من أخبار الملاحم، والغائبات. وقد كان شك منهم جماعة في أقواله، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة(1) ..
ملاحظات سديدة ومفيدة:
1 ـ إن الذي يملك علم ما كان وما يكون ليس إنساناً عادياً، لأن هذا العلم ليس مما يتداوله الناس، بل هو علم خاص، لرجل له طريق إلى الغيب، الذي يدرك الناس أن الله لم يطلع عليه أحداً سوى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
2 ـ إن هذا العلم هو ما نسميه بعلم الإمامة.. وهو أحد سبيلين يمكن معرفة الإمام بهما، هما: الإخبار بالغيب.. والنص..
وهناك أمور أخرى، مثل أن يتولى ما لا يصح لغير الإمام أن يتولاه، وكذلك الحال بالنسبة للتصرفات التي لا يقدر عليها إلا نبي أو وصي،
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص286.
ولهذا البحث مجال آخر.
3 ـ إن التعامل مع هذا الشخص يجب أن يكون بانتهاج سبيل الإستقامة والسداد، وإذا لم تفعل الأمة ذلك، فإنها تعرض نفسها للغضب وللعذاب الإلهي..
4 ـ إن الذي كان غائباً عن ذلك الجمع كله الذي سار إلى تبوك هو الذي قال له النبي (صلىاللهعليهوآله ): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهو باب مدينة علمه.. في إشارة منه (صلىاللهعليهوآله ) إلى الشخص الذي يملك ذلك العلم الخاص ـ وهو علم الإمامة.
5 ـ ولا بد لنا أخيراً من أن نتذكر أن هذا الذي أبقاه النبي (صلىاللهعليهوآله ) بالمدينة هو الذي كان (صلىاللهعليهوآله ) يقول: إن قاتله شقيق عاقر ناقة صالح(1) .
وها هو النبي (صلىاللهعليهوآله ) يتحدث عن أنه (عليهالسلام ) باب
____________
1- راجع: العقد الفريد (ط دار الشرفية بمصر) ج2 ص210 والسيرة النبوية لابن هشام ج1 ص591 ط مصطفى الحلبي وإحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص332 عن بحر المناقب لابن حسنويه، ومقاصد المطالب ص11 والبدء والتاريخ ج5 ص61 ونهاية الأرب ج2 ص190 ومجمع الزوائد ج9 ص137 ومستدرك الحاكم ج3 ص113 وأسد الغابة ج4 ص33 وتلخيص المستدرك للذهبي ج3 ص113 ونظم درر السمطين ص126 والفصول المهمة لابن الصباغ ص113 والمناقب للخوارزمي ونور الأبصار (ط دار العامرة بمصر) ص98.
مدينة العلم، كما تحدث عن منزلته منه.. فهل يمكن أن يكون الذي سيخبرهم بالغيوب، ويتوعد النبي الأمة بالعذاب الإلهي، إن هي نابذته وخالفته، ولم تلتزم معه سبيل الإستقامة والسداد؟! هل يمكن أن يكون شخصاً آخر غير باب مدينة علم النبي (صلىاللهعليهوآله )، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى؟!
لماذا لم ينزل العذاب؟!:
وإنما لم ينزل العذاب على هذه الأمة كما نزلت على قوم صالح، مع أنها قد نابذت علياً (عليهالسلام ). لأن هذه المنابذة لم تكن من جميع الناس، بل كان خيار الأمة وصلحاؤها معه مغلوبين على أمرهم كما كان هو (عليهالسلام )، مغلوباً على أمره..
كما أن الكثيرين من الناس لم تقم الحجة عليهم في إمامته بعد، فلا يصح إنزال العذاب الشامل لهم قبل إقامة الحجة عليهم..
علي (عليهالسلام ) في توصيات قيصر:
وتذكر الروايات: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، فأرسل قيصر رجلاً من غسان، وأمره أن يلاحظ في النبي أموراً ثلاثة، ويحفظها ليخبره بها حين يعود.. والأمور الثلاثة هي:
1 ـ من الذي يجلس عن يمين النبي (صلىاللهعليهوآله ).
2 ـ وعلى أي شيء يجلس.
3 ـ وخاتم النبوة.
فوجد الغساني رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يجلس على الأرض.
وكان علي (عليهالسلام ) عن يمينه.
ونسي الغساني الثالثة، فقال له (صلىاللهعليهوآله ): تعال، فانظر إلى ما أمرك به صاحبك.
فنظر إلى خاتم النبوة.
فعاد إلى هرقل فأخبره بما رأى وجرى، فقال: هذا الذي بشر به عيسى بن مريم أنه يركب البعير، فاتبعوه، وصدقوه.
ثم قال للرسول: اخرج إلى أخي فاعرض عليه، فإنه شريكي في الملك.
فقلت له: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه(1) .
ونقول:
أولاً: روى آخرون ما يقرب من هذه الرواية، ولكنهم قالوا: إن ذلك قد حصل في غزوة تبوك.. كما أن ما طلبه قيصر من رسوله قد اختلف عما في هذه الرواية ما عدا ذكر خاتم النبوة.. وتلك الرواية لا تخلوا عن إشكالات لا تشجع على اعتمادها، ومنها أنها تقول: إن أول وصية لقيصر إلى رسوله هي: هل يذكر صحيفته التي كتب إلي بشيء؟!..
فإن هذا ليس مما يمتحن به الأنبياء..
____________
1- الخرائج والجرائح ج1 ص104 وبحار الأنوار ج20 ص378 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص532.
بالإضافة إلى ملاحظات أخرى ذكرناها في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) ج30.. فراجع..
ومهما يكن من أمر، فإن مجيء رسول قيصر كان إلى المدينة وفق الرواية التي ذكرناها، لأنها تذكر جلوس علي (عليهالسلام ) عن يمين النبي (صلىاللهعليهوآله )، وعلي (عليهالسلام ) لم يكن في تبوك..
ثانياً: لم تذكر هذه الرواية سبب طلب قيصر معرفة من يجلس على يمين النبي (صلىاللهعليهوآله ).. إلا أن من الواضح: أن المقصود هو معرفة نبوة النبي (صلىاللهعليهوآله ) من خلال معرفة اسم وصيه، لأنهما معاً مذكوران في كتب أهل الكتاب، لأن اسم النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد يتعدد في أسماء الرجال، لكن اقترانه باسم وصيه، الذي يفترض أن يكون جلوسه على يمينه (صلىاللهعليهوآله ) يزيد الأمر وضوحاً، فإذا انضم إلى العلامات السلوكية والخَلْقِيّة، فلا مجال بعد هذا لأي شك أو شبهة في نبوته..
ثالثاً: قد لوحظ: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أضاف لذلك الرسول علامة أخرى، لعلها هي الأصرح والأوضح، وهي أنه أخبره بما دار بينه وبين صاحبه الذي أرسله، وحقيقة ما أوصاه به..
رابعاً: لا معنى لقول ذلك الرسول في آخر الرواية: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه، فإن قبول الإسلام لا يعني ذهاب الملك. وقد أسلم النجاشي، ولم يذهب ملكه، لأنه تصرف بحكمة وروية.. وحتى لو ذهب ملك الدنيا منه، فهل يقاس بملك الآخرة؟!
كتاب النبي (صلىاللهعليهوآله ) لأهل مقنا:
ذكر المؤرخون: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كتب ـ وهو في تبوك ـ إلى أهل مقنا كتاباً يصالحهم فيه على ثمارهم وغيرها.. وفي الرواية أن الكاتب لهذا الكتاب هوعلي بن أبي طالب (عليهالسلام ).
غير أن ذلك غير دقيق، لأن علياً (عليهالسلام ) لم يحضر غزوة تبوك، بل بقي في المدينة. فلعلهم وفدوا إلى النبي (صلىاللهعليهوآله ) مرتين مرة إلى تبوك، ولم يكتب لهم شيئاً، ومرة إلى المدينة، فكتب لهم كتاب الصلح، وكان بخط علي (عليهالسلام ). ولعل بعض الرواة خلط بينهما، حيث ظن أنه كتب لهم الكتاب في نفس قدومهم الأول.
تبوك بنحو آخر.. وأسر أكيدر..
محاولة قتل علي (عليهالسلام ) في المدينة:
ذكر المؤرخون: أن المنافقين حاولوا قتل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بواسطة تنفير ناقته به لتطرحه إلى الوادي، وذلك حين عودته من تبوك إلى المدينة.. وذكرت بعض الروايات: أن هذه القضية قد حصلت بعد حادثة الغدير، وذلك في طريق عودته من حجة الوداع إلى المدينة.. ونرجح نحن هذا، غير أننا نورد القضية هنا وفق ما جرى عليه المؤرخون.
ويذكرون هنا أيضاً أمراً آخر، وهو: أن محاولة بذلت لقتل علي (عليهالسلام ) في المدينة حين كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) في تبوك..
وملخص ما ذكروه هنا:
أن بعض الروايات تقول: إن المنافقين كانوا قد دبروا لقتل علي (عليهالسلام ) في تبوك كما دبروا لقتل النبي (صلىاللهعليهوآله ) في العقبة، وذلك بأن حفروا في طريق علي (عليهالسلام ) في المدينة حفيرة طويلة بقدر خمسين ذراعاً، وقد عمقوها، ثم غطوها بحصر، ثم وضعوا فوقها يسيراً من التراب، فإذا وقع فيها كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.
وقد أنجاه الله تعالى من كيدهم بكرامة منه، وعرَّفه أسماء تلك الجماعة التي فعلت ذلك، وأعلنها له، وهم عشرة، كانوا قد تواطأوا مع الأربعة
والعشرين، الذين دبروا لقتل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في العقبة.
ثم تذكر الرواية حديث العقبة، وأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) نزل بإزائها، وأخبر الناس بما جرى على علي (عليهالسلام ).. ثم أمرهم بالرحيل، وأمر مناديه فنادى: ألا لا يسبقن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أحد على العقبة، ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة، فينظر من يمر به، وأمره أن يتشبه بحجر، الخ..
ونقول:
لا بأس بملاحظة ما يلي:
1 ـ كانت المدينة بلداً صغيراً قليل السكان، وبيوتها متلاصقة، وحفر حفرة في أي طريق في بلد كهذا، لا بد أن يكون بمرأى ومسمع من الناس، ولا سيما الذين يسكنون في ذلك المحيط، فضلاً عن أنه سيرى ذلك الرجال والنساء والأطفال.
2 ـ إن حفرة مداها خمسون ذراعاً تحتاج إلى أن يعمل العشرات فيها، وإلى وقت طويل لإنجازها.. كما أن التراب المستخرج منها يحتاج إلى مكان يرمى فيه، وأن يتناسب مع حجمه..
3 ـ هل لم يكن أحد من أهل الإيمان قد رأى ما يجري في تلك المحلة، وبادر إلى إخبار علي (عليهالسلام )؟!
وهل لم يتساءلوا عن المقصود بهذا العمل الكبير والخطير؟!
4 ـ هل كان علي (عليهالسلام ) يتجول في طرقات المدينة التي يتولاها
ومنها ذلك الطريق؟! وكيف تأكد لديهم حتمية مروره من نفس ذلك المكان، لكي يحل به ما خططوا له، فإن كان يمر في كل يوم، فلماذا لم يرهم يحفرون ويشتغلون؟! ولماذا لا يسألهم عما يفعلونه؟!
وإن كانوا قد حفروا هذه الحفرة في يوم واحد، فالسؤال هو: هل يكفي يوم واحد، خمسين ذراعاً؟!
5 ـ وإن كان يمر فيها مرة خلال عدة أيام، وبصورة منتظمة، فهل لم يكن يمر أحد في ذلك الطريق أحد سواه ليقع في تلك الحفرة؟!
أم أنهم كانوا يمنعون الناس من المرور في ذلك الطريق؟! ولو لم يمر فيها علي (عليهالسلام ) هل كانوا سيلجئونه إلى ذلك؟! وكيف؟!
6 ـ وكيف تسقف تلك الحفرة وتموه، ولا يتناقل الناس أخبارها؟!
7 ـ هل كان (عليهالسلام ) يمر من هناك في الليل أو في النهار؟! فإن كان يمر عليها ليلاً فلا بد أن تسقف وتموه في النهار، ويرى أهل المحلة ذلك، وإن كان يمر نهاراً فلا بد أن يلتفت إلى التمويه، وإلى التغييرات الحاصلة، ويتساءل عن السبب إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة.
حديث تبوك خلاصة أوضح:
وقد روي حديث تبوك، وما جرى فيها مما له ارتباط بعلي (عليهالسلام ) بنحو أوضح وأصرح، فقد جاء في التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليهالسلام )، ما يلي:
قال موسى بن جعفر (عليهالسلام ): ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد
(صلىاللهعليهوآله ) بعد موت سعد بن معاذ، وبعد انطلاق محمد (صلىاللهعليهوآله ) إلى تبوك، أبا عامر الراهب أميراً ورئيساً، وبايعوا له، وتواطأوا على إنهاب المدينة، وسبي ذراري رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وسائر أهله وصحابته، ودبروا التبييت على محمد، ليقتلوه في طريقه إلى تبوك.
فأحسن الله الدفاع عن محمد (صلىاللهعليهوآله )، وفضح المنافقين وأخزاهم، وذلك أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قال: (لتسلكن سبل من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه).
قالوا: يا ابن رسول الله، من كان هذا العجل؟!(1) وماذا كان هذا التدبير؟!
فقال (عليهالسلام ): اعلموا أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) كان يأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكان ملك تلك النواحي، له مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بأنه يقصده، ويقتل أصحابه، ويبيد خضراءهم.
وكان أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) خائفين وجلين من قِبَله، حتى كانوا يتناوبون على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) كل يوم عشرون منهم، وكلما صاح صائح ظنوا أنه قد طلع أوائل رجاله وأصحابه.
وأكثر المنافقون الأراجيف والأكاذيب، وجعلوا يتخللون أصحاب
____________
1- العجل: هو وصف أبي عامر الراهب.. الذي شبهوه بعجل بني إسرائيل الذي فتنهم.
محمد (صلىاللهعليهوآله )، ويقولون: إن أكيدر قد أعد من الرجال كذا، ومن الكراع كذا، ومن المال كذا، وقد نادى فيما يليه من ولايته: ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة.
ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم: فأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟! يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها، ويسبي ذراريها ونساءها.
حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين، فشكوا إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ما هم عليه من الخدع.
ثم إن المنافقين اتفقوا، وبايعوا أبا عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) الفاسق، وجعلوه أميراً عليهم، وبخعوا له بالطاعة، فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة، لئلا أتهم بتدبيركم.
وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل، ليقصد المدينة، ليكونوا هم عليه، وهو يقصدهم، فيصطلموه(1) .
فأوحى الله إلى محمد (صلىاللهعليهوآله )، وعرَّفه ما اجتمعوا عليه من أمرهم، وأمره بالمسير إلى تبوك.
وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) إذا أراد غزواً ورَّى بغيره إلا غزاة تبوك، فإنه أظهر ما كان يريده، وأمرهم أن يتزودوا لها، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون، وذمهم الله تعالى في تثبيطهم عنها.
____________
1- الضمير يعود إلى رسول الله ( صلىاللهعليهوآله ).
وأظهر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ما أوحي إليه أن (الله) سيظفره بأكيدر، حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية من ذهب في صفر، وألف أوقية من ذهب في رجب، ومائتي حلة في صفر، ومائتي حلة في رجب، وينصرف سالماً إلى ثمانين يوماً.
فقال لهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (إن موسى وعد قومه أربعين ليلة، وإني أعدكم ثمانين ليلة، ثم أرجع سالماً غانماً، ظافراً بلا حرب يكون، ولا أحد يستأسر من المؤمنين.
فقال المنافقون: لا والله، ولكنها آخر كسراته التي لا ينجبر بعدها، إن أصحابه ليموت بعضهم في هذا الحر، ورياح البوادي، ومياه المواضع المؤذية الفاسدة، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر، وقتيل وجريح.
واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها، بعضهم يعتلّ بالحر، وبعضهم بمرض يجده، وبعضهم بمرض عياله، وكان يأذن لهم.
فلما صح عزم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على الرحلة إلى تبوك عمد هؤلاء المنافقون فبنوا مسجداً خارج المدينة، وهو مسجد الضرار، يريدون الإجتماع فيه، ويوهمون أنه للصلاة، وإنما كان ليجتمعوا فيه لعلة الصلاة، فيتم لهم به ما يريدون.
ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك، وإنا نكره الصلاة في غير جماعة، ويصعب علينا الحضور، وقد بنينا مسجداً، فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه، لنتيمَّن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك.
فلم يعرّفهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ما عرّفه الله من أمرهم ونفاقهم، وقال: ائتوني بحماري.
فأتي باليعفور، فركبه يريد نحو مسجدهم، فكلما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش، فإذا صرف رأسه إلى غيره، سار أحسن سير وأطيبه.
قالوا: لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئاً كرهه، فلذلك لا ينبعث نحوه.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (إيتوني بفرس (فأتي به)، فركبه، فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك، حتى إذا ولوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير.
فقالوا: لعل هذا الفرس قد كره شيئاً في هذا الطريق.
فقال: تعالوا نمش إليه، فلما تعاطى هو و أصحابه المشي نحو المسجد جفوا في مواضعهم، ولم يقدروا على الحركة، و إذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم، وحنت أبدانهم، ونشطت قلوبهم.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): إن هذا أمر قد كرهه الله، فليس يريده الآن، وأنا على جناح سفر، فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله تعالى، ثم أنظر في هذا نظرا يرضاه الله تعالى.
وجدَّ في العزم على الخروج إلى تبوك، وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا، فأوحى الله تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: (إما أن تخرج أنت ويقيم علي، وإما أن يخرج علي وتقيم أنت).
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (ذاك لعلي).
فقال علي (عليهالسلام ): السمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله، وإن كنت أحب أن لا أتخلف عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في حال من الأحوال.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟!
فقال: رضيت يا رسول الله.
فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (يا أبا الحسن! إن لك أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة، وإن الله قد جعلك أمة وحدك، كما جعل إبراهيم أمة، تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين.
فلما خرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وشيعه علي (عليهالسلام ) خاض المنافقون وقالوا: إنما خلفه محمد بالمدينة لبغضه له، وملاله منه، وما أراد بذلك إلا أن يبيته المنافقون فيقتلوه، ويحاربوه فيهلكوه.
فاتصل ذلك برسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فقال علي (عليهالسلام ): تسمع ما يقولون يا رسول الله؟!
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني، ونور بصري، وكالروح في بدني.
ثم سار رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بأصحابه، وأقام علي (عليهالسلام ) بالمدينة، وكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي (عليهالسلام )، وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك،
وجعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرة محمد التي لا يؤوب منها.
فلما صار بين رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وبين أكيدر مرحلة قال تلك العشية: يا زبير بن العوام، يا سماك بن خرشة، امضيا في عشرين من المسلمين إلى باب قصر أكيدر، فخذاه، وائتياني به.
قال الزبير: وكيف يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) نأتيك به ومعه من الجيش الذي قد علمت، ومعه في قصره ـ سوى حشمه ـ ألف ما دون عبد وأمة وخادم؟!
قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): تحتالان عليه، وتأخذانه.
قال: يا رسول الله، وكيف وهذه ليلة قمراء، وطريقنا أرض ملساء، ونحن في الصحراء لا نخفى؟!
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أتحبان أن يستركما الله عن عيونهم، ولا يجعل لكما ظلاً إذا سرتما، ويجعل لكما نوراً كنور القمر لا تتبينان منه؟!
قالا: بلى.
قال: (عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين، معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب، وتعتقد يا زبير أنت خاصة أن لا يكون علي (عليهالسلام ) في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم، ليس لأحد أن يتقدمه.
فإذا أنتما فعلتما ذلك، وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره، فإن الله سيبعث الغزلان والأوعال إلى بابه، فتحك قرونها به، فيقول: من لمحمد في مثل هذا؟! فيركب فرسه لينزل فيصطاد.
فتقول له امرأته: إياك والخروج، فإن محمداً قد أناخ بفنائك، ولست آمن أن يحتال عليك، ودس من يغزونك.
فيقول لها: إليك عني، فلو كان أحد يفصل عنه في هذه الليلة لتلقاه في هذا القمر عيون أصحابنا في الطريق. وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها، فلو كان في ظل قصرنا هذا إنسي لنفرت منه الوحش.
فينزل ليصطاد الغزلان والأوعال، فتهرب من بين يديه، ويتبعها فتحيطان به وتأخذانه).
وكان كما قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأخذوه، فقال: لي إليكم حاجة.
قالوا: ما هي؟! فإنا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك.
قال: تنزعون عني ثوبي هذا، وسيفي ومنطقتي، وتحملونها إليه، وتحملوني في قميصي، لئلا يراني في هذا الزي، بل يراني في زي تواضع، فلعله أن يرحمني.
ففعلوا ذلك، فجعل المسلمون والأعراب يلبسون ذلك الثوب ويقولون: هذا من حلل الجنة، وهذا من حلي الجنة يا رسول الله؟!
قال: (لا، ولكنه ثوب أكيدر، وسيفه ومنطقته، ولمنديل ابن عمتي الزبير وسماك في الجنة أفضل من هذا، إن استقاما على ما أمضيا من عهدي إلى أن يلقياني عند حوضي في المحشر.
قالوا: وذلك أفضل من هذا؟!
قال: بل خيط من منديل بأيديهما في الجنة أفضل من ملء الأرض إلى