الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٦
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 329
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 329
ولم يخبرهم بما سيكون حالهم معه، وحاله معهم، ربما لكي لا تتوهم الجبرية في جريان الأمور.. وليفهمهم أن الأمر بيدهم، فإن التزموا طريق الإستقامة على جادة الحق، والسداد في الأقوال والأفعال ربحوا، وإلا فسينالهم ما نال قوم صالح حين عقروا الناقة، ولا يعبأ الله بعذابهم شيئاً.
ثم قدم لهم دليلاً حسياً، فأخبرهم بما يجري في تلك الليلة مباشرة، مما لا يمكن أن يعلمه أحد إلا الله تعالى.. ثم أمرهم بأمره، ثم ظهر صدق كلامه في تلك الليلة بالذات، وجرى عليهم نفس ما وصفه لهم..
التوضيح.. والتطبيق:
وحين نتصفح تاريخ أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فإننا لا نجد فيهم من كان يخبر بما كان وما يكون غير علي (عليهالسلام )، وقد بلغ من كثرة أخباره أن صاروا يتهمونه بالكذب والعياذ بالله، فقد:
1 ـ سمع أعشى همدان (وهو غلام) حديثه (عليهالسلام )، فاعتبره حديث خرافة(1) .
2 ـ وكان قوم تحت منبره (عليهالسلام )، فذكر لهم الملاحم، فقالوا: قاتله الله، ما أفصحه كاذباً(2) ..
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص289 وبحار الأنوار ج34 ص299 وج41 ص341.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص136.
وهناك قضية أخرى تشبه هذه القضية أيضاً، فراجعها(1) ..
3 ـ وحين أخبر الناس بأنه لو كسرت له الوسادة لحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، وما من آية إلا وهو يعلم أين ومتى، وفي من نزلت.
قال رجل من القعود تحت منبره: يا لله وللدعوى الكاذبة(2) !!
4 ـ وكان ميثم التمار يحدث ببعض العلوم والأسرار الخفية، فيشك قوم من أهل الكوفة، وينسبون أمير المؤمنين (عليهالسلام ) إلى المخرقة، والإيهام، والتدليس الخ(3) ..
5 ـ وقال (عليهالسلام ): (والله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة، ثم لو شئت لحدثتكم إلى أن تغيب الشمس، لا أخبركم إلا حقاً، ثم لتخرجن فتزعمن: أني أكذب الناس وأفجرهم..)(4) .
6 ـ وقال مخاطباً أهل العراق: (ولقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب! قاتلكم الله)(5) ..
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص136.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص136.
3- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص291 وبحار الأنوار ج34 ص302.
4- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص128.
5- راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص119 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص99 والإختصاص ص155 عن كتاب ابن دأب، والإرشاد للمفيد = = ص162 والفصول المختارة ص262 والإحتجاج ج1 ص255 وينابيع المودة ج3 ص435 وبحار الأنوار ج34 ص103 و 136 وج35 ص421 وج38 ص269 وج40 ص111 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص127 ونهج الإيمان ص164 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ( عليهالسلام ) ج1 ص321.
7 ـ وقد تحدث ابن أبي الحديد عن أن قوماً من عسكر أمير المؤمنين (عليهالسلام ) كانوا يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي (صلىاللهعليهوآله ) من أخبار الملاحم، والغائبات. وقد كان شك منهم جماعة في أقواله، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة(1) ..
ملاحظات سديدة ومفيدة:
1 ـ إن الذي يملك علم ما كان وما يكون ليس إنساناً عادياً، لأن هذا العلم ليس مما يتداوله الناس، بل هو علم خاص، لرجل له طريق إلى الغيب، الذي يدرك الناس أن الله لم يطلع عليه أحداً سوى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
2 ـ إن هذا العلم هو ما نسميه بعلم الإمامة.. وهو أحد سبيلين يمكن معرفة الإمام بهما، هما: الإخبار بالغيب.. والنص..
وهناك أمور أخرى، مثل أن يتولى ما لا يصح لغير الإمام أن يتولاه، وكذلك الحال بالنسبة للتصرفات التي لا يقدر عليها إلا نبي أو وصي،
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص286.
ولهذا البحث مجال آخر.
3 ـ إن التعامل مع هذا الشخص يجب أن يكون بانتهاج سبيل الإستقامة والسداد، وإذا لم تفعل الأمة ذلك، فإنها تعرض نفسها للغضب وللعذاب الإلهي..
4 ـ إن الذي كان غائباً عن ذلك الجمع كله الذي سار إلى تبوك هو الذي قال له النبي (صلىاللهعليهوآله ): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهو باب مدينة علمه.. في إشارة منه (صلىاللهعليهوآله ) إلى الشخص الذي يملك ذلك العلم الخاص ـ وهو علم الإمامة.
5 ـ ولا بد لنا أخيراً من أن نتذكر أن هذا الذي أبقاه النبي (صلىاللهعليهوآله ) بالمدينة هو الذي كان (صلىاللهعليهوآله ) يقول: إن قاتله شقيق عاقر ناقة صالح(1) .
وها هو النبي (صلىاللهعليهوآله ) يتحدث عن أنه (عليهالسلام ) باب
____________
1- راجع: العقد الفريد (ط دار الشرفية بمصر) ج2 ص210 والسيرة النبوية لابن هشام ج1 ص591 ط مصطفى الحلبي وإحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص332 عن بحر المناقب لابن حسنويه، ومقاصد المطالب ص11 والبدء والتاريخ ج5 ص61 ونهاية الأرب ج2 ص190 ومجمع الزوائد ج9 ص137 ومستدرك الحاكم ج3 ص113 وأسد الغابة ج4 ص33 وتلخيص المستدرك للذهبي ج3 ص113 ونظم درر السمطين ص126 والفصول المهمة لابن الصباغ ص113 والمناقب للخوارزمي ونور الأبصار (ط دار العامرة بمصر) ص98.
مدينة العلم، كما تحدث عن منزلته منه.. فهل يمكن أن يكون الذي سيخبرهم بالغيوب، ويتوعد النبي الأمة بالعذاب الإلهي، إن هي نابذته وخالفته، ولم تلتزم معه سبيل الإستقامة والسداد؟! هل يمكن أن يكون شخصاً آخر غير باب مدينة علم النبي (صلىاللهعليهوآله )، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى؟!
لماذا لم ينزل العذاب؟!:
وإنما لم ينزل العذاب على هذه الأمة كما نزلت على قوم صالح، مع أنها قد نابذت علياً (عليهالسلام ). لأن هذه المنابذة لم تكن من جميع الناس، بل كان خيار الأمة وصلحاؤها معه مغلوبين على أمرهم كما كان هو (عليهالسلام )، مغلوباً على أمره..
كما أن الكثيرين من الناس لم تقم الحجة عليهم في إمامته بعد، فلا يصح إنزال العذاب الشامل لهم قبل إقامة الحجة عليهم..
علي (عليهالسلام ) في توصيات قيصر:
وتذكر الروايات: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، فأرسل قيصر رجلاً من غسان، وأمره أن يلاحظ في النبي أموراً ثلاثة، ويحفظها ليخبره بها حين يعود.. والأمور الثلاثة هي:
1 ـ من الذي يجلس عن يمين النبي (صلىاللهعليهوآله ).
2 ـ وعلى أي شيء يجلس.
3 ـ وخاتم النبوة.
فوجد الغساني رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يجلس على الأرض.
وكان علي (عليهالسلام ) عن يمينه.
ونسي الغساني الثالثة، فقال له (صلىاللهعليهوآله ): تعال، فانظر إلى ما أمرك به صاحبك.
فنظر إلى خاتم النبوة.
فعاد إلى هرقل فأخبره بما رأى وجرى، فقال: هذا الذي بشر به عيسى بن مريم أنه يركب البعير، فاتبعوه، وصدقوه.
ثم قال للرسول: اخرج إلى أخي فاعرض عليه، فإنه شريكي في الملك.
فقلت له: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه(1) .
ونقول:
أولاً: روى آخرون ما يقرب من هذه الرواية، ولكنهم قالوا: إن ذلك قد حصل في غزوة تبوك.. كما أن ما طلبه قيصر من رسوله قد اختلف عما في هذه الرواية ما عدا ذكر خاتم النبوة.. وتلك الرواية لا تخلوا عن إشكالات لا تشجع على اعتمادها، ومنها أنها تقول: إن أول وصية لقيصر إلى رسوله هي: هل يذكر صحيفته التي كتب إلي بشيء؟!..
فإن هذا ليس مما يمتحن به الأنبياء..
____________
1- الخرائج والجرائح ج1 ص104 وبحار الأنوار ج20 ص378 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص532.
بالإضافة إلى ملاحظات أخرى ذكرناها في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) ج30.. فراجع..
ومهما يكن من أمر، فإن مجيء رسول قيصر كان إلى المدينة وفق الرواية التي ذكرناها، لأنها تذكر جلوس علي (عليهالسلام ) عن يمين النبي (صلىاللهعليهوآله )، وعلي (عليهالسلام ) لم يكن في تبوك..
ثانياً: لم تذكر هذه الرواية سبب طلب قيصر معرفة من يجلس على يمين النبي (صلىاللهعليهوآله ).. إلا أن من الواضح: أن المقصود هو معرفة نبوة النبي (صلىاللهعليهوآله ) من خلال معرفة اسم وصيه، لأنهما معاً مذكوران في كتب أهل الكتاب، لأن اسم النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد يتعدد في أسماء الرجال، لكن اقترانه باسم وصيه، الذي يفترض أن يكون جلوسه على يمينه (صلىاللهعليهوآله ) يزيد الأمر وضوحاً، فإذا انضم إلى العلامات السلوكية والخَلْقِيّة، فلا مجال بعد هذا لأي شك أو شبهة في نبوته..
ثالثاً: قد لوحظ: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أضاف لذلك الرسول علامة أخرى، لعلها هي الأصرح والأوضح، وهي أنه أخبره بما دار بينه وبين صاحبه الذي أرسله، وحقيقة ما أوصاه به..
رابعاً: لا معنى لقول ذلك الرسول في آخر الرواية: فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه، فإن قبول الإسلام لا يعني ذهاب الملك. وقد أسلم النجاشي، ولم يذهب ملكه، لأنه تصرف بحكمة وروية.. وحتى لو ذهب ملك الدنيا منه، فهل يقاس بملك الآخرة؟!
كتاب النبي (صلىاللهعليهوآله ) لأهل مقنا:
ذكر المؤرخون: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كتب ـ وهو في تبوك ـ إلى أهل مقنا كتاباً يصالحهم فيه على ثمارهم وغيرها.. وفي الرواية أن الكاتب لهذا الكتاب هوعلي بن أبي طالب (عليهالسلام ).
غير أن ذلك غير دقيق، لأن علياً (عليهالسلام ) لم يحضر غزوة تبوك، بل بقي في المدينة. فلعلهم وفدوا إلى النبي (صلىاللهعليهوآله ) مرتين مرة إلى تبوك، ولم يكتب لهم شيئاً، ومرة إلى المدينة، فكتب لهم كتاب الصلح، وكان بخط علي (عليهالسلام ). ولعل بعض الرواة خلط بينهما، حيث ظن أنه كتب لهم الكتاب في نفس قدومهم الأول.
تبوك بنحو آخر.. وأسر أكيدر..
محاولة قتل علي (عليهالسلام ) في المدينة:
ذكر المؤرخون: أن المنافقين حاولوا قتل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بواسطة تنفير ناقته به لتطرحه إلى الوادي، وذلك حين عودته من تبوك إلى المدينة.. وذكرت بعض الروايات: أن هذه القضية قد حصلت بعد حادثة الغدير، وذلك في طريق عودته من حجة الوداع إلى المدينة.. ونرجح نحن هذا، غير أننا نورد القضية هنا وفق ما جرى عليه المؤرخون.
ويذكرون هنا أيضاً أمراً آخر، وهو: أن محاولة بذلت لقتل علي (عليهالسلام ) في المدينة حين كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) في تبوك..
وملخص ما ذكروه هنا:
أن بعض الروايات تقول: إن المنافقين كانوا قد دبروا لقتل علي (عليهالسلام ) في تبوك كما دبروا لقتل النبي (صلىاللهعليهوآله ) في العقبة، وذلك بأن حفروا في طريق علي (عليهالسلام ) في المدينة حفيرة طويلة بقدر خمسين ذراعاً، وقد عمقوها، ثم غطوها بحصر، ثم وضعوا فوقها يسيراً من التراب، فإذا وقع فيها كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.
وقد أنجاه الله تعالى من كيدهم بكرامة منه، وعرَّفه أسماء تلك الجماعة التي فعلت ذلك، وأعلنها له، وهم عشرة، كانوا قد تواطأوا مع الأربعة
والعشرين، الذين دبروا لقتل رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في العقبة.
ثم تذكر الرواية حديث العقبة، وأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) نزل بإزائها، وأخبر الناس بما جرى على علي (عليهالسلام ).. ثم أمرهم بالرحيل، وأمر مناديه فنادى: ألا لا يسبقن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أحد على العقبة، ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة، فينظر من يمر به، وأمره أن يتشبه بحجر، الخ..
ونقول:
لا بأس بملاحظة ما يلي:
1 ـ كانت المدينة بلداً صغيراً قليل السكان، وبيوتها متلاصقة، وحفر حفرة في أي طريق في بلد كهذا، لا بد أن يكون بمرأى ومسمع من الناس، ولا سيما الذين يسكنون في ذلك المحيط، فضلاً عن أنه سيرى ذلك الرجال والنساء والأطفال.
2 ـ إن حفرة مداها خمسون ذراعاً تحتاج إلى أن يعمل العشرات فيها، وإلى وقت طويل لإنجازها.. كما أن التراب المستخرج منها يحتاج إلى مكان يرمى فيه، وأن يتناسب مع حجمه..
3 ـ هل لم يكن أحد من أهل الإيمان قد رأى ما يجري في تلك المحلة، وبادر إلى إخبار علي (عليهالسلام )؟!
وهل لم يتساءلوا عن المقصود بهذا العمل الكبير والخطير؟!
4 ـ هل كان علي (عليهالسلام ) يتجول في طرقات المدينة التي يتولاها
ومنها ذلك الطريق؟! وكيف تأكد لديهم حتمية مروره من نفس ذلك المكان، لكي يحل به ما خططوا له، فإن كان يمر في كل يوم، فلماذا لم يرهم يحفرون ويشتغلون؟! ولماذا لا يسألهم عما يفعلونه؟!
وإن كانوا قد حفروا هذه الحفرة في يوم واحد، فالسؤال هو: هل يكفي يوم واحد، خمسين ذراعاً؟!
5 ـ وإن كان يمر فيها مرة خلال عدة أيام، وبصورة منتظمة، فهل لم يكن يمر أحد في ذلك الطريق أحد سواه ليقع في تلك الحفرة؟!
أم أنهم كانوا يمنعون الناس من المرور في ذلك الطريق؟! ولو لم يمر فيها علي (عليهالسلام ) هل كانوا سيلجئونه إلى ذلك؟! وكيف؟!
6 ـ وكيف تسقف تلك الحفرة وتموه، ولا يتناقل الناس أخبارها؟!
7 ـ هل كان (عليهالسلام ) يمر من هناك في الليل أو في النهار؟! فإن كان يمر عليها ليلاً فلا بد أن تسقف وتموه في النهار، ويرى أهل المحلة ذلك، وإن كان يمر نهاراً فلا بد أن يلتفت إلى التمويه، وإلى التغييرات الحاصلة، ويتساءل عن السبب إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة.
حديث تبوك خلاصة أوضح:
وقد روي حديث تبوك، وما جرى فيها مما له ارتباط بعلي (عليهالسلام ) بنحو أوضح وأصرح، فقد جاء في التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليهالسلام )، ما يلي:
قال موسى بن جعفر (عليهالسلام ): ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد
(صلىاللهعليهوآله ) بعد موت سعد بن معاذ، وبعد انطلاق محمد (صلىاللهعليهوآله ) إلى تبوك، أبا عامر الراهب أميراً ورئيساً، وبايعوا له، وتواطأوا على إنهاب المدينة، وسبي ذراري رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وسائر أهله وصحابته، ودبروا التبييت على محمد، ليقتلوه في طريقه إلى تبوك.
فأحسن الله الدفاع عن محمد (صلىاللهعليهوآله )، وفضح المنافقين وأخزاهم، وذلك أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قال: (لتسلكن سبل من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه).
قالوا: يا ابن رسول الله، من كان هذا العجل؟!(1) وماذا كان هذا التدبير؟!
فقال (عليهالسلام ): اعلموا أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) كان يأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل، وكان ملك تلك النواحي، له مملكة عظيمة مما يلي الشام، وكان يهدد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بأنه يقصده، ويقتل أصحابه، ويبيد خضراءهم.
وكان أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) خائفين وجلين من قِبَله، حتى كانوا يتناوبون على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) كل يوم عشرون منهم، وكلما صاح صائح ظنوا أنه قد طلع أوائل رجاله وأصحابه.
وأكثر المنافقون الأراجيف والأكاذيب، وجعلوا يتخللون أصحاب
____________
1- العجل: هو وصف أبي عامر الراهب.. الذي شبهوه بعجل بني إسرائيل الذي فتنهم.
محمد (صلىاللهعليهوآله )، ويقولون: إن أكيدر قد أعد من الرجال كذا، ومن الكراع كذا، ومن المال كذا، وقد نادى فيما يليه من ولايته: ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة.
ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم: فأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟! يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها، ويسبي ذراريها ونساءها.
حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين، فشكوا إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ما هم عليه من الخدع.
ثم إن المنافقين اتفقوا، وبايعوا أبا عامر الراهب الذي سماه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) الفاسق، وجعلوه أميراً عليهم، وبخعوا له بالطاعة، فقال لهم: الرأي أن أغيب عن المدينة، لئلا أتهم بتدبيركم.
وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل، ليقصد المدينة، ليكونوا هم عليه، وهو يقصدهم، فيصطلموه(1) .
فأوحى الله إلى محمد (صلىاللهعليهوآله )، وعرَّفه ما اجتمعوا عليه من أمرهم، وأمره بالمسير إلى تبوك.
وكان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) إذا أراد غزواً ورَّى بغيره إلا غزاة تبوك، فإنه أظهر ما كان يريده، وأمرهم أن يتزودوا لها، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون، وذمهم الله تعالى في تثبيطهم عنها.
____________
1- الضمير يعود إلى رسول الله ( صلىاللهعليهوآله ).
وأظهر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ما أوحي إليه أن (الله) سيظفره بأكيدر، حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية من ذهب في صفر، وألف أوقية من ذهب في رجب، ومائتي حلة في صفر، ومائتي حلة في رجب، وينصرف سالماً إلى ثمانين يوماً.
فقال لهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (إن موسى وعد قومه أربعين ليلة، وإني أعدكم ثمانين ليلة، ثم أرجع سالماً غانماً، ظافراً بلا حرب يكون، ولا أحد يستأسر من المؤمنين.
فقال المنافقون: لا والله، ولكنها آخر كسراته التي لا ينجبر بعدها، إن أصحابه ليموت بعضهم في هذا الحر، ورياح البوادي، ومياه المواضع المؤذية الفاسدة، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر، وقتيل وجريح.
واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها، بعضهم يعتلّ بالحر، وبعضهم بمرض يجده، وبعضهم بمرض عياله، وكان يأذن لهم.
فلما صح عزم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على الرحلة إلى تبوك عمد هؤلاء المنافقون فبنوا مسجداً خارج المدينة، وهو مسجد الضرار، يريدون الإجتماع فيه، ويوهمون أنه للصلاة، وإنما كان ليجتمعوا فيه لعلة الصلاة، فيتم لهم به ما يريدون.
ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك، وإنا نكره الصلاة في غير جماعة، ويصعب علينا الحضور، وقد بنينا مسجداً، فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه، لنتيمَّن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك.
فلم يعرّفهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ما عرّفه الله من أمرهم ونفاقهم، وقال: ائتوني بحماري.
فأتي باليعفور، فركبه يريد نحو مسجدهم، فكلما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش، فإذا صرف رأسه إلى غيره، سار أحسن سير وأطيبه.
قالوا: لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئاً كرهه، فلذلك لا ينبعث نحوه.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (إيتوني بفرس (فأتي به)، فركبه، فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك، حتى إذا ولوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير.
فقالوا: لعل هذا الفرس قد كره شيئاً في هذا الطريق.
فقال: تعالوا نمش إليه، فلما تعاطى هو و أصحابه المشي نحو المسجد جفوا في مواضعهم، ولم يقدروا على الحركة، و إذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم، وحنت أبدانهم، ونشطت قلوبهم.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): إن هذا أمر قد كرهه الله، فليس يريده الآن، وأنا على جناح سفر، فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله تعالى، ثم أنظر في هذا نظرا يرضاه الله تعالى.
وجدَّ في العزم على الخروج إلى تبوك، وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا، فأوحى الله تعالى إليه: يا محمد، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: (إما أن تخرج أنت ويقيم علي، وإما أن يخرج علي وتقيم أنت).
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (ذاك لعلي).
فقال علي (عليهالسلام ): السمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله، وإن كنت أحب أن لا أتخلف عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في حال من الأحوال.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟!
فقال: رضيت يا رسول الله.
فقال له رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (يا أبا الحسن! إن لك أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة، وإن الله قد جعلك أمة وحدك، كما جعل إبراهيم أمة، تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين.
فلما خرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وشيعه علي (عليهالسلام ) خاض المنافقون وقالوا: إنما خلفه محمد بالمدينة لبغضه له، وملاله منه، وما أراد بذلك إلا أن يبيته المنافقون فيقتلوه، ويحاربوه فيهلكوه.
فاتصل ذلك برسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فقال علي (عليهالسلام ): تسمع ما يقولون يا رسول الله؟!
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني، ونور بصري، وكالروح في بدني.
ثم سار رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بأصحابه، وأقام علي (عليهالسلام ) بالمدينة، وكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي (عليهالسلام )، وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك،
وجعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرة محمد التي لا يؤوب منها.
فلما صار بين رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وبين أكيدر مرحلة قال تلك العشية: يا زبير بن العوام، يا سماك بن خرشة، امضيا في عشرين من المسلمين إلى باب قصر أكيدر، فخذاه، وائتياني به.
قال الزبير: وكيف يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) نأتيك به ومعه من الجيش الذي قد علمت، ومعه في قصره ـ سوى حشمه ـ ألف ما دون عبد وأمة وخادم؟!
قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): تحتالان عليه، وتأخذانه.
قال: يا رسول الله، وكيف وهذه ليلة قمراء، وطريقنا أرض ملساء، ونحن في الصحراء لا نخفى؟!
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أتحبان أن يستركما الله عن عيونهم، ولا يجعل لكما ظلاً إذا سرتما، ويجعل لكما نوراً كنور القمر لا تتبينان منه؟!
قالا: بلى.
قال: (عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين، معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب، وتعتقد يا زبير أنت خاصة أن لا يكون علي (عليهالسلام ) في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم، ليس لأحد أن يتقدمه.
فإذا أنتما فعلتما ذلك، وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره، فإن الله سيبعث الغزلان والأوعال إلى بابه، فتحك قرونها به، فيقول: من لمحمد في مثل هذا؟! فيركب فرسه لينزل فيصطاد.
فتقول له امرأته: إياك والخروج، فإن محمداً قد أناخ بفنائك، ولست آمن أن يحتال عليك، ودس من يغزونك.
فيقول لها: إليك عني، فلو كان أحد يفصل عنه في هذه الليلة لتلقاه في هذا القمر عيون أصحابنا في الطريق. وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها، فلو كان في ظل قصرنا هذا إنسي لنفرت منه الوحش.
فينزل ليصطاد الغزلان والأوعال، فتهرب من بين يديه، ويتبعها فتحيطان به وتأخذانه).
وكان كما قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأخذوه، فقال: لي إليكم حاجة.
قالوا: ما هي؟! فإنا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك.
قال: تنزعون عني ثوبي هذا، وسيفي ومنطقتي، وتحملونها إليه، وتحملوني في قميصي، لئلا يراني في هذا الزي، بل يراني في زي تواضع، فلعله أن يرحمني.
ففعلوا ذلك، فجعل المسلمون والأعراب يلبسون ذلك الثوب ويقولون: هذا من حلل الجنة، وهذا من حلي الجنة يا رسول الله؟!
قال: (لا، ولكنه ثوب أكيدر، وسيفه ومنطقته، ولمنديل ابن عمتي الزبير وسماك في الجنة أفضل من هذا، إن استقاما على ما أمضيا من عهدي إلى أن يلقياني عند حوضي في المحشر.
قالوا: وذلك أفضل من هذا؟!
قال: بل خيط من منديل بأيديهما في الجنة أفضل من ملء الأرض إلى