وورد هذا المعنى في روايات أخرى أيضاً(١) .
____________
١- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ( صلىاللهعليهوآله ) ج٢٥ ص١٥٧ و١٥٨.
التشكيك بما قاله النبي (صلىاللهعليهوآله ):
وأغرب ما قرأناه: أن عمر بن الخطاب حين سمع قول النبي (صلىاللهعليهوآله ) عن علي (عليهالسلام ): بل الله انتجاه، بادر إلى القول: هذا كما قلت لنا قبل الحديبية لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، فلم تدخله وصددنا عنه..
فقال (صلىاللهعليهوآله ): لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام..
أي أن عمر يريد أن يقول: كما أن ذلك الوعد لم يتحقق، وكنت تتكلم من دون ضابطة، فإن قولك هذا: إن الله انتجى علياً (عليهالسلام )، ليس بصحيح أيضاً..
فإذا ظهر للناس أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) يخبر عن أشياء لا واقع لها، ثم قُدِّم لهم شاهد على ذلك، فلا بد أن يستقر هذا الأمر في أذهانهم وقلوبهم، وسيصعب اقتلاعه بعد ذلك: وهذا يؤدي إلى محق الإيمان بالنبوة في قلوبهم وعقولهم..
فاجابه النبي (صلىاللهعليهوآله ) بما دل على أن ذلك القائل أراد أن يوهم الناس بأمر لا واقع له، فإن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يقل: إن دخولهم مكة سيكون في ذلك العام، بل قال لهم: إنهم سوف يدخلونها من دون تحديد وقت، فلماذا ينسب إليه عمر ما لم يقله؟!
وهي إجابة واضحة، يفهمها كل أحد.. وهي تدين ذلك الرجل الذي اتهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بما لم يقله.. وتبقى هذه الإدانة ماثلة أمام أعين الأجيال والأحقاب، وتنبئ عن معان كان الأجدر بهم التسترُّ عليها.
إجابات النبي (صلىاللهعليهوآله ) أحرجتهم:
وهذه الإجابات النبوية عن أسباب المناجاة، ثم إبطاله التهمة العمرية هو السبب في سعي أتباع أولئك المعترضين على النبي (صلىاللهعليهوآله ) إلى التكتم على أسماء المعترضين عليه (صلىاللهعليهوآله )، كما تدل عليه تعابيرهم في رواياتهم، مثل قولهم:
فقال الناس.. فقالوا.. فقال ناس من أصحابه.. فقال رجل.. فقال بعض أصحابه.. فقال قوم.. حتى كره من الصحابة ذلك، فقال قائل منهم..
هذا بالإضافة إلى محاولاتهم إسقاط اعتراض عمر على النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأنه وعد بدخول مكة وجوابه (صلىاللهعليهوآله )..
تهديد أهل الطائف بعلي (عليهالسلام ):
عن المطلب بن عبد الله، عن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه: أنه (صلىاللهعليهوآله ) حاصر أهل الطائف إلى عشرة أو سبعة عشر يوماً، فلم يفتحها، ثم أوغل روحة أو غدوة، ثم نزل، ثم هجّر، فقال:
(أيها الناس، إني لكم فرط، وإن موعدكم الحوض، وأوصيكم بعترتي خيراً..).
ثم قال: (..والذي نفسي بيده، لتقيمنّ الصلاة، ولتأتنّ الزكاة، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً مني، أو كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتليكم، وليسبين ذراريكم).
فرأى أناس: أنه يعني أبا بكر أو عمر.
فأخذ بيد علي (عليهالسلام )، فقال: هو هذا.
قال المطلب بن عبد الله: فقلت لمصعب بن عبد الرحمن بن عوف: فما حمل أباك على ما صنع؟!
قال: أنا ـ والله ـ أعجب من ذلك(١) .
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ـ وقد قدم عليه وفد أهل الطائف ـ: يا أهل الطائف، والله لتقيمنّ الصلاة، ولتؤتنّ الزكاة أو لأبعثنّ إليكم رجلاً كنفسي، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يقصعكم بالسيف.
فتطاول لها أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأخذ بيد علي (عليهالسلام )، فأشالها، ثم قال: هو هذا.
فقال أبو بكر وعمر: ما رأينا كاليوم في الفضل قط(٢) .
ونقول:
____________
١- بحار الأنوار ج٢١ ص١٥٢ وج٤٠ ص٣٠ والأمالي للطوسي ص٥١٦ و (ط دار الثقافة) ص٥٠٤.
٢- أمالي الطوسي ص٥٩٠ و (ط دار الثقافة) ص٥٧٩ وبحار الأنوار ج٢١ ص١٧٩ و١٨٠ وج٣٨ ص٣٢٤ ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج١ ص٤٦٣ وج٢ ص٢٤ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( عليهالسلام ) في الكتاب والسنة والتاريخ ج١١ ص٢٢٤.
لا بد من ملاحظة الأمور التالية:
أفعال أفصح من الأقوال:
تضمنت النصوص المتقدمة:
١ ـ أنه (صلىاللهعليهوآله ) حاصر الطائف أسبوعين أو ثلاثة أو أكثر..
٢ ـ ثم إنه (صلىاللهعليهوآله ) أوغل روحة، أو غدوة.
٣ ـ ثم نزل.
٤ ـ ثم هجّر.
٥ ـ ثم أطلق تهديداته القوية: بأنه سوف يرميهم بعلي (عليهالسلام )، ليضرب أعناق مقاتليهم، ويسبي ذراريهم، أو يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة.. فما تفسير ذلك كله؟!
ونقول:
تظهر الإجابة على ذلك بالتأمل فيما يلي من نقاط:
١ ـ إن تحركات النبي (صلىاللهعليهوآله )، على النحو المشار إليه آنفاً، حيث كان يتركهم، ثم يعود إليهم.. روحة أو غدوة، ثم ينزل، ثم يهجر، أمر لم يعرفه الناس في الحروب آنئذٍ.. ولا سيما حين يكون التحرك في وقت الهاجرة.. فإن هذه التحركات كانت مرصودة من قبل أهل الطائف، ولا بد أنها كانت تثير دهشتهم وتساؤلاتهم، وتوقعهم في حيرة بالغة..
ولا بد أن تكون قد أفهمتهم أموراً كثيرة، أهونها أنهم غير متروكين،
وأن عليهم أن يتوقعوا مفاجأتهم في كل وقت، وزمان، فلا يمكنهم أن يأمنوا على أنفسهم بالخروج من حصونهم، والتخلي عن أسوارهم.. بل عليهم أن يبقوا في حالة تأهب وحذر.
كما لا بد أن تبقى ماشيتهم معهم، فلا يمكنهم تسريحها، ولا بد لها من أن تجد ما تأكله، ليمكنهم أن يستفيدوا منها في هذا الوقت الذي هم بأمس الحاجة إليها، كما أن عليهم أن يتدبروا أمرهم في إيجاد المؤن لأنفسهم، وربما ينفد منهم كل شيء.. ولا يبقى لهم حتى ماشيتهم.
٢ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) هددهم بأنهم إن لم يستجيبوا لنداء العقل، فسيرميهم بأخيه علي (عليهالسلام )، الذي هزمهم في حنين قبل أيام هزيمة مرة، وذليلة ومخزية، وقد كانوا عشرات الألوف، فهل يمكنهم الصمود الآن بعد أن تفرق ذلك الجمع عنهم؟!
٣ ـ إن قذائف المنجنيق أضرت بهم.. مع علمهم بأن علياً (عليهالسلام ) لم يشارك بعد في الحرب عليهم، بل هو لم يحضر بعد إلى ساحات النزال، لأنه كان منشغلاً بتطهير بعض الجهات من الجماعات الصغيرة المنتشرة في المنطقة، الأمر الذي يشير إلى أن المنطقة قد خرجت من أيديهم، ولم تعد قادرة على مد يد العون لهم..
٤ ـ إن عليهم أن يتوقعوا أن مصيبتهم الكبرى ستكون حين يأذن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ) بمناجزتهم.. فإنه لا شيء يصده عن إنزال عقاب الله فيهم، وسوف لا تغني عنهم حصونهم شيئاً، كما لم تفد حصون قريظة وخيبر أهلها شيئاً.
ولأجل ذلك هددهم بأن يبعث عليهم رجلاً منه كنفسه، يضرب أعناق مقاتليهم، ويسبى ذراريهم.
٥ ـ وقد اقتصر (صلىاللهعليهوآله ) على هذين الأمرين: قتل المقاتلين، وسبي الذراري.. على قاعدة:( رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً ) (١) ، والمطلوب هو التخلص من الظلم، وقطع دابر الظالمين، وإفساح المجال للناس ـ من غير المصرين على القتال ـ ليمارسوا حريتهم في اختيار معتقداتهم، استناداً إلى الدليل القاطع للعذر، وليختاروا طريقة عيشهم بأنفسهم.
٦ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يصرح بإسم الذي يريد أن يرميهم به.. ووصفه بأوصاف جليلة وجميلة، ليطلق الناس العنان لخيالهم في التعرف على ذلك الشخص، ويتلمسوا تلك الميزات في هذا، ثم في ذاك، حتى يجدوها بأنفسهم في صاحبها المعهود والمقصود.. بعد أن يكونوا قد استحضروا ميزات هذا وذاك من الطامحين والطامعين..
٧ ـ ولكن هذا الإبهام لم يدم طويلاً حيث جاءت المطالبة بالتصريح بإسمه، فصرح لهم بذلك الإسم الشريف.. الأمر الذي حمل المطلب بن عبد الله على أن يسأل مصعب بن عبد الرحمان بن عوف فقال: فما حمل أباك على ما صنع.
فقال مصعب: وأنا والله أعجب من ذلك.
____________
١- الآيتان ٢٦ و ٢٧ من سورة نوح.
أي أنه سأله عن سبب عدم مبايعة عبد الرحمان بن عوف لعلي (عليهالسلام ) بالخلافة، وتقديم عثمان عليه في يوم الشورى العمرية! إذا كان يعلم أن ذلك جرى له، فإن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قد قال فيه ما قال..
فلم يجد عنده جواباً معقولاً، لأن الجواب المعقول لا يسعده، فإن السبب الحقيقي هو الطمع وعدم الورع..
فك الحصار لتسهيل الإستسلام:
وعن الإمام الصادق (عليهالسلام ) أنه (صلىاللهعليهوآله ) لما واقع ـ وربما قال: فزغ(١) ـ رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من هوازن، سار حتى نزل الطائف، فحصر أهل وجٍ(٢) أياماً، فسأله القوم أن يبرح عنهم ليقدم عليه وفدهم، فيشترط له، ويشترطون لأنفسهم.
فسار حتى نزل مكة، فقدم عليه نفر منهم باسلام قومهم. ولم يبخع القوم له بالصلاة ولا الزكاة.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): إنه لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود. أما والذي نفسي بيده ليقيمُنّ الصلاة، وليؤتُنّ الزكاة، أو لأبعثنّ إليهم رجلاً هو مني كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتليهم، وليسبينّ ذراريهم، وهو هذا.
____________
١- الصحيح: فرغ.
٢- وجّ: موضع بناحية الطائف. أو اسم جامع حصونها. أو اسم واحد منها.
وأخذ بيد علي (عليهالسلام ) فأشالها.
فلما صار القوم إلى قومهم بالطائف أخبروهم بما سمعوا من رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأقروا له بالصلاة، وأقروا له بما شرط عليهم.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): ما استعصى عليّ أهل مملكة، ولا أمة إلا رميتهم بسهم الله عز وجل.
قالوا: يا رسول الله: وما سهم الله؟!
قال: علي بن أبي طالب. ما بعثته في سرية إلا رأيت جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وملكاً أمامه، وسحابة تظله، حتى يعطي الله عز وجل حبيبي النصر والظفر(١) .
وهذا معناه: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد حقق نصراً عظيماً، يوازي ما حققه في غزوة الخندق وخيبر وسواهما..
ويدل على ذلك أيضاً: ما تقدم من أنه (صلىاللهعليهوآله ) قد قال لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا عن الطائف: (قولوا: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب
____________
١- الأمالي للطوسي ص٥١٦ و٥١٧ و (ط دار الثقافة ـ قم) ص٥٠٥ وبحار الأنوار ج٢١ ص١٥٣ وج٣٨ ص٣٠٥ وج٣٩ ص١٠١ وج٤٠ ص٣٢ ومستدرك سفينة البحار ج٥ ص٣١٥ ومناقب أمير المؤمنين ( عليهالسلام ) ج١ ص٣٥٩ وشرح الأخبار ج٢ ص٤١٤ والثاقب في المناقب ص١٢١ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٦٧ و ٧٧ ومدينة المعاجز ج٢ ص٣٠٨.
وحده)(١) .
فلو لم يكونوا منتصرين كانتصار يوم الأحزاب، لم يكن وجه لأمرهم بأن يقولـوا ذلك، فإن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لا يطلق الشعـارات جزافاً.
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٣٨٨ عن الواقدي، وتاريخ الخميس ج٢ ص١١٢ والسيرة النبوية لدحلان ج٢ ص١١٤ وراجع المصادر المتقدمة.
إلى تـبـوك..
آل حاتم الطائي عند رسول الله (صلىاللهعليهوآله )..
هدم صنم طيء: الفُلْس:
قالوا: وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسع بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) في خمسين ومائة رجل ـ أو مائتين كما ذكره ابن سعد ـ من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفلس، ليهدمه.
فأغاروا على أحياء من العرب، وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخربوه، وملأوا أيديهم من السبي، والنعم، والشاء.
وكان في السبي سفانة أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام.
ووجد في خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رسوب، والمخذم ـ كان الحارث بن أبي شمر قلده إياهما ـ وسيف يقال له: اليماني، وثلاثة أدرع (وكان عليه ثياب يلبسونه إياها).
واستعمل علي (عليهالسلام ) على السبي أبا قتادة، واستعمل على الماشية والرثة عبد الله بن عتيك.
فلما نزلوا ركك (أحد أجبال طي) اقتسموا الغنائم، وعزلوا للنبي (صلىاللهعليهوآله ) صفياً: رسوباً والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس.
وعزل آل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة.
ومرَّ النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأخت عدي بن حاتم، فقامت إليه وكلمته: أن يمن عليها.
فمنّ عليها، فأسلمت، وخرجت إلى أخيها، فأشارت عليه بالقدوم على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فقدم عليه(١) .
وذكر ابن سعد في الوفود: أن الذي أغار، وسبى ابنة حاتم هو خالد بن الوليد(٢) .
والفُلْس ـ بضم الفاء، وسكون اللام ـ: صنم لطيء ومن يليها(٣) .
____________
١- راجع: سبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢١٨ والمغازي للواقدي ج٣ ص٩٨٤ و ٩٨٥ والسيرة الحلبية ج٣ ص٢٠٥ وراجع: المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج٤ ص٤٨ و ٤٩ و ٥٠ وتاريخ الخميس ج٢ ص١٢٠ و ١٢١ والإصابة ج٤ ص٣٢٩ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج٦٩ ص١٩٤ ـ ٢٠٣ وإحقاق الحق (الملحقات) ج٢٣ ص٢٣٤ ـ ٢٣٧ وراجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج٢ ص١٦٤ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٢ ص٦٢٤ وإمتاع الأسماع ج٢ ص٤٥.
٢- راجع: سبل الهدى والرشاد ج٦ ص٢١٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج١ ص٣٢٢ وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج٦٩ ص١٩٣.
٣- شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج٤ ص٤٨ وراجع: معجم البلدان ج٤ ص٢٧٣ وج٥ ص٢٠٥ وتخريج الأحاديث والآثار ج٢ ص١٩٤ والطبقات الكـبرى = = لابن سعد ج١ ص٣٢٢ وج٢ ص١٦٤ وتاريخ مدينة دمشق ج٦٩ ص١٩٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٢ ص٦٢٤ وإمتاع الأسماع ج٢ ص٤٥ و ١٤٢.
وفي نص آخر ذكره الواقدي:
أن علياً (عليهالسلام ) دفع رايته إلى سهل بن حنيف، ولواءه إلى جبار بن صخر السلمي، وخرج بدليل من بني أسد يقال له: حريث، فسلك بهم على طريق فيد (جبل)، فلما انتهى بهم إلى موضعٍ قال: بينكم وبين الحيّ الذي تريدون يوم تام، وإن سرناه بالنهار وطئنا أطرافهم ورعاءهم، فأنذروا الحيّ، فتفرقوا، فلم تصيبوا منهم حاجتكم، ولكن نقيم يومنا هذا في موضعنا حتى نمسي، ثم نسري ليلتنا على متون الخيل، فنجعلها غارة حتى نصبحهم في عماية الصبح.
قالوا: هذا الرأي!
فعسكروا، وسرحوا الإبل، واصطنعوا، وبعثوا نفراً منهم يتقصّون ما حولهم، فبعثوا أبا قتادة، والحباب بن المنذر، وأبا نائلة، فخرجوا على متون خيل لهم يطوفون حول المعسكر، فأصابوا غلاماً أسود، فقالوا: ما أنت؟!
قال: أطلب بغيتي.
فأتوا به علياً (عليهالسلام )، فقال: ما أنت؟!
قال: باغ.
قال: فشدوا عليه.
فقال: أنا غلام لرجل من طيء من بني نبهان، أمروني بهذا الموضع
وقالوا: إن رأيت خيل محمد فطر إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك أسراً(١) (شراً)، فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم، ثم قلت: لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بيِّن، من عددكم وعدد خيلكم، ورقابكم، ولا أخشى ما أصابني، فلكأني كنت مقيداً حتى أخذتني طلائعكم.
قال علي (عليهالسلام ): أصدقنا ما وراءك.
قال: أوائل الحيّ على مسيرة ليلة طرادة، تصبحهم الخيل ومغارها حين غدوا.
قال علي (عليهالسلام ) لأصحابه: ما ترون؟!
قال جبار بن صخر: نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم غارون، فنغير عليهم، ونخرج بالعبد الأسود ليلاً، ونخلف حريثاً مع العسكر حتى يلحقوا إن شاء الله.
قال علي (عليهالسلام ): هذا الرأي.
فخرجوا بالعبد الأسود، والخيل تعادى، وهو ردف بعضهم عقبة (نوبة)، ثم ينزل فيردف آخر عقبة، وهو مكتوف، فلما انهار الليل كذب العبد، وقال: قد أخطأت الطريق وتركتها ورائي.
قال علي (عليهالسلام ): فارجع إلى حيث أخطأت.
فرجع ميلا أو أكثر، ثم قال: أنا على خطأ.
____________
١- أي لا أدرك لكي أؤخذ أسيراً.
فقال علي (عليهالسلام ): إنَّا منك على خدعة، ما تريد إلا أن تثنينا عن الحيّ، قدموه، لتصدقنا، أو لنضربن عنقك.
قال: فقدم وسل السيف على رأسه، فلما رأى الشر قال: أرأيت إن صدقتكم أينفعني؟!
قالوا: نعم.
قال: فإني صنعت ما رأيتم، إنه أدركني ما يدرك الناس من الحياء، فقلت: أقبلت بالقوم أدلهم على الحيّ من غير محنة ولاحق فآمنهم، فلما رأيت منكم ما رأيت، وخفت أن تقتلوني كان لي عذر، فأنا أحملكم على الطريق.
قالوا: أصدقنا.
قال: الحيّ منكم قريب.
فخرج معهم حتى انتهى إلى أدنى الحيّ، فسمعوا نباح الكلاب وحركة النعم في المراح والشاء.
فقال: هذه الأصرام (الجماعات) وهي على فرسخ، فينظر بعضهم إلى بعض.
فقالوا: فأين آل حاتم؟!
قال: هم متوسطو الأصرام.
قال القوم بعضهم لبعض: إن أفزعنا الحيّ تصايحوا، وأفزعوا بعضهم بعضاً، فتغيب عنا أحزابهم في سواد الليل، ولكن نمهل القوم حتى يطلع
الفجر معترضاً، فقد قرب طلوعه فنغير، فإن أنذر بعضهم بعضاً لم يخفَ علينا أين يأخذون، وليس عند القوم خيل يهربون عليها، ونحن على متون الخيل.
قالوا: الرأي ما أشرت به.
قال: فلما اعترضوا الفجر أغاروا عليها، فقتلوا من قتلوا، وأسروا من أسروا، واستاقوا الذرية والنساء، وجمعوا النعم والشاء، ولم يخف عليهم أحد تغيب، فملأوا أيديهم.
قال: تقول جارية من الحي، وهي ترى العبد الأسود ـ وكان اسمه أسلم ـ وهو موثق: ما له؟! هُبِل(١) . هذا عمل رسولكم أسلم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم، ودلهم على عورتكم!
قال يقول الأسود: أقصري يا ابنة الأكارم، ما دللتهم حتى قدّمت ليضرب عنقي.
قال: فعسكر القوم، وعزلوا الأسرى وهم ناحية نفير، وعزلوا الذرية، وأصابوا من آل حاتم أخت عدي، ونسيات معها، فعزلوهن على حدة.
فقال أسلم لعلي (عليهالسلام ): ما تنتظر بإطلاقي؟!
فقال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
قال: أنا على دين قومي هؤلاء الأسرى، ما صنعوا صنعت.
____________
١- أي رماه الله بالهبل.
قال: ألا تراهم موثقين، فنجعلك معهم في رباطك؟!
قال: نعم، أنا مع هؤلاء موثقاً أحب إلي من أن أكون مع غيرهم مطلقاً، يصيبني ما أصابهم، فضحك أهل السرية منه، فأوثق وطرح مع الأسرى.
وقال: أنا معهم حتى ترون منهم ما أنتم راؤن.
فقائل يقول له من الأسرى: لا مرحباً بك، أنت جئتنا بهم!
وقائل يقول: مرحباً بك وأهلاً، ما كان عليك أكثر مما صنعت، لو أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت وأشد منه، ثم آسيت بنفسك.
وجاء العسكر، واجتمعوا، فقربوا الأسرى، فعرضوا عليهم الإسلام، فقال: والله، إن الجزع من السيف للؤم، وما من خلود.
قال: يقول رجل من الحي ممن أسلم: يا عجباً منك، ألا كان هذا حيث أخذت، فلما قتل من قتل، وسبي منا من سبي، وأسلم منا من أسلم، راغباً في الإسلام تقول ما تقول؟! ويحك أسلم واتبع دين محمد.
قال: فإني أسلم وأتبع دين محمد. فأسلم وترك، وكان يعد فلا يفي، حتى كانت الردة، فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة، فأبلى بلاء حسناً.
قال الواقدي: فحدثت هذا الحديث عبد الله بن جعفر الزهري، فقال: حدثني ابن أبي عون قال: كان في السبي أخت عدي بن حاتم لم تقسم، فأنزلت دار رملة بنت الحارث.
وكان عدي بن حاتم قد هرب حين سمع بحركة علي (عليهالسلام )، وكان له عين بالمدينة، فحذره فخرج إلى الشام.
وكانت أخت عدي إذا مر النبي (صلىاللهعليهوآله ) تقول: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علينا منّ الله عليك.
كل ذلك يسألها رسول الله (عليهالسلام ): من وافدك؟!
فتقول: عدي بن حاتم.
فيقول: الفار من الله ورسوله؟! حتى يئست.
فلما كان يوم الرابع مرّ النبي (صلىاللهعليهوآله )، فلم تتكلم، فأشار إليها رجل: قومي فكلميه.
فكلمته، فأذن لها ووصلها، وسألت عن الرجل الذي أشار إليها، فقيل: علي، وهو الذي سباكم، أما تعرفينه؟!
فقالت: لا والله، ما زلت مُدْنِيَةً طرف ثوبي على وجهي، وطرف ردائي على بُرقعي من يوم أُسرت حتى دخلتُ هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه(1) .
وفي نص آخر: أنه (صلىاللهعليهوآله ) مضى حتى مرَّ ثلاثاً.
قالت: فأشار إليَّ رجل من خلفه: أن قومي فكلميه.
قالت: فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ، منّ الله عليك.
____________
1- المغازي للواقدي ج3 ص985 ـ 989. وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج69 ص194 ـ 198 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج23 ص234 ـ 238.
قال: قد فعلت، فلا تعجلي، حتى تجدي ثقة يبلغك بلادك، ثم آذنيني.
فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ، فقيل: علي بن أبي طالب.
وقدم ركب من بلى، فأتيت رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فقلت: قدم رهط من قومي.
قالت: وكساني رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت على أخي، فقال: ما ترين في هذا الرجل؟!
فقلت: أرى أن نلحق به(1) .
وفي نص آخر، قالت: يا محمد، أرأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب؟! فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط. أنا ابنة حاتم طيء.
فقال لها النبي (صلىاللهعليهوآله ): يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقاً، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق(2) .
____________
1- الإصابة ج4 ص329 و (ط دار الكتب العلمية) ج8 ص180 عن ابن إسحاق، وابن الأثير، وأبي نعيم، والطبراني، والخرائطي في مكارم الأخلاق، وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص205 وراجع: شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج4 ص49 و50 وأسد الغابة ج5 ص475.
2- السيرة الحلبية ج3 ص205 و (ط دار المعرفة) ج3 ص224 والبداية والنهاية = = ج2 ص271 وج5 ص80 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص109 وج4 ص132 وتاريخ مدينة دمشق ج11 ص359 وج36 ص446 وج69 ص202 و 203 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص376 ومستدرك الوسائل ج11 ص194 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص210 وموسوعة أحاديث أهل البيت ( عليهمالسلام ) ج10 ص398 ونهج السعادة للمحمودي ج7 ص362 وكنز العمال ج3 ص664 والدرجات الرفيعة ص355.
ونقول:
إن لنا مع النصوص المتقدمة وقفات، نجملها فيما يلي من مطالب:
الرايـة السوداء:
وقد كانت راية علي (عليهالسلام ) في مسيره ذاك سوداء، وقد قلنا: أكثر من مرة: أن راية النبي (صلىاللهعليهوآله ) في حرب الكافرين والمشركين كانت سوداء ورايته (صلىاللهعليهوآله ) في فتح مكة كانت سوداء، وكانت راية علي (عليهالسلام ) سوداء، وراية علي (عليهالسلام ) هي راية النبي (صلىاللهعليهوآله ). قال الكميت الأسدي:
وإلا فارفعوا الرايات سوداً على أهل الضلالة والتعدي
لا بد من هدم الصنم:
إن هدم صنم طي يمثل تحدياً كبيراً لطيء، ولسائر القبائل في منطقتها، لأنهم كانوا يلزمون أنفسهم بعبادته، ويزعمون أنه يضر وينفع، وهدم هذا
الصنم هو الكفيل بإسقاط هذا الإعتقاد، وإظهار خرافيته.
وقد كلف علي (عليهالسلام ) بهذه المهمة..
مع أنهم لو فكروا في الأمر لوجدوا أن الأمر على عكس ذلك تماماً، فإن هدم الصنم لا يمثل أي تحدٍ لتلك القبائل، لأن الصنم إذا كان لديه القدرة على الضرر والنفع، وفيه صفات يستحق أن يعبد لأجلها، فهو الذي يدفع عن نفسه، ولا يحتاج إلى أحد في ذلك..
بل إن مبادرة أي كان من الناس لنصرة ذلك الصنم ضرب من الحمق، والرعونة والناصر له يكون ظالماً وباغياً، لأن نصرته هذه تعني أنه يريد أن يقهر الآخرين على القبول بما يدعيه لحجر أو خشب أو قطعة من نحاس من دون دليل، ومن دون إعطاء الفرصة لهم ليختبروا صحة ما يزعمه لذلك الصنم، وفساده، ويكون هذا الناصر والمدافع ممن يريد أن يبقى الناس في دائرة الخرافة، والضلال، والضياع.
لآل حاتم خصوصية:
ولكن ذلك لا يعني أنه (عليهالسلام ) لم يحارب الطائيين، وذلك لأنهم كانوا معلنين بالحرب على الإسلام والمسلمين، وقد وصل بعض جواسيسهم إلى المدينة نفسها، وقد غادر عدي بن حاتم إلى الشام، لأنه علم بمسير المسلمين من أحد جواسيس طي.
وأخذ علي (عليهالسلام ) بعض عيونهم على مسيرة يوم من محالهم، وكانت مهمته رصد خيل المسلمين، لينذرهم بها، ليأخذوا حذرهم.
ومن كان مع المسلمين في حالة حرب، فللمسلمين أن يأخذوه على حين غرة، من أجل تقليل خسائرهم في الأرواح، وفي غيرها، والتي لولا ذلك لكانت كبيرة وخطيرة. وليس للمحارب أن يأمن عدوه، وأن يطالبه بأن لا يقدم على حربه إلا بعد إستكمال عناصر قوته وإستعداده..
ولا شيء يدل على أنه (عليهالسلام ) لم يكن قد أنذرهم وأقام الحجة عليهم.. إذ يمكن أن يكون قد فعل ذلك قبل ظهور العداوة بينهم وبين المسلمين، بل قد يمكن إقامة الحجة بعد أن يهاجمهم، ويحوز المواشي وسواها.. ثم يعرض عليهم ما تتم به الحجة عليهم.
من الذي سبى سفانة؟!:
قد عرفت: أن الذي جاء بسفانة بنت حاتم هو علي (عليهالسلام ).
ولكن ابن سعد يذكر: أن الذي سباها هو خالد بن الوليد، ولا يمكن الجمع بينهما: بأن خالداً كان في جيش علي (عليهالسلام )، لأن جيش علي (عليهالسلام ) كانوا كلهم من الأنصار(1) .
____________
1- راجع: شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج4 ص50 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج23 ص233 وتاريخ مدينة دمشق ج69 ص194 وراجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص164 ومعجم البلدان ج4 ص273 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص624 وإمتاع الأسماع ج2 ص45 وعيون الأثر ج2 ص241 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص218 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص223.
هروب عدي بن حاتم:
وهنا سؤال يقول:
إن عدي بن حاتم كان سيد قبيلة طي ورئيسها، فلماذا هرب حين عرف بمسير علي (عليهالسلام ) إليهم.. وكيف لم يُواس عشيرته فيما يجري عليها؟!
ويمكن أن يجاب: بأنه كان يعرف نتائج الحرب مع المسلمين، ولا سيما إذا كان علي (عليهالسلام ) هو المتصدي للمعتدين.. وقد عرف هو وغيره بما جرى في بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وحنين، وفتح مكة، والطائف، وقريظة، والنضير وسواها، وهو يعرف قدرات قومه، ولا سيما بعد أن لم يعد هناك من يؤمل نصره.
يضاف إلى ذلك: أن عدي بن حاتم قد اعتنق النصرانية، ربما لأنه أدرك سخافة عبادة الأصنام.. وعدم معقولية الدخول في حروب للدفاع عنها، وتعريض النفس والأهل والمال للأخطار من أجلها..
فربما يكون قد هرب إلى الشام على أمل أن يجد لدى أهلها ومَن وراءَهم وخصوصاً الغساسنة والقياصرة والذين هم من النصارى من يعينه على محاربة أهل الإسلام..
علي (عليهالسلام ) لم يقسم آل حاتم:
وتقدم: أن علياً (عليهالسلام ) قد عزل خمس الغنائم، ثم قسم الباقي بين المسلمين، ولكنه لم يقسم آل حاتم، وذلك لأنه يريد أن يحفظ كرامة أهل
الكرامة، وليعرف الناس أن الإسلام لا يريد إذلال أحد، وإنما يريد إعزازهم، حتى وهم ينابذونه ويحاربونه.
كما أنه قدم دليلاً آخر جديداً بالفعل، لا بمجرد القول على أنه يتعامل مع الناس من خلال المثل والقيم، لا بالأهواء والأطماع، والعصبيات والإنفعالات.
سيوف يصطفيها علي (عليهالسلام ):
1 ـ تقدم: أن علياً (عليهالسلام ) اصطفى ثلاثة سيوف لرسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فوهب (صلىاللهعليهوآله ) اثنين منها لعلي (عليهالسلام ) نفسه، وهما رسوب، والمخذم، قالوا: وهما سيفا علي (عليهالسلام )(1) .
2 ـ لقد اختار (عليهالسلام ) السيوف دون سواها ليتحف بها رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، لأنه (صلىاللهعليهوآله ) سيد المجاهدين الباذلين أنفسهم في سبيل الله تعالى، وفي سبيل تحرير المستضعفين، ودفع الأذى والظلم عنهم، والمنع من مصادرة حرياتهم..
ولم يكن (صلىاللهعليهوآله ) بصدد الحصول على المال والجاه، والمقام الدنيوي لنفسه، ولا كان يرغب بسوى إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
____________
1- شرح المواهب اللدنية ج4 ص49 وراجع: أسد الغابة ج1 ص30 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص359 وبحار الأنوار ج16 ص110.
تهديد المتهم:
وقد تهدد علي (عليهالسلام ) ذلك الجاسوس، الذي أراد أن يخدع المسلمين، وهذا يدل على أنه إذا أصر بعض الناس على إلحاق الضرر بالمسلمين، وعلم ذلك على نحو اليقين، فإن كونه أسيراً لا يمنع من ممارسة الضغط عليه، لإفساد خطته التي يسعى من خلالها لخداعهم، وإيقاعهم في فخ ربما يكون قد نصبه لهم.
وليس في هذا دلالة على جواز تهديده أو إجباره على الإقرار بما لا يعلم أنه يكتمه، فإن مجرد احتمال كتمانه لشيء لا يبرر إلحاق الأذى به..
إستهداف المقاتلين من آل حاتم:
وقد أظهرت الرواية المتقدمة: أن المسلمين كانوا يحرصون على مواجهة مقاتلي آل حاتم بالحرب، بهدف استئصال الروح القتالية ضد المسلمين فيهم.. والتقليل من ميلهم إلى السعي لجمع الجموع لقتال أهل الإيمان، ويهيؤهم إلى التفكير بجدية بما يعرض عليهم من خيارات، وقد تنفتح بصيرتهم على الإيمان والإسلام أيضاً..
قتل الأسرى:
إن هؤلاء الأسرى كانوا مقاتلين لمصلحة الأعداء، يسعون لإطفاء نور الله بالأقوال وبالأفعال، ويريدون منع الناس من ممارسة حرياتهم في الفكر، والإعتقاد، والممارسة.
إنهم رغم إقامة الحجة عليهم، يأبون إلا الفساد والإفساد، وإلا التآمر،
وإثارة الحروب، وسفك الدماء.. وحين أسرهم المسلمون تكرم (عليهالسلام ) عليهم بإعطائهم فرصة أخرى للكف عن بغيهم وظلمهم هذا، فعرض عليهم الإسلام، فإن أبوه بعد ظهور الحجج والدلائل القاطعة للعذر لهم، فلا بد من تخليص الناس من شرهم، وفق ما يمليه الواجب، وتحكم به جميع الشرائع والأعراف.
علي (عليهالسلام ) يحرض سفانة على الإلحاح:
تقدم: أن سفانة طلبت من النبي (صلىاللهعليهوآله ) ثلاث مرات أن يمن عليها، فلم تسمع جواباً سوى أنه كان يسألها عن وافدها.. فتقول: عدي بن حاتم، فيقول: الفار من الله ورسوله؟!
ثم حرضها علي (عليهالسلام ) على معاودة طلبها ففعلت، فاستجاب النبي (صلىاللهعليهوآله ) لطلبها فوراً، فلماذا استجاب (صلىاللهعليهوآله ) لها في المرة الرابعة؟!
ويمكن أن يجاب:
1 ـ بأنه (صلىاللهعليهوآله ) يريد أن يؤكد على رعونة موقف أخيها عدي بن حاتم، والتصريح لها ولكل من يبلغه ذلك: أنه خرج عن حدود المعقول والمقبول، فإن الصحيح والمقبول، والموافق للحكمة والروية والإتزان هو الهروب إلى الله ورسوله، وليس الهروب من الله ورسوله، لأن الهروب منهما رعونة وطيش، وافتتان..
والمتوقع من الإنسان العاقل والمتزن هو أن يدرك أن الله مدرك الهاربين، مبير الظالمين، صريخ المستصرخين، موضع حاجات الطالبين..
2 ـ إن علياً (عليهالسلام ) هو الذي أسر سفانة.. وها هو الآن هو الذي يحرضها على معاودة طلب العفو من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أي أنه كان مهتماً بأن يبلغها ما تريد، ليحفظ لها عزتها وكرامتها بذلك.. وهذا هو ما يريده رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لها أيضاً. ولكن بعد إفهامها ما يجب أن تفهمه وتعيه بدقة وعمق. سواء بالنسبة لأخيها، أو بالنسبة للنبي (صلىاللهعليهوآله )، وعلي (عليهالسلام )، والإسلام والمسلمين.
مع الإشارة إلى أن العزيز هو الذي يسعى لحفظ عزته، ويصر على ذلك. ومن لا يفعل ذلك، لا يكون من أهل العزة..
ولأجل إظهار هذا المعنى كان لا بد من أن تكون هي المبادرة والساعية للحصول على الحرية والكرامة، مثبتة بذلك أنها جديرة بهما..
3 ـ إن هذه المرارة التي أظهرها لها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) من فعل أخيها غير المعقول، من خلال تكرار طلبها، والإصرار على إجابته الأولى، إلى أن تدخل علي (عليهالسلام ) لا بد أن تترك أثرها على هذه المرأة العاقلة والحازمة، ولأجل ذلك نجد أنها قد تأثرت بهذا الموقف، واختارت الإسلام، وكانت سبباً في هداية أخيها، حيث إنه أخذ بنصيحتها، واختار الإسلام، ووفد على النبي (صلىاللهعليهوآله )..
4 ـ إن علياً (عليهالسلام ) لم يقسم آل حاتم وأرسلهم إلى النبي (صلىاللهعليهوآله )، لكي يحفظ لهم عزتهم وكرامتهم. ولا بد أن يكون هذا التصرف قد ترك أثره على آل حاتم، وكان له دور في رغبتهم في الإسلام..
تحريفات وأكاذيب:
وقد لوحظ: أن بعض الروايات تحاول أن تنسب لعلي (عليهالسلام ) كلاماً لا يعقل صدوره منه في وصفه سفّانة بنت حاتم، وأنه (عليهالسلام ) لما رآها عند النبي (صلىاللهعليهوآله ) أعجب بها، وصمم على أن يطلب من النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يجعلها في فيئه(1) .
مع أنه (عليهالسلام ) لم يكن ممن يهتم بحطام الدنيا، ولا كان بصدد تلبية رغباته الغرائزية، ولا هو ممن تحركه الشهوات والأهواء والميول. للطلب من النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يعطيه دون أن يعطي غيره من المسلمين.
يضاف إلى ذلك: أنه (عليهالسلام ) هو الذي سباها، وجاء بها من بلادها إلى المدينة، فهل يقبل قولهم: إنه إنما رآها في المدينة؟!..
____________
1- تاريخ مدينة دمشق ج11 ص358 وج36 ص445 وج69 ص202 و203 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص210 ونهج السعادة ج7 ص361 وكنز العمال ج3 ص664 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج2 ص271 وج5 ص80 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص108 وج4 ص131 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص376.
مباهلة نصارى نجران..
حديث المباهلة:
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وفد نصارى نجران، ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، منهم العاقب هو والسيد، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس.
منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. واسمه عبد المسيح.
والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم، ومجتمعهم، واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل أسقفهم، وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة، وتختموا بالذهب.
وفي لفظ: دخلوا على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في مسجده [في
المدينة] حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
فقال بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم. فقاموا في مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يصلون نحو المشرق (فأراد الناس منعهم).
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (دعوهم).
ثم أتوا رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فسلموا عليه، فلم يردعليهمالسلام ، وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً، فلم يكلمهم، وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب.
فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا لهما: يا عثمان، ويا عبد الرحمن، إن نبيكما كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما؟ أنعود إليه، أم نرجع إلى بلادنا؟
فقالا لعلي بن أبي طالب (عليهالسلام ) وهو في القوم: ما الرأي في هؤلاء القوم يا أبا الحسن؟
فقال لهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودوا إليه.
ففعل وفد نجران ذلك ورجعوا إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم، ثم قال: (والذي بعثني بالحق، لقد أتوني
المرة الأولى وإن إبليس لمعهم)(1) .
وفد نجران يحاور رسول الله (صلىاللهعليهوآله ):
وعن ابن عباس، والأزرق بن قيس: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) دعا وفد نجران إلى الإسلام، فقال العاقب، عبد المسيح، والسيد أبو حارثة بن علقمة: قد أسلمنا يا محمد.
فقال: (إنكما لم تسلما).
قالا: بلى، وقد أسلمنا قبلك.
قال: (كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولداً).
ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟! فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرنا إن كنت نبياً أن نعلم قولك فيه.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): (ما عندي فيه شيء يومي هذا،
____________
1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص416 و 417 والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج5 ص187 و 188 وبحار الأنوار ج21 ص337 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص378 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص65 وإمتاع الأسماع ج14 ص69 وإعلام الورى ج1 ص255 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص103 ومكاتيب الرسول ج2 ص495.
فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى)(1) .
وعن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي: أنه سمع رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يقول: (ثبت (ليت) بيني وبين أهل نجران حِجاب، فلا أراهم ولا يروني)، من شدة ما كانوا يمارون رسول الله (صلىاللهعليهوآله )(2) . انتهى.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وابن جرير عن السدي، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي جريج: أن نصارى نجران قالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟!
قال: (من صاحبكم)؟!
قالوا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد.
____________
1- سبل الهدى والرشاد ج6 ص417 عن الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبي نعيم، وابن سعد، وعبد بن حميد، وتفسير القرآن العظيم ج1 ص378 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص65 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص103 وغاية المرام ج3 ص215 وراجع: بحار الأنوار ج21 ص286 وج35 ص263 وتفسير الميزان ج3 ص234.
2- سبل الهدى والرشاد ج6 ص417 عن ابن جرير، وجامع البيان للطبري ج3 ص405 والمحرر الوجيز للأندلسي ج1 ص447 والدر المنثور ج2 ص38 وتفسير الآلوسي ج3 ص194 وراجع: مجمع الزوائد ج1 ص155 وفتوح مصر وأخبارها ص511.
قال: (أجل، إنه عبد الله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه).
فغضبوا وقالوا: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنساناً خلق من غير أب؟
فأنزل الله تعالى:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. ) (1) .
وأنزل تبارك وتعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ ) (2) .
فلما أصبحوا عادوا إليه، فقرأ عليهم الآيات، فأبوا أن يقروا. فأمر تعالى نبيه الكريم (صلىاللهعليهوآله ) بمباهلتهم، فقال سبحانه وتعالى:
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنتَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللَهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ ) (3) . فرضوا بمباهلته (صلىاللهعليهوآله )..
فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم: السيد، والعاقب، والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه؛ فإنه ليس نبياً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله،
____________
1- الآية 17 من سورة المائدة.
2- الآيتان 59 و 60 من سورة آل عمران.
3- الآيات 61 ـ 63 من سورة آل عمران.
فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق.
وعن جابر، وابن عباس، وقتادة، وسلمة بن عبد يسوع، عن ابيه عن جده، وعن حذيفة، والأزرق بن قيس، والشعبي: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) لما نزلت هذه الآيات دعا وفد نجران إلى المباهلة، فقال: (إن الله تعالى أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم).
فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا.
وفي حديث آخر فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام، فخلا بعضهم إلى بعض وتصادقوا.
فقال السيد العاقب: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولئن لاعنتموه ليخسفن بأحد الفريقين، إنه لَلْإستئصال لكم، وما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم.
وفي رواية: فقال شرحبيل: لئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك.
وفي رواية: لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.
قالوا: فما الرأي يا أبا مريم؟!
فقال: رأيي أن أُحَكِّمَه، فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً.
فقال السيد: فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم.