• البداية
  • السابق
  • 330 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25402 / تحميل: 7336
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فهو إذن لا يطمع بالقصور، ولا بالحور، ولا تهمه الجنان، ولا يفرحه كل ما فيها من حور حسان، بمقدار ما يهمه ويفرحه رضى الله تعالى، ورضى رسوله، وفقاً لقوله تعالى:( ..رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (١) .

وقوله تعالى:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) (٢) .

____________

١- الآية ٨ من سورة البينة.

٢- الآيتان ٢٧ و ٢٨ من سورة الفجر.

١٤١

١٤٢

الفصل الثاني:

لمحات أخرى عن ذات السلاسل..

١٤٣

١٤٤

ذات السلاسل برواية القمي:

وقد روى القمي عن جعفر بن أحمد، عن عبيد بن موسى، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) ـ ما ملخصه ـ:

إن أهل وادي اليابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس، وتعاقدوا، وتعاهدوا، وتواثقوا: أن لا يتخلف رجل عن رجل، ولا يغدر بصاحبه، ولا يخذل أحد أحداً، ولا يفر عن صاحبه، حتى يموتوا كلهم، ويقتلوا محمداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام ).

فنزل جبرئيل (عليه‌السلام ) على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأخبره بالأمر، وأمره أن يبعث أبا بكر في أربعة آلاف فارس، من المهاجرين والأنصار.

فخطب (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الناس، وأخبرهم بما أخبره به جبرئيل (عليه‌السلام ) عن أهل وادي اليابس، وأن جبرئيل أمره بأن يسير إليهم أبو بكر بأربعة آلاف فارس.

ثم أمرهم أن يتجهزوا للمسير مع أبي بكر يوم الإثنين، فلما حان وقت المسير أمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أبا بكر: (أن إذا رآهم أن يعرض عليهم

١٤٥

الإسلام، فإن تابعوا، وإلا واقعهم، فقتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم، واستباح أموالهم، وخرب ضياعهم، وديارهم).

فسار أبو بكر بهم سيراً رفيقاً، حتى نزل قريباً منهم، فخرج إليه منهم مئتا فارس، وهم مدججون بالسلاح، فسألوهم: من أين أقبلوا؟! وإلى أين يريدون؟! ثم طلبوا مقابلة صاحبهم.

فخرج إليهم أبو بكر، فسألوه، فأخبرهم بما جاء له.

فقالوا: أما واللات والعزى، لولا رحم ماسة، وقرابة قريبة لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثاً لمن يكون بعدكم، فارجع أنت ومن معك، وارتجوا العافية، فإنما نريد صاحبكم بعينه، وأخاه علي بن أبي طالب.

فقال أبو بكر لأصحابه: يا قوم، القوم أكثر منكم أضعافاً، وأعدُّ منكم، وقد نأت داركم عن إخوانكم من المسلمين، فارجعوا نُعلِم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بحال القوم.

فقالوا جميعاً: خالفت يا أبا بكر رسول الله، وما أمرك به، فاتق الله وواقع القوم، ولا تخالف قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فقال: إني أعلم ما لا تعلمون. الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

ورجعوا إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأعلن على المنبر: أن أبا بكر قد عصى أمره، وأنه لما سمع كلامهم: (انتفخ صدره، ودخله الرعب منهم) ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

(وإن جبرئيل (عليه‌السلام ) أمرني عن الله: أن أبعث إليهم عمر مكانه في أصحابه، في أربعة آلاف فارس، فسر يا عمر على اسم الله، ولا تعمل كما

١٤٦

عمل أبو بكر أخوك، فإنه عصى الله وعصاني).

وأمره بما أمر به أبا بكر.

فسار بهم يقتصد بهم في سيرهم، حتى نزل قريباً من القوم، وخرج إليه مئتا رجل، وقالوا له ولأصحابه مثل مقالتهم لأبي بكر.

فانصرف، وانصرف الناس معه، وكاد أن يطير قلبه مما رأى من عدة القوم وجمعهم، ورجع يهرب منهم.

فنزل جبرئيل (عليه‌السلام ) وأخبر محمداً بما صنع عمر..

فصعد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) المنبر، وأخبرهم بما صنع عمر، وأنه خالف أمره وعصاه..

فلما قدم عمر قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (يا عمر، عصيت الله في عرشه، وعصيتني، وخالفت قولي، وعملت برأيك، ألا قبح الله رأيك).

ثم ذكر: أن جبرئيل (عليه‌السلام ) أمره أن يرسل علياً (عليه‌السلام ) مع الأربعة آلاف، وأن الله يفتح عليه وعلى أصحابه، ثم دعاه وأخبره بذلك..

فخرج علي (عليه‌السلام ) فسار بأصحابه سيراً غير سير أبي بكر وعمر، فقد أعنف بهم في السير، حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب، وتحفى دوابهم، فقال لهم: لا تخافوا، فإن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أمرني بأمر، وأخبرني: أن الله سيفتح عليَّ، وعليكم، فأبشروا، فإنكم على خير، وإلى خير.

فطابت نفوسهم وقلوبهم، وواصلوا سيرهم التَّعِب، حتى نزلوا

١٤٧

بالقرب منهم..

فخرج إليه منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح، فلما رآهم علي (عليه‌السلام ) خرج إليهم في نفر من أصحابه، فقالوا لهم: من أنتم؟! ومن أين أنتم؟! ومن أين أقبلتم؟! وأين تريدون؟!

قال: أنا علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وأخوه ورسوله إليكم، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ولكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم من خير وشر.

فقالوا له: إياك أردنا، وأنت طلبتنا، قد سمعنا مقالتك، فاستعد للحرب العوان، واعلم أنَّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك، والموعود فيما بيننا وبينك غداً ضحوة، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينك.

فقال لهم علي (عليه‌السلام ): ويلكم تهددوني بكثرتكم وجمعكم؟! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم، وانصرف علي (عليه‌السلام ) إلى مركزه. فلما جنه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوابهم، ويقضموا، ويسرجوا.

فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس، ثم غار عليهم بأصحابه، فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم، واستباح أموالهم، وخرب ديارهم، وأقبل بالأسارى والأموال معه.

ونزل جبرئيل فأخبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما فتح الله على

١٤٨

علي (عليه‌السلام ) وجماعة المسلمين، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين، وأعلمهم أنه لم يصب منهم إلا رجلان.

ونزل فخرج يستقبل علياً (عليه‌السلام ) في جميع أهل المدينة من المسلمين، حتى لقيه على أميال من المدينة.

فلما رآه علي مقبلاً نزل عن دابته، ونزل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى التزمه، وقبل ما بين عينيه.

فنزل جماعة المسلمين إلى علي (عليه‌السلام ) حيث نزل رسول الله، وأقبل بالغنيمة والأسارى، وما رزقهم الله من أهل وادي اليابس.

ثم قال جعفر بن محمد (عليهما‌السلام ): ما غنم المسلمون مثلها قط إلا أن تكون خيبراً، فإنها مثل خيبر.

فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً.. ) إلى آخر الرواية(١) .

ونقول:

إن لنا هنا وقفات نجملها على النحو التالي:

____________

٣- ١- بحار الأنوار ج٢١ ص٦٧ ـ ٧٣ وتفسير القمي ج٢ ص٤٣٤ ـ ٤٣٨ وتفسير فرات ص٥٩٩ ـ ٦٠٢ والبرهان (تفسير) ج٤ ص٤٩٥ ـ ٤٩٧ ونور الثقلين ج٥ ص٦٥٢ ـ ٦٥٥ والتفسير الصافي ج٥ ص٣٦١ ـ ٣٦٥ وتأويل الآيات ص٨٤٤ ـ ٨٤٨.

١٤٩

قد استعرضنا الكثير من النقاط الواردة في هذه الرواية، وناقشناها في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ج٢٠ فصل: رواية القمي توضح بل تصرح.. فلا نرى حاجة لإعادته هنا.. فنكتفي هنا بالإلماح إلى بعض ما له ارتباط بعلي (عليه‌السلام )، وهو كما يلي:

الرفق بالحيوان:

تقدم: أن علياً (عليه‌السلام ) أمر أصحابه في الليلة التي عزم على مهاجمة العدو في صبيحتها بأن يحسنوا إلى دوابهم، والمراد بالإحسان إليها هو إنزال أحمالها عنها، وتقديم الماء والعلف لها، وجعلها في مكان مناسب ومريح، وإبعاد جُلِّها عنها، وأن لا تحمل على القيام بجهد لا تطيقه ونحو ذلك..

وهذا يجعلها أكثر حيوية ونشاطاً في مواقع النزال، فلا تتعب بسرعة..

على نفسها جنت براقش:

وقد لوحظ في الرواية أيضاً: أن الأعداء أعلنوا إصرارهم على الحرب، وتوعدوه بأنهم قاتلوه ومن معه.. فلم يعد أمامهم سوى الإعداد والإستعداد للمواجهة، وتوقع أن يلتمس المسلمون ـ الذين يسمعون منهم هذا التهديد ـ غرَّتهم، وأن يوردوا عليهم ضربتهم عند أية فرصة تلوح لهم.

وليس لهم أن يستسلموا للأماني، وأن يأمنوا جانب عدوهم، فإن ترصد غفلتهم، والسعي لخديعتهم، هو غاية الحزم، والتدبير الذكي الذي يستحق عليه التقدير والثناء، لأنه يحفظ بذلك أهل الإيمان، ويبعد عنهم شر

١٥٠

أهل الطغيان، ويبطل كيدهم.

كما لا بد أن يعتمد عنصر السرعة التي لا تترك للعدو مجالاً لإلتقاط أنفاسه، ويفقده القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب..

وبذلك يتمكن من تسديد الضربات السريعة والمؤثرة في تدمير قدرات العدو بأقل الخسائر في جانب أهل الإيمان..

وهكذا كان، فإنه لم يصب من أهل الإيمان إلا رجلان..

لا نريد إلا محمداً وعلياً:

واللافت هنا: أن هؤلاء الأعداء يعلنون لأبي بكر حين جاء لمواجهتهم بأنهم لا يريدون إلا شخص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ونفس علي (عليه‌السلام ).

والأغرب من ذلك: أن لا تظهر من أبي بكر ردة فعل على طلبهم هذا، بل هو يرضى بالرجوع عنهم.. مع أن مقتضيات الإيمان، ومن مقتضيات البيعة للرسول هو الذب عنها، وعن صاحبها وأهل بيته، فموقف أبي بكر هذا لا بد أن يكون قد أعطى انطباعاً غير حميد، من حيث أنه يوحي بأن المسلمين لا يهتمون بالدفاع عن دينهم، وعن نبيهم ووصيه.

بل هم إن وجدوا أن الحرب قد حادت عنهم، ولم تعد تستهدف أشخاصهم، فربما ينصرفون عنها، ولا تعود تعني لهم شيئاً ليتولاها ذلك المعني بها، والمطلوب لها.. أي أنهم يسلمون نبيهم ووصيه لمصير يقرره أعداؤه وفق ما يحلو لهم.

١٥١

ومن شأن هذا التصور أن يزيد أولئك المشركين تصميماً على الحرب، وحماساً واندفاعاً لها وحرصاً على الوصول إلى شخص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ونفس علي (عليه‌السلام ) فيها.

وربما يفكر هؤلاء المشركون بالبحث عن قنوات تصلهم بهذا أو بذاك من رجال المسلمين، لإغداق الوعود عليهم، وإغرائهم بما يثبط عزائمهم عن نصرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلي (عليه‌السلام )..

ثم إننا لا ندري إن كان أبو بكر ومن معه قد فكروا في السبب الذي دعا هؤلاء للكف عنهم، ولتقصُّد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلي (عليه‌السلام ) بالسوء، دون سائر المسلمين، أليس لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هو صاحب الدعوة، التي كانت السبب في منابذة المشركين له، ولأن علياً (عليه‌السلام ) شريكه الأساس فيها، وهو سبب حفظها وبقائها بعده، وهو السيف الإلهي المسلول للدفاع عنها، وعن صاحبها، وعن كل من آمن بها؟!

ألم يكن هؤلاء الراجعون يعتبرون أنفسهم من أتباع صاحب الدعوة، ومن المؤمنين بها، والمكلفين بالدفاع عنها، وعمن جاء بها؟!

أبو بكر أخو عمر، وعلي (عليه‌السلام ) أخو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

وتقدم: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لعمر: (ولا تعمل كما عمل أبو بكر أخوك).. وأنه قال وهو يخطب على المنبر عن علي (عليه‌السلام ): (حتى يقتلوني وأخي علي بن أبي طالب).

وحين تحدث علي (عليه‌السلام ) لأهل وادي اليابس وصف نفسه لهم

١٥٢

بأنه: (ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأخوه)، والأعداء وصفوه بنفس هذا الوصف أيضاً.

من أجل ذلك نلاحظ: أن عمر قد فعل ما يشبه عمل أخيه أبي بكر، حيث سار بأصحابه ـ كأبي بكر ـ سيراً رفيقاً ـ ثم هرب من الأعداء كما هرب، وعاش الرعب والخوف كما عاش.

كما أن علياً (عليه‌السلام ) قد عمل بنفس ما يقتضيه خلق أخيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فكان دائماً المجاهد، والمحامي، والناصر، والمنتصر.

وذلك كله يشير إلى أن الأخوة هنا، والأخوة هناك قد جاءت على أساس ملاحظة معانٍ حقيقية، وقواسم مشتركة، اقتضت التوافق في السلوك وفي المواقف.

القائد هو المعيار:

وقد وجدنا: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اكتفى بتبديل القائد، وأما الجيش نفسه، فأبقاه على ما هو عليه، ولم يستبدل منه حتى رجلاً واحداً، وقد كانت الهزيمة من نصيب هذا الجيش مرتين متواليتين، مع نفس العدو، ومع تقارب الزمان، وفي نفس المكان، وفي نفس الظروف، وبنفس الأسلوب، وبعين الكلمات التي استخدمت، ونفس الخطاب والجواب..

وكان النصر حليفاً لهذا الجيش نفسه، مع ذلك العدو بالذات، وفي نفس الحالات، وفي الزمان والمكان عينه، رغم أن القائدين الأولين قد سارا بهذا الجيش سيراً رفيقاً، أو مقتصداً، يحببهم بقائدهم.

١٥٣

أما الأمير الثالث، فقد أعنف بهم في السير، حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب، وأن تحفى دوابهم.. ولا بد أن يثقل أمر هذا القائد عليهم، الذي فعل بهم ذلك، وأن تتجافى عنه قلوبهم، ولا يندفعون في محبته، وفي طاعته بالمقدار الذي يحظى به اللذان سبقاه..

ولكن النتائج جاءت معاكسة تماماً، فقد تحقق النصر، وكان نصيبهم معه الفتح والعز والكرامة، وكانت الهزيمة والمذلة، والمعصية لله في عرشه ولرسوله مع ذينك الأولين.

وهذا مثل للبشر جميعاً، يحمل لهم العبرة، والعظة، ويدعوهم للتأمل العميق، والفكر الدقيق، حملته لنا كلمته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ) عن جبرئيل: (فأخبرني: أن الله يفتح عليه، وعلى أصحابه)..

فقد نسب الفتح إلى الله، الذي حبا به علياً (عليه‌السلام ) وأصحابه معاً، مع أن الإنسان العادي قد يتوقع تخصيص الفتح بعلي دون أصحابه، الذين هزموا مع القائدين اللذين سبقاه..

ولكن الله ورسوله يريدان لنا أن ندرك حقيقة أن القيادة الصالحة، هي التي تصنع المواقف، وتغير من أحوال الرعية، وتؤثر في توجهاتها ومواقفها، وتعطيها صلابة في الدين، وورعاً في يقين، وتحملها على الصراط المستقيم، ولو لم تصدر لها أمراً، أو تفرض عليها قراراً، أو تبتز منها موقفاً.

وهي التي تثير حميتها وإباءها، وتمنحها نفحة الشجاعة والإقدام، أو التخاذل والإحجام..

وقد ظهر ذلك في هذه الغزوة بصورة جلية وواضحة، فقد ساقهم

١٥٤

موقف أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى مواقع العزة والكرامة والإباء، وأعطاهم نفحة من نفحات الشجاعة، والشعور بالكرامة. ففتح الله عليه وعليهم، وفق ما قاله الرسول الأكرم والأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

تطمينات علي (عليه‌السلام ) لأصحابه:

وحين سار علي (عليه‌السلام ) باصحابه ذلك السير الحثيث الذي أتعبهم، يكون قد أفهمهم بذلك أن ثمة جدية حقيقية في إنجاز أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على أحسن وجه وأتمه.

ولعلهم أصبحوا يتخوفون من أن يكون للتعب الذي لحقهم في مسيرهم هذا دوراً في خسارتهم الحرب التي يترقبونها.. فأراد (عليه‌السلام ) أن يطمئنهم، ولكن لا بالوعود المادية، ولا بالخطب الحماسية، بل بإعطائهم جرعة إيمانية روحية، تتولى هي شحذ عزائمهم، وتقوية ضعفهم، وتعطيهم المزيد من الرضا والسعادة والبهجة، وذلك بالاعتماد على الغيب الذي يربطهم بالله سبحانه، وبرسوله.

فذكر لهم قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بصيغة الإخبار من النبي الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم بالفتح العظيم.

والخبر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) معناه: أن الله سبحانه هو الذي عرف رسوله به، وأطلعه على غيبه.. فليس الأمر مجرد تفاؤل، ولا هو كلام لمجرد التشجيع، وإثارة الحماس..

ولذلك يقول النص المتقدم: إن نفوسهم قد طابت وقلوبهم اطمأنت، وواصلوا سيرهم الشاق، وزالت عنهم الوساوس والمخاوف..

١٥٥

وقد حرص علي (عليه‌السلام ) على أن يستعيد جيشه الثقة التي فقدها بسبب تثبيط عزائمه من قبل الذين سبقوه، حيث صار يجبِّن بعضهم بعضاً. وأن يزيل كل شبهة عن المقاتلين، ويطمئنهم إلى أنه لا مبرر للمخاوف، ولا معنى لمعاناة أية توترات..

علي (عليه‌السلام ) أخو النبي ورسوله إليكم:

ولم نعهد في الذين آخى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بينهم أن يذكروا هذه الأخوة في مواقع إبلاغ رسائل الحرب والقتال، لاسيما وأنها أخوة أنشأها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأمر وجعل من الله تعالى، وليست أخوة نسب..

ولكن علياً (عليه‌السلام ) قد فعل ذلك، وأبلغ هذا العدو المحارب بهذه الحقيقة، حين قال لهم: إنه أخو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ورسوله إليهم.

ولعله أراد أن يفهمهم أن موقفه منهم يحدده موقفهم من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وأنه لا مجال للفصل في حسابات الربح والخسارة بين علي كشخص، وبين علي الشريك مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في الأخوة، وفي العمل على حفظ الرسالة، من خلال حفظ الرسول، فإن ذلك هو مقتضى هذه الأخوة، وهو الذي يوصل إلى حفظ هذا الدين، والذود عن حياضه.

١٥٦

علي (عليه‌السلام ) لا يحتكر النصر:

وعلي (عليه‌السلام ) الذي حقق المعجزات في تاريخه الجهادي الطويل، ولاسيما حين قلع باب خيبر، وجعله ترساً يدفع به ضرب السيوف، وطعن الرماح، ثم حمله جاعلاً منه معبراً عن الخندق للجيش، بالإضافة إلى أعظم الإنجازات القتالية في بدر، وأُحد، والأحزاب، وقريظة، والنضير، وما إلى ذلك..

إن علياً هذا لا يتهدد الأعداء بقوته، ولا يذكر لهم مواقفـه هذه، بل يكتفي باستنكار تهديد الأعداء له، ثم هو يستعين بالله، وبالملائكة، وبالمسلمين عليهم، ويخبرهم بأن كل حول وقوة لديه إنما هـو من الله، وبه سبحانه وتعالى..

وهذا يعطي المسلمين نفحة روحية، ويذكرهم بنصر الله لهم في بدر، حين أمدهم بالملائكة وفي سائر المواطن. ولا بد أن يحدث هذا التذكير ارتعاشاً قوياً وبلبلة حقيقية في قلوب الكافرين، وطمأنينة وسكينة في قلوب المؤمنين، لأن له سابقة أثبتت صحة هذا المنطق وقوته، وظهرت نتائجه نصراً مؤزراً في حروب صعبة وهائلة، لابد أن تبقى على مر الأجيال تتمثله كحدث تاريخي فريد، وكيوم من أيام الإسلام مجيد..

ولا بد أن يترك إشراك علي (عليه‌السلام ) للمسلمين في هذا العمل الجهادي أثراً طيباً في نفوسهم.. لأن الذي يعطيهم هذا الوسام هو نفس علي الذي لا يرتاب أحد في مقامه الجهادي والإيماني العظيم، ولا يشك في صدقه، وفي تجربته، وخبرته بالحرب.

١٥٧

وستكون لشهادته هذه قيمة كبيرة لديهم، ولابد أن يهتم كل أحد في أن يحصل على أدنى لفتة من علي، أعظم مجاهد على وجه الأرض، فكيف بما هو أعظم، وأكرم وأفخم..

يضاف إلى ذلك: أن هذا المنطق العلوي، الذي أوضح: أن الله وملائكته سوف يساهمون في تسجيل هذا النصر، لابد أن يصعِّب على المتخاذلين، وعلى غيرهم اتخاذ قرار الانسحاب من المعركة، وسيفرض على الجميع بذل جهد، ودرجة تحملٍ وصبرٍ أعلى وأكبر مما اعتادوا عليه في سائر الحالات..

تخريب الديار:

ولا بد من التروي والتأمل في صدقية ما ذكرته الرواية المتقدمة من أن علياً (عليه‌السلام ) قد خرب ديار الأعداء.

فقد عرفنا: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أصدر أوامره لجيوشه بعدم التعرض للديار والأشجار(١) ، إلا إذا فرضت الحرب نفسها إجراءات تؤدي إلى شيء من ذلك، مثل حفظ المسلمين من الأخطار، أو توقف النصر على العدو على أمر كهذا..

أو كان ذلك إجراء رادعاً للعدو عن معاودة الفساد والإفساد، والعبث بأمن البلاد والعباد..

____________

١- راجع ما ذكرناه في غزوة مؤتة في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

١٥٨

سورة العاديات.. وأصول الحرب:

وقد ذكرت الرواية المتقدمة وغيرها: أن سورة (العاديات) نزلت في غزوة ذات السلاسل، أو وادي اليابس.. وتضمنت هذه السورة المباركة أموراً دقيقة ترتبط بالحرب وأصولها، وربما كان السبب في ذلك هو أن هذه الأصول قد روعيت، وطبقت، وظهرت صدقيتها في هذه الغزوة بالذات، فلا محيص عن الإشارة إلى هذا الأمر هنا، فنقول:

إنه إذا أقسم الله بأمر بعينه، فذلك يدل على أن لهذا الأمر موقعاً أساسياً وحساساً جداً في المنظومة الكونية، إن كان أمراً كونياً، أو في المنظومة النظامية إن كان أمراً نظامياً.. أو في منظومة السنن إن كان من سنن الخلق والتكوين، وكذلك الحال لو كان ما أقسم به من مفردات منظومة القيم، أو التدبير، أو غير ذلك، مما ورد القسم به في القرآن الكريم..

فإن الإهتمام الظاهر بذلك الأمر بعينه، بحيث يجعله موضعاً لقسمه، ويجعل الإلتزام ببقائه على حاله ضمانة لما يريد تقريره ـ إن ذلك ـ يدل على أن لما يقسم به أثراً عظيماً في إنجاز الأهداف الإلهية الكبرى، بإيصال الإنسان وما في هذا الكون إلى كماله..

٢ ـ وقبل أن نتحدث عن العاديات يحسن بنا أن نشير إلى أن المناسبة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي غزوة ذات السلاسل، قد تضمنت نصوصها أمر علي (عليه‌السلام ) أصحابه ليلة الغارة بأن يحسنوا إلى دوابهم، ويُقْضِمُوا، ويُسْرِجوا..

وهذا يدل على لزوم إعداد وسائل الحرب، وتهيئتها، لتكون في أفضل

١٥٩

حالاتها، وأن يكون إعدادها بحيث لا تحتاج في ساعة الصفر إلا إلى الإستعمال الناجز في القتال. فلا يؤجل ذلك إلى اللحظة الأخيرة.. إذ قد يطرأ ظرف يمنع من الإعداد بالمستوى المطلوب، أو بالطريقة الصحيحة.

٣ ـ وقد أقسم الله تعالى بالعاديات، وبالموريات، والمغيرات.. وهي لا تخرج عن هذا السياق الذي أشرنا إليه، فالخيل تعدوا في سبيل الله تعالى، وتسرع في هذا العدو إلى الحد الذي تضبح فيه بأنفاسها، مما يعني أنها قد استنفدت كل طاقتها في سرعة الحركة..

لأن المطلوب هو أن تنجز أمراً هو بأمس الحاجة إلى السرعة. وللسرعة دورها الحاسم في الحرب.

والضبح ـ كما قيل ـ: هو صوت أنفاس الفرس، تشبيهاً له بالضباح، وهو صوت الثعلب.

وقيل: هو حفيف العَدْوِ.

وقيل: الضبح: كالضبع، وهو مد الضبع في العدو(١) ، أي حتى لا يجد مزيداً(٢) .

____________

١- المفردات للراغب ص٢٩٢.

٢- بحار الأنوار ج٢١ ص٦٦ ومجمع البيان ج١٠ ص٥٢٨ و ٥٢٩ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج١٠ ص٤٢٢ ومعجم مقاييس اللغة ج٣ ص٣٨٥ وج٥ ص٣٤٩ ولسان العرب ج٣ ص٥٠٩ وج٧ ص٤٠٥ والقاموس المحيط ج١ ص٣٥٨.

١٦٠

والضبع: هو وسط العضد بلحمة، أو العضد كله، أو الإبط(1) .

وقيل: الضبح: صوت أجواف الخيل إذا عَدَتْ ليس بصهيل ولا حمحمة(2) .

4 ـ إن عَدْوَ الخيل هذا يشير إلى أنها دائمة الإنتقال من موقع إلى آخر.. وأنه انتقال سريع.. مما يدل على عدم التموضع في مكان بعينه. ولكنه انتقال هادف، يضع نصب عينيه نقطة بعينها يراد الوصول إليها. ومن شأن عدم التموضع، وسرعة الإنتقال هذه أن يحرما العدو من القدرة على تحديد مواضعهم ومواقعهم، ويجرده من فرصة رصد القوى العاملة في مكان بعينه، وهذا يفقده القدرة على التخطيط لأي عمل يمثل لها خطراً، أو يلحق بها ضرراً..

5 ـ إن شدة اندفاع الخيل في هجمتها تحتم على ذلك العدو أن يتراجع عن موقعه، وبالتالي أن يفقد السيطرة على حركته، ويفقده أيضاً وعي هذه الحركة، وتقديرها.. وتحديد مداها، ومواقعها، وأهدافها، وأماكنها..

ثم هو لا يملك قدرة العودة إلى أي موقع يرغب في العودة إليه.. وهذا مأزق لا يختار المحارب أن يضع نفسه فيه، بل هو يريد أن يكون زمام

____________

1- راجع: أقرب الموارد، مادة: ضبع، وراجع: بدائع الصنائع ج1 ص210 وكتاب العين ج1 ص284 ولسان العرب ج8 ص216.

2- بحار الأنوار ج21 ص66 عن مجمع البيان ج10 ص528 و 529 و (ط مؤسسة الأعلمي) ص421 و 422 وكتاب العين للفراهيدي ج3 ص110 ولسان العرب ج2 ص543 والقاموس المحيط ج1 ص226 وتاج العروس ج2 ص186.

١٦١

المبادرة بيده، وأن يكون قادراً على التقلب في خياراته، حسبما يحلو له.

6 ـ إنه إذا صاحب هذا الاندفاع القوي للخيل كيفيات وحالات خاصة، مثل الأصوات الغامضة، أو الهيئات المخيفة، ومنها صوت ضبح الخيل الذي يدعوهم لتصور حجم اندفاع عدوهم نحوهم، ثم إذا صاحب ذلك لمعات نارية خاطفة وكثيرة، حين تقدح الخيل الشرر بحوافرها، فسوف يتشارك لدى ذلك العدوِّ السمع والبصر في رسم صورة الخطر الداهم، وما يحمله من عنف، من شأنه أن يزعزع ثباته، ويهزمه في عمق وجوده.

بل قد يوجب قدح النار تحت حوافر الخيل نشوء حالة تضليلية، من خلال تلهي أفراد العدو بالنظر إليها، وإثارة التكهنات حولها، فتتهيأ الفرصة لمفاجأتهم بالقتال المرير، والضاري.

هذا كله، عدا عن أن قدح النار من حوافر الخيل، يبهج روح فرسانها، ويقوي من اندفاعهم، ما دام أنه ناتج عن حركتهم وفعلهم.

7 ـ ويأتي بعد ذلك كله عنصر المفاجأة بالقتال، بشتى أنواعه، التي يحتاج العدو في تحرزه منها إلى حركات متفاوتة في مداها وفي اتجاهاتها، شريطة أن تكون بالغة السرعة، وقوية التأثير..

ولن يكون الإنتقال إلى هذه الحركات سهلاً وميسوراً، إلا لأقل القليل من الناس.

فكيف إذا كان هؤلاء المقاتلون في صفوف العدو، لا يقومون بعمل اختاروه لأنفسهم، بل تكون حركتهم مجرد رد فعل، يفقدون معه أي خيار، أو اختيار لموقع القتال ولأسلوبه، فضلاً عن عجزهم عن استهداف أي

١٦٢

نقطة بالقتال، بالإضافة إلى الضعف الذي سوف يعتري طبيعة حركاتهم القتالية نفسها..

والخلاصة: أن هذه المفاجأة بالقتال لابد أن تربكهم، وتمنعهم من التأمل ومن التدبر والتدبير، ومن تدارك خطة مدروسة لمواجهة الموقف.

8 ـ إن للتوقيت وتحديد ساعة الصفر أهمية بالغة في النجاح في الحرب، فإن المفاجأة إذا كانت في وقت الصبح، على قاعدة:( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحاً ) (1) ، فلا بد أن تكون فرص نجاحها أكبر وأوفر، ويقول النص التاريخي: إنه في الغزوة التي نزلت فيها سورة العاديات أغار علي (عليه‌السلام ) على العدو في ذات السلاسل، فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس، ثم غار عليهم بأصحابه، فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم.. عملاً بمبدأ المفاجأة، وبمبدأ سرعة العمل، وبمبدأ الحركة في وقت لا يمكن رصد الحركة فيه، بسبب طبيعة النور المنتشر في ذلك الوقت، والذي من شأنه أن يعطل الرؤية.

ومن جهة ثانية: فإن الفريق الذي لم يكلف بمهمات قتالية، ولو بمثل الرصد والحراسة، يميل في هذه الساعة إلى أن يخلد للراحة، ظناً منه أن غيره يشاركه في هذا الميل، فينسجم ظنه هذا مع رغبته تلك، ويستسلم من ثم لأحلامه اللذيذة، وتأخذه سنة الكرى، وهو أكثر طمأنينة، وأبعد عن التفكير فيما يزعج ويثير.

____________

1- الآية 3 من سورة العاديات.

١٦٣

وأما المكلف بالرصد أو بالحراسة، فإنه إذا كان قد سهر الليل، حتى بلغ ساعات الصباح الأولى، فلابد أن يتنفس هذا الساهر المرهق في هذا الوقت الصعداء، ويحسب أنه قد أنهى مهمته، وأن عليه أن يستريح، ويعوض جسده عن هذا السهر الطويل، بالنوم المستغرق والعميق..

وهذا كله يجعل المفاجأة لهؤلاء وأولئك كبيرة وخطيرة؛ حيث يكون الراصد والحارس في أقصى حالات الإرهاق، ويكون غيره من الناس مستغرقاً في أحلامه، ولن يكون قادراً على الإنتقال من حالة الإسترخاء الشديد بأقصى درجاته إلى حالة الإستنفار، بل إلى الدخول في أعنف حالات الحركات القتالية، التي لا يقتصر الأمر فيها على أن يفكر في الأسلوب وفي الطريقة القتالية التي يختارها وحسب. بل عليه أن يفكر في اكتشاف الحركة القتالية للعدو أولاً، ثم يعود إلى نفسه ليفكر فيما يمتلكه من وسائل دفعها، وفي كيفية استعمال تلك الوسائل بما يناسب حركة العدو هذه..

وفي سياق آخر نقول:

إن المغير يعرف هدفه، وقد حدده ورسم خطة للتعامل معه، وهو ينفذ ما رسم.

أما المستهدفون بالغارة، فلا يعرفون شيئاً عن مواقع المهاجمين أو عن خطتهم، أو حالاتهم، وليس لديهم أية وسيلة لكشف ذلك فيهم، لأن العين وهي حاسة الرؤية تكون معطلة بسبب الظلمة، والنور الضئيل الذي ربما يكون قد بدأ ينتشر إنما هو في مستوى محدود، ولا يغير من

١٦٤

الواقع شيئاً..

وحتى في حالات الحرب في العصور الحديثة، فمن جهة تكون أجهزة الرصد غير ذات أثر، فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وكذلك بعد غياب الشمس إلى مضي حوالي ساعة من أول الليل.

ومن جهة أخرى تكون العين المجردة محجوبة بالظلمة، أو تكون دائرة عملها محاصرة ومحدودة بمقدار النور الذي استطاع أن يقتحم جحافل الظلام، وأن يتسلل إلى ثنايا تراكماته المهيمنة..

9 ـ وهنا يأتي دور النقع والغبار، الذي يثور في ساحة المعركة، بسبب سرعة حركة الخيل المغيرة، ليكون الساتر، والمانع من استفادة العدو حتى من كمية النور الضئيلة، التي تسللت إلى الأفق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

كما أن لهذا النقع دوراً في إرباك حركة العدو، وفي التأثير على مخيلته، ويهيء الفرصة لتوهم كيفيات وصور قتالية ضخمة ومهولة، لا وجود لها في الواقع.

ومن شأن هذا أيضاً أن يزيد ذلك العدو ضعفاً ووهناً، ويؤكد هزيمته الروحية، وربما يكون سبباً في مبادرته إلى هدر طاقات، وبذل جهد في غير الاتجاه الصحيح.

10 ـ ثم يأتي دور تلك الخيل العادية في الالتفاف على العدو، ومحاصرته وصيرورته في وسط تلك الخيل بسرعة حسبما أشير إليه في قوله

١٦٥

تعالى:( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) (1) ، حتى إذا رأى العدو أنه يواجه القتال في كل اتجاه، فإنه يصاب بالإحباط، وباليأس من أن تتيح له المقاومة شيئاً ذا بال، وستتأكد لديه القناعة بأنه لا فائدة من الاستمرار فيها، لأن حصادها لن يكون في هذه الحال سوى أن يصبح طعمة للسيوف، وأن يلاقي الحتوف، وفي مثل هذه الحال سيرى: أن الاستسلام هو الأرجح والأصلح.

وقد أظهرت النصوص المنقولة، وكذلك نزول هذه السورة المباركة في هذه المناسبة: أن علياً (عليه‌السلام ) قد طبق هذه الأمور كلها في غزوة ذات السلاسل.

فصلوات الله وسلامه على علي، سيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين، إلى جنات النعيم.

____________

1- الآية 5 من سورة العاديات.

١٦٦

الفصل الثالث:

بنو خثعم وعلي (عليه‌السلام )..

١٦٧

١٦٨

سرية علي (عليه‌السلام ) إلى بني خثعم:

عن سلمان الفارسي (رحمه‌الله ) قال: بينما أجمع ما كنا حول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) ما خلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) إذ أقبل أعرابي بدوي، فتخطى صفوف المهاجرين والأنصار حتى جثا بين يدي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فسأله النبي عن نفسه، وما جاء به، فأخبره أنه رجل من بني لجيم.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (ما وراك (يا أخا) لجيم)؟!

قال: يا رسول الله خلفت خثعم، وقد تهيأوا وعبأوا كتائبهم، وخلفت الرايات تخفق فوق رؤوسهم، يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة من رجال خثعم، يتألَّون باللَّات والعزى أن لا يرجعوا حتى يردوا المدينة، فيقتلوك ومن معك يا رسول الله.

قال: فدمعت عينا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى أبكى جميع أصحابه، ثم قال: (يا معشر الناس، سمعتم مقالة الأعرابي)؟!

قالوا: كلّ قد سمعنا يا رسول الله.

____________

1- أي كنا حول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كأجمع ما يكون.

١٦٩

قال: (فمن منكم يخرج إلى هؤلاء القوم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا، لعل الله يفتح على يديه، وأضمن له على الله الجنة؟!

قال: فوالله ما قال أحد: أنا يا رسول الله.

قال: فقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على قدميه وهو يقول: (معاشر أصحابي هل سمعتم مقالة الأعرابي)؟!

قالوا: كلّ قد سمعنا يا رسول الله.

قال: (فمن منكم يخرج إليهم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا، لعل الله أن يفتح على يديه، وأضمن له على الله اثني عشر قصراً في الجنة).

قال: فوالله ما قال أحد: أنا يا رسول.

قال: فبينما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) واقف إذ أقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )، فلما نظر إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) واقفاً ودموعه تنحدر كأنها جمان انقطع سلكه على خديه لم يتمالك أن رمى بنفسه عن بعيره إلى الأرض، ثم أقبل يسعى نحو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يمسح بردائه الدموع عن وجه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو يقول: ما الذي أبكاك؟! لا أبكى الله، عينيك يا حبيب الله! هل نزل في أمتك شيء من السماء؟!

قال: (يا علي، ما نزل فيهم إلا خير، ولكن هذا الأعرابي حدثني عن رجال خثعم بأنهم قد عبأوا كتائبهم.

ثم ذكر له ما جرى، فطلب منه أن يصف له القصور، فوصفها له.

فقال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ): فداك أمي وأبي يا

١٧٠

رسول الله، أنا لهم.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (يا علي، هذا لك وأنت له، أنجد إلى القوم).

فجهزه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خمسين ومائة رجل من الأنصار والمهاجرين، فقام ابن عباس، وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله تجهز ابن عمي في خمسين ومائة رجل من العرب إلى خمسمائة رجل وفيهم الحارث بن مكيدة يعد بخسمائة فارس؟!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (امط عني يا ابن عباس، فوالذي بعثني بالحق لو كانوا على عدد الثرى وعليٌّ وحده لأعطى الله عليهم النصر حتى يأتينا بسبيهم أجمعين).

فجهزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو يقول: (اذهب يا حبيبي، حفظك الله من تحتك، ومن فوقك، وعن يمينك، وعن شمالك، الله خليفتي عليك).

فسار علي (عليه‌السلام ) بمن معه حتى نزلوا بواد خلف المدينة بثلاثة أميال يقال له: وادي ذي خشب، قال: فوردوا الوادي ليلاً، فضلوا الطريق، قال: فرفع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) رأسه إلى السماء وهو يقول: يا هادي كل ضال، ويا مفرج كل مغموم، لا تقو علينا ظالماً، ولا تظفر بنا عدونا، واهدنا إلى سبيل الرشاد.

قال: فإذا الخيل يقدح بحوافرها من الحجارة النار، حتى عرفوا الطريق فسلكوه، فأنزل الله على نبيه محمد:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً.. ) يعنى الخيل

١٧١

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ) قال: قدحت الخيل بحوافرها من الحجارة النار( فَالُمغِيرَاتِ صُبْحاً ) قال: صبحهم علي مع طلوع الفجر.

وكان لا يسبقه أحد إلى الأذان، فلما سمع المشركون الاذان قال بعضهم لبعض: ينبغي أن يكون راعٍ في رؤوس هذه الجبال يذكر الله.

فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

قال بعضهم لبعض: ينبغى أن يكون الراعي من أصحاب الساحر الكذاب.

وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لا يقاتل حتى تطلع الشمس، وتنزل ملائكة النهار.

قال: فلما أن دخل النهار، التفت أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى صاحب راية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فقال له: ارفعها.

فلما أن رفعها، ورآها المشركون عرفوها، وقال بعضهم لبعض: هذا عدوكم الذي جئتم تطلبونه، هذا محمد وأصحابه.

قال: فخرج غلام من المشركين، من أشدهم بأساً، وأكفرهم كفراً، فنادى أصحاب النبي: يا أصحاب الساحر الكذاب، أيكم محمد؟! فليبرز إليَّ.

فخرج إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) وهو يقول: ثكلتك أمك أنت الساحر الكذاب، محمد جاء بالحق من عند الحق.

قال له: من أنت؟!

١٧٢

قال: أنا علي بن أبي طالب، أخو رسول الله، و ابن عمه، وزوج ابنته.

قال: لك هذه المنزلة من محمد؟!

قال له علي: نعم.

قال: فأنت ومحمد شرع واحد، ما كنت أبالي لقيتك أو لقيت محمداً، ثم شد على علي وهو يقول:

لاقيت يا علي ضيغماً(1)

قرماً كريماً في الوغا معلَّما

ليثاً شديداً من رجال خثعماً

ينصر ديناً معلماً ومحكما

فأجابه علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) وهو يقول:

لاقيت قرناً حدثاً وضيغماً

ليثاً شديداً في الوغا غشمشما

أنا علي سأبير خثعماً

بكل خطِّيٍّ يري النقع دما

وكـل صـارم يثبت الضرب فينعـما(2)

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه، فاختلف بينهما ضربتان، فضربه علي (عليه‌السلام ) ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ): هل من مبارز؟!

____________

1- هذا الشعر ورد هكذا، ولا يخفى عدم استقامة الوزن في هذا الشطر. ولعل الصحيح:

لاقيت حقــاً يا عـلي ضـيـغـماً***ليثـاً شديـداً في الـوغـا غشمشـما

2- هذا الشطر غير مستقيم الوزن.

١٧٣

فبرز أخ للمقتول، وحمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ضربة، فقتله وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى علي (عليه‌السلام ): هل من مبارز؟!

فبرز له الحارث بن مكيدة، وكان صاحب الجمع، وهو يعد بخمسمائة فارس، وهو الذي أنزل الله فيه:( إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) ، قال: كفور( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) قال: شهيد عليه بالكفر( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ): يعني باتباعه محمداً.

فلما برز الحارث، حمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه علي ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار.

ثم نادى علي (عليه‌السلام ): هل من مبارز؟!

فبرز إليه ابن عمه، يقال له: عمرو بن الفتاك، وهو يقول:

أنا عمرو وأبي الفتاك

وبيدي نصل سيف هتاك

أقطـع بـه الـرؤس لمـن أرى كـذاك

فأجابه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وهو يقول:

هاكها مترعة دهاقا

كأس دهاق مزجت زعاقا

إني امرؤ إذا ما لاقا

أقد الهام وأجذ ساقـا(1)

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه علي (عليه‌السلام ) ضربة

____________

1- يلاحظ ما في هذا البيت من اختلال الوزن. وكذلك الحال في شعر ابن الفتاك.

١٧٤

فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى علي (عليه‌السلام ): هل من مبارز؟!

فلم يبرز إليه أحد، فشد أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عليهم حتى توسط جمعهم، فذلك قول الله:( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) ، فقتل علي (عليه‌السلام ) مقاتليهم، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وأقبل بسبيهم إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فبلغ ذلك النبي، فخرج وجميع أصحابه حتى استقبل علياً (عليه‌السلام ) على ثلاثة أميال من المدينة.

وأقبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يمسح الغبار عن وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) بردائه، ويقبل بين عينيه ويبكي، وهو يقول:

(الحمد لله يا علي الذي شد بك أزري، وقوَّى بك ظهري. يا علي، إنني سألت الله فيك كما سأل أخي موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه أن يشرك هارون في أمره، وقد سألت ربي أن يشد بك أزري).

ثم التفت إلى أصحابه وهو يقول:

(معاشر أصحابي لا تلوموني في حب علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )، فإنما حبي علياً من أمر الله، والله أمرني أن أحب علياً وأدنيه، يا علي، من أحبك فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب الله أحبه الله، وحقيق على الله أن يسكن محبيه الجنة.

يا علي، من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن

١٧٥

أبغض الله أبغضه ولعنه، وحقيق على الله أن يوقفه يوم القيامة موقف البغضاء، ولا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً)(1) .

ونقول:

لا بأس بعطف النظر إلى الأمور التالية:

نزول سورة العاديات:

بالنسبة لنزول سورة العاديات في هذه المناسبة نقول:

قد تحدثنا عن أصول الحرب في هذه السورة في آخر الفصل السابق، فلا بأس بمراجعته.. غير أننا نقول:

إن مضامين الآيات لا تتطابق مع المعاني التي تريد الرواية أن تعزوها إليها، فلاحظ ذلك.

أين كان ابن عباس؟!:

ذكرت الرواية: اعتراض ابن عباس على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لإرساله علياً في مئة وخمسين رجلاً لمواجهة خمس مئة رجل فيهم الحارث بن مكيدة، الذي يعد بخمس مئة فارس(2) .

ونحن نرتاب في صحة ذلك:

أولاً: لشكنا في أن يكون ابن عباس في المدينة آنئذٍ لأن العباس إنما

____________

1- بحار الأنوار ج21 ص84 ـ 90 عن تفسير فرات ص593 ـ 598.

2- بحار الأنوار ج21 ص87 وتفسير فرات الكوفي ص595.

١٧٦

أسلم في فتح مكة، وهاجر إلى المدينة بعد ذلك، وكان قبل ذلك في مكة، والمفروض أن زوجته وأولاده كانوا معه.. والقضية التي نحن بصددها كانت قبل ذلك الفتح..

ثانياً: إن الناس قد عادوا من خيبر للتوّ، وقتل فيها علي (عليه‌السلام ) مرحب اليهودي، وقلع باب الحصن بيده، وقتل قبل ذلك عمرو بن عبد ود وهو يعد بألف فارس، وهزم جيش الأحزاب، وهزم أيضاً قريظة والنضير، والمشركين في أحد.. وفعل في بدر الأفاعيل بالمشركين، فلماذا يخشى عليه ابن عباس، أو غيره..

ثالثاً: إن ابن عباس كان في هذا الوقت صغيراً، فإن عمره ما بين الثمان إلى العشر سنوات، وحتى لو زاد عمره عن ذلك، فإن اعتراضه على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ليس مستساغاً، ولا مقبولاً لا سيما مع ما ظهر منه من جرأة وبعد عن الأدب واللياقة مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

كما أن الجواب المنسوب إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وهو قوله: أمط عني يا ابن عباس.. لا يخلو من قسوة على طفل بهذه السن..

جموع الأعداء:

وقالوا: إن بني خثعم قد جمعوا خمس مئة فارس لمهاجمة المدينة..

ونقول:

إذا كان ما جرى في الخندق، وأحد، وخيبر، قد بلغ الخثعميين، فمن البعيد أن يجرؤوا على غزو المدينة بخمس مئة مقاتل بهدف القتال والنزال.. إلا إن كانوا يقصدون الإغارة على أطرافها، وأخذ بعض المواشي والغنائم،

١٧٧

على طريقة العرب في شن غارات السلب والنهب..

والمقصود هو الإيقاع بالمسلمين بأخذهم على حين غرة منهم، تنتهي بقتل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وانفراط عقد جمع المسلمين معه، وارتكاب مذبحة هائلة فيهم..

فأراد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن يزيل هذا الخطر، فأرسل إليهم سيد الأولياء، وخير الأوصياء علياً (عليه‌السلام )، فنصره الله عليهم، وأبطل بغيهم، وكيدهم..

بكاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لماذا؟!:

وتذكر الرواية: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، بكى حتى أبكى جميع أصحابه، حين أعلمه ذلك الرجل بما عزم عليه بنو خثعم..

والسؤال هو: إن كان بكاؤه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خوفاً، أو ضعفاً، فإنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد واجه أضعاف هذه الأعداد في عدة حروب، حين كان المسلمون في غاية القلة، مع فقد الإمكانات، وضعف التجهيزات. ولم نره يخاف أو يضعف.

على أنه لا بد من تنزيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن هذه المعاني التي تعني أن ثمة خللاً حقيقياً في ثقته بالله، وفي معرفته به، وهو يناقض الكثير من توجيهاته لأصحابه..

يضاف إلى ذلك: أنه الآن قد أصبح قادراً على حشد أضعاف ما حشده الخثعميون..

١٧٨

وإن كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد بكى إشفاقاً على بعض أصحابه من أن يصيبهم سوء، فلماذا لم نره يبكي إشفاقاً عليهم قبل الدخول في حرب بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وسواها؟!

ولماذا كان هذا البكاء علنياً، ألا يوجب وهناً في المسلمين؟! وإطماعاً لعدوهم بهم، فيكون نقضاً للغرض، وتفريطاً غير مقبول..

لا مبرر لإحجام المسلمين:

ثم إننا لم نجد مبرراً لإحجام المسلمين عن الخروج إلى بني خثعم، مع أنهم نفروا في حرب اليهود في قريظة، وخيبر، ولحرب الروم في مؤتة، ولحرب المشركين في أحد، وبدر والأحزاب..

مع العلم بأنه لم يكن بحاجة إلى أكثر من مئة وخمسين رجلاً.. لا سيما وأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ـ كما صرحت به الرواية عنه ـ كان يريد أن يظهر أثر علي (عليه‌السلام )، وفضله، ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله تعالى، وحرصه على الفوز برضاه، وشدة تفانيه في ذات الله.. ولو أرسله وحده، فإن الله تعالى ينصره عليهم.

هل ضلوا عن الطريق؟!:

ثم إننا نستبعد أن يكون علي (عليه‌السلام ) ومن معه قد ضلوا عن الطريق، فإنهم أهل البلاد، العارفون بمسالكها، وشعابها..

4-والأهم من ذلك أن قائدهم وهو أمير المؤمنين قد سلك هذه المسالك الوعرة في غزوة ذات السلاسل، حتى حرك ذلك عمرو بن العاص للإعتراض

١٧٩

عليه، بواسطة أبي بكر وعمر وخالد، فأجاب (عليه‌السلام ) بأنه يعلم ما يصنع..

ولو سلمنا أنهم قد ضلوا الطريق فكيف يكون قدح النار من حوافر الخيول قد أنار الطريق لهم حتى رأوه وعرفوه، وميزوه عن سائر الطرق.

متى تنزل ملائكة النهار؟!:

وفي الرواية: أن علياً (عليه‌السلام ) كان لا يقاتل حتى تطلع الشمس وتنزل ملائكة النهار.. ونقول:

أولاً: ذكرت الروايات الأخرى: أنه (عليه‌السلام ) كان لا يقاتل حتى تزول الشمس وأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ما بيت عدواً قط، فلا حاجة لإعادة ذلك.

مع أنه قد تقدم في بعض الروايات: أنه (عليه‌السلام ) أغار على الأعداء في غزوة ذات السلاسل حين طلوع الفجر.

وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق. ولعل الأقرب هو أنه إذا أراد يبدأ الحرب لم يبدأها إلا بعد الزوال، أما إذا كانت الحرب قد نشبت، فلا مانع من الإغارة على العدو حين الفجر أيضاً.

أما ابتداء الحرب حين طلوع الشمس فلم يكن من فعل علي (عليه‌السلام ).

ثانياً: إن ملائكة النهار تنزل من حين طلوع الفجر، لا حين طلوع الشمس، فقد روي ذلك عن الإمام الصادق (عليه‌السلام ) في تفسير قوله

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330