الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٥
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 330
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 330
والضبع: هو وسط العضد بلحمة، أو العضد كله، أو الإبط(1) .
وقيل: الضبح: صوت أجواف الخيل إذا عَدَتْ ليس بصهيل ولا حمحمة(2) .
4 ـ إن عَدْوَ الخيل هذا يشير إلى أنها دائمة الإنتقال من موقع إلى آخر.. وأنه انتقال سريع.. مما يدل على عدم التموضع في مكان بعينه. ولكنه انتقال هادف، يضع نصب عينيه نقطة بعينها يراد الوصول إليها. ومن شأن عدم التموضع، وسرعة الإنتقال هذه أن يحرما العدو من القدرة على تحديد مواضعهم ومواقعهم، ويجرده من فرصة رصد القوى العاملة في مكان بعينه، وهذا يفقده القدرة على التخطيط لأي عمل يمثل لها خطراً، أو يلحق بها ضرراً..
5 ـ إن شدة اندفاع الخيل في هجمتها تحتم على ذلك العدو أن يتراجع عن موقعه، وبالتالي أن يفقد السيطرة على حركته، ويفقده أيضاً وعي هذه الحركة، وتقديرها.. وتحديد مداها، ومواقعها، وأهدافها، وأماكنها..
ثم هو لا يملك قدرة العودة إلى أي موقع يرغب في العودة إليه.. وهذا مأزق لا يختار المحارب أن يضع نفسه فيه، بل هو يريد أن يكون زمام
____________
1- راجع: أقرب الموارد، مادة: ضبع، وراجع: بدائع الصنائع ج1 ص210 وكتاب العين ج1 ص284 ولسان العرب ج8 ص216.
2- بحار الأنوار ج21 ص66 عن مجمع البيان ج10 ص528 و 529 و (ط مؤسسة الأعلمي) ص421 و 422 وكتاب العين للفراهيدي ج3 ص110 ولسان العرب ج2 ص543 والقاموس المحيط ج1 ص226 وتاج العروس ج2 ص186.
المبادرة بيده، وأن يكون قادراً على التقلب في خياراته، حسبما يحلو له.
6 ـ إنه إذا صاحب هذا الاندفاع القوي للخيل كيفيات وحالات خاصة، مثل الأصوات الغامضة، أو الهيئات المخيفة، ومنها صوت ضبح الخيل الذي يدعوهم لتصور حجم اندفاع عدوهم نحوهم، ثم إذا صاحب ذلك لمعات نارية خاطفة وكثيرة، حين تقدح الخيل الشرر بحوافرها، فسوف يتشارك لدى ذلك العدوِّ السمع والبصر في رسم صورة الخطر الداهم، وما يحمله من عنف، من شأنه أن يزعزع ثباته، ويهزمه في عمق وجوده.
بل قد يوجب قدح النار تحت حوافر الخيل نشوء حالة تضليلية، من خلال تلهي أفراد العدو بالنظر إليها، وإثارة التكهنات حولها، فتتهيأ الفرصة لمفاجأتهم بالقتال المرير، والضاري.
هذا كله، عدا عن أن قدح النار من حوافر الخيل، يبهج روح فرسانها، ويقوي من اندفاعهم، ما دام أنه ناتج عن حركتهم وفعلهم.
7 ـ ويأتي بعد ذلك كله عنصر المفاجأة بالقتال، بشتى أنواعه، التي يحتاج العدو في تحرزه منها إلى حركات متفاوتة في مداها وفي اتجاهاتها، شريطة أن تكون بالغة السرعة، وقوية التأثير..
ولن يكون الإنتقال إلى هذه الحركات سهلاً وميسوراً، إلا لأقل القليل من الناس.
فكيف إذا كان هؤلاء المقاتلون في صفوف العدو، لا يقومون بعمل اختاروه لأنفسهم، بل تكون حركتهم مجرد رد فعل، يفقدون معه أي خيار، أو اختيار لموقع القتال ولأسلوبه، فضلاً عن عجزهم عن استهداف أي
نقطة بالقتال، بالإضافة إلى الضعف الذي سوف يعتري طبيعة حركاتهم القتالية نفسها..
والخلاصة: أن هذه المفاجأة بالقتال لابد أن تربكهم، وتمنعهم من التأمل ومن التدبر والتدبير، ومن تدارك خطة مدروسة لمواجهة الموقف.
8 ـ إن للتوقيت وتحديد ساعة الصفر أهمية بالغة في النجاح في الحرب، فإن المفاجأة إذا كانت في وقت الصبح، على قاعدة:( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحاً ) (1) ، فلا بد أن تكون فرص نجاحها أكبر وأوفر، ويقول النص التاريخي: إنه في الغزوة التي نزلت فيها سورة العاديات أغار علي (عليهالسلام ) على العدو في ذات السلاسل، فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس، ثم غار عليهم بأصحابه، فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم.. عملاً بمبدأ المفاجأة، وبمبدأ سرعة العمل، وبمبدأ الحركة في وقت لا يمكن رصد الحركة فيه، بسبب طبيعة النور المنتشر في ذلك الوقت، والذي من شأنه أن يعطل الرؤية.
ومن جهة ثانية: فإن الفريق الذي لم يكلف بمهمات قتالية، ولو بمثل الرصد والحراسة، يميل في هذه الساعة إلى أن يخلد للراحة، ظناً منه أن غيره يشاركه في هذا الميل، فينسجم ظنه هذا مع رغبته تلك، ويستسلم من ثم لأحلامه اللذيذة، وتأخذه سنة الكرى، وهو أكثر طمأنينة، وأبعد عن التفكير فيما يزعج ويثير.
____________
1- الآية 3 من سورة العاديات.
وأما المكلف بالرصد أو بالحراسة، فإنه إذا كان قد سهر الليل، حتى بلغ ساعات الصباح الأولى، فلابد أن يتنفس هذا الساهر المرهق في هذا الوقت الصعداء، ويحسب أنه قد أنهى مهمته، وأن عليه أن يستريح، ويعوض جسده عن هذا السهر الطويل، بالنوم المستغرق والعميق..
وهذا كله يجعل المفاجأة لهؤلاء وأولئك كبيرة وخطيرة؛ حيث يكون الراصد والحارس في أقصى حالات الإرهاق، ويكون غيره من الناس مستغرقاً في أحلامه، ولن يكون قادراً على الإنتقال من حالة الإسترخاء الشديد بأقصى درجاته إلى حالة الإستنفار، بل إلى الدخول في أعنف حالات الحركات القتالية، التي لا يقتصر الأمر فيها على أن يفكر في الأسلوب وفي الطريقة القتالية التي يختارها وحسب. بل عليه أن يفكر في اكتشاف الحركة القتالية للعدو أولاً، ثم يعود إلى نفسه ليفكر فيما يمتلكه من وسائل دفعها، وفي كيفية استعمال تلك الوسائل بما يناسب حركة العدو هذه..
وفي سياق آخر نقول:
إن المغير يعرف هدفه، وقد حدده ورسم خطة للتعامل معه، وهو ينفذ ما رسم.
أما المستهدفون بالغارة، فلا يعرفون شيئاً عن مواقع المهاجمين أو عن خطتهم، أو حالاتهم، وليس لديهم أية وسيلة لكشف ذلك فيهم، لأن العين وهي حاسة الرؤية تكون معطلة بسبب الظلمة، والنور الضئيل الذي ربما يكون قد بدأ ينتشر إنما هو في مستوى محدود، ولا يغير من
الواقع شيئاً..
وحتى في حالات الحرب في العصور الحديثة، فمن جهة تكون أجهزة الرصد غير ذات أثر، فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وكذلك بعد غياب الشمس إلى مضي حوالي ساعة من أول الليل.
ومن جهة أخرى تكون العين المجردة محجوبة بالظلمة، أو تكون دائرة عملها محاصرة ومحدودة بمقدار النور الذي استطاع أن يقتحم جحافل الظلام، وأن يتسلل إلى ثنايا تراكماته المهيمنة..
9 ـ وهنا يأتي دور النقع والغبار، الذي يثور في ساحة المعركة، بسبب سرعة حركة الخيل المغيرة، ليكون الساتر، والمانع من استفادة العدو حتى من كمية النور الضئيلة، التي تسللت إلى الأفق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
كما أن لهذا النقع دوراً في إرباك حركة العدو، وفي التأثير على مخيلته، ويهيء الفرصة لتوهم كيفيات وصور قتالية ضخمة ومهولة، لا وجود لها في الواقع.
ومن شأن هذا أيضاً أن يزيد ذلك العدو ضعفاً ووهناً، ويؤكد هزيمته الروحية، وربما يكون سبباً في مبادرته إلى هدر طاقات، وبذل جهد في غير الاتجاه الصحيح.
10 ـ ثم يأتي دور تلك الخيل العادية في الالتفاف على العدو، ومحاصرته وصيرورته في وسط تلك الخيل بسرعة حسبما أشير إليه في قوله
تعالى:( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) (1) ، حتى إذا رأى العدو أنه يواجه القتال في كل اتجاه، فإنه يصاب بالإحباط، وباليأس من أن تتيح له المقاومة شيئاً ذا بال، وستتأكد لديه القناعة بأنه لا فائدة من الاستمرار فيها، لأن حصادها لن يكون في هذه الحال سوى أن يصبح طعمة للسيوف، وأن يلاقي الحتوف، وفي مثل هذه الحال سيرى: أن الاستسلام هو الأرجح والأصلح.
وقد أظهرت النصوص المنقولة، وكذلك نزول هذه السورة المباركة في هذه المناسبة: أن علياً (عليهالسلام ) قد طبق هذه الأمور كلها في غزوة ذات السلاسل.
فصلوات الله وسلامه على علي، سيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين، إلى جنات النعيم.
____________
1- الآية 5 من سورة العاديات.
بنو خثعم وعلي (عليهالسلام )..
سرية علي (عليهالسلام ) إلى بني خثعم:
عن سلمان الفارسي (رحمهالله ) قال: بينما أجمع ما كنا حول النبي (صلىاللهعليهوآله )(1) ما خلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) إذ أقبل أعرابي بدوي، فتخطى صفوف المهاجرين والأنصار حتى جثا بين يدي رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فسأله النبي عن نفسه، وما جاء به، فأخبره أنه رجل من بني لجيم.
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): (ما وراك (يا أخا) لجيم)؟!
قال: يا رسول الله خلفت خثعم، وقد تهيأوا وعبأوا كتائبهم، وخلفت الرايات تخفق فوق رؤوسهم، يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة من رجال خثعم، يتألَّون باللَّات والعزى أن لا يرجعوا حتى يردوا المدينة، فيقتلوك ومن معك يا رسول الله.
قال: فدمعت عينا النبي (صلىاللهعليهوآله ) حتى أبكى جميع أصحابه، ثم قال: (يا معشر الناس، سمعتم مقالة الأعرابي)؟!
قالوا: كلّ قد سمعنا يا رسول الله.
____________
1- أي كنا حول النبي (صلىاللهعليهوآله ) كأجمع ما يكون.
قال: (فمن منكم يخرج إلى هؤلاء القوم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا، لعل الله يفتح على يديه، وأضمن له على الله الجنة؟!
قال: فوالله ما قال أحد: أنا يا رسول الله.
قال: فقام النبي (صلىاللهعليهوآله ) على قدميه وهو يقول: (معاشر أصحابي هل سمعتم مقالة الأعرابي)؟!
قالوا: كلّ قد سمعنا يا رسول الله.
قال: (فمن منكم يخرج إليهم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا، لعل الله أن يفتح على يديه، وأضمن له على الله اثني عشر قصراً في الجنة).
قال: فوالله ما قال أحد: أنا يا رسول.
قال: فبينما النبي (صلىاللهعليهوآله ) واقف إذ أقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام )، فلما نظر إلى النبي (صلىاللهعليهوآله ) واقفاً ودموعه تنحدر كأنها جمان انقطع سلكه على خديه لم يتمالك أن رمى بنفسه عن بعيره إلى الأرض، ثم أقبل يسعى نحو النبي (صلىاللهعليهوآله ) يمسح بردائه الدموع عن وجه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وهو يقول: ما الذي أبكاك؟! لا أبكى الله، عينيك يا حبيب الله! هل نزل في أمتك شيء من السماء؟!
قال: (يا علي، ما نزل فيهم إلا خير، ولكن هذا الأعرابي حدثني عن رجال خثعم بأنهم قد عبأوا كتائبهم.
ثم ذكر له ما جرى، فطلب منه أن يصف له القصور، فوصفها له.
فقال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ): فداك أمي وأبي يا
رسول الله، أنا لهم.
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): (يا علي، هذا لك وأنت له، أنجد إلى القوم).
فجهزه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في خمسين ومائة رجل من الأنصار والمهاجرين، فقام ابن عباس، وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله تجهز ابن عمي في خمسين ومائة رجل من العرب إلى خمسمائة رجل وفيهم الحارث بن مكيدة يعد بخسمائة فارس؟!
فقال النبي (صلىاللهعليهوآله ): (امط عني يا ابن عباس، فوالذي بعثني بالحق لو كانوا على عدد الثرى وعليٌّ وحده لأعطى الله عليهم النصر حتى يأتينا بسبيهم أجمعين).
فجهزه النبي (صلىاللهعليهوآله ) وهو يقول: (اذهب يا حبيبي، حفظك الله من تحتك، ومن فوقك، وعن يمينك، وعن شمالك، الله خليفتي عليك).
فسار علي (عليهالسلام ) بمن معه حتى نزلوا بواد خلف المدينة بثلاثة أميال يقال له: وادي ذي خشب، قال: فوردوا الوادي ليلاً، فضلوا الطريق، قال: فرفع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) رأسه إلى السماء وهو يقول: يا هادي كل ضال، ويا مفرج كل مغموم، لا تقو علينا ظالماً، ولا تظفر بنا عدونا، واهدنا إلى سبيل الرشاد.
قال: فإذا الخيل يقدح بحوافرها من الحجارة النار، حتى عرفوا الطريق فسلكوه، فأنزل الله على نبيه محمد:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً.. ) يعنى الخيل
( فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ) قال: قدحت الخيل بحوافرها من الحجارة النار( فَالُمغِيرَاتِ صُبْحاً ) قال: صبحهم علي مع طلوع الفجر.
وكان لا يسبقه أحد إلى الأذان، فلما سمع المشركون الاذان قال بعضهم لبعض: ينبغي أن يكون راعٍ في رؤوس هذه الجبال يذكر الله.
فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
قال بعضهم لبعض: ينبغى أن يكون الراعي من أصحاب الساحر الكذاب.
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) لا يقاتل حتى تطلع الشمس، وتنزل ملائكة النهار.
قال: فلما أن دخل النهار، التفت أمير المؤمنين (عليهالسلام ) إلى صاحب راية النبي (صلىاللهعليهوآله ) فقال له: ارفعها.
فلما أن رفعها، ورآها المشركون عرفوها، وقال بعضهم لبعض: هذا عدوكم الذي جئتم تطلبونه، هذا محمد وأصحابه.
قال: فخرج غلام من المشركين، من أشدهم بأساً، وأكفرهم كفراً، فنادى أصحاب النبي: يا أصحاب الساحر الكذاب، أيكم محمد؟! فليبرز إليَّ.
فخرج إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) وهو يقول: ثكلتك أمك أنت الساحر الكذاب، محمد جاء بالحق من عند الحق.
قال له: من أنت؟!
قال: أنا علي بن أبي طالب، أخو رسول الله، و ابن عمه، وزوج ابنته.
قال: لك هذه المنزلة من محمد؟!
قال له علي: نعم.
قال: فأنت ومحمد شرع واحد، ما كنت أبالي لقيتك أو لقيت محمداً، ثم شد على علي وهو يقول:
لاقيت يا علي ضيغماً(1) |
قرماً كريماً في الوغا معلَّما |
|
ليثاً شديداً من رجال خثعماً |
ينصر ديناً معلماً ومحكما |
فأجابه علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) وهو يقول:
لاقيت قرناً حدثاً وضيغماً |
ليثاً شديداً في الوغا غشمشما |
|
أنا علي سأبير خثعماً |
بكل خطِّيٍّ يري النقع دما |
وكـل صـارم يثبت الضرب فينعـما(2)
ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه، فاختلف بينهما ضربتان، فضربه علي (عليهالسلام ) ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى أمير المؤمنين (عليهالسلام ): هل من مبارز؟!
____________
1- هذا الشعر ورد هكذا، ولا يخفى عدم استقامة الوزن في هذا الشطر. ولعل الصحيح:
لاقيت حقــاً يا عـلي ضـيـغـماً***ليثـاً شديـداً في الـوغـا غشمشـما
2- هذا الشطر غير مستقيم الوزن.
فبرز أخ للمقتول، وحمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه أمير المؤمنين (عليهالسلام ) ضربة، فقتله وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى علي (عليهالسلام ): هل من مبارز؟!
فبرز له الحارث بن مكيدة، وكان صاحب الجمع، وهو يعد بخمسمائة فارس، وهو الذي أنزل الله فيه:( إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) ، قال: كفور( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) قال: شهيد عليه بالكفر( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ): يعني باتباعه محمداً.
فلما برز الحارث، حمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه علي ضربة فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار.
ثم نادى علي (عليهالسلام ): هل من مبارز؟!
فبرز إليه ابن عمه، يقال له: عمرو بن الفتاك، وهو يقول:
أنا عمرو وأبي الفتاك |
وبيدي نصل سيف هتاك |
أقطـع بـه الـرؤس لمـن أرى كـذاك
فأجابه أمير المؤمنين (عليهالسلام ) وهو يقول:
هاكها مترعة دهاقا |
كأس دهاق مزجت زعاقا |
|
إني امرؤ إذا ما لاقا |
أقد الهام وأجذ ساقـا(1) |
ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه، فضربه علي (عليهالسلام ) ضربة
____________
1- يلاحظ ما في هذا البيت من اختلال الوزن. وكذلك الحال في شعر ابن الفتاك.
فقتله، وعجل الله بروحه إلى النار، ثم نادى علي (عليهالسلام ): هل من مبارز؟!
فلم يبرز إليه أحد، فشد أمير المؤمنين (عليهالسلام ) عليهم حتى توسط جمعهم، فذلك قول الله:( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) ، فقتل علي (عليهالسلام ) مقاتليهم، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وأقبل بسبيهم إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
فبلغ ذلك النبي، فخرج وجميع أصحابه حتى استقبل علياً (عليهالسلام ) على ثلاثة أميال من المدينة.
وأقبل النبي (صلىاللهعليهوآله ) يمسح الغبار عن وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) بردائه، ويقبل بين عينيه ويبكي، وهو يقول:
(الحمد لله يا علي الذي شد بك أزري، وقوَّى بك ظهري. يا علي، إنني سألت الله فيك كما سأل أخي موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه أن يشرك هارون في أمره، وقد سألت ربي أن يشد بك أزري).
ثم التفت إلى أصحابه وهو يقول:
(معاشر أصحابي لا تلوموني في حب علي بن أبي طالب (عليهالسلام )، فإنما حبي علياً من أمر الله، والله أمرني أن أحب علياً وأدنيه، يا علي، من أحبك فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب الله أحبه الله، وحقيق على الله أن يسكن محبيه الجنة.
يا علي، من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن
أبغض الله أبغضه ولعنه، وحقيق على الله أن يوقفه يوم القيامة موقف البغضاء، ولا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً)(1) .
ونقول:
لا بأس بعطف النظر إلى الأمور التالية:
نزول سورة العاديات:
بالنسبة لنزول سورة العاديات في هذه المناسبة نقول:
قد تحدثنا عن أصول الحرب في هذه السورة في آخر الفصل السابق، فلا بأس بمراجعته.. غير أننا نقول:
إن مضامين الآيات لا تتطابق مع المعاني التي تريد الرواية أن تعزوها إليها، فلاحظ ذلك.
أين كان ابن عباس؟!:
ذكرت الرواية: اعتراض ابن عباس على النبي (صلىاللهعليهوآله ) لإرساله علياً في مئة وخمسين رجلاً لمواجهة خمس مئة رجل فيهم الحارث بن مكيدة، الذي يعد بخمس مئة فارس(2) .
ونحن نرتاب في صحة ذلك:
أولاً: لشكنا في أن يكون ابن عباس في المدينة آنئذٍ لأن العباس إنما
____________
1- بحار الأنوار ج21 ص84 ـ 90 عن تفسير فرات ص593 ـ 598.
2- بحار الأنوار ج21 ص87 وتفسير فرات الكوفي ص595.
أسلم في فتح مكة، وهاجر إلى المدينة بعد ذلك، وكان قبل ذلك في مكة، والمفروض أن زوجته وأولاده كانوا معه.. والقضية التي نحن بصددها كانت قبل ذلك الفتح..
ثانياً: إن الناس قد عادوا من خيبر للتوّ، وقتل فيها علي (عليهالسلام ) مرحب اليهودي، وقلع باب الحصن بيده، وقتل قبل ذلك عمرو بن عبد ود وهو يعد بألف فارس، وهزم جيش الأحزاب، وهزم أيضاً قريظة والنضير، والمشركين في أحد.. وفعل في بدر الأفاعيل بالمشركين، فلماذا يخشى عليه ابن عباس، أو غيره..
ثالثاً: إن ابن عباس كان في هذا الوقت صغيراً، فإن عمره ما بين الثمان إلى العشر سنوات، وحتى لو زاد عمره عن ذلك، فإن اعتراضه على النبي (صلىاللهعليهوآله )، ليس مستساغاً، ولا مقبولاً لا سيما مع ما ظهر منه من جرأة وبعد عن الأدب واللياقة مع النبي (صلىاللهعليهوآله ).
كما أن الجواب المنسوب إلى النبي (صلىاللهعليهوآله )، وهو قوله: أمط عني يا ابن عباس.. لا يخلو من قسوة على طفل بهذه السن..
جموع الأعداء:
وقالوا: إن بني خثعم قد جمعوا خمس مئة فارس لمهاجمة المدينة..
ونقول:
إذا كان ما جرى في الخندق، وأحد، وخيبر، قد بلغ الخثعميين، فمن البعيد أن يجرؤوا على غزو المدينة بخمس مئة مقاتل بهدف القتال والنزال.. إلا إن كانوا يقصدون الإغارة على أطرافها، وأخذ بعض المواشي والغنائم،
على طريقة العرب في شن غارات السلب والنهب..
والمقصود هو الإيقاع بالمسلمين بأخذهم على حين غرة منهم، تنتهي بقتل الرسول (صلىاللهعليهوآله )، وانفراط عقد جمع المسلمين معه، وارتكاب مذبحة هائلة فيهم..
فأراد (صلىاللهعليهوآله ) أن يزيل هذا الخطر، فأرسل إليهم سيد الأولياء، وخير الأوصياء علياً (عليهالسلام )، فنصره الله عليهم، وأبطل بغيهم، وكيدهم..
بكاء النبي (صلىاللهعليهوآله ) لماذا؟!:
وتذكر الرواية: أن النبي (صلىاللهعليهوآله )، بكى حتى أبكى جميع أصحابه، حين أعلمه ذلك الرجل بما عزم عليه بنو خثعم..
والسؤال هو: إن كان بكاؤه (صلىاللهعليهوآله ) خوفاً، أو ضعفاً، فإنه (صلىاللهعليهوآله ) قد واجه أضعاف هذه الأعداد في عدة حروب، حين كان المسلمون في غاية القلة، مع فقد الإمكانات، وضعف التجهيزات. ولم نره يخاف أو يضعف.
على أنه لا بد من تنزيه النبي (صلىاللهعليهوآله ) عن هذه المعاني التي تعني أن ثمة خللاً حقيقياً في ثقته بالله، وفي معرفته به، وهو يناقض الكثير من توجيهاته لأصحابه..
يضاف إلى ذلك: أنه الآن قد أصبح قادراً على حشد أضعاف ما حشده الخثعميون..
وإن كان (صلىاللهعليهوآله ) قد بكى إشفاقاً على بعض أصحابه من أن يصيبهم سوء، فلماذا لم نره يبكي إشفاقاً عليهم قبل الدخول في حرب بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وسواها؟!
ولماذا كان هذا البكاء علنياً، ألا يوجب وهناً في المسلمين؟! وإطماعاً لعدوهم بهم، فيكون نقضاً للغرض، وتفريطاً غير مقبول..
لا مبرر لإحجام المسلمين:
ثم إننا لم نجد مبرراً لإحجام المسلمين عن الخروج إلى بني خثعم، مع أنهم نفروا في حرب اليهود في قريظة، وخيبر، ولحرب الروم في مؤتة، ولحرب المشركين في أحد، وبدر والأحزاب..
مع العلم بأنه لم يكن بحاجة إلى أكثر من مئة وخمسين رجلاً.. لا سيما وأنه (صلىاللهعليهوآله ) ـ كما صرحت به الرواية عنه ـ كان يريد أن يظهر أثر علي (عليهالسلام )، وفضله، ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله تعالى، وحرصه على الفوز برضاه، وشدة تفانيه في ذات الله.. ولو أرسله وحده، فإن الله تعالى ينصره عليهم.
هل ضلوا عن الطريق؟!:
ثم إننا نستبعد أن يكون علي (عليهالسلام ) ومن معه قد ضلوا عن الطريق، فإنهم أهل البلاد، العارفون بمسالكها، وشعابها..
4-والأهم من ذلك أن قائدهم وهو أمير المؤمنين قد سلك هذه المسالك الوعرة في غزوة ذات السلاسل، حتى حرك ذلك عمرو بن العاص للإعتراض
عليه، بواسطة أبي بكر وعمر وخالد، فأجاب (عليهالسلام ) بأنه يعلم ما يصنع..
ولو سلمنا أنهم قد ضلوا الطريق فكيف يكون قدح النار من حوافر الخيول قد أنار الطريق لهم حتى رأوه وعرفوه، وميزوه عن سائر الطرق.
متى تنزل ملائكة النهار؟!:
وفي الرواية: أن علياً (عليهالسلام ) كان لا يقاتل حتى تطلع الشمس وتنزل ملائكة النهار.. ونقول:
أولاً: ذكرت الروايات الأخرى: أنه (عليهالسلام ) كان لا يقاتل حتى تزول الشمس وأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ما بيت عدواً قط، فلا حاجة لإعادة ذلك.
مع أنه قد تقدم في بعض الروايات: أنه (عليهالسلام ) أغار على الأعداء في غزوة ذات السلاسل حين طلوع الفجر.
وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق. ولعل الأقرب هو أنه إذا أراد يبدأ الحرب لم يبدأها إلا بعد الزوال، أما إذا كانت الحرب قد نشبت، فلا مانع من الإغارة على العدو حين الفجر أيضاً.
أما ابتداء الحرب حين طلوع الشمس فلم يكن من فعل علي (عليهالسلام ).
ثانياً: إن ملائكة النهار تنزل من حين طلوع الفجر، لا حين طلوع الشمس، فقد روي ذلك عن الإمام الصادق (عليهالسلام ) في تفسير قوله