الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)(المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٥

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 330
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 330
الحجابة والسقاية..
مفتاح الكعبة:
وحين فتحت مكة بعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) إلى عثمان بن طلحة، فأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال: لو علمت أنه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لم أمنعه منه، فصعد إلى السطح، فتبعه عليّ (عليهالسلام ) ولوى يده، وأخذ المفتاح منه قهراً، وفتح الباب(١) .
فلما نزل قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.. ) (٢) . أمره (صلىاللهعليهوآله ) أن يدفع المفتاح إليه، متلطفاً به، (ويعتذر إليه. وقال له: قل له: خذوها يا بني طلحة بأمنة الله، فاعملوا فيها بالمعروف، خالدة تالدة الخ..)(٣) .
فجاء علي (عليهالسلام ) بالمفتاح متلطفاً، فقال له: أكرهت وآذيت، ثم
____________
١- تاريخ الخميس ج٢ ص٨٧ و ٨٨ والسيرة الحلبية ج٣ ص٩٨ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٤٩ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٤٠٤ وبحار الأنوار ج٢١ ص١١٦.
٢- الآية ٥٨ من سورة النساء.
٣- راجع: تاريخ الخميس ج٢ ص٨٨ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص٢٨٢ وكشف الخفاء ج١ ص٣٧٤ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٨ ص٣٨٨ وإمتاع الأسماع ج١ ص٣٩٤ وج١٣ ص٣٨٤ وعيون الأثر ج٢ ص٢٠٠.
جئت ترفق؟!
فقال (عليهالسلام ): لأن الله أمرنا بردها عليك.
فأسلم، فأقره النبي (صلىاللهعليهوآله ) في يده(١) .
وذكر نص آخر: أن عثمان بن طلحة ادعى: أنه هو الذي جاء بالمفتاح إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )(٢) .
فقام علي بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة بيده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية!
(وفي رواية: أن العباس تطاول يومئذٍ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم. أي منهم علي (عليهالسلام) (٣) .
____________
١- راجع: السيرة الحلبية ج٣ ص٩٨ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٤٩ وبحار الأنوار ج٢١ ص١١٦ و ١١٧ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٤٠٤ و ٤٠٥.
٢- راجع: المصنف للصنعاني ج٥ ص٨٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج٨ ص٥٢٩ و ٥٤١ والدرر لابن عبد البر ص٢٢٠ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص٢٧٩ وكنز العمال ج٢ ص٣٨٤ وج١٠ ص٥٣٥ ومواهب الجليل ج٤ ص٥٠٥ ومجمع الزوائد ج٦ ص١٧٧ والمعجم الكبير للطبراني ج٩ ص٦١ وفتح الباري ج٣ ص٣٧١ وعمدة القاري ج٩ ص٢٤٣ ومسند الحميدي ج٢ ص٣٠٤.
٣- راجع هذه الفقرة في: السيرة الحلبية ج٣ ص١٠٠ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٥٢ وعيون الأثر ج٢ ص٢٠٠ وسبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٤ وفي هامشه عن البداية والنهاية ج٤ ص٣٠١.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): أين عثمان بن طلحة؟!
فدعي، فقال: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء).
قالوا: وأعطاه المفتاح ورسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مضطبع(١) بثوبه عليه، وقال: (غيبوه. إن الله تعالى رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام)(٢) .
وعن ابن جريح: أن علياً (عليهالسلام ) قال للنبي (صلىاللهعليهوآله ): اجمع لنا الحجابة والسقاية، فنزلت:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.. ) (٣) .
فدعا عثمان، فقال: (خذوها يا بني شيبة خالدة مخلدة).
وفي لفظ: (تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)(٤) .
____________
١- اضطبع: أدخل الرداء تحت إبطه الأيمن وغطى به الأيسر.
٢- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٤ عن ابن سعد والواقدي، والسيرة الحلبية ج٣ ص١٠٠ و ١٠١ وراجع: المغازي للواقدي ج٢ ص٨٣٧ وتاريخ الخميس ج٢ ص٨٥ و ٨٨ وعن البداية والنهاية ج٤ ص٣٠١.
٣- الآية ٥٨ من سورة النساء.
٤- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٤ و ٢٤٥ عن ابن عائذ، والأزرقي، وراجع: السيرة الحلبية ج٣ ص١٠٠ ومواهب الجليل ج٤ ص٥٠٥ وشرح مسلم للنووي ج٩ ص٨٣ ومجمع الزوائد ج٣ ص٢٨٥ وفتح الباري ج٨ ص١٥ وعمدة القاري ج٤ ص٢٤٨ والمعجم الأوسط ج١ ص١٥٦ وج١١ ص٩٨ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج٣ ص١٠٣٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٢= = ص١٣٧ والكامل لابن عدي ج٤ ص١٣٧ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٨ ص٣٨٣ و ٣٨٨ و ٣٨٩ وأسد الغابة ج٣ ص٣٧٢ وسير أعلام النبلاء ج٣ ص١٢ وميزان الإعتدال ج٢ ص٥١٠ وذكر أخبار إصبهان ج١ ص٢٤٨ وإمتاع الأسماع ج١ ص٣٩٤ وج١٣ ص٣٨٤ وتاريخ الإسلام للذهبي ج٤ ص٨٣ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٧ ص٢٨٢ وكنز العمال ج١٢ ص٢٢٢ وكشف الخفاء ج١ ص٣٧٤ وتفسير الواحدي ج١ ص٢٧٠ وتفسير الآلوسي ج٥ ص٦٣ وتفسير السمعاني ج١ ص٤٤٠ والدر المنثور ج٢ ص١٧٥ والمحرر الوجيز ج٢ ص٧٠ وتفسير الرازي ج١٠ ص١٣٨ والجامع لأحكام القرآن ج٥ ص٢٥٦ وتفسير الثعالبي ج١ ص١٠٤ وج٢ ص٢٥٢.
وعن الزهري: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لما خرج من البيت قال علي (عليهالسلام ): (إنا أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيباً منَّا).
فكره رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه وقال: (غيبوه)(١) . فلذلك يغيب المفتاح(٢) .
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٤ و ٢٤٥ عن عبد الرزاق، والطبراني. ومواهب الجليل ج٤ ص٥١١ ومجمع الزوائد ج٦ ص١٧٧ والمصنف للصنعاني ج٥ ص٨٤ والمعجم الكبير للطبراني ج٩ ص٦٢ وكنز العمال ج١٤ ص١٠٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٨ ص٣٩٠.
٢- سبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٤ عن الفاكهي، ومواهب الجليل ج٤ ص٥١١= = وفتح الباري ج٨ ص١٥ والمعجم الكبير للطبراني ج٢ ص١٢٥ وكنز العمال ج١٤ ص١٠٧.
وعند الحلبي: أن علياً (عليهالسلام ) أخذ المفتاح وقال: يا رسول الله، إجمع لنا الحجابة مع السقاية.
فقال (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ): أكرهت وآذيت، وأمره (صلىاللهعليهوآله ) أن يرد المفتاح على عثمان ويعتذر إليه، فقد أنزل الله في شأنك. أي أنزل الله عليه ذلك وهو في جوف الكعبة. وقرأ عليه الآية، ففعل ذلك علي)(١) .
وسياق هذه الرواية يدل: على أن علياً كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان، فلما نزلت الآية أمره (صلىاللهعليهوآله ) أن يرد المفتاح لعثمان..(٢) .
وعن ابن جريح، عن ابن مليكة: أن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قال لعلي يومئذ حين كلمه في المفتاح: (إنما أعطيتكم ما تُرزؤون، ولم أعطكم ما تَرزؤون).
يقول: (أعطيتكم السقاية، لأنكم تغرمون فيها، ولم أعطكم حجابة البيت).
____________
١- السيرة الحلبية ج٣ ص١٠٠ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٥٢ وتخريج الأحاديث والآثار ج١ ص٣٢٩ وأسباب نزول الآيات ص١٠٥ وتفسير البغوي ج١ ص٤٤٤ والعجاب في بيان الأسباب ج٢ ص٨٩٣ وتفسير أبي السعود ج٢ ص١٩٣.
٢- السيرة الحلبية ج٣ ص١٠٠ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٥٢.
قال عبد الرزاق: أي أنهم يأخذون من هديته(١) .
وعند الحلبي: إنما أعطيكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس، أي وهو السقاية، لا ما تأخذون منه من الناس أموالهم، وهي الحجابة، لشرفكم، وعلو مقامكم(٢) .
واللافت هنا: أن الواقدي يذكر نفس هذه القضية، بعين ألفاظها، وينسبها إلى العباس، لا إلى علي (عليهالسلام )(٣) .
وحديث طلب العباس من النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يجمع لبني هاشم السقاية والحجابة مروي عن ابن أبي مليكة أيضاً(٤) .
____________
١- المصنف للصنعاني ج٥ ص٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٥ عن عبد الرزاق، والمعجم الكبير للطبراني ج٩ ص٦٢ ومجمع الزوائد ج٦ ص١٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٨ ص٣٨٧ وفتح الباري ج٣ ص٣٩٣ وتاريخ الخميس ج٢ ص٨٥.
٢- السيرة الحلبية ج٣ ص١٠٠ و (ط دار المعرفة) ج٣ ص٥٢.
٣- راجع: المغازي ج٢ ص٨٣٣ وتاريخ الخميس ج٢ ص٨٥ عن البحر العميق.
٤- راجع: المصنف للصنعاني ج٥ ص٨٥ وسبل الهدى والرشاد ج٥ ص٢٤٥ عنه، وراجع عن غير أبي مليكة: كنز العـمال ج١٤ ص١٠٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٨ ص٣٨٧ و ٣٨٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج٣ ص٥٢ وتفسير ابن زمنين ج١ ص٣٨١ وفتح الباري ج٣ ص٣٩٣ وزاد المسير ج٢ ص١٤٣ وتفسير القرآن العظيم ج١ ص٥٢٨ وتنوير المقباس ص٧٢ والعجاب في بيان = = الأسباب ج٢ ص٨٩٢ والدر المنثور ج٢ ص١٧٤ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص٧١ و (ط دار الكتب العلمية) ص٦٠ وتفسير الآلوسي ج٥ ص٦٣ وكتاب المنمق لابن حبيب ص٢٨٧.
ونقول:
إن لنا مع النصوص المتقدمة وقفات عديدة، نذكر منها ما يلي:
أكرهت وآذيت:
تقدم أنهم زعموا: أنه (صلىاللهعليهوآله ) قال لعلي (عليهالسلام )، حين طلب منه أن يجمع لهم الحجابة إلى السقاية: أكرهت وآذيت، وأمره أن يرد المفتاح إلى عثمان بن طلحة.
ونقول:
أولاً: تقدم: أن عثمان بن طلحة هو الذي قال لعلي (عليهالسلام ) أكرهت وآذيت، فإنه لما تمنع عثمان من دفع المفتاح إليه لحقه إلى سطح الكعبة ولوى يده، وأخذ المفتاح منه..
ثانياً: حتى لو كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي قال ذلك لعلي (عليهالسلام )، فإنه لا غضاضة فيه عليه، لأنه إكراه وأذى يحبه الله ورسوله، لأنه جاء في سياق تنفيذ أمر الرسول الذي كان عثمان بن طلحة بصدد التمرد عليه، وهو ذنب كبير يدعو علياً (عليهالسلام ) إلى فرض الطاعة عليه..
ثالثاً: اعطاء المفتاح لبني شيعته يجعل لهم نوع ولاية نصرف فيه.. مع
أنه تعالى قال:( وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَ المُتَّقُونَ ) (١) .
أعطيتكم ما ترزؤون:
وقد قرر (صلىاللهعليهوآله ): أنه أعطى بني هاشم، ما يوجب بذل أموالهم فيه، وهو السقاية.. أما الحجابة فأعطاها لبني شيبة، لأنها تجلب لهم المنافع، لأنه (صلىاللهعليهوآله ) أراد بذل هذه المنافع لهم، لكي يتألفهم على الإسلام، ويسلّ سخيمتهم، ولو أنه أعطى الحجابة لبني هاشم، لوجد الحاسدون والطامعون، والمفسدون والمنافقون الفرصة لتعميق الشرخ بين هؤلاء وهؤلاء، وربما يتهمون النبي (صلىاللهعليهوآله ) بمحاباة أهل قرابته، وابتغاء المنافع لهم، وتخصيصهم بالمغانم، والمناصب.
والعباس، وإن كان يفكر بأن يستفيد من الحجابة، ويحصل على بعض المنافع، ولكن علياً لم يكن يفكر بهذه الطريقة حين طلب الحجابة، بل أراد أن يهيء الجو لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ليظهر هذه الحقيقة، حتى لا يشعر بنو شيبة، أو غيرهم بأن إعطاءه الحجابة لهم يدل على تميزهم في الدين، وعلى أن لهم موقعاً دينياً، استحقوه دون بني هاشم، أو لأجل خصوصيات وخصال خير، كامنة في حقيقة ذاتهم.. مثل الطهارة، أو الإخلاص، أو العلم، أو ما إلى ذلك..
____________
١- الآية ٣٤ من سورة الأنفال.
الأمر بأداء الأمانات:
وتقدم: أن قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) (١) نزل في مناسبة إعطاء مفتاح الكعبة لبني شيبة.
غير أننا نقول:
١ ـ إن هذه الآية وردت في سورة النساء التي انتهى نزولها قبل فتح مكة بعدة سنوات..
ودعوى أن الآية ألحقت في موضعها من تلك السورة في فتح مكة.. لا شاهد لها، ولا دليل عليها سوى الإدعاء والتحكُّم.
٢ ـ عن زيد بن أسلم، قال: أنزلت هذه الآية في ولاة الأمر، وفي من ولي من أمور الناس شيئاً(٢) .
٣ ـ عن شهر بن حوشب قال: (نزلت في الأمراء خاصة( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) )(٣) .
____________
١- الآية ٥٨ من سورة النساء.
٢- الدر المنثور ج٢ ص١٧٥ عن ابن المنذر وآخرين، والمصنف لابن أبي شيبة ج٧ ص٥٧١ وراجع: التبيان للطوسي ج٣ ص٢٣٣ وجامع البيان ج٥ ص٢٠٠ وتفسير ابن أبي حاتم ج٣ ص٩٨٦ وأحكام القرآن للجصاص ج٢ ص٢٥٩ وتفسير العز بن عبد السلام ج١ ص٣٣٠.
٣- الدر المنثور ج٢ ص١٧٥ عن ابن جرير، وابن أبي حاتم، وراجع: عمدة القاري ج١٢ ص٢٢٧ وتفسير ابن أبي حاتم ج٣ ص٩٨٦ وتفسير القرآن العظيم ج١ ص٥٢٨.
٤ ـ عن ابن عباس في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، قال: يعني السلطان، يعطون الناس.
تناقضات تحتاج إلى حل:
إن الروايات التي ذكرت أن علياً (عليهالسلام ) طلب الحجابة لنفسه، أو لبني هاشم تحتاج إلى تمحيص، لأنها تعاني من إشكالات، تصعِّب على الباحث الإطمئنان إلى صحتها، فلاحظ ما يلي:
١ ـ ذكرت إحدى تلك الروايات: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أعطى المفتاح لعثمان بن طلحة، ثم طلبه علي (عليهالسلام ) من رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وكان المفتاح في يده فأعطاه إلى عثمان في هذه اللحظة.
وروايات أخرى تقول: بل إن علياً (عليهالسلام ) ذهب إليه، وأخذ المفتاح منه بالقوة.
فهل أخذ عثمان المفتاح قبل طلب علي (عليهالسلام ) أم بعده؟!
ويمكن الجواب بأنه بعد أن أخذ علي (عليهالسلام ) المفتاح من عثمان، حضر إلى مجلس رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وجرى ما جرى.
٢ ـ هل قال النبي (صلىاللهعليهوآله ) أدعو لي عثمان، فدعوه، فأعطاه المفتاح، حين طلب علي الحجابة، أم أعطاه إياه حين كلمه العباس؟!
وقد يجاب: بأن علياً (عليهالسلام ) والعباس قد كلم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بهذا الأمر، على التوالي، فأرسل إلى عثمان، فأعطاه المفتاح.
٣ ـ هل نزلت آية الأمر بأداء الأمانات لحظة استلام النبي (صلىاللهعليهوآله ) المفتاح قبل دخول الكعبة؟! أم نزلت حين كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) داخل الكعبة؟!
٤ ـ هل طلب العباس من النبي (صلىاللهعليهوآله ) أن يجعل الحجابة له، قبل دخوله (صلىاللهعليهوآله ) إلى الكعبة؟! أم كان ذلك بعد خروجه منها؟!
٥ ـ ومما يؤكد الشبهة في صحة ما نسب لعلي (عليهالسلام ): أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) بعد أن طمس الصور في داخل الكعبة أخذ بعضادتي بابها وخطب، وقال في خطبته: (إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما).
فكيف يصح من العباس أن يطلب السدانة والسقاية بعد ذلك؟! أي بعد أن وضع مفتاح الكعبة في كمه، وتنحى ناحية المسجد، ورد الحجابة والسقاية إلى أهليهما.
٦ ـ ينسب إلى علي (صلىاللهعليهوآله ) أنه قال: أعطينا النبوة، والسقاية والحجابة.. ما قوم بأعظم نصيب منا.. مع أن الروايات المتقدمة تقول: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) لم يعطه الحجابة..
٧ ـ على أنه لو كانت الحجابة حقاً لبني شيبة، فلماذا يرسل النبي (صلىاللهعليهوآله ) علياً (عليهالسلام ) ليأخذ المفتاح منه رغماً عنه؟!.. ألا يدل ذلك على أنه كان غاصباً لما لا حق له به؟!، وقد استرجعه منه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بواسطة علي (عليهالسلام ).
٨ ـ وفي جميع الأحوال نقول:
إن كانت الحجابة حقاً لبني شيبة، فإن حشر اسم علي (عليهالسلام ) في هذه القضية، يكون في غير محله، ولا بد من البحث عن مبررات ذلك، فلعله يراد إظهاره (عليهالسلام ) طامعاً بأمر دنيوي، ليتساوى مع غيره في هذه الجهة.. ولعله.. ولعله..
وإن كانت الحجابة لبني هاشم، فلا بد أن يكونوا قد تنازلوا عنها تكرماً وتفضلاً لمصلحة حاضرة، مثل التأليف بطلب من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ). ويكون أخذ المفتاح من عثمان بن أبي شيبة في بداية الأمر في محله..
وبذلك لا يبقى مجال للقول: بإن الروايات قد دلت على أن الحجابة لم تعط لبني هاشم. ولعله استعادها من بني شيبة، وردها لبني هاشم أصحابها الحقيقين.
بل قد يقال: إن المقصود بكلام علي (عليهالسلام ) هو أن أمر الحجابة والسقاية أصبح لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ولبني هاشم، ولهم هم أن يعطوه لهذا ثم ينتزعونه منه ليعطوه لغيره..
فإعطاء الحجابة لبني شيبة ليس معناه سقوط حق بني هاشم فيها..
أو يقال: المقصود هو: أن أمر الحجابة يعود البت فيه لرسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فيصح لبني هاشم أن يقولوا: أعطينا الحجابة، كما صح لهم أن يقولوا: أعطينا النبوة، مع أن النبوة خاصة برسول الله (صلىاللهعليهوآله ) دون كل أحد..
مفاخرة شيبة والعباس وعلي (عليهالسلام ):
عن ابن عباس، وعن الحارث الأعور قالا: افتخر شيبة بن عبد الدار والعباس بن عبد المطلب، فقال شيبة: في أيدينا مفاتيح الكعبة، نفتحها إذا شئنا، ونغلقها إذا شئنا، فنحن خير الناس بعد رسول الله.
وقال العباس: في أيدينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فنحن خير الناس بعد رسول الله، (فقال: ظ) إذ مر عليهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) فأراد أن يفتخر، فقالا له: يا أبا الحسن! أنخبرك بخير الناس بعد رسول الله؟! ها أنا ذا.
فقال شيبة: في أيدينا مفاتيح الكعبة، نفتحها إذا شئنا ونغلقها إذا شئنا، فنحن خير الناس بعد النبي.
وقال العباس: في أيدينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، فنحن خير الناس بعد رسول الله.
فقال لهما أمير المؤمنين (عليهالسلام ): ألا أدلكما على من هو خير منكما؟!
قالا له: ومن هو؟!
قال: الذي ضرب رقبتكما حتى أدخلكما في الإسلام قهراً.
قالا: ومن هو؟!
قال: أنا.
فقام العباس مغضباً حتى أتى النبي (صلىاللهعليهوآله ) وأخبره
بمقالة علي بن أبي طالب (عليهالسلام )، فلم يرد النبي (صلىاللهعليهوآله ) شيئاً.
فهبط جبرئيل (عليهالسلام )، فقال: يا محمد! إن الله يقرؤك السلام، ويقول لك:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ.. ) (١) .
فدعا النبي (صلىاللهعليهوآله ) العباس، فقرأ عليه الآية، وقال: يا عم قم فاخرج، هذا الرحمان، يخاصمك في علي بن أبي طالب (عليهالسلام )(٢) .
ولكن نصاً آخر عن السدي يقول:
(قال عباس بن عبد المطلب: أنا عم محمد (صلىاللهعليهوآله ) وأنا صاحب سقاية الحاج، فأنا أفضل من علي [بن أبي طالب. أ].
[و] قال عثمان بن طلحة وبنو شيبة: نحن أفضل من علي [بن أبي طالب. أ، ر] فنزلت هذه الآية:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ
____________
١- الآية ١٩ من سورة التوبة.
٢- تفسير فرات ص١٦٥ و ١٦٦ وراجع ص١٦٧ و ١٦٨ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٣٦ عنه، والفصول المهمة لابن الصباغ ص١٢٤ والبرهان (تفسير) ج٣ ص٣٨٤ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٦٩ و (ط المكتبة الحيدرية) ج١ ص٣٤٣ وتفسير العياشي ج٢ ص٨٩ وشجرة طوبى ج١ ص١٥٣ وراجع: تفسير نور الثقلين ج٢ ص١٩٤ وشواهد التنزيل ج١ ص٣٢٩ وتأويل الآيات ج١ ص٢٠٠ وغاية المرام ج٤ ص٧٦ ومجمع البيان ج٥ ص٢٧ و ٢٨ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٤ ص٦٠٩ وسفينة النجاة للتنكابني ص٣٦٠.
الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) علي بن أبي طالب [(عليهالسلام ). ب]( لَا يَسْتَوُونَ.. ) ،( الَّذِينَ آَمَنُوا ) علي( الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ) (١)(٢) .
عن جعفر عن أبيه [(عليهماالسلام ). ر] قال: لما فتح النبي [ر: رسول الله] (صلىاللهعليهوآله ) مكة أعطى العباس السقاية، وأعطى عثمان بن طلحة الحجابة، ولم يعط علياً شيئاً.
فقيل لعلي بن أبي طالب (عليهالسلام ): إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أعطى العباس السقاية، وأعطى عثمان بن طلحة الحجابة، ولم يعطك شيئاً.
قال: [فقال. ر، ب]: ما أرضاني بما فعل الله ورسوله.
[قال: أ، ب] فأنزل الله [تعالى هذه الآية:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ.. ) إلى( أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٣) ، نزلت في علي بن أبي طالب
____________
١- الآيات ١٩ ـ ٢١ من سورة التوبة.
٢- تفسير فرات ص١٦٧ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٣٧ عنه، وراجع ج٤١ ص٦٣ وشواهد التنزيل للحسكاني ج١ ص٣٢٥ و ٣٢٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٤ ص٦٠٨ وجامع البيان ج١٠ ص١٢٤.
٣- الآيات ١٩ ـ ٢٢ من سورة التوبة.
(عليهالسلام )(١) .
ونقول:
إن ملاحظة الروايات المختلفة يعطي:
اختلاف الروايات:
إن ثمة اختلافاً في بعض نصوص الرواية مثل: أن علياً (عليهالسلام ) مر على المتفاخرين، فأرادا أن يفتخرا عليه، فقال لهما: إنه خير منهما، لأنه ضرب رؤوسهما حتى أدخلهما في الإسلام قهراً. كما في رواية الحارث الأعور وابن عباس.
____________
١- تفسير فرات ص١٦٨ و ١٦٩ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٣٧ عنه. وقصة الإفتخار هذه مروية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهماالسلام ، وعبيد الله بن عبدة، وعروة وجابر، وعن الكلبي والحارث الأعور، والسدي. ورواها السيوطي في الدر المنثور ج٣ ص٢١٨ عن ابن مردويه، وعبد الرزاق، وابن عساكر، وأبي نعيم، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن جرير، وابن أبي شيبة عن ابن عباس، وأنس، والشعبي، والحسن القرظي، وأسباب نزول الآيات ص١٨٢ عن بعض هؤلاء، ونقله في ينابيع المودة عن النسائي وجماعة آخرين. وراجع: الجامع لأحكام القرآن ج٨ ص٩١ والتفسير الكبير للرازي ج٤ ص٤٢٢ وتفسير الخازن ج٢ ص٢٢١ وتفسير النسفي ج٢ ص٢٢ والفصول المهمة لابن الصباغ ص١٢٣ وتفسير القرآن العظيم، ونظم درر السمطين، وغير ذلك.
وفي رواية ثانية: أنا أشرف منكما، أنا أول من آمن بالوعيد من ذكور هذه الأمة، وهاجر، وجاهد(١) .
وفي رواية أخرى: أنه قال لهما: إنه آمن بالله قبلهما بسنوات، وإنه صاحب الجهاد(٢) .
كما أن الروايات الكثيرة تذكر حصول المفاخرة بينهم على النحو الذي
____________
١- فرائد السمطين ج١ ص٢٠٣ ونظم درر السمطين ص٨٩ والدر المنثور ج٣ ص٢١٩ وبحار الأنوار ج٣٦ ص٣٩ و ٣٨ والغدير ج٢ ص٥٤ وشواهد التنزيل ج١ ص٣٢٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٣٥٨ وغاية المرام ج٤ ص٧٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج١٤ ص١٩٧ و ١٩٨ و ٦٠٩ وج٢٠ ص٣٠ وج٣٠ ص٣٣ وعن جامع البيان.
٢- الطرائف لابن طاووس ص٥٠ والعمدة لابن البطريق ص١٩٣ و ١٩٤ وبحار الأنوار ج٢٢ ص٣٧ وج٣٦ ص٣٨ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص٧١ والغدير ج٢ ص٥٤ ومجمع البيان ج٥ ص٢٧ وجامع البيان ج١٠ ص١٢٤ وتفسير الثعلبي ج٥ ص٢٠ وأسباب نزول الآيات ص١٦٤ وتفسير البغوي ج٢ ص٢٧٥ وزاد المسير ج٣ ص٢٧٩ وتفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٥٥ والدر المنثور ج٣ ص٢١٩ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص١١٦ و(ط دار الكتب العلمية) ص١٠٣ وتنبيه الغافلين لابن كرامة ص٨٠ ومطالب السؤول ص١٩٨ وكشف الغمة ج١ ص١٧٩ والفصول المهمة لابن الصباغ ج١ ص٥٨١ وينابيع المودة ج١ ص٢٧٧.
تقدم، لكن رواية لفرات عن الإمام الصادق (عليهالسلام ) تقول: لما فتح النبي مكة أعطى العباس السقاية، وأعطى عثمان بن طلحة الحجابة، ولم يعط علياً شيئاً.
فقيل لعلي: لم يعطك النبي (صلىاللهعليهوآله ) شيئاً.
قال: ما أرضاني بما فعل الله ورسوله..
فأنزل الله تعالى: الخ..
وقد يقال: إن هذه الروايات غير متناقضة، فلعل كل ذلك قد حصل..
لكن التدقيق يعطي: أن الاختلاف موجود، فإن إحدى الروايات تقول: إن المفاخرة كانت مع شيبة بن عبد الدار، أو طلحة بن شيبة، أو شيبة بن طلحة، أو شيبة بن أبي طلحة، حسب اختلاف الروايات الناشئ من اشتباه الرواة بالاسم، أو من النسبة إلى الجد تارة، وإلى الأب أخرى، أو الإستفادة من الاسم في مورد، ومن الكنية في مورد آخر، وما إلى غير ذلك..
نعود فنقول:
إن المفاخرة هل كانت بين شيبة المذكور آنفاً والعباس مع علي (عليهالسلام )، أو أن المفاخرة كانت بين العباس وعلي فقط(١) .
____________
١- الدر المنثور ج٣ ص٢١٨ والعمدة لابن البطريق ص١٩٣ و ١٩٤ والطرائف ص٥٠ وراجع: ينابيع المودة ص٩٣ والمناقب لابن المغازلي ص٣٢١ و ٣٢٢ ومجمع البيان ج٥ ص١٥ ونور الثقلين ج٢ ص١٩٤ والبرهان (تفسير) ج٣ ص٣٨٤ وتفسير المنار ج١٠ ص٢١٥.