الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء ٨
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
وهذا لا يصدر عن عاقل، فكيف بأعقل البشر وأعدلهم مزاجاً، وأصفاهم نفساً، وأطهرهم روحاً؟!
خلاصة وبيان:
إن هناك إرادة تشريعية في الآية، وقد تعلقت بالأوامر والزواجر الموجهة إلى زوجات رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وهو ما تعلقت به كلمة:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ) .
وهي منبثقة عن إرادة تكوينية تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، والتطهير لهم. ونستفيد هذه الثانية بالدلالة عليها بمفهوم الموافقة، المستند إلى الإشعار بها من خلال نسبة إذهاب الرجس والتطهير في قوله تعالى:( لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ) و( وَيُطَهِّرَكُمْ ) إلى الله سبحانه. لأن الفاعل لكلا الفعلين المذكورين إنما هو ضمير عائد للفظ الجلالة المتقدم في:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ) .. بالإضافة إلى إشارات أخرى دلتنا عليها.
ولكن هذه الإرادة التكوينية له تعالى، إنما تعلقت بإبعاد الرجس وبالتطهير. ولم تتعلق بنفس الفعل الصادر عن (أهل البيت)؛ حيث إنه تعالى لم يقل: يريد الله أن يجعلكم تفعلون هذا وتجتنبون ذاك مثلاً؛ لتكون إرادتهم مقهورة لإرادته سبحانه تعالى التكوينية.
بل تعلقت بإبعاد الرجس عنهم، بتوجيه الأوامر والنواهي لغيرهم إكراماً لهم، مع إبقاء إرادتهم حرة طليقة، من دون أدنى تعرض لها. بل قد صرف النظر عنها بالكلية.
الاسم الأكبر.. وأدعية علي (عليهالسلام )..
أعرابي يدعو بالإسم الأكبر:
عن خالد بن ربعي قال: إن أمير المؤمنين (عليهالسلام ) دخل مكة في بعض حوائجه، فوجد أعرابياً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا صاحب البيت، البيت بيتك، والضيف ضيفك. ولكل ضيف من ضيفه قرى، فاجعل قراي منك الليلة المغفرة.
فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام ) لأصحابه: (أما تسمعون كلام الأعرابي)؟!
قالوا: نعم.
فقال: الله أكرم من أن يرد ضيفه.
فلما كانت الليلة الثانية وجده متعلقاً بذلك الركن وهو يقول: يا عزيزاً في عزك، فلا أعز منك في عزك، أعزني بعز عزك في عز لا يعلم أحد كيف هو، أتوجه وأتوسل إليك، بحق محمد وآل محمد عليك، أعطني ما لا يعطيني أحد غيرك، واصرف عني ما لا يصرفه أحد غيرك.
قال: فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام ) لأصحابه: هذا والله الاسم الأكبر بالسريانية، أخبرني به حبيبي رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، سأله الجنة فأعطاه، وسأله صرف النار وقد صرفها عنه.
قال: فلما كانت الليلة الثالثة وجده وهو متعلق بذلك الركن، وهو يقول: يا من لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، بلا كيفية كان، ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم.
قال: فتقدم إليه أمير المؤمنين (عليهالسلام )، فقال: يا أعرابي سألت ربك القرى فقراك، وسألته الجنة فأعطاك، وسألته أن يصرف عنك النار وقد صرفها عنك، وفي هذه الليلة تسأله أربعة آلاف درهم؟!
قال الأعرابي: من أنت؟!
قال: أنا علي بن أبي طالب.
قال الأعرابي: أنت والله بغيتي، وبك أنزلت حاجتي.
قال: سل يا أعرابي.
قال: أريد ألف درهم للصداق، وألف درهم أقضي به ديني، وألف درهم أشتري به داراً، وألف درهم أتعيش منه.
قال: أنصفت يا أعرابي، فإذا خرجت من مكة فاسأل عن داري بمدينة الرسول.
فأقام الأعرابي بمكة أسبوعاً، وخرج في طلب أمير المؤمنين (عليهالسلام ) إلى مدينة الرسول، ونادى: من يدلني على دار أمير المؤمنين علي؟!
فقال الحسين بن علي من بين الصبيان: أنا أدلك على دار أمير المؤمنين، وأنا ابنه الحسين بن علي.
فقال الأعرابي: من أبوك؟!
قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
قال: من أمك؟!
قال: فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.
قال: من جدك؟!
قال: رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
قال: من جدتك؟!
قال: خديجة بنت خويلد.
قال: من أخوك.
قال: أبو محمد الحسن بن علي.
قال: لقد أخذت الدنيا بطرفيها، امش إلى أمير المؤمنين وقل له: إن الأعرابي صاحب الضمان بمكة على الباب.
قال: فدخل الحسين بن علي (عليهالسلام )، فقال: يا أبة، أعرابي بالباب، يزعم أنه صاحب الضمان بمكة.
قال: فقال: يا فاطمة، عندك شيء يأكله الأعرابي؟!
قالت: اللهم لا.
قال: فتلبس أمير المؤمنين (عليهالسلام ) وخرج، وقال: ادعوا لي أبا عبد الله سلمان الفارسي.
قال: فدخل إليه سلمان الفارسي، فقال: يا با عبد الله، أعرض الحديقة التي غرسها رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لي على التجار.
قال: فدخل سلمان إلى السوق وعرض الحديقة، فباعها باثني عشر ألف درهم. وأحضر المال، وأحضر الأعرابي، فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهماً نفقه.
ووقع الخبر إلى سؤَّال المدينة فاجتمعوا، ومضى رجل من الأنصار إلى فاطمة (عليهاالسلام ) فأخبرها بذلك، فقالت: آجرك الله في ممشاك.
فجلس علي (عليهالسلام ) والدراهم مصبوبة بين يديه حتى اجتمع إليه أصحابه، فقبض قبضة قبضة، وجعل يعطي رجلاً رجلاً، حتى لم يبق معه درهم واحد.
فلما أتى المنزل قالت له فاطمة (عليهالسلام ): يا ابن عم، بعت الحائط الذي غرسه لك والدي؟!
قال: نعم، بخير منه عاجلاً وآجلاً.
قالت: فأين الثمن؟!
قال: دفعته إلى أعين استحييت أن أذلها بذل المسألة قبل أن تسألني.
قالت فاطمة: أنا جائعة، وابناي جائعان، ولا أشك إلا وأنك مثلنا في الجوع، لم يكن لنا منه درهم؟!
وأخذت بطرف ثوب علي (عليهالسلام )، فقال علي (عليهالسلام ): يا فاطمة، خليني.
فقالت: لا والله، أو يحكم بيني وبينك أبي.
فهبط جبرئيل (عليهالسلام ) على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )،
فقال: يا محمد، السلام يقرؤك السلام، ويقول: اقرأ علياً مني السلام، وقل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على يديه.
فلما أتى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) منزل علي وجد فاطمة ملازمة لعلي (عليهالسلام )، فقال لها: يا بنية ما لك ملازمة لعلي؟!
قالت: يا أبة، باع الحائط الذي غرسته له باثني عشر ألف درهم، لم يحبس لنا منه درهماً نشتري به طعاماً.
فقال: يا بنية، إن جبرئيل يقرؤني من ربي السلام، ويقول: اقرأ علياً من ربه السلام، وأمرني أن أقول لك: ليس لك أن تضربي على يديه.
قالت فاطمة (عليهاالسلام ): فإني أستغفر الله، ولا أعود أبداً.
قالت فاطمة (عليهاالسلام ): فخرج أبي (صلىاللهعليهوآله ) في ناحية وزوجي في ناحية، فما لبث أن أتى أبي ومعه سبعة دراهم سود هجرية، فقال: يا فاطمة، أين ابن عمي؟!
فقلت له: خرج.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): هاك هذه الدراهم، فإذا جاء ابن عمي فقولي له يبتاع لكم بها طعاماً.
فما لبثت إلا يسيراً حتى جاء علي (عليهالسلام )، فقال: رجع ابن عمي، فإني أجد رائحة طيبة؟!
قالت: نعم، وقد دفع إلي شيئاً تبتاع به لنا طعاماً.
قال علي (عليهالسلام ): هاتيه، فدفعت إليه سبعة دراهم سوداً هجرية،
فقال: بسم الله، والحمد لله كثيراً طيباً، وهذا من رزق الله عز وجل، ثم قال: يا حسن قم معي، فأتيا السوق فإذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض المليِّ الوفي؟!
قال: يا بني نعطيه؟!
قال: إي والله يا أبة.
فأعطاه علي (عليهالسلام ) الدراهم.
فقال الحسن: يا أبتاه، أعطيته الدراهم كلها؟!
قال: نعم يا بني، إن الذي يعطي القليل قادر على أن يعطي الكثير.
قال: فمضى علي بباب رجل يستقرض منه شيئاً، فلقيه أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا علي اشتر مني هذه الناقة.
قال: ليس معي ثمنها.
قال: فإني أنظرك به إلى القبض.
قال: بكم يا أعرابي؟!
قال: بمائة درهم.
قال علي: خذها يا حسن.
فأخذها، فمضى علي (عليهالسلام )، فلقيه أعرابي آخر، المثال واحد، والثياب مختلفة، فقال: يا علي تبيع الناقة؟!
قال علي: وما تصنع بها؟!
قال: أغزو عليها أول غزوة يغزوها ابن عمك.
قال: إن قبلتها فهي لك بلا ثمن.
قال: معي ثمنها، وبالثمن أشتريها، فبكم اشتريتها؟!
قال: بمائة درهم.
قال الأعرابي: فلك سبعون ومائة درهم.
قال علي (عليهالسلام ): خذ السبعين والمائة، وسلم الناقة.
والمائة للأعرابي، الذي باعنا الناقة، والسبعين(!!) لنا نبتاع بها شيئاً.
فأخذ الحسن (عليهالسلام ) الدراهم وسلم الناقة.
قال علي (عليهالسلام ): فمضيت أطلب الأعرابي الذي ابتعت منه الناقة لأعطيه ثمنها.
فرأيت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) جالساً في مكان لم أره فيه قبل ذلك ولا بعده، على قارعة الطريق، فلما نظر النبي (صلىاللهعليهوآله ) إليَّ تبسم ضاحكاً حتى بدت نواجذه.
قال علي (عليهالسلام ): أضحك الله سنك، وبشرك بيومك.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): يا أبا الحسن، إنك تطلب الأعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه الثمن؟!
فقلت: إي والله فداك أبي وأمي.
فقال: يا أبا الحسن، الذي باعك الناقة جبرئيل، والذي اشتراها منك ميكائيل، والناقة من نوق الجنة، والدراهم من عند رب العالمين عز وجل،
فأنفقها في خير، ولا تخف إقتاراً(1) .
ونقول:
تضمنت هذه الرواية أموراً عديدة تحتاج إلى بيان، نذكر بعضها فيما يلي من عناوين:
هذا في عهد الرسول (صلىاللهعليهوآله ):
تضمنت الرواية المتقدمة تصريحات ودلالات عديدة، على أن هذا قد جرى في أواخر عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).. وفي حياة فاطمة الزهراء (عليهاالسلام ). وحيث كان الإمام الحسن (عليهالسلام ) قادراً على التصرف. وكذلك الحسين (عليهالسلام ) الذي ولد في السنة الرابعة للهجرة، فإنه هو الذي أوصل الأعرابي إلى أبيه أمير المؤمنين (عليهالسلام ).
الاسم الأكبر:
ذكرت الرواية: أن علياً (عليهالسلام ) قال: إن ما دعا به الأعرابي هو الاسم الأكبر.. وقد أبهم علينا مراده (عليهالسلام ) بهذا من جهات:
إحداها: هل المراد بالاسم الأكبر هو الاسم الأعظم؟! أم هو تعبير عن
____________
1- بحار الأنوار ج41 ص44 ـ 47 والأمالي للصدوق المجلس 77 و (ط مؤسسة البعثة) ص553 ـ 557 وروضة الواعظين ص124 ـ 126 وحلية الأبرار ج2 ص273 ـ 277 ومدينة المعاجز ج1 ص113 ـ 119 وشجرة طوبى ج2 ص267 ـ 270.
معنى آخر غيره؟!
الثانية: هل أراد بالاسم الأكبر خصوص ما دعا به في الليلة الثانية؟! أم هو بالإضافة إلى ما دعا به في الليلة الأولى؟!
كلاهما محتمل. وإن كنا نستظهر أن المقصود هو ما دعا به في الليلة الثانية.
الثالثة: هل الاسم الأكبر بالسريانية يختلف عن الذي بالعربية، أو بغيرها من اللغات أم هو نفسه؟! وإذا كان يختلف عنه، فلماذا اختلف؟! وبماذا؟!
الرابعة: هل المراد بالاسم الأكبر أو الأعظم اسماً خاصاً تضمنه بعض العبارات بعينه، وشخص؟!
أو المراد أنها تحكي عن بعض وجوه معناه، ولو بعبارات تختلف وتتفاوت في الوضوح والخفاء في التعبير والجكابة عن المراد من لغة لأخرى ومن مورد لأخر؟! والشاهد على هذا المعنى الأخير أن الدعاء قد تضمن الاسم الأكبر هنا، وتضمن توسلاً إلى الله سبحانه بحق محمد وآل محمد..
الخامسة: لا ندري من أين عرف ذلك الأعرابي الاسم الأكبر؟! فهل هو قد جرى على لسانه بصورة عفوية، ومن دون معرفة تفصيلية له به؟!
أم أن الأعرابي لم يكن رجلاً عادياً، بل هو رجل من أهل الله تبارك وتعالى. أرسله الله تعالى إلى علي (عليهالسلام ) ليكون السبب تعريف الناس بالاسم الأكبر، وبأهمية الدعاء في تحقيق أعظم النتائج. وفي حصول ما حصل؟!
بحق محمد وآل محمد عليك:
وقد قال الأعرابي وهو يدعو بالاسم الأكبر: (أتوجه إليك، وأتوسل إليك، بحق محمد وآل محمد عليك، أعطني إلخ..).
فقد يثير البعض إشكالاً هنا، فيقول: ليس لأحد حق على الله تعالى، لا محمد ولا غيره، بل الله تعالى له حق على جميع البشر بما فيهم الأنبياء والأوصياء، ومنهم محمد (صلىاللهعليهوآله )، وأهل بيته الطاهرون (عليهمالسلام )..
ونقول:
يبدو أن ثمة اشتباهاً في المراد من الحق، فتخيل هذا المعترض: أن المراد به ما يشبه حق الوالد على الولد، والخالق على المخلوق، وليس للنبي وأهل بيته صفة الخالقية ولا الوالدية..
مع أن هذا ليس هو المراد. بل المراد الحق الذي يكون للمخلوق على خالقه، وللولد على والده.. فإن من حق الولد على والده مثلاً: أن يعلمه القرآن، وأن يسميه بالاسم الحسن، وأن يكنيه. وأن يربيه تربية صالحة، وأن يعوله.. وأن.. وأن..
وحق المخلوق على خالقه هو ما قرره الله سبحانه له من حقوق عليه، كل بحسبه فلا يظلمه، ولا يحمله وما لا يطيق، وأن يهيئ له أسباب الهداية والرشاد، وأن يقبل توبته، وأن يستجيب دعاءه الجامع لشرائط الإستجابة، وغير ذلك.
أما إذا كان هذا العبد نبياً، أو وصياً، باذلاً نفسه في ذات الله، فإن ما
وعده الله به، وما تكفل تعالى به له، وما أخذ على نفسه أن يستجيب له فيه لا بد أن يتناسب مع واقع ذلك النبي، ومنزلته عنده تعالى، وقربه منه، ولذلك يكرمه الله تعالى بأن يشفعه في الخلائق، ويقضي حاجاتهم إكراماً له، ويشفي مرضاهم من أجله.. و.. و.. إلخ..
وفي دعاء أبي حمزة: (إلهي إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوك، وإن أدخلتني الجنة ففي ذلك سرور نبيك. وأنا والله أعلم أن سرور نبيك أحب إليك من سرور عدوك).
وكمثال على ذلك نذكر: أنه لو كان لأحدهم عدة بنين، وكان فيهم الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فإنه يرى أن عليه أن يستجيب للصالح المطيع المرضي عنده بأضعاف ما يرى أن عليه أن يستجيب فيه للولد العاق والعاصي.
ويتفاوت أولاده عنده في هذا بتفاوت مراتب طاعتهم وصلاحهم.
ولذلك جاء في الدعاء أيضاً قوله: (بحقهم عليك، وبحقك العظيم عليهم).
وفي دعاء أبي حمزة: (لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك).
علي (عليهالسلام ) يقول: استجاب الله للأعرابي:
وقد ذكرت الرواية المتقدمة: أن علياً (عليهالسلام ) أخبر الأعرابي: أن الله تعالى غفر ذنوبه، وأعطاه الجنة، وصرف عنه النار..
مع أنه (عليهالسلام ) كان في تلك الأيام في ظل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فدل ذلك على أنه (عليهالسلام ) قد اطلع إما من رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، إن كان (صلىاللهعليهوآله ) في مكة آنئذٍ، أو إن كان (صلىاللهعليهوآله ) قد أخبره بهذه الواقعة قبل حدوثها. أو أن له طرقاً أخرى للمعرفة بهذه الأمور، وليس في الرواية ما يمكن أن نستدل به على أي من هذين الأمرين..
موعدنا المدينة:
وقد وعد علي (عليهالسلام ) ذلك الأعرابي: بأن يلبي مطالبه في المدينة، لأنه لم يكن لديه في مكة ما يمكنه أن يتصرف فيه ببيع ولا بغيره، ليقضي حاجة ذلك الأعرابي..
أما في المدينة فكانت له حديقة يمكنه أن يبيعها ليستفيد من ثمنها في هذا السبيل، وهكذا كان..
الحسين بن علي (عليهالسلام ) بين الصبيان:
تقول الرواية: إن الحسين (عليهالسلام ) أجاب الأعرابي من بين الصبيان بقوله: أنا أدلك على دار أمير المؤمنين (عليهالسلام )..
فقد يوهم هذا التعبير: أن الحسين (عليهالسلام ) كان يلعب مع الصبيان.. وهذا لا يتلاءم مع مقام الإمامة الذي يدعيه له الشيعة.
ونجيب:
إن حضوره بين الصبيان، لا يعني أنه يجاريهم في لعبهم، ويفعل
كفعلهم. فقد تحضر الأم أو المعلمة أو المعلم، أو حتى طفل آخر بين الصبيان ليراقب عملهم، أو ليوجه حركتهم في الإتجاه التربوي أو التعليمي الصحيح، وإن كانوا هم يمارسون حركاتهم تلك، من دون هدف لهم فيها سوى اللعب.
فهي لعب بنظرهم، ومن حيث هدفهم منها، وهي توجيه، وصلاح وتعليم بنظر معلمهم، وما يتوخاه من توجيههم إليها.. وهي منشأ للفكرة والعبرة.. للناظر المراقب لها.
من أبوك؟! من أمك؟!:
ورغم أن الإمام الحسين (عليهالسلام ) قد أخبر الأعرابي بأنه ابن أمير المؤمنين (عليهالسلام )، ولكن الأعرابي عاد ليسأله مرة أخرى: من أبوك؟! ثم سأله: من أمك؟!
ولعل سبب ذلك: أن قول الإمام الحسين (عليهالسلام ): أنا ابنه، ليس صريحاً فيما يريد الأعرابي أن يتوصل إليه، فإنه قد يكون على سبيل التوسع في الإطلاق. حيث يراد منه الابن المباشر تارة، والابن الذي هو من جملة الذرية أخرى. وربما يطلق على الابن بالتربية والرعاية، وما إلى ذلك.
فأراد الأعرابي أن يتوثق من المراد، وأنه ابنه المباشر. فكرر السؤال عليه، وشفعه بأسئلة أخرى تزيد من تأكيده، وتضيف إليه خصوصيات أخرى له غرض بالتعرف عليها، والتأكد منها، كما أوضحته كلمة الأعرابي أخيراً: (لقد أخذت الدنيا بطرفيها).
أما سؤال الأعرابي للإمام الحسين (عليهالسلام ) عن أمه، فربما كان
الهدف منه هو التأكد من اتصاله بالرسول عن طريق الأم، وليزيل ـ من ثم ـ احتمال أن يكون قد ولد لعلي (عليهالسلام ) من أم أخرى غير فاطمة (عليهاالسلام ).
هل تعدت الزهراء (عليهاالسلام ) الحدود؟!:
وذكرت الرواية المتقدمة: أن الزهراء (عليهاالسلام ) قد أخذت بطرف ثوب أمير المؤمنين، لكي ترفع الأمر إلى أبيها (صلىاللهعليهوآله ) ليحكم بينهما..
ونقول:
قال العلامة المجلسي (رحمهالله ): (لعل منازعتها صلوات الله عليها إنما كانت ظاهراً لظهور فضله (صلوات الله عليه) على الناس، أو لظهور الحكمة فيما صدر عنه، أو لوجه من الوجوه لا نعرفه)(1) .
أي أنها (عليهاالسلام ) لم تنازعه على الحقيقة، بل هي منازعة ظاهرية أرادت بها إظهار فضل علي (عليهالسلام )، أو أرادت تعريف الناس بالحكمة التي توخاها مما أقدم عليه..
ونضيف إلى ذلك: أننا نعلم أن من تتصدق على المسكين واليتيم، والأسير بطعام أبنائها الصائمين، وترضى بأن لا يذوقوا شيئاً طيلة ثلاثة أيام لا يمكن تلوم علياً (عليهالسلام ) حين يتصدق بالدراهم على الفقراء، فإن الدرهم الذي طالبته بالإحتفاظ به لإطعامها.. لا يزيد عن أقراص
____________
1- بحار الأنوار ج41 ص47.
الشعير التي تصدقت بها في قصة نزول سورة هل أتى، ولا يزيد أيضاً في أهميته على الطعام الذي حرمت منه ولديها، وأطعمته للضيف، وباتت هي وعلي (عليهالسلام ) يمضغان بألسنتهما..
فلو أبقى لها علي (عليهالسلام ) دهماً، وجاءها يتيم أو مسكين أو أسير، هل تردهما خاليي الوفاض. وتحتفظ هي بدرهمها، لتأكل هي وتشبع؟!
إن تاريخ الزهراء (عليهاالسلام ) في الفداء والتضحية والإيثار لا يسمح لنا بأن نتصور حصول شيء من ذلك على الإطلاق.
لذلك نقول:
لا بد لنا من تأييد كلام العلامة المجلسي (رحمهالله )، ورفع مقامه.
من يقرض المليَّ الوفي:
وقد لاحظنا: أن علياً (عليهالسلام ) حين أعطى الدراهم السبع لذلك الرجل. إنما أعطاها بموافقة ولده الإمام الحسن (عليهالسلام )، ليظهر أن ولده على مثل نهجه، وأنه (عليهالسلام ) لا يفرض قرار الجوع على أبنائه من عند نفسه، بل تلك هي رغبتهم، وبها لذتهم وسعادتهم..
وقد أظهر الإمام الحسن وعلي (عليهماالسلام ) بذلك أنهما يؤثران صاحب الحاجة، ولو كان ملياً على أنفسهما، لمجرد قضاء حاجته والتوسعة عليه، حتى لو كانا هما في أشد الخصاصة..
المثال واحد والثياب مختلفة:
ولا مجال لقبول ادعاء: أن يكون علي (عليهالسلام ) لم يلاحظ التشابه
الظاهر فيما بين صاحب الناقة، الذي باعه إياها.. والرجل الآخر الذي اشتراها منه، حيث كان المثال واحداً، والثياب مختلفة..
والسؤال هو: كيف فسَّر (عليهالسلام ) هذا التوافق والإختلاف بين الرجلين؟!
أم أنه أجرى الأمور وفق سياقها الطبيعي على اعتبار أن الخلق قد يتشابهون إلى هذا الحد، كما هو الحال في التوأمين؟!
أو أنه عرف سرَّ القضية، ولكنه تغافل عنه، حتى يكون رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) هو الذي يفصح عنه، فإن المصلحة تكمن في هذا؟!
يسأل الأعرابي غرضه من الشراء:
وتقدم: أنه (عليهالسلام ) سأل الأعرابي عن غرضه من شراء الناقة، ولا يسأل البائع المشتري عادة عن سبب شرائه للسلعة منه، فهل أراد (عليهالسلام ) أن يطمئن إلى أن الناقة سوف لا تكون في خدمة أغراض غير مشروعة، بل سيستفاد منها في طاعة الله؟! أو أنه عرف أن المشتري من الملائكة، وليس من البشر. فسأله عن ذلك، لأنه رأى الملائكة غير معنيين بالإستفادة من الوسائل المادية في حياتهم.. وربما يكون السبب في هذا السؤال شيئاً آخر، والله هو العالم بحقيقة الحال.
أدعية علي (عليهالسلام ):
عن عروة بن الزبير، قال:
كنا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله (صلىاللهعليهوآله )،