• البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21348 / تحميل: 6166
الحجم الحجم الحجم
الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى)

الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء 8

مؤلف:
العربية

فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم، ألا أخبركم بأقل القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟!

قالوا: من؟!

قال: علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ).

قال: فوالله، إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه بوجهه.

ثم انتدب له رجل من الأنصار، فقال له: يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها.

فقال أبو الدرداء: يا قوم، إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ): بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين، ونغمة شجي، وهو يقول:

إلهي، كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك. (أو حلمت عني، فقابلتها بنعمتك)، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك.

فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء، والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله أن قال:

١٨١

إلهي، أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي.

ثم قال: آه، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء.

ثم قال: آه، من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى.

قال: ثم أنعم (أمعن. ظ) في البكاء، فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر.

قال أبو الدرداء: فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب.

قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة (عليه‌السلام ): يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قصته؟!

فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله ـ يا أبا الدرداء ـ الغشية التي تأخذه من خشية الله.

ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق. ونظر إليَّ وأنا أبكي، فقال: مم بكاؤك، يا أبا الدرداء؟!

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.

١٨٢

فقال: يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني (كذا) أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية.

فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

ونقول:

هنا أمور نحب لفت النظر إليها:

الأول: أبو الدرداء من حزب معاوية:

صرحت الرواية: بأن أبا الدرداء هو الذي حدث بهذا الحديث. وهذا يؤكد لنا صحته، فإن أبا الدرداء لم يكن من محبي علي (عليه‌السلام )، بل كان ليس فقط متعاطفاً مع بني أمية، وإنما هو ـ كأبي هريرة ـ من المتحمسين لهم.

ويكفي أن نذكر: أن معاوية ولاه قضاء دمشق(2) . وكان يثني عليه،

____________

1- بحار الأنوار ج41 ص11 و 12 وج84 ص194 والأمالي للصدوق ص137 وروضة الواعظين ص112 والدر النظيم ص242 ص111 ومدينة المعاجز ج2 ص79 ومنازل الآخرة ص258 وراجع: مناقب آل أبي طالب 2 ص124 وغاية المرام ج7 ص19.

2- راجع: الإصابة في تمييز الصحابة ج3 ص460 و (ط دار الكتب العلمية) ج4 = = ص621 وأسد الغابة ج4 ص160 وج5 ص186 والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج3 ص17 و 18 وج4 ص60 و (ط دار الجيل) ج3 ص1229 والثقات لابن حبان ج3 ص285 وتهذيب التهذيب ج8 ص157 والأعلام للزركلي ج5 ص98 وفتوح البلدان للبلاذري ج1 ص167وسير أعلام النبلاء ج3 ص115 والوافي بالوفيات ج24 ص13.

١٨٣

ويقول: (إلا أبا الدرداء أحد الحكماء)(1) .

ويقول عنه مرة أخرى ـ حسب رواية ولده يزيد عنه ـ: (إن أبا الدرداء من الفقهاء، العلماء الذين يشفون من كل داء)(2) .

وقد اعتزل علياً (عليه‌السلام ) في حرب صفين(3) .

____________

1- الإصابة ج3 ص316 و (ط دار الكتب العلمية) ج5 ص483 والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج2 ق2 ص115 و (ط دار صادر) ج2 ص358 وتاريخ مدينة دمشق ج50 ص169 وتهذيب الكمال ج24 ص192 وتهذيب التهذيب ج8 ص394.

2- الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج4 ص60 والتاريخ الكبير للبخاري ج7 ص77 وتاريخ بغداد ج4 ص317 وتاريخ مدينة دمشق ج47 ص120 و 131.

3- الأخبار الطوال للدينوري ص170 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص288 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص18 وصفين للمنقري ص190 وبحار الأنوار ج32 ص451 ومستدرك سفينة البحار ج3 ص268 والكنى والألقاب ج1 ص66 وأعيان الشيعة ج1 ص482.

١٨٤

الثاني: إنكار فضائل علي (عليه‌السلام ):

وقد بينت الرواية المتقدمة مدى إصرار أولئك المجتمعين على إنكار فضائل علي (عليه‌السلام ). فقد أعرض جميع من كان في ذلك المجلس بوجهه.. حتى انتدب رجل أنصاري لأبي الدرداء: ليعلن له موقف تلك الجماعة، وكأنه يطالبه بالشاهد على ما يدعيه..

فإذا كان هذا حال السلف الذين شاهدوا فضائل علي (عليه‌السلام ) بأم أعينهم، وسمعوا أقوال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيه، ومواقفه منه، ووعوها.. ورأوا آيات القرآن تنزل فيه، ثم هم يصرون على تجاهلها وإنكارها إلى هذا الحد، فما بالك بمن لم يسمع ولم ير، وكتمت عنه الحقائق، وربي على البغض والشنآن لعلي، وأهل بيته. هل تراه سيحبه، وسينقل شيئاً فضائله؟!

وألا يثير العجب الذي لا ينقضي من وصول هذا الكم الهائل من فضائله (عليه‌السلام ) إلينا، بواسطة نفس هؤلاء الشانئين له، والمنحرفين عنه؟! أليس هذا من صنع الله تعالى له (عليه‌السلام )؟!

الثالث: ذنوب علي (عليه‌السلام ):

تضمنت هذه الرواية الإشارة إلى أدعية علي (عليه‌السلام ) التي يذكر فيها الذنوب التي يصفها في دعاء كميل: بأنها تقطع الرجاء، وتنزل النقم، وتهتك العصم، وتحبس الدعاء.. ثم يطلب من الله تعالى أن يغفرها له.. مع أن المفروض هو طهارته وعصمته منها بنص آية التطهير، وبغيرها. فكيف

١٨٥

نفسر ذلك؟!

ونجيب:

أولاً: إن الله سبحانه حين شرّع أحكامه، قد شرعها على البشر كلهم، على النبي والوصي المعصوم، وعلى الإنسان العادي غير المعصوم، وعلى العالم والجاهل، وعلى الكبير الطاعن في السن والشاب في مقتبل العمر، وعلى المرأة والرجل، وعلى العربي والأعجمي، وعلى العادل والفاسق.

فيجب على الجميع الصلاة والزكاة والحج، والصدق والأمانة، و.. الخ.. وقد رتبت على كثير من التشريعات مثوبات، وعلى مخالفتها عقوبات.. ينالها الجميع، وتنال الجميع بدون استثناء أيضاً. حتى لو لم يفهموا معاني ألفاظها، ولم يدركوا عمق مراميها، كما لو كانوا لا يعرفون لغة العرب، أو كانوا أميين لم يستضيئوا بنور العلم.

فالثواب المرسوم لمن سبّح تسبيحة الزهراء (عليها‌السلام ) هو كذا حسنة.. لكل من قام بهذا العمل استحق هذه الحسنات.

كما أن لهذه العبادات آثاراً خاصة تترتب على مجرد قراءتها، حتى لو لم يفهم قارؤها معاني كلماتها، فمن قرأ آخر سورة الكهف مثلاً، وأضمر الإستيقاظ لصلاة الصبح في الساعة الفلانية، فإن الإستيقاظ سيتحقق، كما أن من كتب نصاً بعينه يشفي من الحالة الكذائية، فإن الشفاء يتحقق.

كما أن المعراجية للمؤمن المترتبة على الصلاة في قوله (عليه‌السلام ): الصلاة معراج المؤمن. أو القربانية في قوله (عليه‌السلام ): الصلاة قربان كل تقي. سوف تتحقق بالصلاة حتى لو لم يفهم المصلي معاني كلماتها

١٨٦

تفصيلاً، ومرامي حركاتها فإن نفس هذا الاتصال بالله سبحانه بطريقة معينة ومحدودة على شكل صلاة أو زيارة، أو تسبيح وغير ذلك مما شرعه الله سبحانه، مع توفر الإخلاص وقصد القربة والفهم الإجمالي يحقق هذه الآثار، ويقود إليها، إذا كان مع نية القربة وظهور الإنقياد والتعبد لله سبحانه وفق تلك الكيفيات المرسومة من قبله تعالى، وذلك يحقق غرضاً تربوياً، وإيحائياً تلقينياً يريد الله سبحانه له أن يتحقق.

ولأجل ذلك نجد: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ويقول في الأذان والإقامة:

أشهد أن محمداً رسول الله.. ويقول ذلك غيره.. ولا يصح منه الأذان ولا الإقامة، ولا يحصل على ثوابهما، ولا على ثواب الصلاة، ولا على آثارها بدون الإتيان بكل ما هو مرسوم فيها.

والرجل والمرأة يقرآن في دعاء واحد: ومن الحور العين برحمتك فزوّجنا.. ولا يعني ذلك: أن تقصد المرأة مضمون هذه الفقرة بالذات وبصورة تفصيلية، بل هي تقصد الإتيان بالمرسوم والمقرر.

وإذا سألت: هل يعقل أن تكون صلاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) والولي (عليه‌السلام ) كصلاة أي إنسان عادي آخر من حيث ثوابها، وتأثيراتها؟!

فإن الجواب هو: إن التفاوت إنما يكون فيما ينضم لذلك المرسوم من حالات الإخلاص والإقبال أو ما يصاحبه من تعب وجهد، فالثواب إنما هو بإزاء خصوصية إضافية (كالخشية) الخشوع والرهبة والخضوع التي أنتجتها عوامل أخرى كمعرفة الله سبحانه، وكمال العقل، والسيطرة على الشهوات

١٨٧

والميول وعلى الحواس الظاهرة والباطنة.. أو أي جهد آخر إضافي قد بذل ووعد الله عليه بالمثوبة المناسبة له على اعتبار: أن أفضل الأعمال أحمزها..

فاتضح مما تقدم: أن إتيان المعصوم بالعبادات المرسومة، ومنها الأدعية لا يستلزم أن يكون قد أصبح موضعاً لكل ما فيها من دلالات، فلا يكون استغفاره دليلاً على وقوع الذنب منه.

ثانياً: يقول بعض المهتمين بقضايا العلم: إن أجهزة جسم الإنسان تقوم بوظائف لو أردنا نحن أن نوجدها بوسائلنا البشرية لاحتجنا ربما إلى رصف الكرة الأرضية بأسرها بالأجهزة: هذا على الرغم من أنه إنما يتحدث عن وظائف الجسد وخلاياه التي اكتشفت، مع أنه لم يتم اكتشاف الكثير الكثير منها حتى الآن فضلاً عن سائر جهات وجود هذا الإنسان.

فالله سبحانه يفيض الوجود والطاقة والحيوية على كل أجهزة هذا الجسد وخلاياه لحظة فلحظة، وهذه الفيوضات وطبيعة المهام التي تنتج عنها، وكل هذا التنوع وهذه التفاصيل المحيرة تشير إلى عظمة مبدعها في علمه وفي إحاطته، وفي حكمته، وفي تدبيره، وفي غناه، وفي قدرته و.. و.. و..

فإذا كان النبي والولي المعصومان يدركان هذه النعم التي لولا الله سبحانه لاحتجنا لإنجازها إلى أجهزة تغلف الأرض بكثرتها.

ويعرف أيضاً: بعمق أنه المحل الأعظم لتلك النعم ويعرف عظمتها وتنوعها في مختلف جهات وجوده ويجد ويحس بآثارها في جسده، وفي روحه ونفسه، وكيف أن كل ذرّة في الكون مسخرة لأجله، ولأجل البشر كلهم حسبما صرّح به القرآن الكريم، ويعرف الكثير من أسرار ملكوت الله

١٨٨

سبحانه..

وخلاصته: أن النبي والولي يحس أكثر من كل أحد بقيمة وعظمة واتساع النعم التي يفيضها الله عليه.

فلا غرو إذن إذا كان يرى نفسه ـ مهما فعل ـ مذنباً، ومقصراً لعدم قيامه بواجب الشكر لذلك المنعم العظيم.. بل هو يبكي.. ويبكي من أجل ذلك، ولا يكف عن بذل الجهد.. وحين يقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟!

نجده يقول: أفلا أكون عبداً شكوراً.

ونوضح ذلك بالمثال، فنقول: إن من يريد تقديم هدية لسلطان أو ملك، فإنه قد لا يجد فيما يقدمه ما يناسب جلال السلطان وأبهة الملك، فيرى نفسه مقصراً فيما قدّمه إليه.. بل ومذنباً في حقه.. تماماً كما كان لسان القبّرة التي أهدت لسليمان جرادة كانت في فيها، وذلك لأن الهدايا على مقدار مهديها.

وواضح أن حال المعصوم مع الله تختلف عن حالنا، فهو يعرف الله حق معرفته، ولأجل ذلك فإن عبادته له ليست خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، بل لأنه يراه أهلاً للعبادة، فهو يعبده عبادة العارفين، والعالمين.. كما أنه يعرف أيضاً: أن موقعه يجب أن يكون موقع العبودية التامة، والخالصة، لأنه واقف على حقيقة ذاته في ضعفه، وفي واقع قدراته، وحقيقة قصوره وحاجته إليه في كل آن، كما هو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.. ويرى نفسه مذنباً في هذا التقصير.. وقد يجر عليه ذلك فقدان لطف الله به، وهتك

١٨٩

العصم التي يكون بها قوته وثباته، ثم قطع الرجاء، وحبس الدعاء.. الخ..

ثالثاً: وبتقريب آخر نقول:

إن نسيج الأدعية والأذكار حين يراد له أن يكون دعاءً أو ذكراً مرسوماً للبشر كلهم بجميع فئاتهم، ومختلف طبقاتهم ويلائم جميع حالاتهم، وتوجهاتهم، فإنه يكون ـ بما له من المعنى ـ بحيث يتسع لتطبيقات عامة ومتنوعة، ويجمعها نظام المعنى العام.

ويساعد على اتساع نطاق تلك التطبيقات، ويزيد في تنوعها مدى المعرفة بمقام الألوهية، ومعرفة أياديه ونعمه وأسرار خلقه وخليقته تبارك وتعالى وما إلى ذلك.. من جهة.. ثم معرفة الإنسان بنفسه، وبموقعه، وحالاته.. و.. من جهة أخرى.

فبملاحظة هذا وذاك يجد المعصوم نفسه ـ نبياً كان أو إماماً ـ في موقع التقصير، ويستشعر من ثم المزيد من الذل والخشية، والخشوع له تعالى.

فالقاتل والسارق والكذاب حين يستغفر الله ويتوب إليه، فإنما يستغفر ويتوب من هذه الذنوب التي يشعر بلزوم التخلص من تبعاتها، ويرى أنها هي التي تحبس الدعاء وتنزل عليه البلاء، وتهتك العصم التي تعصمه، ويعتصم بها، وتوجب حلول النقم به.

أما من ارتكب بعض الذنوب الصغائر، كالنظر إلى الأجنبية، أو أنه سلب نملة جلب شعيرة، أو لم يهتم بمؤمن بحسب ما يليق بشأنه.. وما إلى ذلك..

فإنه يستغفر ويتوب من مثل هذه الذنوب أيضاً، ويرى أنها هي التي

١٩٠

تحبس دعاءه، وتهتك العصم التي تعصمه ويعتصم بها، وتحل النقم به من أجلها.

وهناك نوع آخر من الناس لم يقترف ذنباً صغيراً ولا كبيراً، فإنه حين يقصّر في الخشوع والتذلل أمام الله سبحانه، ولا يجد في نفسه التوجه الكافي إلى الله في دعائه وابتهاله، بل يذهب ذهنه يميناً وشمالاً.. فإنه يجد نفسه في موقع المذنب مع ربه، والعاقّ لسيده، والمستهتر بمولاه. وهذه ذنوب كبيرة بنظره، لا بد له من التوبة والإستغفار منها.. وهي قد توجب عنده هتك العصم التي اعتصم بها، وحلول النقم، وحبس الدعاء، وقطع الرجاء، وما إلى ذلك.

أما حين يبلغ في معرفته بالله سبحانه مقامات سامية، كما هو الحال بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام )، أو بالنسبة لرسول رب العالمين، فإنه لا يجد في شيء مما يقوم به من عبادة ودعاء وابتهال: أنه يليق بمقام العزة الإلهية.

بل هو يعد الإلتفات إلى أصل المأكل والمشرب والإقتصار على مثل هذه الطاعات تقصيراً خطيراً يحتاج إلى الخروج عنه إلى ما هو أسمى وأسنى، وأوفق بجلال وعظمة الله سبحانه، وبنعمه وبفضله وإحسانه وكرمه..

وهذا التقصير ـ بنظره ـ لا بد أن ينتهي إلى الحرمان من النعم الجلّى، التي يترصّدها، حينما لا يصل إلى درجات تؤهله لتقبلها، وكذلك الحال بالنسبة إلى نفوذ دعائه وحجبه عن أن يستنزل العطايا الإلهية الكبرى، أو

١٩١

يرتفع به إلى مقامات سامية يطمع بها، ويطمح إليها.. كما أن النبي والوصي قد يجد نفسه غير متمكن من العصم التي يريد لها أن تكون منطلقاً قوياً يدفع به إلى ما هو أعلى وأسمى، وأجل.

وبعبارة أخرى: إنهم يرون: أن عملهم هو من القلّة والقصور بحيث يوجب حجب الدعاء، ووقوعهم بالبلاء، ومن حيث أنه غير قادر على النهوض بهم بصورة أسرع وأتم ليفتح لهم تلك الآفاق التي يطمحون لارتيادها، ما دام أن شوقهم إلى لقاء الله يدعوهم إلى الطموح إلى طي تلك المنازل بأسرع مما يمكن تصوره.

فما يستغفر منه الأنبياء والأوصياء، وما يعتبرونه ذنباً وجرماً.. إنما هو في دائرة مراتب القرب والرضا وتجليات الألطاف الإلهية.. وكل مرتبة تالية تكون كمالاً بالنسبة لما سبقها، وفي هذه الدائرة بالذات يكون تغيير النعم، ونزول النقم، وهتك العصم الخ.. بحسب ما يتناسب مع الغايات التي هي محطّ نظرهم (عليه‌السلام ).

والخلاصة: إن كل فئة من هؤلاء إنما تقصد الإستغفار والتوبة تطبيقاً للمعنى الذي يناسب حالها، وموقعها وفهمها ووعيها، وطموحاتها وخصوصيات شخصيتها، وحياتها وفكرها وواقعها الذي تعيشه، أي أنهم يقرؤون الأدعية ويفهمونها، ويقصدون من تطبيقات معانيها ما يناسب حال كل منهم، وينسجم مع معارفهم، وطموحاتهم.. ولكنها على كل حال أدعية مرسومة على البشر كلهم، وللبشر كلهم.

١٩٢

لفت نظر:

وأخيراً.. فإننا نلفت القارئ الكريم إلى الأمور التالية:

أولاً: إن إنكار البعض أن يكون دعاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أو الإمام (عليه‌السلام ) تعليمياً، ليس في محله، إذ لا ريب في أن ثمة أدعية قد جاءت على سبيل التعليم للناس، وبالأخص بعض الأدعية التي تعالج حالات معينة كالأدعية التي لبعض الأمراض أو لدفع الوسوسة أو لبعض الحاجات، وما إلى ذلك.. أو تريد بيان التشريع الإلهي للدعاء في مورد معين وقد لا يكون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أو الإمام (عليه‌السلام ) مورداً لذلك التشريع لسبب أو لآخر..

ثانياً: قوله: إن الإمام إنما يدعو الله من حيث هو إنسان، لا يحل المشكلة، فإنه إذا كان هذا الإنسان لم يرتكب ذنباً، ولا اقترف جريمة، فلماذا يطلب المغفرة الإلهية؟! ولماذا يبكي ويخشع؟! فإن الإنسانية من حيث هي لا تلازم كونه عاصياً.

وإن كان قد أذنب وأجرم بالفعل، فأين هي العصمة؟! وأين هو الجبر الإلهي ـ المزعوم من قبل هذا البعض ـ في عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟!.

ثالثاً: إن من الواضح: أن الذنوب المشار إليها في الأدعية لم يرتكبها الداعي جميعاً، فكيف إذا كان هذا الداعي هو المعصوم كما اعترف به هذا البعض.. وذلك يشير إلى صحة ما ذكرناه في الوجوه التي أشرنا إليها آنفاً وخصوصاً الأخيرة منها

١٩٣

رابعاً: إن المراد بالمغفرة في بعض نصوص الأدعية خصوصاً بالنسبة الى المعصوم، هو مرحلة دفع المعصية عنه، لا رفع آثارها بعد وقوعها..

كما أن الطلب والدعاء في موارد كثيرة قد يكون وارداً على طريقة الفرض والتقدير، بمعنى أنه يعلن أن لطف الله سبحانه هو الحافظ، والعاصم.. ولكن المعصوم يفرض ذلك واقعاً منه لا محالة لو لم يكن الله يكفي بلطف منه، فهو على حد قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام )..

(لست بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني)(1) .

وقد شرحنا هذه الكلمة في بحث مستقل (كُتَيِّب)، بعنوان: (لست بفوق أن أخطئ) فليراجعه من أراد..

____________

1- الكافي ج8 ص293 وبحار الأنوار ج27 ص253 وج41 ص154 وج74 ص358 و 359 ونهج البلاغة (ط دار التعارف بيروت) ص245 وتفسير الآلوسي ج22 ص18.

١٩٤

الفصل الثامن:

حديث الطير..

١٩٥

١٩٦

حديث الطير في النصوص:

نذكر هنا عدداً من نصوص حديث الطير، وهي التالية:

1 ـ عن جعفر بن محمد الصادق، عن آبائه ، عن علي (عليهم‌السلام ) قال: كنت أنا ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في المسجد بعد أن صلى الفجر. ثم نهض ونهضت معه، وكان إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك، فكان إذا أبطأ في الموضع صرت إليه لأعرف خبره، لأنه لا يتقار قلبي على فراقه ساعة، فقال لي: أنا متجه إلى بيت عائشة.

فمضى ومضيت إلى بيت فاطمة (عليها‌السلام )، فلم أزل مع الحسن والحسين، وهي وأنا مسروران بهما، ثم إني نهضت وصرت إلى باب عائشة، فطرقت الباب، فقالت لي عائشة: من هذا؟!

فقلت لها: أنا علي.

فقالت: إن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) راقد.

فانصرفت ثم قلت: النبي راقد وعائشة في الدار؟! فرجعت وطرقت الباب.

فقالت لي عائشة: من هذا؟!

فقلت: أنا علي.

١٩٧

فقالت: إن النبي على حاجة.

فانثنيت مستحيياً من دقي الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبراً.

فرجعت مسرعاً، فدققت الباب دقاً عنيفاً.

فقالت لي عائشة: من هذا؟

فقلت: أنا علي، فسمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول لها: يا عائشة، افتحي [له] الباب.

ففتحت، فدخلت.

فقال لي: اقعد يا أبا الحسن، أحدثك بما أنا فيه، أو تحدثني بإبطائك عني؟!

فقلت: يا رسول الله، [حدثني]، فإن حديثك أحسن.

فقال: يا أبا الحسن، كنت في أمر كتمته من ألم الجوع، فلما دخلت بيت عائشة وأطلت القعود ليس عندها شيء تأتي به مددت يدي وسألت الله القريب المجيب، فهبط علي حبيبي جبرئيل (عليه‌السلام ) ومعه هذا الطير ـ ووضع أصبعه على طائر بين يديه ـ فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أن آخذ هذا الطير، وهو أطيب طعام في الجنة، فأتيتك به يا محمد.

فحمدت الله كثيراً، وعرج جبرئيل، فرفعت يدي إلى السماء، فقلت: اللهم يسر عبداً يحبك ويحبني يأكل معي هذا الطائر.

فمكثت ملياً فلم أر أحداً يطرق الباب، فرفعت يدي ثم قلت: اللهم

١٩٨

يسر عبداً يحبك ويحبني، وتحبه وأحبه، يأكل معي هذا الطائر، فسمعت طرقك للباب وارتفاع صوتك، فقلت لعائشة: أدخلي علياً، فدخلت، فلم أزل حامداً لله حتى بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني، ويحبك الله وأحبك، فكل يا علي.

فلما أكلت أنا والنبي الطائر قال لي: يا علي حدثني.

فقلت: يا رسول الله، لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعاً، ثم نهضت أريدك، فجئت، فطرقت الباب، فقالت لي عائشة: من هذا؟!

فقلت لها: أنا علي.

فقالت: إن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) راقد.

فانصرف، فلما صرت إلى الطريق الذي سلكته رجعت، فقلت: النبي راقد وعائشة في الدار لا يكون هذا.

فجئت، فطرقت الباب، فقالت لي: من هذا؟!

فقلت لها: أنا علي.

فقالت: إن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على حاجة.

فانصرفت مستحيياً، فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة، وجدت في قلبي ما لا أستطيع عليه صبراً، وقلت: النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على حاجة وعائشة في الدار.

فرجعت، فدققت الباب الدق الذي سمعته، فسمعتك يا رسول الله

١٩٩

وأنت تقول لها: ادخلي علياً.

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أبيت إلا أن يكون الأمر هكذا يا حميراء، ما حملك على هذا؟!

فقالت: يا رسول الله، اشتهيت أن يكون أبي يأكل من الطير!

فقال لها: ما هو بأول ضغن بينك وبين علي. وقد وقفت على ما في قلبك لعلي. إنك لتقاتلينه!

فقالت: يا رسول الله، وتكون النساء يقاتلن الرجال؟!

فقال لها: يا عائشة، إنك لتقاتلين علياً، ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر من أصحابي، فيحملونك عليه.

وليكونن في قتالك له أمر تتحدث به الأولون والآخرون.

وعلامة ذلك: أنك تركبين الشيطان، ثم تبتلين قبل أن تبلغي إلى الموضع الذي يقصد بك إليه، فتنبح عليك كلاب الحوأب، فتسألين الرجوع، فيشهد عندك قسامة أربعين رجلاً ما هي كلاب الحوأب، فتصيرين إلى بلد أهله أنصارك، هو أبعد بلاد على الأرض إلى السماء، وأقربها إلى الماء.

ولترجعين وأنت صاغرة، غير بالغة [إلى] ما تريدين.

ويكون هذا الذي يردك مع من يثق به من أصحابه، إنه لك خير منك له، ولينذرنك ما يكون الفراق بيني وبينك في الآخرة، وكل من فرق علي بيني وبينه بعد وفاتي ففراقه جائز.

٢٠٠