الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء ٨
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
إلا الأوحدي من الناس عن جدارة واستحقاق. وليست مجرد تقديرات وإدراكات عقلية، كما ربما يتوهمه المتوهمون.
ولذلك يقول تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) .
ويقول:( وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) (2) .
وقال:( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (3) . والآيات المصرحة بتوقيفية الحكمة كثيرة.
وقدم النبي (صلىاللهعليهوآله ) التهنئة بالحكمة، لأنها محض عطاء إلهي..
أما العلم، فقد ينال البشر شيئاً منه مهما كان ضئيلاً بوسائلهم التي منحهم الله إياها مما اقتضته خلقتهم، مثل: العقل والفطرة، وغير ذلك..
ولعل التهنئة بالحكمة هنا يشير: إلى أن الإجابة على السؤال هنا مرهونة بالحكمة بالدرجة الأولى، ثم بالعلم.. وهذا ما لم يكن يملكه سوى أمير المؤمنين (عليهالسلام ). كما أظهرته هذه الواقعة وسواها..
____________
1- الآية 2 من سورة الجمعة.
2- الآية 12 من سورة لقمان.
3- الآية 269 من سورة البقرة.
بذل علي (عليهالسلام ) والإمامة..
ويؤثرون على أنفسهم:
1 ـ قال ابن شهرآشوب (رحمهالله ): تفسير أبي يوسف: يعقوب بن سفيان، وعلي بن حرب الطائي، ومجاهد بأسانيدهم، عن ابن عباس وأبي هريرة، وروى جماعة عن عاصم بن كليب عن أبيه ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة: أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) إلى أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): من لهذا الرجل الليلة؟!
فقال أمير المؤمنين (عليهالسلام ): أنا يا رسول الله، فأتى فاطمة وسألها: ما عندك يا بنت رسول الله؟!
فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا به.
فقال علي (عليهالسلام ): يا بنت محمد (صلىاللهعليهوآله )، نومي الصبية واطفئي المصباح. وجعلا يمضغان بألسنتهما.
فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج، فوجد الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلىاللهعليهوآله ).
فلما سلم النبي (صلىاللهعليهوآله ) من صلاته نظر إلى أمير المؤمنين (عليهالسلام ). وبكى بكاء شديداً، وقال: يا أمير المؤمنين، لقد عجب
الرب من فعلكم البارحة، اقرأ:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) أي مجاعة.( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) . يعني: علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهمالسلام )( فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1) )(2) .
قال الحميري:
قائل للنبي إني غريب جايع قد أتيتكم مستجيرا
فبكى المصطفى وقال: غريب لا يكن للغريب عندي ذكورا
من يضيف الغريب قال علي: أنا للضيف فانطلق مأجورا
ابنة العم هل من الزاد شيء فأجابت أراه شيئاً يسيرا
كف بر قال: اصنعيه فإن الله قد يجعل القليل كثيرا
ثم أطفي المصباح كي لا يراني فأخلي طعامه موفورا
جاهد يلمظ الأصابع والضيف يراه إلى الطعام مشيرا
عجبت منكم ملائكة الله وأرضيتم اللطيف الخبيرا
ولهم قال: يؤثرون على أنفسهم، قال: ذاك فضلاً كبيرا(3)
____________
1- الآية 9 من سورة الحشر.
2- بحار الأنوار ج41 ص28 وص 34 وج36 ص59 ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص87 والأمالي للطوسي ص116 وعن كنز جامع الفوائد، وشواهد التنزيل ج2 ص246 ومجمع البيان ج9 ص260.
3- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص87 و 88 و(ط المكتبة الحيدرية) ج 1 ص347 و 348.
2 ـ روت الخاصة والعامة، منهم: ابن شاهين المروي، وابن شيرويه الديلمي، عن الخدري وأبي هريرة: أن علياً أصبح ساغباً، فسأل فاطمة طعاماً.
فقالت: ما كانت إلا ما أطعمتك منذ يومين، آثرت به على نفسي، وعلى الحسن، والحسين.
فقال: ألا أعلمتني، فأتيتكم بشيء؟!
فقالت: يا أبا الحسين، إنى لأستحي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر عليه.
فخرج واستقرض من النبي ديناراً، فخرج يشتري به شيئاً.
فاستقبله المقداد قائلاً ما شاء الله.
فناوله علي الدينار، ثم دخل المسجد، فوضع رأسه، فنام، فخرج النبي، فإذا هو به، فحركه وقال: ما صنعت؟!
فأخبره، فقام وصلى معه فما قضى النبي صلاته، قال: يا أبا الحسن، هل عندك شيء نفطر عليه، فنميل معك؟!
فأطرق لا يجيب جواباً حياء منه. وكان الله أوحى إليه أن يتعشى تلك الليلة عند علي.
فانطلقا حتى دخلا على فاطمة، وهي في مصلاها، وخلفها جفنة تفور دخاناً، فأخرجت فاطمة الجفنة، فوضعتها بين أيديهما.
فسأل علي (عليهالسلام ): أنى لك هذا؟!
قالت: هو من فضل الله ورزقه، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
قال: فوضع النبي كفه المبارك بين كتفي علي، ثم قال: يا علي، هذا بدل دينارك. ثم استعبر النبي باكياً وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا لمريم.
وفي رواية الصادق (عليهالسلام ): أنه أنزل الله فيهم:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (1) .
قال الحميري:
وحدثنا عن حادث الأعور الذي تصدقه في القول منه وما يروي
بأن رسول الله نفسي فداؤه وأهلي ومالي طاوي الحشا يطوي
لجوع أصاب المصطفى فاغتدى إلى كريمته والناس لاهون في سهو
فصادفها وابني علي وبعلها وقد أطرقوا من شدة الجوع كالنضو
فقال لها: يا فطم قومي تناولي ولم يك فيما قال ينطق بالهزو
هدية ربى إنه مترحم فقامت إلى ما قال تسرع بالخطو
فجاءت عليها الله صلى بجفنة مكرمة باللحم جزواً على جزو
فسموا وظلوا يطعمون جميعهم فَبَخْ بَخْ لهم نفسي الفداء وما أحوي
فقال لها: ذاك الطعام هدية من الله جبريل أتاني به يهوى
ولم يك منه طاعماً غير مرسل وغير وصي خصه الله بالصفـو
____________
1- الآية 9 من سورة الحشر.
3 ـ وفي رواية حذيفة: أن جعفراً أعطى النبي (صلىاللهعليهوآله ) الفرع من العالية، والقطيفة، فقال النبي: لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
وأعطاها علياً (عليهالسلام )، ففصل على القطيفة سلكاً، فباع بالذهب، فكان ألف مثقال، ففرقه في فقراء المهاجرين كلها.
فلقيه النبي ومعه حذيفة، وعمار، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، فسأله النبي الغداء.
فقال حياء منه: نعم.
فدخلوا عليه، فوجدوا الجفنة(1) .
4 ـ عن محمد بن العباس، عن محمد بن أحمد بن ثابت، عن القاسم بن إسماعيل، عن محمد بن سنان، عن سماعة بن مهران، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليهالسلام ) قال:
أتي رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بمال وحلل وأصحابه حوله جلوس، فقسمه عليهم حتى لم تبق منه حلة ولا دينار، فلما فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين، وكان غائباً. فلما رآه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قال: أيكم يعطي هذا نصيبه، ويؤثره على نفسه؟!
____________
1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص190 و 191 و (ط المكتبة الحيدرية) ج 1 ص 350 وبحار الأنوار ج41 ص30 و 31 وراجع ج36 ص60 عن كنز جامع الفوائد، وتأويل الآيات الظاهرة.
فسمعه علي (عليهالسلام )، فقال: نصيبي.
فأعطاه إياه، فأخذه رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) وأعطاه الرجل، ثم قال: يا علي، إن الله جعلك سباقاً للخير، سخَّاء بنفسك عن المال. أنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة. والظلمة هم الذين يحسدونك، ويبغون عليك، ويمنعونك حقك بعدي(1) .
قالوا: الفرع: المال الطائل. والعالية: مكان بأعلى أراضي المدينة، ويبدو أن القطيفة كانت مطرزة بأسلاك الذهب(2) .
ونقول:
1 ـ إن الفقر ليس عيباً، إلا حين يكون سببه الكسل، والإتكال على جهد الآخرين، أو غير ذلك من أسباب تشير إلى خلل في المزايا الروحية والإنسانية.. ولم يكن النبي (صلىاللهعليهوآله ) ولا علي (عليهالسلام ) إلا القمة في الفضل والكمال، والأخلاق الفاضلة، والمزايا النبيلة..
والأسباب التي اقتضت نزول الآية المباركة مرة أو أكثر تبين أن هذا الفقر قد كشف لنا عن أفضل المزايا، وأعظم الفضائل في هؤلاء الذين نأوا بأنفسهم عن الدنيا وزخارفها، ولم يهتموا لها إلا بالمقدار الذي فرضه الله تعالى عليهم..
2 ـ إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) حين أراد مساعدة ذلك الجائع لم
____________
1- بحار الأنوار ج36 ص60 عن كنز جامع الفوائد.
2- بحار الأنوار ج41 ص31 و 32.
يبادر إلى دق أبواب الأغنياء، وطلب المساعدة منهم، بل بدأ بنفسه، وببيوته..
3 ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يذهب بنفسه إلى تلك البيوت لسؤال أزواجه عن شيء من الطعام، بل أرسل إليهن من يسألهن عن ذلك.. فلم يعد هناك أية فرصة لتوهم أي نوع من أنواع حب الإستئثار بشيء، مهما كان الدافع إلى ذلك معقولاً ومقبولاً، وكافياً لتبرير المنع..
4 ـ وبعد أن ظهر أن بيوت رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) خالية إلا من الماء، لم يخاطب النبي (صلىاللهعليهوآله ) في أمره للناس شخصاً بخصوصه، فلم يطلب من علي (عليهالسلام ) مثلاً أن يتولى سد حاجته، بل أطلق الخطاب لكل من حضر، وقال: من لهذا الرجل الليلة؟!
ولعل سبب ذلك: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أراد أن ينيل علياً (عليهالسلام ) ثواب المبادرة والإختيار، وثواب البذل والعطاء، والإيثار، ولكي لا يتوهم أحد أنه (عليهالسلام ) قد رضي بما فرض عليه حياء، أو اتباعاً وطاعة. ولا يعلم إن كان وراءها حرص واندفاع، أو ليس وارءها شيء من ذلك.
5 ـ واللافت هنا: أن فاطمة الزهراء (عليهاالسلام ) هي التي اقترحت إيثار ذلك الجائع بقوت ولديها، مع أن الأم تكون عادة أحرص على طعام أبنائها وتوفيره لهم.
6 ـ ربما يسأل سائل عن أنه كيف جاز للزهراء وعلي (عليهماالسلام ) أن يجيعا ولديهما، ويتصرفا بحقهما تصرفاً يعرضهما للأذى أو الضرر. أو
يوقعهما في تعب ومشقة؟!
ويمكن أن يجاب:
أولاً: بأن الحسنين (عليهماالسلام ) كانا منسجمين مع تصرف أبويهما، ولا يرضيان بالإحتفاظ بالطعام لنفسيهما، وإبقاء ذلك الرجل جائعاً.
وصغر سنهما لا يعني أنهما يريان أنفسهما في منأى عن التكاليف الإلهية، فإن التكليف الذي هو منوط بالسن، إنما لوحظ السن فيه بالنسبة لنا نحن. أما الأنبياء وأوصيائهم، فلعل الأمر ليس منوطاً بالسن، بل بالقدرة والعلم والإدراك. وهذا متحقق فيهم (عليهمالسلام ) بأقصى الدرجات، كما يدل عليه قول عيسى (عليهالسلام ) حين ولادته:( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ) (1) ، كما تدل عليه أجوبتهم على أدق المسائل في حال صغرهم، بالإضافة إلى شواهد أخرى..
ولأجل ذلك تقول الرواية: إن الآية المباركة نزلت في الأربعة: علي وفاطمة والحسنين (عليهمالسلام )، فراجع..
ثانياً: إننا وإن لم نعرف الوجه في هذا التصرف، فلا نشك في صحة ومشروعية، فإننا إنما نأخذ التشريع منهم (عليهمالسلام )، وتكفينا عصمتهم الثابتة بنص القرآن للإجابة على على أي سؤال، وإزالة أية شبهة..
7 ـ إن تعدد الوقائع المروية في بيان شأن نزول قوله تعالى:( وَيُؤْثِرُونَ
____________
1- الآيتان 30 و 31 من سورة مريم.
عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) (1) في علي (عليهالسلام ) لا يوجب خللاً في الروايات، لإمكان صحة جميعها، وتكرر نزول الآية في هذه الواقعة وتلك.. وهذا معروف ومألوف..
فلا عجب إذا كانت آية الإيثار قد نزلت في قضية الرجل الجائع، وإيثارهم إياه بطعام الإمامين: الحسن والحسين (عليهماالسلام ).. ثم نزلت في مناسبة إيثار علي (عليهالسلام ) بالحلة التي كساه إياها الرسول (صلىاللهعليهوآله ) ذلك الذي جاءه يشكو عريه وعري أهل بيته..
ثم نزلت في إيثاره (عليهالسلام ) المقداد بالدنيار الذي استقرضه.
وهذا يفسر التعبير في الآية بالفعل المضارع الدال على الدوام والإستمرار، وأن هو خلقهم (عليهمالسلام ).
8 ـ وعن قول الراوي: إنهما جعلا يمضغان بألسنتهما نقول:
هل أرادا (عليهماالسلام ) الإيحاء لذلك الضيف بأنهما يأكلان ما يأكل؟!
ولماذا يريدان إفهامه ذلك؟! وهل كان هو مهتماً لهذا الأمر؟!
وإذا كان علي (عليهالسلام ) يريد أن يفهمه ذلك، فما شأن الزهراء (عليهاالسلام ) في هذا الأمر؟! وهل تجلس مع رجل غريب لتأكل معه، وتسمعه صوت مضغها للطعام؟!
وإن كان المقصود هو الإيحاء للصبية بذلك، فهو لا معنى له، لأن ذلك يزيد في رغبتهما بالطعام!!
____________
1- الآية 9 من سورة الحشر.
فالأنسب القول: بأن علياً وفاطمة (عليهماالسلام ) جعلا يفعلان ذلك من دون أن يكون الهدف إسماع الضيف، بل كان ذلك هو ما اقتضته شدة حاجتهما إلى الطعام.
أو يقال: إن الصبية ـ والمقصود هو الحسنان (عليهماالسلام ) ـ باتا يمضغان بألسنتهما، استجابة لدواعي الحاجة إلى الطعام..
ولكن أين كانت زينب وأم كلثوم عن هذه الحادثة؟! هل كان ذلك قبل ولادتهما؟!
أم أن الإيثار كان بخصوص طعام الحسن والحسين (عليهماالسلام )؟! لأنهما اللذان يمكنهما المبادرة الإختيارية إلى أمر من هذا القبيل، لخصوصية فيهما أشرنا إليها فيما قدمناه آنفاً برقم(6)
9 ـ وقد أظهر الله سبحانه الكرامة لهما حين وجدا الجفنة مملوءة طعاماً، ليعلم الناس أن التجارة مع الله رابحة دائماً..
10 ـ وحديث الدنيار الذي أعطاه (عليهالسلام ) للمقداد دل أن علياً (عليهالسلام ) أصبح ساغباً، ويبدو أنه كان قد مضى عليه يومان بلا طعام.. وأن الزهراء (عليهاالسلام ) آثرت بالطعام على نفسها وعلى الحسنين (عليهماالسلام )..
ومن المعلوم: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان أيضاً يطوي بعض أيامه بلا طعام، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع.. مع أن الكثيرين من الناس كانوا على استعداد لبذل أموالهم له، وكثير منهم يبذل نفسه في سبيله ومن أجله..
وكان علي والزهراء والحسنان (عليهمالسلام ) أقرب الناس إليه، وأحبهم إليه، ولكنهم جميعاً يعرضون عن هذه الدنيا، ويسوون أنفسهم بأضعف الناس فيها.. على قاعدة: (ولعل بالحجاز أو اليمامة، من لا عهد له بالشبع)، وعلى قاعدة: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن عيشه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد)(1) .
11 ـ وقد ذكرت الزهراء (عليهاالسلام ) لعلي (عليهالسلام ): أنها آثرت بالطعام غيرها على نفسها، وعلى ولديها، مصرحة باسمهما: (الحسن والحسين)، فهما اللذان يمكن التصرف بحصتهما، لخصوصيتهما في التكليف، والإدراك وسائر الكمالات، بملاحظة ما لهما من مقام في الإمامة للأمة.
وربما كان هذا التصرف بطلب منهما، كما أشرنا إليه حين الحديث عن سورة هل أتى.
____________
1- نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص70 ومختصر بصائر الدرجات ص154 ومستدرك الوسائل ج12 ص54 وج16 ص300 والخرائج والجرائح ج2 ص542 وبحار الأنوار ج33 ص474 وج40 ص318 و 340 وج67 ص320 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص34 وج23 ص272 ونهج السعادة ج4 ص32 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص205 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص139 وينابيع المودة ج1 ص439.
12 ـ وقد صرحت الزهراء (عليهاالسلام ): بأنها تستحي من الله أن تكلف علياً (عليهالسلام ) ما لايقدر عليه.. مع أن علياً (عليهالسلام ) ألمح إلى أنه كان قادراً على أن يأتيهم بشيء، حيث قال لها: (ألا أعلمتني، فأتيتكم بشيء)؟!
فهل علمت (عليهاالسلام ) ما لم يعلمه علي (صلوات الله عليه)؟! بمعنى أنها تحدثت عن علمها بالواقع، فأخبرته: أنه (عليهالسلام ) حتى لو سعى للحصول على شيء فإنه لن يحصل عليه..
أما علي (عليهالسلام ) فكلمها وفق الأحوال الظاهرة، والمتوقعة، بحسب العادة عند سائر الناس، بغض النظر عما ينكشف له بعلم الإمامة..
وبذلك تكون هذه الرواية قد تضمنت إشارة إلى أن لدى الزهراء (عليهاالسلام ) معرفة أرقى من المعرفة الظاهرية المتوفرة لدى سائر الناس. وذلك لبيان عظمتها، وتأكيد تميزها عن سائر النساء بهذا المقام الذي لا يناله إلا صفوة الخلق.. وعلى رأسهم أبوها (صلىاللهعليهوآله )، وزوجها (عليهالسلام ).
13 ـ وقد لفت نظرنا: أنه (عليهالسلام ) قد (استقرض) من النبي (صلىاللهعليهوآله ) ديناراً. مع أن الأمور كانت تجري بينهما على أساس أنهما عائلة واحدة.. والإستقراض معناه: أن ثمة قيوداً وحدوداً لم نعهدها!! فكيف نفسر ذلك؟!
ونجيب:
أولاً: لعل النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان قد ادخر هذا الدينار
للإنفاق على أزواجه. ولم يكن يمكنه التفريط به، مع حاجة من تجب نفقته عليه..
ثانياً: لعل المقصود: هو أن ينال النبي (صلىاللهعليهوآله ) ثواب القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرة(1) . وأن ينال علي (عليهالسلام ) ثواب الكاد على عياله، فإنه كالمجاهد في سبيل الله(2) ، حيث لا بد أن يكد في تحصيل الدينار ليرده إلى صاحبه..
14 ـ وقد أعطى علي (عليهالسلام ) الدينار كله للمقداد، وكان بإمكانه أن يتقاسمه معه. فيكون قد نال ثواب الصدقة من جهة، وحل مشكلة العيال من جهة أخرى.
____________
1- الكافي ج4 ص34 وبحار الأنوار ج100 ص138 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج9 ص300 و (ط دار الإسلامية) ج6 ص209 ومستدرك الوسائل ج12 ص364 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص122 وج18 ص286 و 289 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص501 وألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي ص107 وتفسير القمي ج2 ص159 و 350 وتفسير نور الثقلين ج4 ص190 وج5 ص239.
2- الكافي ج5 ص88 وراجع: تحف العقول ص445 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج17 ص67 و (ط دار الإسلامية) ج12 ص42 وبحار الأنوار ج75 ص339 وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص12 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص381.
ولكنه (عليهالسلام ) أراد:
أولاً: أن ينال ثواب الإيثار على النفس حتى مع الخصاصة الظاهرة..
ثانياً: إذا نظرنا إلى مجموع الروايات وجمعنا بينها، فقد نستفيد: أنه (عليهالسلام ) أراد أن يعطى المقداد ما يغينه عن العودة إلى معاناة شدائد الحاجة في الجهات المختلفة، وربما كان منها كسوة عياله (رحمهالله ) أيضاً.
بل لعله رأى أن حاجة المقداد وعياله كانت غير قابلة للتجزئة، فقد كانوا بحاجة إلى الكسوة أكثر من أي شيء آخر. والكسوة قد تكون أكثر أهمية وحساسية حتى من معاناة الجوع. فأعطاه الحلة ليكتسي هو بها، ثم أعطاه الدينار ليكسو به عياله.
15 ـ ورغم أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد سأل علياً (عليهالسلام ) عما صنع، فأخبره. فإنه (صلىاللهعليهوآله ) طلب منه بعد انقضاء صلاته أن يتعشى عنده، لأن الله تعالى قد أوحى إلى نبيه (صلىاللهعليهوآله ) بذلك، ليظهر الكرامة الإلهية للزهراء وعلي (عليهماالسلام )، كما أظهرها لمريم (عليهاالسلام ) من قبل.
ولكن هناك فرق جوهري بينهما، وهو: أن علياً (عليهالسلام ) قد نام بعد تصدقه بالدينار، فكان نومه كيقظته عبادة يستحق معها الكرامة.
أما مريم (عليهاالسلام )، فإن استحقاقها لإظهار هذه الكرامة لها مرهون باشتغالها بالعبادة بالفعل، فأنالها الله تعالى تلك الكرامة نتيجة لذلك.
إذ لم يكن نومها مثل نوم علي (عليهالسلام ).
كما أن فاطمة (عليهاالسلام ) كانت حياتها كحياة علي (عليهالسلام ) كلها عبادة، وكان نومها ويقظتها وشغلها وفراغها على حد سواء في ذلك.. فهي تستحق الكرامة في كل حال، وعلى كل حال.
النبي (صلىاللهعليهوآله ) في ضيافة علي (عليهالسلام ):
عبد الله بن علي بن الحسين، يرفعه: أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أتى مع جماعة من أصحابه إلى علي (عليهالسلام )، فلم يجد علي شيئاً يقربه إليهم، فخرج ليحصل لهم شيئاً، فإذا هو بدينار على الأرض، فتناوله وعرَّف به، فلم يجد له طالباً، فقومه على نفسه، واشترى به طعاماً، وأتى به إليهم.
وأصاب [به] عوضه، وجعل ينشد صاحبه، فلم يجده، فأتى به النبي (صلىاللهعليهوآله ) وأخبره.
فقال: يا علي، إنه شيء أعطاكه الله لما اطلع على نيتك وما أردته، وليس هو شيء للناس، ودعا له بخير(1) .
ونقول:
لا نرى حاجة إلى التعليق على هذه الحادثة، غير أننا نعيد على مسامع القارئ الكريم ما صرحت به الرواية من أنه (عليهالسلام ):
____________
1- بحار الأنوار ج41 ص30 عن مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص89 و 90 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص394 وشرح الأخبار ج2 ص183.