الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سرة المرتضى) الجزء ٨
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 352
قال: تقضى إن شاء الله، فما هي؟!
قال: هذا الرجل ساكن في دار لك في موضع كذا، ذكر أن فيها نخلة، فإنه يهيج الريح، فيسقط منها بلح وبسر، ورطب وتمر، ويصعد الطير، فيلقي مثل ذلك من غير حجر يرميها به، أو قصبة يبخسها. فاجعله في حل.
فتأبى عن ذلك.
وسأله ثانياً، وأقبل عليه في المسألة، ويتأبى.
إلى أن قال: والله أنا أضمن لك عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أن يبدلك بهذا النبي حديقة في الجنة.
فأبى عليه، ورهقنا المساء.
فقال له علي (عليهالسلام ): تبيعنيها بحديقتي فلانة؟!
فقال له: نعم.
قال: فاشهد لي عليك الله وموسى بن عيسى الأنصاري، أنك قد بعتها (أي الحديقة )بهذخ الدار؟!
قال: نعم أشهد الله وموسى بن عيسى [الأنصاري على] أني قد بعتك هذه الحديقة، بشجرها، ونخلها، وثمرها، بهذه الدار، أليس قد بعتني هذه الدار بما فيها بهذه الحديقة ولم يتوهم أنه يفعل.
فقال: نعم أشهد الله وموسى بن عيسى على أني قد بعتك هذه الدار بهذه الحديقة.
فالتفت علي (عليهالسلام ) إلى الرجل، فقال له: قم، فخذ الدار بارك
الله لك، وأنت في حل منها.
وسمعوا أذان بلال، فقاموا مبادرين حتى صلوا مع النبي (صلىاللهعليهوآله ) المغرب والعشاء الآخرة، ثم انصرفوا إلى منازلهم.
فلما أصبحوا صلى النبي بهم الغداة وعقب، فهو يعقب حتى هبط عليه جبرئيل (عليهالسلام ) بالوحي من عند الله.
فأدار وجهه إلى أصحابه، فقال: من فعل منكم في ليلته هذه فعلاً؟! فقد أنزل الله بيانها، فمنكم أحد يخبرني أو أخبره.
فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ): بل أخبرنا يا رسول الله.
قال: نعم، هبط جبرئيل، فأقراني عن الله السلام، وقال لي: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) فعل البارحة فعلة.
فقلت لحبيبي جبرئيل: ما هي؟!
فقال: اقرأ يا رسول الله.
فقلت: وما أقرأ؟!
فقال: اقرأ:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) . إلى آخر السورة( وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) (1) .
____________
1- آيات سورة الليل.
أنت يا علي، ألست صدقت بالجنة، وصدقت بالدار على ساكنها، وبذلت الحديقة؟!
قال: نعم يا رسول الله.
قال: فهذه سورة نزلت فيك، وهذا لك..
فوثب إلى أمير المؤمنين (عليهالسلام )، فقبل بين عينيه وضمه إليه، وقال له: أنت أخي، وأنا أخوك، صلى الله عليهما وآلهما..(1) .
ونقول:
وقد تضمنت الرواية الأولى:
1 ـ قسوة ذلك الرجل الموسر، التي بلغت به حد أنه كان يستخرج الرطب المتساقط من جوف أفواه الصبية، مع أن النخلة في دار سكناهم.. وفي الرواية الأولى: أنهم كانوا جيرانها، ورطبها يتساقط في دارهم، دون أن يحركوها.. الأمر الذي يدل على خلو قلبه من أية مشاعر إنسانية حية، بل هو قد تحول إلى سبع ضار، لا مجال للسكوت عن فتكاته بمشاعر الناس، حتى الأطفال الذين يعيشون البراءة والطهر بكل ما لهذه الكلمة من معنى..
2 ـ لقد رأينا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) في الرواية الأولى يبادر بنفسه إلى معالجة الأمر، فلا يستنيب أحداً، ربما لأنه أراد أن يحفظ لذلك الرجل ماء وجهه أمام الناس.
____________
1- بحار الأنوار ج41 ص37 ـ 39 وتفسير فرات ص566 و 567.
ولعله أراد أيضاً: أن يوظف مقامه وموقعه، وما له من قداسة في النفوس، لصالح نهاية مربحة لذلك الرجل بالذات في الدنيا والآخرة..
كما أنه يكون بذلك قد بذل أقصى ما يمكن أن يبذل من جاه ومقام في سبيل معالجة هذه القضية، فلا مجال لتوهم أي قصور أو تقصير في المعالجة، استناداً لافتراضات توهم أنها ربما تكون هي الأولى بالاعتماد..
3 ـ ثم إنه (صلىاللهعليهوآله ) قد بلغ مع ذلك الرجل أقصى مدى يمكن بلوغه لسد أبواب الذرائع، فيما قدمه له من عروض المقايضة، حيث عرض عليه بيع حديقته تلك بحديقة بالجنة.
4 ـ ثم كانت المفجأة الأكبر والأخطر حين رفض ذلك الرجل الموسر طلب سيد رسل الله، وصرح له أيضاً: بأنه لا يبيع عاجلاً بآجل، فدل على أن تلك القسوة تستند إلى عزوف شديد عن الآخرة، وتفضيل الدنيا عليها.
فأصبح بذلك على عتبة الخروج عن الدين،حيث إنه لا يحتاج بعدُ إلى أكثر من تفسير كلامه هذا: بأنه لا يرى للآخرة قيمة في مقابل الدنيا..
ولأجل ذلك بكى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )..
وأما الرواية الثانية، فتضمنت أموراً عديدة، نشير إضافة إلى ما قدمناه إلى الأمور التالية:
1 ـ إنه (عليهالسلام ) يضمن لذلك الرجل عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) أن يعطيه حديقة في الجنة، لمجرد أن يرضى بإحلال ذلك الرجل..
فيلاحظ ما يلي:
ألف: إنه لم يضمن هو مباشرة، بل أحال الأمر على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، لأنه لا يتقدم رسول الله في أمر من الأمور..
ب: إنه يضمن ذلك عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لأنه يعرف المعايير التي ينطلق منها (صلىاللهعليهوآله ) في الإعطاء والمنع.
ج: إن هذا العطاء العظيم لمجرد أن يحل ذلك الرجل لتمرات تسقطها الريح، أو العصافير من نخلة. يدل على مدى خطورة التعدي على مال الناس.
كما أن الثمن الذي بذله علي (عليهالسلام ) لتلك الدار، كان بحيث إن مشتريها لم يتوهم أن علياً سيبذله له بالفعل.
2 ـ إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) كان يذكر علياً (عليهالسلام ) باسم أمير المؤمنين.
3 ـ وفي هذه المناسبة بالذات، وفي أجواء هذا التصرف العلوين رأى النبي (صلىاللهعليهوآله ) ضرورة أن ينبه الناس إلى مدى التوافق فيما بينه وبين علي، فرأى الأخوة متجسدة فيه بجميع معانيها، ويريد من الناس أن يروا ذلك. ولذلك قال له في هذه المناسبة بالذات أيضاً: أنت أخي، وأنا أخوك.
سورة الليل في من نزلت؟!:
وتقدم: أن سورة( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) قد نزلت في علي (عليهالسلام )
بهذه المناسبة، التي تضمنت التصديق بالآخرة في مقابل من كذب بها، وتضمنت الإعطاء وظهور التقوى لدى علي (عليهالسلام ) في مقابل من( بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى ) ، والعطاء الإلهي في الآخرة.
وقد ادعى بعضهم نزول قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ) : في أبي بكر حين اشترى بلالاً وأعتقه وعامر بن فهيرة وأعتقهما(1) .
ونقول:
إن ذلك لا يصح، وذلك لما يلي:
أولاً: لما ذكره الإسكافي، الذي قال: (أما بلال، وعامر بن فهيرة، فإنما أعتقهما رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، روى ذلك الواقدي، وابن إسحاق)(2) .
____________
1- العثمانية ص35 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص273 والدر المنثور ج6 ص358 ـ 360 عن عدد من المصادر، والسيرة الحلبية ج1 ص299 وعمدة القاري ج8 ص306 وتفسير مجمع البيان ج10 ص376 وتفسير ابن أبي حاتم ج10 ص3440 وتفسير الواحدي ج2 ص1208 وتفسير البغوي ج4 ص495 وتفسير الآلوسي ج30 ص148.
2- راجع: العثمانية (ط دار الكتاب العربي ـ مصر) ص317 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص273 وقاموس الرجال ج5 ص196 وج2 ص238 عن الإسكافي، وعن الواقدي، وابن إسحاق.
وعدَّ ابن شهرآشوب وغيره بلالاً من موالي النبي (صلىاللهعليهوآله )(1) .
ثانياً: روى ابن بابويه، عن عبد الله بن علي قال: حملت متاعي من البصرة إلى مصر فقدمتها، فبينا أنا في بعض الطريق إذا أنا بشيخ طويل، شديد الأدمة، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران: أحدهما: أسود. والآخر: أبيض، فقلت: من هذا؟
فقالوا: هذا بلال مولى رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فأخذت ألواحي فأتيته فسلمت عليه الخ..(2) .
ثالثاً: ذكر الواقدي في كتاب فتوح الشام: أنه لما برز بلال من عسكر المسلمين ونظر إليه القس أنكره، وقال: إن القوم قد هنَّا عليهم، فإنَّا دعوناهم نخاطبهم، فبعثوا إلينا بعبيدهم لصغر قدرنا عندهم.
____________
1- مناقب آل أبي طالب ج1 ص171 ورجال ابن داود ص58 ورجال الطوسي ص27 ونقد الرجال للتفرشي ج1 ص302 وجامع الرواة للأردبيلي ج1 ص131 وإكليل المنهج للكرباسي ص151 وطرائف المقال ج2 ص129 وسماء المقال ج2 ص281 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج30 ص326 و (ط دار الإسلامية) ج20 ص148 وأعيان الشيعة ج2 ص375 وراجع: العقد النضيد والدر الفريد ص149
2- من لا يحضره الفقيه ج1 ص292 وروضة الواعظين ص313 وجامع أحاديث الشيعة ج4 ص634 ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص380 ومنتهى المطلب (ط.ج) ج4 ص372 و (ط. ق) ج1 ص253 والحدائق الناضرة ج7 ص329.
ثم قال: أيها العبد، أبلغ مولاك وقل له: إن الملك يريد أميراً منكم حتى يخاطبه بما يريد.
فقال بلال: أيها القس أنا بلال مولى رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) ومؤذنه، ولست بعاجز عن جواب صاحبك.. الخ..(1) .
رابعاً: إنهم يروون روايات متناقضة في هذا المجال، حتى لا تكاد تلتقي رواية مع أخرى، ويكفي أن نذكر اختلافها في الثمن الذي أعطاه أبو بكر.
فرواية تقول: إنه أعطى ثمنه غلاماً له أجلد منه.
وأخرى: إنه أعطى غلاماً وزوجته، وابنته، ومائتي دينار.
وثالثة: اشتراه بسبع أواق.
ورابعة: بتسع.
وخامسة: بخمس.
وسادسة: برطل من ذهب.
وسابعة: إنه اشتراه بعبده قسطاس، الذي كان صاحب عشرة آلاف دينار، وجوار، وغلمان، ومواش.
وثامنة: ببردة، وعشر أواق من فضة، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف والتناقض(2) .
____________
1- فتوح الشام للواقدي ج2 ص20.
2- راجع ما تقدم في: السيرة الحلبية: ج1 ص298 و 299، وقاموس الرجال: ج1= = ص216، وسير أعلام النبلاء: ج1 ص353، والسيرة النبوبة لابن هشام: ج1 ص340، وحلية الأولياء: ج1 ص148، وغير ذلك كثير.
خامساً: عن عائشة أنها قالت: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن غير أن الله أنزل عذري(1) . (يعني الآيات المرتبطة بالإفك).
ولكننا ذكرنا أن آيات الإفك لم تنزل فيها أيضاً(2) .
وهناك كلام أوسع من هذا أوردناه في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله )، يتعلق بموضوع شراء أبي بكر لبلال وغيره من الموالي، فراجع.
سادساً: ذكرت بعض الروايات: أن نزول الآيات، وهي قوله تعالى:
____________
1- راجع: صحيح البخاري (ط سنة 1309) ج3 ص121 و (ط دار الفكر) ج6 ص42 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص171 وفتح القدير ج5 ص21 والدر المنثور ج6 ص41 وعمدة القاري ج19 ص170 وفتح الباري ج8 ص443 ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص192 و (ط دار الكتب العلمية) ص175 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج8 ص96. وراجع: الغدير ج8 ص247 والصراط المستقيم ج3 ص89 و 137 وكتاب الأربعين للشيرازي ص506 وبحار الأنوار ج31 ص540 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص462
2- راجع كتابنا: حديث الإفك تاريخ ودراسة، وكتابنا: الصحيح في سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله " ج13.
( وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) (1) في سمرة بن جندب في قضية النخلة التي كانت في بيت بعض الصحابة، وقد أبى سمرة إلا أن يديم الدخول إليها من غير استئذان، ولم يبعها بمثلها في الجنة..
فأمر النبي (صلىاللهعليهوآله ) بقلعها وإلقائها إليه.. وقال: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
ونرجح: أن تكون الآيات كلها في سورة الليل، قد نزلت في علي (عليهالسلام )، وفي ذلك الغني الموسر.. ولعل سمرة لم يتعظ بها، فاستشهد الرسول له بآيات سورة الليل إذا يغشى لانطباقها عليه في بعض جونبها، وبعض آياتها. ولكن انطباقها على ما جرى لأمير المؤمنين بصورة أتم، وأوفى وأبين وأظهر.. فلاحظ وقارن.
____________
1- الآيات 8 ـ 10 من الليل.
علي (عليهالسلام ) في كلام الرسول (صلىاللهعليهوآله )..
بحق علي اغفر للمذنبين:
عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فسلمت وقلت: يا رسول الله، أرني الحق أنظر إليه بياناً (عياناً. ظ.).
فقال: يا ابن مسعود، لج المخدع، فانظر ماذا ترى؟!
قال: فدخلت، فإذا علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) راكعاً وساجداً وهو يخشع في ركوعه وسجوده، ويقول: اللهم بحق نبيك محمد إلا ما غفرت للمذنبين من شيعتي.
فخرجت لأخبر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بذلك، فوجدته راكعاً وساجداً. وهو يخشع في ركوعه وسجوده ويقول: اللهم بحق علي وليك إلا ما غفرت للمذنبين من أمتي.
فأخذني الهلع، فأوجز (صلىاللهعليهوآله ) في صلاته، وقال: يا ابن مسعود، أكفراً بعد إيمان؟!
فقلت: لا وعيشك يا رسول الله، غير أني نظرت إلى علي وهو يسأل الله تعالى بجاهك، ونظرت إليك وأنت تسأل الله تعالى بجاهه، فلا أعلم أيكما أوجه عند الله تعالى من الآخر؟!
فقال: يا ابن مسعود، إن الله تعالى خلقني وخلق علياً والحسن والحسين
من نور قدسه، فلما أراد أن ينشئ خلقه فتق نوري، وخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجل من السماوات والأرض.
وفتق نور علي، وخلق منه العرش والكرسي، وعلي والله أجل من العرش والكرسي.
وفتق نور الحسن، وخلق منه الحور العين والملائكة، والحسن والله أجل من الحور العين والملائكة.
وفتق نور الحسين، وخلق منه اللوح والقلم، والحسين والله أجل من اللوح والقلم.
فعند ذلك أظلمت المشارق والمغارب.
فضجت الملائكة ونادت: إلهنا وسيدنا، بحق الأشباح التي خلقتها إلا ما فرجت عنا هذه الظلمة.
فعند ذلك تكلم الله بكلمة أخرى، فخلق منها روحاً، فاحتمل النور الروح، فخلق منه الزهراء فاطمة، فأقامها أمام العرش، فأزهرت المشارق والمغارب، فلأجل ذلك سميت الزهراء.
يا ابن مسعود، إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل لي ولعلي: أدخلا الجنة من أحببتما، وألقيا في النار من أبغضتما.
والدليل على ذلك قوله تعالى:( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) (1) .
____________
1- الآية 24 من سورة ق.
فقلت: يا رسول الله، من الكفار العنيد؟!
قال: الكفار من كفر بنبوتي، والعنيد من عاند علي بن أبي طالب(1) .
ونقول:
أولاً: دلت هذه الرواية على جواز التوسل بالأنبياء والأوصياء. وأن ذلك ليس من الشرك في شيء.
ثانياً: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) مستجاب الدعوة، وكذلك الوصي، ولا يحتاجان إلى التوسل بأحد، ولكنهما (عليهما الصلاة والسلام) يتعاملان مع نفسيهما كما يتعامل سائر الناس مع أنفسهم، فلا يأخذان معنى العصمة في تعاملهما هذا.. ومن فوائد ذلك تجسيد معنى الأسوة والقدوة بصورة عملية؛ إذ لو فهم الناس أنهما يتعاملان على أساس حقيقة النبوة والإمامة، ليشعر الناس بالعجز عن التأسي بهما، والمجارات لهما..
ثالثاً: المطلوب هنا: تعريف ابن مسعود بأمور:
أحدها: أن يرى بأم عينيه وبصورة عملية مقام علي (عليهالسلام ) من النبي (صلىاللهعليهوآله ).
____________
1- بحار الأنوار ج36 ص73 و 74 وج40 ص43 و 44 عن جامع الفوائد، وعن الفضائل لشاذان، وتأويل الآيات ج2 ص610 ـ 612 والفضائل لشاذان ص128 و 129 ومدينة المعاجز ج3 ص219 ـ 221 و 417 ـ 419 والدر النظيم ص765 و 766 واللمعة البيضاء ص107 و 108 وغاية المرام ج4 ص163 وج7 ص66 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج5 ص250.
الثاني: تعريفه بمدى اهتمام النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأمته، واهتمام علي (عليهالسلام ) بشيعته.
الثالث: أن هذا الهمَّ همٌّ حقيقي، يحمله كل منهما إلى خلواته، ويناجي به ربه، ويبذل الجهد في العبادة والتبتل إلى الله من أجله..
الرابع: أن محبة النبي (صلىاللهعليهوآله ) للمطيعين لا تعني سعيه لعذاب وشقاء العاصين، بل هو يسعى لإنقاذهم من البلاء، وتخليصهم من العذاب والعناء والشقاء.
رابعاً: إنه (صلىاللهعليهوآله ) حين قال لابن مسعود: أكفر بعد إيمان؟! قد أعطاه جرعة تفيده في التحمل والتماسك والثبات، وتؤهله لتلقي ما هو أعظم، مما تضمنته أقواله (صلىاللهعليهوآله ) من حقائق ودقائق، حول هذه الموجودات النورانية السامية المقام، ليقيم بذلك الحجة على ابن مسعود، ولتكون له ذخراً وملاذاً في الأيام الصعبة، حين تهجم عليه وعلى غيره اللوابس، وتعصف رياح الشبهات، وتلقي ظلم الأضاليل والأباطيل والترهات بكلاكلها..
فلعله يستعين بها على إنقاذ غيره.. وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، وما ربك بظلام للعبيد.
النبي شجرة، وعلي فرعها:
عن أبي الزبير، عن جابر: كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعرفات، وعلي (عليهالسلام ) تجاهه، فأومأ إليَّ وإلى علي (عليهالسلام )، فأتيناه، فقال: ادن مني يا علي.
فدنا علي منه، فقال: أطرح خمسك في خمسي ـ يعني كفك في كفي ـ يا علي، أنا وأنت من شجرة، أنا أصلها، وأنت فرعها، والحسن والحسين أغصانها، فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الله تعالى الجنة.
يا علي، لو أن أمتي صاموا حتى يكونوا كالحنايا، وصلوا حتى يكونوا كالأوتار، ثم أبغضوك لأكبهم الله تعالى في النار(1) .
ونقول :
لاحظ ما يلي:
1 ـ وتقول الرواية: إن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد أومأ إلى جابر، وإلى علي (عليهالسلام ) معاً، ولكنه وجه الخطاب لعلي (عليهالسلام ) دون سواه.. فهل أراد (صلىاللهعليهوآله ): أن يتخذ جابراً كشاهد على ما يجري؟! وقد أشار إليه معه ليفهم أنه هو الآخر يتحمل مسؤولية تجاه ما سيقوله (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام )!!
____________
1- الفصول المئة ج3 ص289 وفرائد السمطين ج1 ص51 ح16 وعن الرسالة القوامية في فضائل الصحابة، وراجع إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص180 و83 وج9 ص158 وج16 ص124 و 125 وج17 ص184 وج21 ص442 وج23 ص135 وج31 ص84 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص64 ومناقب الإمام أمير المؤمنين الكوفي ج1 ص242 والعقد النضيد والدر الفريد للقمي ص52 وبحار الأنوار ج27 ص226 وينابيع المودة ج1 ص270 وغاية المرام ج3 ص62 و 63 وسفينة النجاة للتنكابني ص334
2 ـ قد يقال: إن جابراً توهم أن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أومأ إليه، وهو إنما أومأ لعلي (عليهالسلام ) فقط..
ونجيب:
بأنه يستشم من الرواية: أن جابراً كان في ناحية أخرى في ذلك المجلس، ولم يكن إلى جانب علي (عليهالسلام )، حيث صرح جابر: بأن علياً كان تجاه النبي، وسكت عن نفسه، ولو كان جابر في نفس الإتجاه لقال: وأنا وعلي (عليهالسلام ) تجاهه..
3 ـ إذا ترجح أنهما كانا في موضعين مختلفين، فذلك يعني: أنه (صلىاللهعليهوآله ) أومأ إيماءتين، إحداهما لعلي (عليهالسلام )، والأخرى لجابر (رحمهالله )..
4 ـ إن وضع علي (عليهالسلام ) خمسه في خمس النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأمر من رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يشير إلى التلاحم، وإلى تمام الإنسجام والتطابق بينهما.. وعلى استيعاب هذا التطابق وهذا التلاحم كما تستوعب الكف بخمس أصابعها الكف الأخرى بخمس أصابعها أيضاً.
5 ـ ثم أعلن (صلىاللهعليهوآله ) هذا التوافق والتطابق ـ بالقول ـ ليؤكد هذا الفعل، فقال (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ) : أنا وأنت يا علي من شجرة واحدة.
6 ـ وحيث إن ذلك لا يمنع من أن يكون غيرهما أيضاً من شجرة، كما لا يمنع من أن يكون أشخاص آخرون من النبي (صلىاللهعليهوآله ) (مع علي (عليهالسلام ) أو بدونه) فقد شفع ذلك بقوله النافي لهذه الإحتمالات،
حين فصل حقيقة هذه الشجرة بأن النبي (صلىاللهعليهوآله ) أصلها، وعلياً فرعها، والحسنين غصناها، فلم يبق في الشجرة مكان تمكن المشاركة فيه لأي كان من الناس..
7 ـ بينت هذه الرواية: أن لهؤلاء الأطهار حقيقة منسجمة، ومتوافقة في آثارها، وأحوالها وأطوارها، وفي الأمر الأهم للإنسان، الوصول للجنة بالتعلق بأي غصن من أغصانها.
وإذا كانت الأغصان منطلقة من الفرع، والفرع منطلق من الأصل، فذلك يعني أنه يحمل حقيقته، وخصائصه في عمق ذاته وكنهه.
8 ـ ثم صرحت الرواية: بأن الأعمال لا تقبل من مبغضي علي (عليهالسلام )، مهما بلغت في كثرتها، وشدة معاناة الإنسان لها في حياته الدينا..
وهذا المضمون مؤيد بمضامين كثيرة جداً أو متواترة تؤكد على أن الأعمال لا تقبل بدون ولاية ولاية علي (عليهالسلام ) حتى لو صام نهاره، وقام ليله، وحج دهره.. بل قد ذكرنا في بعض فصول هذا الكتاب أن الفقرة الأخيرة، في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1) ، تدل على ذلك أيضاً.
9 ـ وحيث إن هذا الحدث قد كان في عرفات، فمن المتوقع أن يكون كثير من الناس قد شهدوه، وسمعوا ورأوا ما جرى..
____________
1- الآية 67 من سورة المائدة.
ومعنى هذا: أن الإيماءة النبوية لجابر وعلي (عليهالسلام ) ستثير الأسئلة عن سبب عدم مخاطبة جابر بشيء من الكلام رغم الإشارة إليه.. ويكون نفس هذا اللغز من أسباب تذكر الحدث، والتأمل فيه، وفي مراميه ومغازيه.
تكذيب سلمان بحضرة النبي (صلىاللهعليهوآله ):
قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يوماً لأصحابه: أيكم يصوم الدهر؟!
فقال سلمان: أنا يا رسول الله.
فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله ): فأيكم يحيى الليل؟!
فقال سلمان: أنا يا رسول الله.
قال: فأيكم يختم القرآن في كل يوم.
فقال سلمان: أنا يا رسول الله.
فغضب بعض أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن سلمان رجل من الفرس، يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش.
قلت: أيكم يصوم الدهر؟!
فقال: أنا، وهو أكثر أيامه يأكل.
وقلت: أيكم يحيى الليل؟
فقال: أنا، وهو أكثر ليلة ينام.
وقلت: أيكم يختم القرآن في كل يوم؟!