الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٩

مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (١) إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرم الثواب، وإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فقال علي: هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر (عليهالسلام )(٢) .
ولعل هذا أقرب إلى الصواب، والله هو العالم بالحقائق.
ونقول:
إن لنا بعض الوقفات مع ما سبق، فلاحظ ما يلي:
الأنصار الذين حضروا دفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ):
بالنسبة لمطالبة الأنصار بالمشاركة في تجهيز ودفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- الآية ١٨٥ من سورة آل عمران.
٢- سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٣٤٠ وفي هامشه عن: ابن سعد ج٢ ص٢١١ و (ط دار صادر) ج٢ ص٢٧٥ وانظر المطالب العالية ج٤ ص٢٥٩ وكنز العمال ج٧ ص٢٥١ والمعجم الكبير ج٣ ص١٢٩ ومجمع الزوائد ج٩ ص٣٥ والإصابة ج٢ ص٢٦٦ و ٢٦٧ والدر المنثور ج٢ ص١٠٧ وتفسير القرآن العظيم ج١ ص٤٤٤ وتفسير ابن أبي حاتم ج٩ ص٣٠٧٦ وراجع: بحار الأنوار ج٢٢ ص٥٠٥ و ٥١٥ وج٣٩ ص١٣٢ والأمالي للصدوق ص١٦٦ وعن إكمال الدين ص٢١٩ و ٢٢٠ ومناقب آل أبي طالب ج٢ ص٨٤ وروضة الواعظين ص٧٢ وتفسير كنز الدقائق ج٢ ص٣٠٨.
نقول:
إن الأنصار لم يحضروا كلهم في سقيفة بني ساعدة، ولعله قد بقي أعداد منهم، ومن المهاجرين أيضاً في محيط المسجد.. ممن لم يكن لهم حول ولا قوة، ولا تأثير ظاهر في النشاطات السياسية، فأحبوا إشراكهم في بعض الأمر، فطلبوا ذلك من علي (عليهالسلام )، فلبى طلبهم بإشراك أوس.
إشـارة:
قد دل النص الآنف الذكر رقم ١ والنص رقم ٣ على عدم حضور شقران، وأسامة بن زيد، وصالح دفن رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، لأنهم لم يكونوا من أهل النبي (صلىاللهعليهوآله )، ولا من أقاربه..
الصدمة الكبرى لعائشة:
قال علي (عليهالسلام ) لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ): يا رسول الله، أمرتني أن أصيرك في بيتك إن حدث بك حدث؟!
قال: نعم يا علي بيتي قبري.
قال علي (عليهالسلام ): فقلت: بأبي وأمي، فحد لي أي النواحي أصيرك فيه.
قال: إنك مسخر بالموضع وتراه.
قالت له عائشة: يا رسول الله، فأين أسكن؟!
قال: (اسكني أنت بيتاً من البيوت، إنما هو بيتي، ليس لك فيه من الحق إلا ما لغيرك، فقري في بيتك ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى، ولا تقاتلي
مولاك ووليك ظالمة شاقة، وإنك لفاعلة).
فبلغ ذلك من قوله عمر، فقال لابنته حفصة: مري عائشة لا تفاتحه في ذكر علي ولا تراده، فإنه قد استهيم فيه في حياته وعند موته، إنما البيت بيتك لا ينازعك فيه أحد، فإذا قضت المرأة عدتها من زوجها كانت أولى ببيتها، تسلك إلى أي المسالك شاءت(١) .
ونقول:
١ ـ سيأتي أنه (صلىاللهعليهوآله ) دفن في بيت علي والزهراء (عليهماالسلام )..
٢ ـ تدل الرواية: على أن البيوت لم تكن للزوجات، وأنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يملكهن إياها، فلماذا إذن منعت عائشة من دفن الإمام الحسن (عليهالسلام ) مع جده، وقالت: نحوا ولدكم عن بيتي، ولا تدخلوا بيتي من لا أحب(٢) .
____________
١- بحار الأنوار ج٢٢ ص٤٩٤ عن الطرف ص٤٦.
٢- راجع: الإرشاد للمفيد ج٢ ص١٨ والخرائج والجرائح ج١ ص٢٤٢ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص١٤٩ وبحار الأنوار ج٤٤ ص١٥٣ و ١٥٤ و ١٥٧ والأنوار البهية ص٩٢ والدرجات الرفيعة ص١٢٥ وقاموس الرجال ج١٢ ص٣٠٠ وأعيان الشيعة ج١ ص٥٧٦ والجمل للمفيد ص٢٣٤ وكشف الغمة ج٢ ص٢٠٩ مناقب آل أبي طالب ج٣ ص٢٠٤. وراجع: روضة الواعظين ص١٦٨.
٣ ـ إن عائشة هي التي بادرت إلى تحديد موضع دفن النبي (صلىاللهعليهوآله )، وأنه في بيتها، ولكن ذلك لا يعني أن تجري الأمور وفق هواها، فقد يجاريها النبي (صلىاللهعليهوآله ) الآن، ثم يأمر علياً (عليهالسلام ) بدفنه حيث يقبضه الله تعالى، وهكذا كان.
٤ ـ إن علياً (عليهالسلام ) يطلب من النبي (صلىاللهعليهوآله ) تحديد مكان دفنه ـ مع أن علياً (عليهالسلام ) يعرف الموضع ويراه ـ لأجل أن يسمع الآخرين الجواب، ولكي لا يتهم بأنه (عليهالسلام ) يتصرف من عند نفسه.
٥ ـ قول النبي (صلىاللهعليهوآله ) لعلي (عليهالسلام ): إنك مسخر بالموضع، وتراه. يدل على أن علياً (عليهالسلام ) إنسان إلهي مسدد، ومؤيد منه تعالى، وله خصوصيات ليست لغيره، ولذلك فهو لا يحتاج إلى تحديد الموضع من قبل الرسول (صلىاللهعليهوآله )، فالمكان مسخر له وهو يراه.
٦ ـ ويلاحظ هنا: إهتمام عائشة بموضع سكناها لو دفن النبي (صلىاللهعليهوآله ) في حجرتها، مع أن المفروض هو أن تهتم بحياة الرسول، وبموضع دفنه، وأن تعلن أنها مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيل امتثال أوامره، وتلبية حاجاته، وتنفيذ رغباته. وأن يشغلها ألم فراقه عن هم سكناها بعده..
٧ ـ إن الرواية تصرح: بأنه (صلىاللهعليهوآله ) أمر عائشة بأن تقر في بيتها، في إشارة منه لها بأنه سوف لا يدفن في ذلك البيت، لتحتاج إلى البحث عن غيره لسكناها.
٨ ـ إنه (صلىاللهعليهوآله ) أخبرها بأنها سوف لا تقر في بيتها، بل هي سوف تخرج منه لمحاربة إمام زمانها ووليها ظالمة له..
٩ ـ قد يحق للناظر أن يبدي إحتمال أن يكون هذا الحوار بين النبي (صلىاللهعليهوآله ) وعائشة قد جاء توطئة لتوجيه التحذير لعائشة مما ستقدم عليه من الخروج على إمام زمانها، ليكون ذلك من الإخبارات الغيبية، ومن أعلام نبوته (صلىاللهعليهوآله ).. وأن خلافة علي أمر إلهي يعرف النبي عن الله كل تفاصيل ما يجري فيه..
١٠ ـ إن هذا الحوار أيضاً قد أنتج جرأة هائلة من عمر بن الخطاب على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) حيث رد على رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، وقرر لابنته حفصة: أن البيت بيتها، ولا ينازعها فيه أحد..
وكلمته الأخيرة تشير إلى أنه كان مطمئناً إلى أنه سوف يملك القدرة على رد كلام رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بعد وفاته!!
١١ ـ والأمر والأدهى إتهام عمر لرسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بأنه استهيم بعلي (عليهالسلام ) حياً وميتاً.. وكأنه يريد أن يقول: إن تصرفاته (صلىاللهعليهوآله ) لا تستند إلى مبررات معقولة، بل هي نتيجة هيام خارج عن دائرة التعقل والحكمة.
وهذا يتناغم مع قوله في رزية يوم الخميس عن النبي (صلىاللهعليهوآله ): إن الرجل ليهجر، أو غلبه الوجع.
١٢ ـ إن عمر قد أمر عائشة بالإمتناع عن مفاتحة النبي (صلىاللهعليهوآله ) بشيء من أمر علي (عليهالسلام )، وأن لا تراده الكلام فيه، ربما لأنه
خشي أن يتسبب ذلك بتصريح النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأمور حول مقام علي (عليهالسلام ) تزيد من تعقيد الأمور أمام مشاريعهم الإستئثارية..
١٣ ـ وأخيراً، فإن هذا التوجيه العمري لعائشة يُظهِر مدى التنسيق بين أركان هذه الجماعة في موضوع إقصاء علي (عليهالسلام )، والإستئثار بالأمر دونه..
أين دفن النبي (صلىاللهعليهوآله )؟!:
قد عرفنا: أنه (صلىاللهعليهوآله ) دفن في الموضع الذي قبض فيه، وقد روي عن عائشة قولها: اختلفوا في دفنه (صلىاللهعليهوآله ) فقالت لعلي (عليهالسلام ): إن أحب البقاع إلي مكان قبض فيه نبيه(١) .
وكان (صلىاللهعليهوآله ) خرج فصلى بالناس، وخفف الصلاة، ثم وضع يده على عاتق علي (عليهالسلام )، والأخرى على عاتق أسامة، ثم انطلقا إلى بيت فاطمة (عليهاالسلام )..
وهناك قبض (صلىاللهعليهوآله )..
ودفن في هذا البيت بالذات..
وقد ذكرنا أدلة كثيرة على هذا الأمر، وحددنا مكان بيت علي وفاطمة
____________
١- مجمع الزوائد ج٩ ص١١٢ والخصائص الكبرى للسيوطي ج٢ ص٤٨٦ ومسند أبي يعلى ج٨ ص٢٧٩ والبداية والنهاية ج٧ ص٣٩٧ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص٣٩٤ والغدير ج٧ ص١٨٩ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٨ ص٦٩٣.
(عليهماالسلام ) من جهة، وبيت عائشة من جهة أخرى في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) ج٣٣ ص١١٩ـ ١٣٩ فلا بأس بالرجوع إليه..
حديث سم النبي (صلىاللهعليهوآله ):
١ ـ روي: أنه لما رجع النبي (صلىاللهعليهوآله ) من خيبر، جاءته امرأة من اليهود ـ قد أظهرت الإيمان ـ بذراع مسمومة، وأخبرته أنها كانت قد نذرت ذلك له..
وكان مع رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) البراء بن معرور، والإمام علي (عليهالسلام )، فطلب النبي (صلىاللهعليهوآله ) الخبز، فجيء به، فأخذ البراء لقمة من الذراع، ووضعها في فيه..
فقال (عليهالسلام ): لا تتقدم رسول الله (صلىاللهعليهوآله ).
فقال له البراء: كأنك تبخِّل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )؟!
فأخبره الإمام علي (عليهالسلام ): بأنه ليس لأحد أن يتقدم على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) بأكل ولا شرب، ولا قول ولا فعل..
فقال البراء: ما أبخِّل رسول الله (صلىاللهعليهوآله )..
فقال الإمام علي (عليهالسلام ): ما لذلك قلت. ولكن هذا جاءت به يهودية، ولسنا نعرف حالها، فإذا أكلتها بدون إذنه وكلت إلى نفسك..
هذا.. والبراء يلوك اللقمة، إذ أنطق الله الذراع، فقالت: يا رسول الله، إني مسمومة، وسقط البراء في سكرات الموت، ومات.
ثم دعا (صلىاللهعليهوآله ) بالمرأة فسألها..
فأجابته بما يتضمن الإعتراف بالجريمة، وأنه إن كان نبياً لم يضره ذلك، بل سوف يخبره الله به.
فأخبرها النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأن البراء لو أكل بأمر رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) لكفي شره وسمه..
ثم دعا بقوم من خيار أصحابه، فيهم سلمان، والمقداد، وأبو ذر، وصهيب، وبلال، وعمار، وقوم من سائر الصحابة تمام العشرة، والإمام علي (عليهالسلام ) حاضر..
فدعا رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) الله تعالى، ثم أمرهم بالأكل من الذراع المسمومة، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا الماء.
وحبس المرأة، وجاء بها في اليوم التالي.. فأسلمت..
ولم يصلِّ رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) على البراء، حتى يحضر الإمام علي (عليهالسلام )، ليُحِلَّ البراء مما كلمه به حين أكل من الشاة.. وليكون موته بذلك السم كفارة له..
فقال بعض من حضر: إنما كان مزحاً مازح به علياً، لم يكن جداً فيؤاخذه الله عز وجل بذلك.
فقال (صلىاللهعليهوآله ): لو كان ذلك منه جداً لأحبط الله أعماله كلها. ولو كان تصدق بمثل ما بين الثرى إلى العرش ذهباً وفضة، ولكنه كان مزحاً وهو في حل من ذلك، إلا أن رسول الله يريد أن لا يعتقد أحد منكم: أن علياً (عليهالسلام ) واجد عليه، فيجدد بحضرتكم إحلالاً،
ويستغفر له، ليزيده الله عز وجل بذلك قربة ورفعة في جنانه.. الخ(١) .
٢ ـ وفي رواية عن الأصبغ، عن الإمام علي (عليهالسلام ): أنه يقال للمرأة اليهودية: عبدة.
وأن اليهود هم الذين طلبوا منها ذلك، وجعلوا لها جعلاً.
فعمدت إلى شاة فشوتها، ثم جمعت الرؤساء في بيتها، وأتت رسول الله (صلىاللهعليهوآله )، فقالت: يا محمد، قد علمت ما توجَّب لي من حق الجوار، وقد حضر في بيتي رؤساء اليهود، فزينِّي بأصحابك..
فقام (صلىاللهعليهوآله ) ومعه الإمام علي (عليهالسلام )، وأبو دجانة، وأبو أيوب، وسهل بن حنيف، وجماعة من المهاجرين..
فلما دخلوا، وأخرجت الشاة، سدت اليهود آنافها بالصوف.
وقاموا على أرجلهم، وتوكأوا على عصيهم..
فقال لهم النبي (صلىاللهعليهوآله ): اقعدوا..
فقالوا: إنا إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد، وكرهنا أن يصل إليه من أنفاسنا ما يتأذى به.
وكذبت اليهود لعنهم الله، إنما فعلت ذلك مخافة سَوْرة السم.. ودخانه..
____________
١- راجع: بحار الأنوار ج١٧ ص٣١٨ و ٣٢٠ و ٣٩٦ والتفسير المنسوب للإمام العسكري ص١٧٧ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص١٢٨ والإمام علي بن أبي طالب (عليهالسلام ) للهمداني ص٦٤٦.
ثم ذكرت الرواية: تكلُّم كتف الشاة، وسؤال النبي (صلىاللهعليهوآله ) لعبدة عن سبب فعلها، وجوابها له.. وأن جبرئيل هبط إليه وعلَّمه دعاء، فقرأه النبي (صلىاللهعليهوآله )، وكذلك من معه، ثم أكلوا من الشاة المسمومة، ثم أمرهم أن يحتجموا(١) .
ونقول:
قد أثبتنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله ) الجزء ٣٣ فصل: رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مات شهيداً، إن رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مات مسموماً..
غير أن ما يعنينا هنا هو التعرض للروايات التي ذكرت الإمام علياً (عليهالسلام ) في سياق حركة الأحداث في هذا الموضوع.. والرواية التي ذكرناها آنفاً هي الأوضح والأصرح في ذلك.. فالمطلوب هو الوقوف عند بعض ما تضمنته من إشارات، فنقول:
أولاً: ذكرت الرواية الأولى: أن البراء بن معرور أكل من الشاة المسمومة فمات، مع أن البراء قد توفي قبل هجرة النبي (صلىاللهعليهوآله )
____________
١- راجع: الأمالي للصدوق ص٢٩٤ وبحار الأنوار ج١٧ ص٣٩٥ و ٣٩٦ وج٩٢ ص١٤٠ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٨٠ وروضة الواعظين ص٦١ ومستدرك الوسائل ج١٦ ص٣٠٧ والثاقب في المناقب ص٨١ والجواهر السنية ص١٣٩ وجامع أحاديث الشيعة ج٢٣ ص٥٤٢.
إلى المدينة بشهر(١) ، وقضية خيبر كانت في السنة السابعة بعد الهجرة.
وقد يقال: المراد بشر بن البراء، فسقطت كلمة (بشر) سهواً..
ويجاب:
بأن سقوطها مرات عديدة في رواية واحدة بعيد.
ثانياً: اختلفت الروايات في الذي أكل من الشاة، هل هو البراء بن معرور، أو بشر بن البراء بن معرور، أو بشر بن البراء بن عازب؟!
وهل كانت هذه القضية في المدينة، أو في خيبر؟!
واختلفت أيضاً في موت أحد ممن كان مع النبي، أو عدم موت أحد.. وهناك اختلافات كثيرة بين الروايات لا حاجة إلى استقصائها.
ثالثاً: ذكرت الرواية المتقدمة: أن علياً (عليهالسلام )، صرح بأنه يشك
____________
١- راجع: السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج١ ص٣٠٨ أسد الغابة ج١ ص١٧٤ والإصابة ج١ ص١٤٤ و١٤٥ و (ط دار الكتب العلمية) ج١ ص٤١٥ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج١ ص١٣٦ و (ط دار الجيل) ج١ ص١٥٢ وفتح الباري ج٥ ص٢٧٦ وج٧ ص١٧٣ والثقات لابن حبان ج١ ص١٣٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٣ ص٦٢٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج٣ ص٢٣٩ وصحيح ابن حبان ج١٥ ص٤٧٤ والمستدرك للحاكم ج٣ ص١٨١ وبحار الأنوار ج١٩ ص١٣٢ ونيل الأوطار ج٤ ص٩١ وإعانة الطالبيين ج٢ ص١٢٣ وراجع: كنز العمال ج١٣ ص٢٩٤ وتاريخ مدينة دمشق ج٥٦ ص١٩.
في سلامة هدية تلك اليهودية، حيث قال: ولسنا نعرف حالها.. فلماذا لم يشك رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) فيها أيضاً؟!.. وإن كان قد شك بها، فلماذا لم يحذر من معه من الأكل منها قبل التثبت من حالها؟!
ولماذا بادر هو (صلىاللهعليهوآله ) إلى الأكل منها ما شاء الله؟! كما ورد في بعض نصوص الرواية(١) .
ولماذا لم يحذره علي (عليهالسلام ) من ذلك كما حذر البراء؟!
ولماذا لم يأخذ البراء بتحذير علي؟!
وإن كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد سمع تحذير علي للبراء، فلماذا لم يرتب هو الأثر عليه؟!
وإذا كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) حاضراً وسامعاً للحوار بين علي (عليهالسلام ) وبين البراء، فلماذا لم يتدخل لحسم النزاع؟!
رابعاً: عددت الرواية المتقدمة عن التفسير المنسوب للإمام العسكري الأشخاص الذين دعاهم النبي (صلىاللهعليهوآله ) للأكل من الذراع، وكانوا من خيار أصحابه، وذكرت صهيب الرومي منهم!! مع أن صهيباً كان عبد سوء، وكان من أعوان المعتدين على الزهراء، والغاصبين لحق علي، وتخلف عن بيعته (عليهالسلام ) أيضاً، وكان من المعادين لأهل البيت(٢) .
____________
١- راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظ (صلىاللهعليهوآله ) ج٣٣ فصل: رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) مات شهيداً.
٢- راجع فيما تقدم: ترجمة صهيب في قاموس الرجال ج٥ ص١٣٥ ـ ١٣٧ وغيره.
خامساً: كيف يأكل خيار أصحاب النبي (صلىاللهعليهوآله ) من الشاة المسمومة إلى حد الشبع، ثم لا يصيبهم شيء، ويعيشون إلى عشرات الأعوام بعد ذلك.. ولكنه هو (صلىاللهعليهوآله ) وحده الذي وجد ألم أكلته بخيبر، بعد ثلاث سنوات، وإن أبهره قد انقطع، وما زال ينتقض به سمه حتى مات؟!..
سادساً: إن رواية التفسير تقول: إنه (صلىاللهعليهوآله ) لم يصل على البراء إلى أن يأتي علي (عليهالسلام ) ليحلّه مما كلمه به، وليكون موته بذلك السم كفارة له..
فلما اعترضوا على النبي (صلىاللهعليهوآله ) بأن البراء قد قال ذلك مزاحاً، ولا يؤاخذ الله بالمزاح، تراجع (صلىاللهعليهوآله ) وقال: (..ولكنه كان مزحاً، وهو في حل من ذلك).
ثم اعتذر لهم عن موقفه الأول بأنه أراد أن لا يعتقد أحد أن علياً واجد عليه، فأراد أن يجدد بحضرتهم إحلالاً له، ويستغفر له، ليزيده بذلك قربة ورفعة في جنانه، وكأن الرواية تنسب التدليس والإخبار بغير الحق إليه (صلىاللهعليهوآله )، ثم التراجع عن ذلك بعد ظهور الأمر.. وحاشاه من ذلك كله..
كما أننا لم نعرف الوجه لتعبيره بكلمة (..ولكنه كان مزحاً، وهو في حل من ذلك) مع أن المناسب أن يقول: إن كان مزحاً فهو في حل الخ..
سابعاً: كيف صدق المسلمون اليهود في قولهم: إذا زارنا نبي لم يقعد منا أحد.. وهم لم يؤمنوا بعد برسول الله؟!
ألم يكن النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد زارهم قبل ذلك، واجتمع بهم؟! فهل كانوا يقومون أيضاً، ويسدُّون آنافهم بالصوف..حتى لا يتأذى بأنفاسهم؟!.
وحين سدوا آنافهم بالصوف مخافة سَوْرة السم، هل تنفسوا من أفواههم بعد سد الآناف؟!..
وهل التنفس من الفم يمنع من سَوْرة السم حقاً؟!
أم أنهم سدوها بالصوف، والتزموا بأن يتنفسوا منها أيضاً؟
إن الرواية لم توضح لنا ذلك!!
وإذا كان السم يؤثر إلى هذا الحد، فلا حاجة بهم إلى إطعام الرسول (صلىاللهعليهوآله ) من الشاة، بل يكفي أن يضعوها أمامه.. ويدخل السم إلى بدنه الشريف عن طريق التنفس.
ثامناً: إذا كان النبي (صلىاللهعليهوآله ) قد علم بالسم، وقرأ الدعاء، وأمرهم بأكل ما هو مسموم، ليظهر المعجزة، والكرامة بذلك، فما معنى أمره لمن معه بالإحتجام بعد ذلك؟!..
فهل أثّر الدعاء في حجب أثر السم، أم لم يؤثر؟ فإن كان قد أثّر، فما الحاجة إلى الحجامة؟!. وإن كان لم يؤثر، فلماذا كان الدعاء؟!
وإذا كان قد أثر، فلماذا مات هو (صلىاللهعليهوآله ) من ذلك، ووجد انقطاع أبهره بعد ثلاث سنوات؟!
وكيف أقدم (صلىاللهعليهوآله ) على تناول سم يؤدي إلى الموت، من دون تثبُّت من تأثير الدعاء في منع تأثيرالسم؟!
السقيفة.. بروايتهم..
قريش.. والخلافة:
كانت قريش تتعاطى مع الخلافة بعد الرسول (صلىاللهعليهوآله ) على أنها حكم وسلطان، يجلب لها المنافع الدنيوية، ويعزز نفوذها، ويؤكد لها هيبتها المرتكزة على التجبر والظلم، ويعيد لها احترامها وامتيازاتها الظالمة، واستعلاءها البغيض، وكبرياءها المقيت..
أما النبي (صلىاللهعليهوآله ) وعلي (عليهالسلام )، فالخلافة عندهم مقام أعطاه الله لأهله، يُحْفَظُ بها الدين، وتصان بها مصالح العباد. وهي شأن من شؤون الإمامة، التي لا تكون إلا للأنبياء وأوصيائهم.
الأنصار يراقبون الأحداث:
وعلى هذا الأساس نقول:
١ ـ لا شك في أن الأنصار كانوا على مقربة مما يجري، ويرون بأم أعينهم جرأة قريش على رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) يوم عرفة، وفي رزية يوم الخميس، ومحاولة قتل النبي (صلىاللهعليهوآله ) بتنفير الناقة ليلة العقبة، ثم العصيان المعلن لأوامره المتعلقة بسرية أسامة، ثم ما جرى في قضية صلاة أبي بكر بالناس.. وغير ذلك.
ويرون أيضاً جهد قريش وأعوانها المتواصل لإبطال مسعى رسول الله
(صلىاللهعليهوآله ) لتأكيد أمر الإمامة في علي (عليهالسلام ).. ويعرفون الكثير مما يدور في الحلقات والجلسات المختلفة، ويسمعون ويرون الهمسات والغمزات، وما يدبَّر ويحضَّر من الفريق المناوئ لعلي (عليهالسلام ) وبني هاشم، ولم يكن لديهم أدنى شك في أن ثمة تصميماً على منع علي من الوصول للخلافة مهما كلف الأمر.
٢ ـ والأنصار يعلمون أيضاً: أن أهل مكة حديثوا عهد بالإسلام، وان أكثر الناس قد أعلنوا إسلامهم بعد فتح مكة، أي في سنتي تسع وعشر.
٣ ـ وكانوا يعلمون كذلك: أن قريشاً كانت تعتبر الأنصار هم السبب في ظهور أمر محمد، وقد نصروه وآزروه، وشاركوا في قتل فرسان ورجال قريش، وصناديد العرب، وأن مراجل حقدها ومن يدور في فلكها كانت تغلي وتفور على الأنصار، ولا تجد لها متنفساً..
٤ ـ وكانوا يخشون من أن تنتقم منهم قريش وأعوانها إذا وصلت إلى الحكم والسلطان، وربما يكون إنتقاماً قاسياً وشرساً وبشعاً..
٥ ـ وكان في الأنصار طامعون وطامحون أيضاً.. وتراودهم خطرات وتصورات تحفزهم إلى استباق الأحداث، لأن الخلافة إذا كانت سوف لن تصل إلى أهلها، فلماذا لا يبادرون إلى اقتناص الفرصة، ما دام أن ذلك يحصنهم من انتقام الناس منهم.. علماً بأن المرشحين لهذا الأمر من الفريق الآخر ليسوا بأفضل حالاً من الطامحين من الأنصار، كسعد بن عبادة وغيره.. فبادروا إلى سقيفتهم.. التي سوف نذكر ما جرى فيها في الفقرات التالية إن شاء الله..
من تجليات خوف الأنصار:
وقبل أن نذكر أحداث السقيفة، نذكر بعض الشواهد على خوف الأنصار من تولي بعض القرشيين ـ غير علي (عليهالسلام ) ـ للحكم، فلاحظ ما يلي:
١ ـ قال الحباب بن المنذر يوم السقيفة: (ولكنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم، وآباءهم، وإخوانهم)(١) .
٢ ـ إن الأنصار عندما مات النبي (صلىاللهعليهوآله ) كانوا يبكون، لأنهم لا يدرون ما يلقون من الناس بعده (صلىاللهعليهوآله )(٢) .
٣ ـ سيأتي: أن الأنصار قالت بعد خطبة أبي بكر فيهم في جملة كلام: (ولكننا نشفق بعد اليوم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منكم، فإذا مات أخذتم رجلاً من الأنصار فجعلناه..)(٣) .
____________
١- راجع: حياة الصحابة ج١ ص٤٢٠ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٢ ص٥٣ وبحار الأنوار ج٢٨ ص٣٢٦ والسقيفة وفدك للجوهري ص٥١ وقاموس الرجال ج١٢ ص١٠٨ وفتح الباري ج١٢ ص١٣٥ والسقيفة للمظفر ص٩٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج٣ ص١٨٢ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٠ ص٢٧٥ وحياة الإمام الحسين (عليهالسلام ) للقرشي ج١ ص٢٣٦.
٢- مسند أحمد ج٦ ص٣٣٩ ومجمع الزوائد ج٩ ص٣٤.
٣- سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٣١٣ وراجع: بحار الأنوار ج٢٨ ص٣٤٤ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٦ ص٨ والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج١ ص١٤ و (تحقيق الشيري) ج١ ص٢٣.
أحداث السقيفة بروايتهم:
ثم إن أتباع الخلفاء يروون أحداث السقيفة بطريقتهم الخاصة، متجاهلين الكثير من الأمور الهامة والحساسة التي وردت في مصادرهم، ونحن نذكر هنا النص الذي أورده الصالحي الشامي، مكتفين بذلك، فنقول:
قال الصالحي الشامي:
روى ابن إسحاق، والإمام أحمد، والبخاري، وابن جرير، عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر: إنه قد بلغني أن فلاناً ـ وفي رواية البلاذري عن ابن عباس: أن قائل ذلك الزبير بن العوام ـ قال: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً(١) .
وفي رواية البلاذري عن ابن عباس: (بايعت علياً) لا يغرن امرءاً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت(٢) .
____________
١- سبل الهدى والرشاد ج١١ ص١٢٧ وج١٢ ص٣١١ عن ابن إسحاق، وأحمد، والبخاري، وابن جرير. وراجع: صحيح البخاري ج٨ ص٢٥ وفتح الباري (المقدمة) ص٣٣٧ وعمدة القاري ج١٧ ص٦٢ وج٢٤ ص٦ وصحيح ابن حبان ج٢ ص١٥٤ وأضواء البيان للشنقيطي ج٥ ص٣٦٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٠ ص٢٨٠ و ٢٨١.
٢- سبل الهدى والرشاد ج١٢ ص٣١١. وراجع: خلاصة عبقات الأنوار ج٣ ص٣٠٥ وصحيح ابن حبان ج٢ ص١٥٥ و ١٥٧ وتاريخ مدينة دمشق ج٣٠ ص٢٨١ و ٢٨٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج٤ ص١٠٧٣.
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فقال عليهالسلام : إذا وجدتَ مَن هذه أوصافهم من المجاهدين، فحينها لا ندع الجهاد والقتال)، وهو عليهالسلام يشير إلى أن الفتوحات التي تقوم الدولة بها حينذاك هدفها لم يكن نشر الإسلام، بل جني الغنائم وتحصيل الجاه والأموال والجواري...
د - ما ورد في رواية ابن حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام قال: سمعته يقول: (مَن أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، وما حرَّمناه ذلك فهو له حرام). وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت تقوم بجباية الأموال من خراج وزكاة ومقاسمة.
هـ - الإشراف على تولِّي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتّى يسهل إدارة أمور الشيعة؛ كما في الإمام الصادق عليهالسلام مع داود الزربي، والكاظم عليهالسلام مع علي بن يقطين، والصادق عليهالسلام مع النجاشي في تولِّيه للأهواز، والإمام الرضا مع محمد بن إسماعيل بن بزيع.
و - الإذن لأصحابهم في التصدِّي للفتيا.
ز - تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية، وليست تشريعات ثابتة. فكما في إحياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية، وليس تشريعاً ثابتاً؛ بدليل ما في بعض الروايات المشيرة إلى أنه عند ظهور الحجة عليهالسلام سوف يتغيَّر هذا النظام في الأراضي.
حـ - إعفاؤهم شيعتهم من إعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد عليهالسلام . وما ورد عن الباقر عليهالسلام في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الأجير.
ط - حثُّ الشيعة على التمسُّك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولِّي والتبرِّي،
وعدم الولاء للسلطة الحاكمة وعدم مشروعيَّـتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، وإقامة الإحكام الفقهية الخاصة في الإعمال اليومية، وحثّ الإمام الباقر عليهالسلام والصادق عليهالسلام لأصحابه على إقامة الجمعة فيما بينهم.
وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة، أو لكتاب الوسائل مثلاً، يجد الناظر مشجَّرة كاملة في الأبواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة عليهمالسلام في المجال التنفيذي الولائي والقضائي، فضلاً عن التشريعي، فرسم صورة كاملة عن أنشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.
ثانياً: الدين والسياسة
أمَّا ما ذُكر من أن السياسة ليست من الدين، وأن الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف الإلهي، وأن الكتاب غير حاوٍ لأحكام السياسة، فيجاب عنه:
أ - أن القران عالج جوانب عدة من كيفية إقامة النظام في المجتمع؛ فوضع نظام الأحوال الشخصية، وقواعد القضاء (وهذه القواعد تتفرَّع منها آلاف القضايا الفرعية)، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه (والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم)، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة اقتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف)، ونظام المنابع المالية العامة، وقد أُعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.
فهل يعقل أن يقال: إن مَن اهتم ببيان هذه الموارد أغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه؟
ب - يُنقض على المستشكِل بأن حكومة الرسول صلىاللهعليهوآله في تلك الفترة الحرجة
وصلت وحقَّقت الكثير من الأهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام - مع وجود الشخصية المؤهلة - قادر على تأدية وظائف الحكومة وتنفيذها بأحسن حال، كيف وقد انتشلت المجتمع البدوي القبلي المتخلِّف إلى درجة أعظم نظام دولة يناهض القوتين العظميين حينذاك الكسروية والقيصرية؟!
جـ - أن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة؛ لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرَّعه الشارع واعتبره وصحّحه، والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة؛ أي اعتبرها الشارع، فكيف لا تتعرَّض الشريعة للحكم السياسي؟ وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع؟ وبعبارة أخرى: ما المعنى المحصَّل للمشروعية في كلامه إن لم ترجع إلى عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معنى للحديث عن المشروعية حينئذ؟
ثُم إن مقتضى أن اللَّه سبحانه وتعالى مالك للمخلوقين ولأفعالهم، أن مبدأ وأصل الولاية هو للَّه تعالى، وأن كل الولايات تتشعَّب من ولايته ( الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) و ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) . وهذا أصل غاية الأمر؛ حيث جعل للإنسان الاختيار، لا القسر، فكانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر، ونمط تشريعي اعتباري قانوني، فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الإلهية يبنى على أن أصل الولاية للَّه، وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي إلى ذلك الأصل.
نعم، المنطق الوضعي غير المتقيِّد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الإنسان وسلطة الفرد على نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط)، فبين المنهجين بعد المشرقين.
د - أن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير إلى أن تعيين القائد الذي
تنتخبه الأمة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفَّر في القائد المواصفات والأهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والأمانة وغيرها. وحينئذ فإذا رُشَّح مَن له هذه الصفات وانتخبته الأمة، يكون الانتخاب صحيحاً. فحقيقة الانتخاب هي استكشاف مَن ترى الأمة أن توفُّر هذه الصفات فيه بنحوٍ أكمل وأفضل، فمنشأ ولايته هو توفر تلك الشروط فيه، لا اختيار الأمة، وإنما هو استكشاف فقط، وهذا يقترب من نظرية النص التي تدعَّي أن السماء هي التي تتكفّل ببيان هذه الصفات وتحديدها ويكون بيد الأمة تشخيصهم في الخارج.
وقد أثار هذا الباحثين من فقهاء القانون الوضعي فذهبوا إلى أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة، سواء على الأفعال أو الأعيان، بل المنشأ هو السلطة التكوينية على الأولى، والحيازة أو العمارة للثانية. وأمَّا فقهاء الشرع من الفريقين، فقد نصُّوا على لزوم إمضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة؛ إذ أن للَّه ما في السموات والأرض، فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الأفعال والأعيان إلاّ ما حدَّده الشرع له؛ لأن الشارع الأقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الإنسان فاعل ومالك لِمَا يشاء ومطلق العنان، إلاّ ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي أو العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) إلى الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن أساس الحكومة في المجتمع مختلف بين المنهجين؛ فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية اللَّه تعالى على المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد على أنفسهم، بل إن الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل - كما ذكرنا آنفا - إلى هذه النتيجة؛ وهي: أن الأساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري؛ وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد على نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية
على الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي، وليس هو من وضع سلطة الأفراد على أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج - التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد - هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا: لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة وإذا ترقَّت أصبحت عصمة) أمر لابدَّ منه، وليس للفرد والأفراد تخطي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث على المذهب الفردي.
ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي، سواء الانتخاب أم البيعة، ليس إلاّ عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء على المنهج التوحيدي الديني أم الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي، بل هو توفُّر شرائط القانون الإلهي فيه أو الوضعي الإلهي، حيث إنه يُشعّب الولاية من المالك المطلق الخالق طبق موازين الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يُعيِّن المصداق الذي تتوفَّر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو إلاّ زيادة تعهُّد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.
وأما المنهج الوضعي، فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الأمة، لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلُّف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفُّر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الربَّاني الإلهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .
فالعقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهُّد، لا أنه عملية مولِّدة لصحة الشيء الذي تمَّ التعاقد عليه، بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، والعقد هذا مفاده من أوليات الأبحاث القانونية؛ فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمِّنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخَب والمبايع، وإنما الذي يؤمِّنه، تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمِّن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.
ثُم كيف يتلائم قول القائل بأن الحكمة الإلهية في المعصوم عليهالسلام هي تجسيده للقانون الإلهي على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والفردية وغيرها، مع قوله بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً على الأمة؟! وهل يكون ناطقاً حيَّاً بالقانون إلاّ بجعل الزعامة له على الأمة؟
هـ - أن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الإلهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو الفرد والإنسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور اللَّه جلَّ وعلا أو الفرد بما هو عبد للَّه، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن؛ إذ يضفي آثاره على بنوده والأهداف المتوخاة.
ففي القانون الإلهي يكون الالتفات إلى القوى الناطقية والإلهية في الإنسان، وفي الوضعي يكون الالتفات إلى القوى النازلة والحيوانية له؛ ولذا تكون نظرية النص أكثر انسجاماً مع القانون الإلهي. ونظرية الشورى تنسجم مع القانون الوضعي؛ حيث تجعل السلطة للفرد.
وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الإلهي تراعى الكمالات التي تُوصل إلى الحق تعالى؛ وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول أن
هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشورى:
ـ أن نظرية الشورى تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة؛ حيث إن الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفَّل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفَّل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد على أساس الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.
ـ أن أصحاب نظرية الشورى يجدون فراغاً كبيراً في التشريع؛ إذ أنهم يعتمدون على ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله . أما أصحاب نظرية النص، فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين على يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الإسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم، واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية؛ ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.
و - ما ذُكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة، باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هي معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي فن من الفنون قائم على الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج إلى كياسة وخبرة وتجربة، والسائس يكون مؤهّلاً إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.
والجواب عن هذا:
ـ أن السياسة كما لها جانب عملي، فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه أصول كلية، وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصَّلاً في بحث الاعتبار والحسن والقبح). ثُم إن الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط، بل يرتبط بالجانب العملي، وفروع الدين تمثِّل هذا الجانب.
ـ أن السياسة علم يدرس في الجامعات الأكاديمية ويحتوي على كليات مسطورة في الكتب. نعم، الجانب التطبيقي منها يعتمد على الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة؛ حيث إنه لا حاجة له مع علمه اللَّدُني إلى اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لِمَا قد يُصوِّره البعض في غيبة الحجة عليهالسلام ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) ، والعلم نور يقذفه اللَّه في قلب مَن يشاء، وما التجارب والممارسات إلاّ مُعدَّات لذلك الفيض الإلهي. هذا بجانب علمه المحيط بالموضوعات بتسديد من البارئ وترفره على كمال الصفات في قواه النفسية الأخرى.
ثالثاً:
إن الأنبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط، بل يديرون دفَّة الحكم، والآية المذكورة في سورة المائدة (44) أوضح دليل على ذلك، غاية الأمر أن الأنبياء - في أداء هذه الوظيفة بالذات - يحتاجون إلى مؤازرة الناس وإقْدَارهم وبدون رجوع الناس إليهم لا تتم هذه الوظيفة.
رابعاً:
ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معنى الإمامة والنبوة، باطل بالنّص والعقل
وجوابه يتَّضح من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ، ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ، ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) ، ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) ، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) ، ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ ) ، ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ، ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم ) فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول صلىاللهعليهوآله والإمام، مضافاً إلى آيات
الولاية العامة الكثيرة ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وغيرها.
خامساً: النص والعقل
إن القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق إلى الحَجْر على عقل الإنسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتى في المعصوم يحتاج إلى انتخاب الناس، وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم العقلي. وبتعبير آخر: إن النص يحمل في طيَّاته التناقض؛ وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر، وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض أن الناس عقلاء فلا معنى لجعل الولاية عليهم، فالعصمة التي في الأئمة هي عصمة التبليغ والهداية، لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الإنسان أمر دنيوي لا يرجع فيه إلى السماء، والحاكم ليس إلاّ وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها.
وجوابه: أن كون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة على نفسه وعلى كل جزء من بدنه، بل إن الولاية المطلقة هي للَّه عزَّوجل وتتَّصل به ولاية الرسول والإمام، أي المعصوم. فبمجرد كونه عاقلاً لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل ينقصه الكثير الكثير لكي يحيط خبراً بكافة الأمور غير المتناهية، سواء كانت داخل ذاته أم في العالم المحيط به، فولاية اللَّه ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق على العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.
فلو قلنا إن الولاية تابعة لمدى عقلائيته، لازمه أن تعطى الولاية للآخرين في الأمور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد على أحد لا يعني أن الأخر محجور عليه، بل للفرد العاقل ولاية في حدود عُقلائيته. والمعصوم عقله محيط بجميع الأمور، فولايته أقوى من ولاية الإنسان على نفسه ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) . مضافاً إلى أن المستشكِل يرى أن الفرد عندما ينتخب أخر
ويعطيه الولاية على نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض ذهب - فراراً من هذا الإشكال - إلى أن الحكم والانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح أنه لا يمكن تصوير الوكالة في الحكم بالمعنى المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات؛ وذلك لأن الحاكم يقوم بإلزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات، ولا يمكن تصوير أن الوكيل يُلزم الموكِّل بما لا يريده فضلاً عن لزوم هذه الوكالة؛ إذ مقتضى أن الوكالة جائزة هو أن الأمة يمكن أن ترجع في اختيارها حتى من دون سبب، وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.
مضافاً إلى العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية، والقَسَم الدستوري الذي يؤدِّيه الحاكم، وعدم إمكان الحاكم الثاني إبطال أعمال الحاكم الأول، وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلاً عن الفرد.
وعلى كل تقدير يبقى المجال أمام الولاية، فإذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفرد على نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته، فكذلك جعل الوالي من قبل اللَّه لا ينافي عقلائيته.
سادساً: النص والاستبداد
إن البعض ذكر أن نظرية النص تؤدي إلى الاستبداد، والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة؛ إذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل ذات الفرد هي المحور، ولذا قال البعض - فراراً من هذا الإشكال -: إن المعصوم ملزَم بالشورى والاستشارة، وملزم أيضاً بنتيجة الشورى.
والجواب عنها:
أ - إن الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية، ولأجل إبطال النظرية يجب إثبات الأول.
ب - إن المشرِّع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد؛ وذلك عن
طريق ضمانات إجرائية:
منها: أن المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات، وسوف يأتي في الحديث في غير المعصوم.
ومنها: لزوم التقيُّد بالأحكام الإلهية بعيداً عن الهوى والأحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرُّف مخالف لها.
ومنها: رقابة الأمة تحت إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة إلى حكومة نائب المعصوم ظاهرة. وأما بالنسبة إلى حكومة المعصوم، فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الأمة مُعينة للمعصوم على مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي عليهالسلام .
ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والأمانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه، وإلاّ فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد إلى العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الإمام عليهالسلام : (لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفَّظوا مني بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة).
ومنها: أن الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي - مضافاً إلى الجانب التكويني الخاص - حيثيَّـتان حقوقية بما هو رسول أو إمام أو نائب إمام، والأخرى حقيقية، ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر أفراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ وهذا لِمَا مرَّ في النائب عن المعصوم، وأمَّا فيه، فإنه كذلك سوى ما خُصّ به من امتيازات في التشريع الإلهي ممَّا شُرِّف وفُضِّـل به على سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الأخرى لا يكون نافذاً، هذا في النائب غير المعصوم، وإلاّ ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي. وبتعبير آخر: إن ولاية شخصٍ ما، ينوب عن المعصوم، هي لعقيدته وفقاهته وعدالته
أنيب في الولاية، لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النصِ الحاكمُ (المعصوم أو نائبه) ينظر إلى الحكم كمسؤولية وأمانة وخدمة ووظيفة.
ومنها: المساواة أمام القانون، فالجميع يقفون أمام القانون على حدٍ سواء، والجميع تطبَّق العدالة عليهم، وهو لا يعني أن يتساوى الجميع في العطاء - مثلاً -، بل يُعطى كلٌّ على حسب ما هو مقدَّر له في الشرع، فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنَّه تمايز وتفاضل رضى عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الآخرة لا عالم الدنيا.
ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو، بل بما هو عبد اللَّه، بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو. وقد ذكرنا سابقاً ما يترتَّب على هذه التفرقة، وأهمُّها أنها في التقنين تُؤمِّن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية... وهذه كلها تعتبر من درجات الإنسان السفلى. بينما في التقنين الإلهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية، أي قوى الإنسان العليا، وهي المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في إشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هي في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة. والاستبداد يأتي من حرص الإنسان على نفسه وخصوصيته، وهذا إنما يرد في النظريات الأخرى، لا نظرية النص التي تجعل اللَّه هو الأصل والمقصد والغاية.
فهذه الأمور والضمانات الإجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي يبطل كل تصرف يخالفها.
أمَّا الاستبداد، فإن نشأته تعود إلى عوامل:
أ - جهل وقلة وعي بالقانون.
ب - وجود طبقة من العلماء والمفكِّرين يروِّجون لمحورية ذاتهم / الصلاحيات المعطاة لأصحاب المناصب/ محورية الفرد.
جـ - التفكُّك والاختلاف في صفوف الأمة.
د - إشاعة الرعب والرهبة من الولاة.
هـ - جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة ممَّا ينشأ استبداد طبقي.
وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الأنظمة الغربية المدَّعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها؛ حيث تجد الفارق الطبقي شديد و واسع الهوَّة، والمال دُولة بين الأغنياء، وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشورى)، وهذا ما أطلعنا عليه التاريخ قديماً، فإن أكثر من جاء تحت هذا الغطاء إلى سدة الحكم، كان في الحقيقة بالتغلُّب والفتك، بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوى السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والأمنية هي بيد مَن عُصم علماً وعملاً كما بيَّناه مفصَّلاً، وكما أطلعنا التاريخ على حكومة الرسول صلىاللهعليهوآله والأمير عليهالسلام وبرهة من حكم الحسنين عليهماالسلام .
وله تقريبات ثلاثة:
التقريب الأول: ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويُعلم من ضرورة العقل أنه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وإدارة تقيم هذا الاجتماع، وهو المشار إليه في قوله عليهالسلام : (لابد للناس من أمير بر أو فاجر). كما أن الواجبات الكفائية المُلْقاة على عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إمَّا أن تكون منصوبة من قبل اللَّه عزَّوجل، أو تنصبها الأمة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد؛ لأنه ظلم واستئثار، فينحصر الأمر بين الأولين، والفرض أن النصب من قبل اللَّه منتفٍ إمَّا مطلقاً أو على الأقل في عصر الغيبة؛ فيتعيَّن انتخاب الأمة.
التقريب الثاني: أن السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان على أن الناس ينتخبون حُكَّامهم بأنفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتى زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب، بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدى العقلاء.
التقريب الثالث: وحاصله أنه قد ثبت أن الناس مسلَّطون على أموالهم، والسلطنة على المال فرع من السلطنة على فعل النفس، فهذا كافٍ في إثبات سلطنة الناس على أنفسهم. وقد يقال استدلالاً على هذه المقدمة: إن الإنسان مسلَّط على نفسه بحكم العقل العملي، حيث إن الإنسان مسلَّط على نفسه تكوينا، فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده، ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الإجارة: إن عمل الأجير لا يملكه المؤجِّر قبل عقد الإيجار. وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول: إن اللَّه تعالى ذكر أن الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو يثبت ولاية الإنسان على نفسه في مرتبة سابقة، غايتها أن الشارع جعل الرسول أولى منه بذلك، وهذا خاص بالرسول أو المعصوم، ومقتضى تسلُّط كل فرد على نفسه أنه لا يجوز لأحد أن يقهرهم، وعندما تقام الحكومة لابد من حصول تنسيق بين حريات الأفراد المقتضي للحد من إطلاقها، وهذا التحديد لحرية الفرد يخالف تلك السلطنة المطلقة التي للفرد على نفسه، فلابد أن يحصل ذلك بإذنه أو بتوكيل منه.
ويرد على هذه التقريبات:
أمَّا الأول ، فمع التسليم بالمقدمات، لكنَّا نختار من شقوقه نصب اللَّه عزَّوجل، بل نفس لابُدِّية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص؛ حيث إن تعيين الحاكم والقائد من الأمور التي يتحقَّق بها لطف اللَّه، حيث إنه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وإن كان ينطبق على المعصوم
إلا أنه بنفسه يمكن ذكره في الغيبة، أي ترتُّب المقدمات بعينها بعد فرض وجود المعصوم حيَّاً، وإن كان في ستار الغيبة فنستكشف من اللابدية المزبورة، نصب الفقيه العادل نائباً من قبل المعصوم، إذ الولي في الأصل هو المعصوم فلا معنى لولاية الفقيه العادل بالأصالة، بل بالنيابة عن إمام الأصل، فيقال: إن اللَّه لا يترك مجتمعه هكذا بدون إرشاد وبدون تعيين، بل يذكر لهم الشروط والطريقة الفضلى في تعيين القائد. وهذا يستلزم استكشاف نصب المعصوم للنائب الفقيه العادل، وينسجم مع نظرية النيابة عن المعصوم، وخصوصاً أن المعصوم حي ومازال يمارس دوره في هداية الأمة وحفظها، سواء عبر نوَّابه بالنيابة العامة، أو عبر دائرة الأبدال والأوتاد والسيَّاح المغمورين بين الناس كما تشير إليه الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة، لكنَّهم نشطون في مجريات الأمور المتغيِّرة في العالم البشرى أجمع، فضلاً عن العالم الإسلامي، ولكَ أن تمثِّل لذلك بالتنظيم السياسي السري الذي يقوم بدور فعّال في مجريات الأمور من دون ظهور بارز على منصة السياسة في العلن، وقد أشار إلى ما يقرب من ذلك كل من الشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضى في كتبهم المتعلقة بغيبته (عج).
وما يقال من أن الأمة الإسلامية قد وصلت إلى مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الإلهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه، مردودٌ بأن الكمالات الإلهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود، فينحصر بالعترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة، حينئذٍ فإن هذا التقريب لا يتأتَّى إلاّ في نيابة الفقيه عن المعصوم، مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الأهواء والأمراض الفكرية والاجتماعية الفتَّاكة خير شاهد على ضرورة المعصوم.
أمَّا التقريب الثاني ، فيردُّه أن هذا البناء العقلائي ليس بممضى، بل ورد الردع عنه في آيات وروايات - تقدَّم ذكرها - تشير إلى أن الحكم للَّه فقط، وأنه يضعه حيث يشاء. ويجب التنبه إلى أن السيرة العقلائية ليست هي حكم العقل؛ فالسيرة تعني تواضع ووضع العقلاء الاعتباري وإنشاؤهم الفرضي لأجل تنظيم مجريات أمورهم وحياتهم، وبعضه يقع موضع إمضاء الشارع وبعضاً لا يقع كذلك، وما نحن فيه من هذا القسيم.
وقد يقال بإمضاء البناء العقلائي من جهة ما ورد في نهج البلاغة (الكتاب 51) حيث يصف عمَّال الخراج: (من عبداللَّه علي إلى أصحاب الخراج، أمَّا بعد... فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم؛ فإنّكم خزّان الرعية، ووكلاء الأمة) فالتعبير بوكلاء الأمة يعني أن الأمة قد أوكلت الإمام، وهو بدوره أوكل هؤلاء.
والجواب:
أ - في التقنين الاقتصادي الإسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع على الأراضي، وهي ملك المسلمين، وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمَن يكون على أموالهم، له نوع من التوكيل، وهذا غير ما نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفيء والأنفال حيث إنها ملك لولاية المعصوم نظير ما يقال حالياً: ملك الدولة لا الأمة.
ب - إن الإمام قال: (وكلاء الأمة، وسفراء الأئمة). فهؤلاء لهم لِحَاظان؛ فمِن حيث كون المال للمسلمين، فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية على التصرف والتدبير، فهو بيد الحاكم، وهو سفير له.
جـ - الإيكال له معنى آخر غير الاصطلاحي؛ وهو يحصل بأن يوكل الإنسان أمراً إلى آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكُّل على اللَّه وإيكال الأمر إليه، وإنما يعني جعل همِّ وتدبير ذلك الشيء بيد الآخر.
وما قيل من دلالة قوله تعالى: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ ) (1) على مشروعية الانتخاب ومدح وتحسين غريزة الانتخاب، وهو دليل على إمضاء السيرة العقلائية، مردودٌ بأن الآية في صدد بيان ممدوحية متابعة القول الحسن، فالمحورية ليس لانتخاب الفرد وإعمال سلطته وولايته وإرادته، وإنما انتخاب قوته الفكرية وانتقاءه أصوب وأحسن الآراء كما تقدم في الاستشارة والشورى، وهذا هو مضمون الآية، ثُم ليس أن ما انتخبه هو الحسن، بل المحورية للحسن في نفسه وأنه يجب على الفرد اتباع ما هو حسن، لا أن ما ينتخبه يصبح حسناً.
أمّا التقريب الثالث: وهذا التقريب تارة يُستدل به على الشورى في قبال النص، وتارة في طول النص، وعلى كل حال، فانطلاقة هذا التقريب هو من أن الناس مسلَّطون على أنفسهم، لكن الرواية لم تذكر ما هو مورد السلطنة هل هو التصرفات الفردية الخاصة، أم التسلط على النفس في الأمور العامة التي تمس منافع الآخرين؛ من الأموال العامة كالمباحات، وإقامة أركان الدين في المجتمع، وبث الهداية بتوسط جهاز الدولة، والرقابة والإشراف على مسير الأمة في كل المجالات لتأخذ طريق الكمال؟ والرواية غير ناظرة للأمر الثاني، بل تتعرض فقط للأمر الأول، وحتى هذه السلطنة ليست مطلقة له، بل هي محدودة بما أجاز له اللَّه. والدليل على ذلك - مضافاً إلى ما تقدم ذكره من أن الولاية في الأساس هي للَّه، وكل الولايات بما فيها الولاية الفرد على نفسه متشعِّبة من الولاية الأولى - أن اللَّه عزَّوجل حرَّم بعض التصرفات التي يكون فيها ربا، وأحل البيع وهو نوع تصرف، وغيرها من القيود التي جعلها اللَّه على تلك التصرفات، فهذا أدل دليل على أن هذا النوع من السلطنة على تصرفه غير مطلقة، بل هي للَّه عزَّوجل، وقد أحل له التصرف في نطاق وحدود معينة. ومن هنا نقول:
____________________
(1) الزمر 39: 17.
إن اللَّه عزَّوجل يمكن أن يجعل الولاية في الأمور العامة لِمَن يشاء، وأن يمنعه من التصرف فيها كيف يشاء.
وقد يصوَّر البعض هذا التقريب بحكم العقل العملي بحسن تصرف الإنسان بما يتولاّه، أو أن الواقعية التكوينية تدل على أنه مسلَّط على نفسه وعلى عمله تكويناً، فضلاً عن الأغيار.
ويجاب عن هذا التصوير: أن حكم العقل العملي بتحسين أو تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي، وهو مدى أحقية هذا الفرد بالتصرف، و في مثل هذا المورد الخفية جهاته مع كثرتها تُعلم هذه الأحقية من كتاب اللَّه.
أمَّا لو أريد الاستدلال بالتقريب على الشورى في طول النص، فجوابه أنه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية، فيجب أن يُعلم أن هذا التخصيص هو استثناء طارئ أو استثناء دائم. مضافاً إلى أنه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الإمام، فالولاية له وليست منقطعة أو متوقفة كما هو ضروري مذهب الإمامية ومقتضى الأدلة كتاباً وسنة. مع أن لازم هذه الدعوى؛ من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الأمة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاماً التي لم يتسلَّم الأمير عليهالسلام مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة عليهمالسلام ، تكون الولاية للأمة ولمنتخَبها، لا للإمام المعصوم عليهالسلام ، وهو كما ترى يناقض أوَّليَّات المذهب والأدلة القطعية.
من الأدلة على الشورى - وهي في كنهها إشكالات على نيابة الفقيه عن الإمام - وأن النيابة إنما تكون
للمجموع؛ أي أن النائب عن المعصوم لابد أن تكون المجموع لا الفرد (الفقيه)، فالشورى إن لم تكن صياغة بديلة عن النص في الغيبة
وفي طول النص، فلا محالة هي المتعيِّنة لنيابة المعصوم، وأنها تستمد الولاية منه نيابة، لا بالأصالة من الأمة.
وبعبارة أخرى: إن الأدلة المتقدمة وإن لم تتم لإثبات الشورى إلاّ أن هناك نمطين آخرين لإثباتها غير ما تقدم:
الأول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.
الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر إلى الأمة.
ـ الإشكال الثاني الذي اعترض به على نظرية نيابة الفقيه هو عدم إمكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرَّب الإشكال بنحو آخر؛ وهو أن يقال: إن الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولِّي السلطات مع أنه غير معصوم، يكونون قد تراجعوا عمَّا دافعوا عنه في زمن ظهور الأئمة من وجوب تولّي المعصوم سدة الحكم، وعليه فإذا جاز للفقيه تولّي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً وبطلت ضرورة خلافة الأئمة، و إذا كانت العصمة شرطاً فكيف يجوز للفقيه تولّي السلطة؟
والجواب عن كل ذلك: أن هذا الإشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الإمام وأن ما للإمام له، أما على ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولّي الحكم ليس يعني تولّيه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في تولّيه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النوّاب في زمن ظهور الإمام عليهالسلام ؛ من كون صلاحيّاته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الإفتاء واستنباط الأحكام.
ثُم إن اختيار مصداق وفرد الفقيه الذي يتولّى سُدّة الحكم أوكله المعصوم للأمة، فهم الذين يختارون مَن تجتمع فيه الشرائط، لكن منشأ ولايته تكون بإنابة المعصوم له بالنيابة العامة، والأمة بعد ذلك تظل في رقابتها للفقيه وحيازته وواجديَّته للشرائط العلمية والعملية.
وبعبارة أخرى: حيث أن الأئمة عليهمالسلام لم ينصبوا نائباً خاصاً كما في عصر الحضور والغيبة الصغرى، كان جعلها نيابة عامة يفيد تخيير الأمة في اختيار أحد المصاديق ممَّن ينطبق عليه شرائط النيابة العامة عن المعصومين عليهمالسلام .
وأمَّا ما ذُكر من التقريب الآخر، فهذا نابع من جهل بمقام الإمامة وما يرادفها، فإن الإمامة لا تساوي تسلم سُدَّة الحكم، وبالتالي فلو كانت تعني الإمامة التسلُّم الفعلي لسدة الحكم، لكان عدم تسلُّم الأئمة عليهمالسلام السابقين لسدة الحكم يعني عدم فعلية إمامتهم وعدم فعلية ولايتهم، مع أنَّا ذكرنا أن الحكم ليس منحصراً في الحكومة الظاهرية؛ فإن ممارسة الحكومة الخفية والنفوذ على الأتباع في الأبعاد المختلفة، هي نوع من المباشرة للولاية، وكذا الحال في الإمام الثاني عشر (عج)، فإن مباشرته للأمور ليست منحصرة في العلن، فراجع، بل إن هناك شؤون ومقامات أخرى للإمامة - وهذه الشؤون والمقامات ليس للفقيه منها حظ -:
منها: السلطة والولاية المعنوية والتكوينية، وهذه لها شُعب لا مجال لبسطها في المقام.
ومنها: وجوب المودّة بنص القرآن ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .
ومنها: الإقرار والاعتقاد بهم، وهو ركن في تحقق الإيمان قال صلىاللهعليهوآله : (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (1) فأوجب معرفة الإمام، وهو عنوان غير عنوان الطاعة الواجبة، وحذّر صلىاللهعليهوآله بأن مَن لم تتحقَّق لديه تلك المعرفة، فسيموت على الكفر الجاهلي الذي ما دخل الإسلام.
____________________
(1) وللحديث مصادر كثيرة بأسانيد مستفيضة إن لم تكن متواترة، راجع: الكافي، ج2، 18 باب دعائم الإسلام بعدة طرق، ورواه من العامة أحمد في مسنده، ج4، ص96، وذكره التفتازاني في شرح عقائد النسفي، وعدة غيرهما.