الصحيح من سيرة الإمام عليّ (عليه السلام) (المرتضى من سيرة المرتضى) الجزء ٩
0%
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350
مؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350
أيال قريش أصلحوا ذات بيننا وبينكم قد طال حبل التماحك(1)
فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا ولا خير فينا بعد فهر بن مالك
كلانا على الأعداء كف طويلة إذا كان يوم فيه جب الحوارك(2)
فلا تذكروا ما كان منا ومنكم ففي ذكر ما قد كان مشى التساوك(3)
قال الزبير: وقال علي للفضل: يا فضل، انصر الأنصار بلسانك ويدك، فإنهم منك وإنك منهم، فقال الفضل:
قلت يا عمرو مقالاً فاحشاً إن تعد يا عمروٌ الله فلك
إنما الأنصار سيف قاطع من تصبه ظبة السيف هلك(4)
وسيوف قاطع مضربها وسهام الله في يوم الحلك
نصروا الدين وآووا أهله منزل رحب ورزق مشترك
وإذا الحرب تلظت نارها بركوا فيها إذا الموت برك
ودخل الفضل على علي (عليهالسلام ) فأسمعه شعره، ففرح به، وقال: وريت بك زنادي يا فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر شعرك، وابعث به إلى الأنصار.
____________
1- التماحك: اللجاج.
2- كناية عن الشدة، والحارك: عظم على الظهر.
3- التساوك: المشي الضعيف.
4- ظبة السيف: حده.
فلما بلغ ذلك الأنصار، قالت: لا أحد يجيب إلا حسان الحسام.
فبعثوا إلى حسان بن ثابت، فعرضوا عليه شعر الفضل، فقال: كيف أصنع بجوابه! إن لم أتحر قوافيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي.
فقال له خزيمة بن ثابت: أذكر علياً وآله يكفك عن كل شئ فقال:
جزى الله عنا والجزاء بكفه أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله فصدرك مشروح، وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة مكانك هيهات الهزال من السمن!
وأنت من الاسلام في كل موطن بمنزلة الدلو البطين من الرسن
غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن
فكنت المرجى من لؤي بن غالب لما كان منهم، والذي كان لم يكن
حفظت رسول الله فينا وعهده إليك ومن أولى به منك من ومن!
ألست أخاه في الهدى ووصيه وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن
فحقك ما دامت بنجد وشيجة عظيم علينا ثم بعد على اليمن
قال الزبير: وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب، فخرج إلى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم:
يا معشر قريش، إن الله جعل الأنصار أنصاراً، فأثنى عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم، إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الاسلام، ودفعه عن الحق، وأطفأ شرفه، وفضل غيره عليه، يقوم مقاماً فاحشا فيذكر الأنصار، فاتقوا الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم، لأن رسول
الله قال لهم: (أزول معكم حيثما زلتم).
فقال المسلمون جميعاً: رحمك الله يا أبا الحسن! قلت قولاً صادقاً(1) .
ونقول:
يستوقفنا هنا ما يلي:
الأنصار تعظم علياً (عليهالسلام ):
صرحت الرواية: بأن الأنصار كانت تعظم علياً.. وكأن المقصود أن هذا التعظيم كان هو الأمر الطبيعي لدى الأنصار، لا من حيث أنها تريد ترشيحه للخلافة أو لا تريد.
وذلك على خلاف أكثر المهاجرين الذين كانوا ينأون بأنفسهم عنه، ويسعون إلى تصغير قدره، والحط من مقامه.. وفقاً لما روي عنه (عليهالسلام ): اللهم عليك بقريش، فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وصغروا عظيم منزلتي(2) .
____________
1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص36.
2- راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) الرسالة رقم (36) وقسم الخطب رقم (212) و (32) و (137) وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص96 وج2 ص119 والغارات ج1 ص309 وج2 ص454 و429 و430 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص74 فما بعدها، وبحار الأنوار (ط قديم) ج8 ص621 والإمامة والسياسة ج1 ص155. وراجع كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج1 ص175 و176 للإطلاع على مصادر أخرى.
الفضل يرجع إلى علي (عليهالسلام ) لا إلى العباس:
وقد لاحظنا هنا أموراً:
أحدها: أنه يرى أن علياً (عليهالسلام ) هو مرجعيته، وليس أباه العباس بن عبد المطلب، مع أن العباس أسن من علي (عليهالسلام )، وهو عم علي (عليهالسلام ) ووالد الفضل هذا.
الثاني: إن ما يثير الإعجاب والإكبار هو هذه الإنضباطية التامة من قبل أصحاب أمير المؤمنين (عليهالسلام )، فلا يتصرفون من عند أنفسهم، ولا يتركون لإنفعالاتهم أن تستأثر بمواقفهم، أو أن تخل بهذا الإنضباط الدقيق والصارم..
فسلام الله عليك يا أمير المؤمنين وعلى من علمتهم، وربيتهم، وهديتهم ورحمة الله وبركاته..
الثالث: إن أصحابه (عليهالسلام ) صادقون وصريحون حتى مع مناوئيهم، ولا يهابون أن يخبروهم بأنهم سوف يبلغون قادتهم بما كان منهم..
وهذا الصدق وهذه الصراحة، مسؤولية ورسالة وقيمة لا يحملها ولا يؤديها إلا أهلها من الأحرار، والشجعان من الرجال، الذين يحترمون أنفسهم، ويريدون أن يفرضوا قيمهم حتى على أعدائهم، ومنها الإلتزام بالصدق والصراحة، وأن يروا ذلك قيمة ويتخذوه منهجاً، يعطي الإنسان قدراً من الإحترام والقيمة.
الرابع: إن هذا الأمر الذي يجري بين عمرو بن العاص والأنصار لا ربط له بعلي (عليهالسلام ) بحسب الظاهر، بل هو مسألة مساجلات في
أمر يخص الفريقين، من حيث تنافسهما في أمر الخلافة وصراعهما على النفوذ، ولم يذكر علي (عليهالسلام ) في كلام ابن العاص، ولا في كلام غيره، فلماذا يريد الفضل أن يبلغه بما يجري، وبما سمعه من عمرو بن العاص؟!
ولماذا لم يقل ابن العاص للفضل: لا شأن لعلي (عليهالسلام ) في هذا الأمر؟!
أليس سبب ذلك أنهم يرون أن لعلي الحق في التدخل لنصرة كل مظلوم، وتأييد الحق لكل ذي حق.. وأن يتصدى للفتنة التي يريد أن يثيرها أي كان من الناس.؟!
دفاع علي (عليهالسلام ) عن الأنصار:
وقد جاء دفاع علي (عليهالسلام ) عن الأنصار حين بدا أن الصراع أصبح بينهم وبين قريش، ولم يكن هناك أي أثر لقضية أمير المؤمنين في البين.. وبدا أن عمرو بن العاص يريد أن ينكر كل فضل، بل كل أثر للأنصار في نصرة الإسلام، وأن ينكر أن يكون الأنصار قد أحسنوا إلى قريش وسواها ممن هاجر إليهم..
بل هو يقلب الحقائق، ويجعل المهاجرين من قريش هم أهل الفضل على الأنصار، حتى ليقول: (ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا، أحرزناهم من كل مكروه، وقدمناهم إلى كل محبوب، حتى أمنوا الخوف. فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم).
فلما رأى علي (عليهالسلام ) أن هذا هو منطق التزوير لحقائق التاريخ، بهدف جعله ذريعة للظلم والتعدي، كان لا بد له من التصدي له، والإعلان
بالنكير عليه..
واللافت: أنه (عليهالسلام ) لم يتكلم بطريقة المنكر لكلام ابن العاص، أو المؤنب له.. بل تكلم بطريقة المقرر للحقائق، والراوي لها، والمرسل لها إرسال المسلمات، ثم هو يصرح بأن الفريق الآخر لا يزال مطالباً بواجبات لم ينجزها.
وقد أكد (عليهالسلام ) على البعد الأخلاقي في تعامل الأنصار مع القضايا، وأنه قد تجاوز الحدود في رقيه، وفي قيمته. وفي امتداد آفاقه.
وقد ساق (عليهالسلام ) بياناته، ورسم حركته وموقفه بطريقة اضطرت قريشاً نفسها لأن تبادر إلى التصدي لعمرو بن العاص، لأنه (عليهالسلام ) وضعها في مأزق حقيقي، حين صرح بالحقائق الدامغة، بطريقة لا تسيغ لأحد التملص منها، إلا إن كان يريد أن يتنكر لأبده البديهيات، وأوضح الواضحات، ولا سيما في الأمور الأخلاقية والواقعية، لأن هذا التنكر سيلحق بقريش ضرراً بالغاً هي في غنى عنه..
أما إذا غضب علي فاكفف:
وحين وجدت قريش نفسها في مأزق.. ولا يمكنها أن تقدم أي مبرر معقول، أو مقبول لهذا التعدي على الأنصار.. تخوفت من أن يؤدي سكوتها عن عمرو بن العاص، ومن معه إلى تصدي علي (عليهالسلام ) له ولهم، دفاعاً عن الحق، ونصرة للمظلوم.
وانحياز علي (عليهالسلام ) للأنصار ضدها معناه انحياز بني هاشم، والأخيار من الصحابة بجميع فئاتهم معه، فبادرت إلى التراجع خطوة إلى
الوراء، ولكنها لم تعترف بالخطأ، بل اكتفت بالإعلان عن دافعها للتراجع، وهو أن لا يغضب علي (عليهالسلام )، فقالوا لابن العاص: أيها الرجل، أما إذا غضب علي فاكفف..
وهذا وإن كان في حد نفسه غير كاف، ولكنه (عليهالسلام ) لم يكن يريد أكثر من لجم الطوفان، ودرء الفتنة، ولو بهذا المقدار..
الفضل ينصر الأنصار بلسانه:
وقد طلب (عليهالسلام ) من الفضل أن ينصر الأنصار بلسانه، فإنه منهم وهم منه.. ونعتقد أن المقصود بهذا التعبير هو أنهم أهل مرام واحد. وهناك أيضاً قواسم مشتركة من حيث الأخوة الإيمانية، وسلامة الطوية. واشتراك في الغايات والأهداف الكبرى.. في مقابل الفئة الأخرى التي وإن كان الفضل منها في نسبه، وهم عشيرته، وعصبته، ولكنه غريب عنهم في فكره وفي قيمه، وفي سلوكه، وفي أهدافه وغاياته.
فالمحرك له هو رضا الله، وهدفه الحفاظ على الدين وأهله، والمحرك لهم هو طموحاتهم، وأهواؤهم، وأهدافهم هي الحصول على الدنيا بأي قيمة كانت.
يكفيك ذكر علي (عليهالسلام ):
وعن شعر الفضل نقول:
1 ـ إن الأمر الذي لم نكن نتوقعه هو أن علياً (عليهالسلام ) قد منح الفضل بن العباس وسام شاعر قريش وفتاها.. مع أننا إذا راجعنا الكتب
المهتمة بالشعر العربي نلاحظ: تجاهلهم الواضح للفضل وشعره. ولا حاجة إلى بيان دوافعهم إلى هذا التجاهل.
2 ـ لقد ظهرت دلائل واقعية هذا الوسام من تحير حسان بن ثابت في الجواب عن شعر الفضل، وإظهار عجزه عن مجاراته: حتى أشاروا عليه بأن يتحاشى ذلك، ويكتفي بطرح موضوع آخر في شعره، لا يتصل بشعر الفضل.. وهكذا كان..
3 ـ إن مشورة خزيمة بن ثابت على حسان بأن يقتصر في شعره على مدح أمير المؤمنين علي (عليهالسلام )، فإنه يكفيه عن كل شيء.. تدل على عظمة أمير المؤمنين، التي كانت قريش تسعى للتعتيم عليها قدر الإمكان، كما تقدم في كلامه (عليهالسلام )..
4 ـ ورد في شعر حسان: أن علياً (عليهالسلام ) سبق قريشاً بالفضل والمقام.. وتمنى رجال من قريش نيل مقامه.. وهم بالنسبة إليه بمثابة الفاقد من الواجد، والهزال من السمن..
5 ـ ورد في شعر حسان أيضاً أن علياً أخو النبي (صلىاللهعليهوآله ) ووصيه، وأعلمهم بالكتاب وبالسنن..
لو زالوا لزلت معهم:
وقد جاء تهديد علي (عليهالسلام ) لقريش حاسماً وحازماً، مؤيداً بالقسم بالله تعالى.. وعلي (عليهالسلام ) الذي لا يخيس بوعده، ولا بعهده لا يمكن أن يحنث بيمينه!!. فكيف إذا كان هذا اليمين على فعل أمر كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله ) قد قرره، فقد قال لهم بعد أن استنكر ظلم
سفهاء قريش الموتورين، ومن أطفأ الله شرفه، وفضَّل غيره عليه: (فاتقوا الله، وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا لزلت معهم، لأن رسول الله قال لهم: أزول معكم حيث زلتم..
فقال المسلمون جميعاً: رحمك الله يا أبا الحسن، قلت قولاً صادقاً..
فاضطر عمرو بن العاص إلى الخروج من المدينة حتى رضي عنه علي والمهاجرون.
الفهرس
الصحيح من سيرة الإمام عليّ ( عليهالسلام ) 1
الفصل الثالث: 5
الفصل الرابع: 51
الفصل الخامس: 91
الفصل السادس: 115
الفصل السابع: 133
القسم الثاني: 175
الباب الأول: 177
الفصل الأول: 179
الفصل الثاني: 217
الفصل الثالث: 281
الفصل الرابع: 305
الفصل الخامس: 331
الفهرس 350