الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)0%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 191833
تحميل: 7342

توضيحات:

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191833 / تحميل: 7342
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جده الإمام الصادقعليه‌السلام على قول أكثر العلماء والمؤرخين مثل:

المفيد في الإرشاد، والشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف، والكليني في الكافي، والكفعمي في المصباح، والشهيد في الدروس، والطبرسي في إعلام الورى، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين، والصدوق في علل الشرايع، وتاج الدين محمد بن زهرة في غاية الاختصار، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، والأردبيلي في جامع الرواة، والمسعودي في مروج الذهب، وإن كان في كلامه اضطراب، وأبو الفداء في تاريخه، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، وابن الأثير في كامله، وابن حجر في صواعقه، والشبلنجي في نور الأبصار، والبغدادي في سبائك الذهب، وابن الجوزي في تذكرة الخواص، وابن الوردي في تاريخه، ونقل عن تاريخ الغفاري، والنوبختي. وكان عتاب بن أسد يقول: إنه سمع جماعة من أهل المدينة يقولون ذلك، وغير هؤلاء كثير.

وذهب آخرون ـ وهم الأقل ـ إلى أن ولادتهعليه‌السلام ، كانت سنة ١٥٣ ه‍. منهم: الإربلي في كشف الغمة، وابن شهر آشوب في المناقب، والصدوق في عيون الأخبار، وإن كان في كلامه اضطراب، والمسعودي في إثبات الوصية، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وابن عبد الوهاب في عيون المعجزات، واليافعي في مرآة الجنان..

وقيل: إن ولادته كانت سنة ١٥١ ه‍.

والقول الأول هو الأقوى والأشهر. ولم يذهب إلى القولين الأخيرين إلا قلة..

وتوفيعليه‌السلام في طوس سنة ٢٠٣ ه‍. على قول معظم العلماء، والمؤرخين، والشاذ النادر لا يلتفت إليه..

١٢١

وبعد:

فأما علمه، وورعه وتقواه:

فذلك مما اتفق عليه المؤرخون أجمع، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للكتب التاريخية، ويكفي هنا أن نذكر أن نفس المأمون قد اعترف بذلك، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة. بل في كلامه: أن الرضاعليه‌السلام أعلم أهل الأرض، وأعبدهم. ولقد قال لرجاء بن أبي الضحاك: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم)(١) .

وقد قال أيضاً للعباسيين، عندما جمعهم، في سنة ٢٠٠ ه‍. وهم أكثر من ثلاثة وثلاثين ألفاً(٢) :

(إنه نظر في ولد العباس، وولد علي رضي الله عنهم، فلم يجد أحداً أفضل، ولا أورع، ولا أدين، ولا أصلح. ولا أحق بهذا الأمر من علي بن موسى الرضا(٣) .

____________

(١) راجع: البحار ج ٤٩ ص ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٣، وغير ذلك.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٤٤٠، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٦٦، وغاية المرام للعمري الموصلي ص ١٢١، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ ص ٢١٢، والطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ١٠٠٠، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٣٣، وغير ذلك.

وورد ذلك أيضاً في رسالة الحسن بن سهل، لعيسى بن أبي خالد، فراجع: الطبري ج ١١ ص ١٠١٢، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٣٠.

هذا.. ولكن في تاريخ التمدن الإسلامي، ج ١ ص ١٧٦ ويؤيده ما في وفيات الأعيان لابن خلكان، طبع سنة ١٣١٠ ج ١ ص ٣٢١، ويساعد عليه الاعتبار أيضاً: أن الذين أحصوا آنئذٍ هم: العباسيون خاصة المأمون، دون غيرهم من سائر بني العباس.

(٣) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٤٤١، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨٣، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، والطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ١٠١٣، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٣٦.

وفي مرآة الجنان ج ٢ ص ١١، قال: إنه لم يجد في وقته أفضل، ولا أحق بالخلافة، من علي بن موسى الرضا. ونحو ذلك ما في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨٥، ونظرية الإمامة ص ٣٨٦ ووفيات الأعيان طبع سنة ١٣١٠ ه‍. ج ١ ص ٣٢١، وإمبراطورية العرب، وغير ذلك.

١٢٢

قال عبد الله بن المبارك:

هـذا عـلي والـهدى يـقوده

من خير فتيان قريش عوده(١)

ولوضوح هذا الأمر نكتفي هنا بهذا المقدار، وننتقل إلى الحديث عن أمور هامة أخرى، وما يهمنا في المقام إعطاء لمحة “ريعة عن مكانته، وشخصيتهعليه‌السلام ، فنقول:

وأما مركزه وشخصيتهعليه‌السلام :

فهو من الأمور البديهية، التي لا يكاد يجهلها أحد، وقد ساعده سوء الأحوال بين الأمين والمأمون على القيام بأعباء الرسالة، وعلى زيادة جهوده، ومضاعفة نشاطاته، حيث قد فسح المجال لشيعته للاتصال به، والاستفادة من توجيهاته، مما أدى بالتالي ـ مع ما كان يتمتع بهعليه‌السلام من مزايا فريدة، وما كان ينتهجه من سلوك مثالي ـ إلى تحكيم مركزه، وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية، يقول الصولي:

ألا إن خير الناس نفساً ووالداً

ورهطاً وأجداداً علي المعظم

أتـينا بـه للحلم والعلم ثامناً

إماماً يؤدي حجة الله يكتم(٢)

بل لقد قال هو نفسهعليه‌السلام مرة للمأمون. وهو يتحدث عن ولاية

____________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٢.

(٢) نفس المصدر ج ٤ ص ٣٣٢، وهي في مقتبس الأثر ج ٢٢، ص ٣٢٨، لكنه لم يذكر قائلها..

١٢٣

العهد: (.. وما زادني هذا الأمر، الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئاً، ولقد كنت في المدينة، وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري، وأمر في سكك المدينة، وما بها أعز مني)(١) .

ويكفي أن نذكر هنا قول ابن مؤنس ـ عدو الإمامعليه‌السلام ، وقد أسرعليه‌السلام للمأمون بشيء، قال ابن مؤنس: (.. يا أمير المؤمنين، هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله)(٢) .

وفي الكتاب الذي طلب المأمون فيه من الرضا أن يجمع له أصول الدين، وفروعه، قال المأمون: إن الإمام: (حجة الله على خلقه، ومعدن العلم، ومفترض الطاعة)(٣) . كما أن المأمون كان يعبر عن الرضاعليه‌السلام ب‍: (أخيه)، ويخاطبه بـ‍ (يا سيدي).

وكتب للعباسيين يصف الرضا، ويقول: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له.. إلى أن قال: وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن، فما بايع له إلا مستبصراً في أمره، عالما بأنه لم يبق على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعا، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه)(٤) .

وفي كل ما قدمناه دلالة واضحة على سجايا الإمام، ومركزه، وشخصيته. وكما يقولون: (والفضل ما شهدت به الأعداء).

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٥٥، و ص ١٤٤، والكافي ج ٨ ص ١٥١، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٧.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٦٦، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦١، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٦.

(٣) نظرية الإمامة ص ٣٨٨.

(٤) الرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

١٢٤

ومما يدل على مكانته وهيبته ما ورد في رواية أخرى، يقول فيها المتحدث: (.. دخلنا - أي هو والرضاعليه‌السلام - على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين، والقواد حضور. فلما دخلنا قام المأمون، وقام محمد بن جعفر، وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا جالس مع المأمون، حتى أمرهم بالجلوس، فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلا عليه ساعة الخ)(١) .

وأما ما جرى في نيسابور:

فلا يكاد يخلو منه كتاب يتعرض لأحوال الرضاعليه‌السلام ، ومسيره إلى مرو، فإنه عندما دخل نيسابور تعرض له الحافظان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم ما لا يحصى، وتضرعوا إليه أن يريهم وجهه، فأقر عيون الخلائق بطلعته، والناس على طبقاتهم قيام كلهم. وكانوا بين صارخ، وباك، وممزق ثوبه، ومتمرغ في التراب، ومقبل لحافر بغلته، ومطول عنقه إلى مظلة المهد، إلى أن انتصف النهار، وجرت الدموع كالأنهار، وصاحت الأئمة: (معاشر الناس، أنصتوا، وعوا، ولا تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته) فأملى صلوات الله عليه، عليهم، بعد أن ذكر السلسلة الذهبية الشهيرة السند، قوله:((لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي)) .

فلما مرت الراحلة أخرج رأسه مرة ثانية إليهم، وقال:((بشروطها، وأنا من شروطها)) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٧٦، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٦.

١٢٥

فعد أهل المحابر والدوى، فأنافوا على العشرين ألفاً. كذلك وصف المؤرخون هذه الحادثة الشهيرة(١) .. ولسوف نتحدث عن هذه القضية بالتفصيل في فصل: (خطة الإمام) إن شاء الله تعالى.

وعن إسناد هذه الرواية، الذي أورده الإمامعليه‌السلام ، يقول الإمام أحمد بن حنبل: (لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته). على ما في الصواعق المحرقة، ونزهة المجالس(٢) وغير ذلك.

ونقل أن بعض أمراء السامانية بلغه هذا الحديث بسنده، فكتبه بالذهب، وأوصى أن يدفن معه.

____________

(١) نقله في مجلة مدينة العلم، السنة الأولى ص ٤١٥ عن صاحب تاريخ نيسابور، وعن المناوي في شرح الجامع الصغير، وهي أيضاً في الصواعق المحرقة ص ١٢٢، وحلية الأولياء ٣ ص ١٩٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٣٥، وأمالي الصدوق ص ٢٠٨، وينابيع المودة ص ٣٦٤، و ص ٣٨٥، وقد ذكر قوله عليه‌السلام: ((وأنا من شروطها))، في الموضع الثاني فقط. والبحار ج ٤٩ ص ١٢٣، ١٢٦، ١٢٧، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ٢٤٠، ونور الأبصار ص ١٤١، ونقلها في مسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٣، ٤٤، عن التوحيد ومعاني الأخبار وكشف الغمة ج ٣ ص ٩٨. وهي موجودة في مراجع كثيرة أخرى. لكن يلاحظ أن بعض هؤلاء قد حذف قوله عليه‌السلام: ((بشروطها، وأنا من شروطها)) ولا يخفى السبب في ذلك.

(٢) وفيه في ج ١ ص ٢٢، قال: (إنه - أي الإمام أحمد - قرأها على مصروع فأفاق».

١٢٦

وها نحن أمام نصوص أخرى:

وكذلك نرى هيبة الإمامعليه‌السلام وقوة شخصيته، في موقفه مع الفضل ابن سهل ـ أعظم رجل في البلاط العباسي ـ وذلك عندما طلب منه الفضل كتاب الضمان، والأمان، حيث أوقفه ساعة، ثم رفع رأسه إليه، وسأله عن حاجته، فقال: (يا سيدي. إلى أن قال الراوي: ثم أمره بقراءة الكتاب ـ وكان كتاباً في أكبر جلد ـ فلم يزل قائماً حتى قرأه! الخ)(١) .

ثم رأينا المأمون عندما قتل الفضل بن سهل ذا الرئاستين، وشغب عليه القواد والجند، ومن كان من رجال ذي الرئاستين، وقد جاؤا بالنيران ليحرقوا الباب عليه، ليصلوا إليه ـ قد رأينا ـ كيف هرع إلى الإمام، يطلب منه أن يتدخل لإنقاذه، فخرجعليه‌السلام إليهم، وأمرهم بالتفرق، فتفرقوا.. يقول ياسر الخادم: (فأقبل الناس والله، يقع بعضهم على بعض، وما أشار لأحد إلا ركض، ومر، ولم يقف)(٢) . ونجا المأمون بذلك بجلده، واحتفظ بحياته.

وفي كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخط يده ـ كما صرح به كل من تعرض له ـ فقرات تدل على سجايا الإمام، وعلى مركزه، وشخصيته، يقول المأمون عنه: (.. لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس.

وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً، وناشياً، وحدثاً، ومكتهلاً الخ..) وكتاب العهد مذكور في أواخر هذا الكتاب..

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢، ١٦٣ والبحار ج ٤٩ ص ١٦٨، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٨.

(٢) المناقب ج ٤ ص ٣٤٧، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٣، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٠، والكافي ج ١ ص ٤٩٠، ٤٩١، وإعلام الورى ص ٣٢٤، وأعيان الشيعة ج ٤. قسم ٢ ص ١١٠، ١٤٠، طبعة ثالثة، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤، وإرشاد المفيد ص ٣١٤، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٩٨، ١٩٩.

١٢٧

وفي نهاية المطاف:

فإن الإمامعليه‌السلام هو أحد العشرة، الذين هم على حد تعبير الجاحظ: (كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، والذين هم بين خليفة، أو مرشح لها)(١) .

وهو على ما في النجوم الزاهرة: (سيد بني هاشم في زمانه، وأجلهم، وكان المأمون يعظمه، ويجله، ويخضع له، ويتفانى فيه)(٢) .

ومثله ما عن سنن ابن ماجة، على في خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص ٢٧٨.

وقال عنهعليه‌السلام عارف تامر: (يعتبر من الأئمة الذين لعبوا دوراً كبيراً على مسرح الأحداث الإسلامية في عصره)(٣) .

وأخيراً.. فقد وصفه أبو الصلت، ورجاء بن أبي الضحاك، وإبراهيم ابن العباس، وغيرهم، وغيرهم. بما لو أردنا نقله لطال بنا الكلام. وحسبنا ما ذكرنا، فإننا إذا أردنا أن نلم بما قيل في حق الإمامعليه‌السلام لاحتجنا إلى تأليف خاص، ووقت طويل..

من هو المأمون؟

لمحات:

هو عبد الله بن هارون الرشيد.

أبوه: خامس خلفاء بني العباس.. وهو سابعهم، بعد أخيه الأمين.

أمه: جارية خراسانية، اسمها: (مراجل). وقد ماتت بعد ولادتها إياه، وهي ما تزال نفساء. فنشأ يتيم الأم.

____________

(١) آثار الجاحظ ص ٢٣٥.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٤.

(٣) الإمامة في الإسلام ص ١٢٥.

١٢٨

وقد كانت أمه ـ كما يقول المؤرخون ـ أشوه، وأقذر جارية في مطبخ الرشيد.

وذلك هو الذي يجعلنا نصدق القصة التي تقال عن السبب في حملها به(١) .

دفعه أبوه إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فنشأ في حجره، كانت ولادته في سنة ١٧٠ ه‍. في نفس الليلة التي تولى فيها أبوه الخلافة.

وكانت وفاته سنة ٢١٨ ه‍.

وكان مربيه الفضل بن سهل، ثم أصبح وزيره، وهو المعروف بذي الرئاستين.

وكان قائده: طاهر بن الحسين ذو اليمينين..

ميزات وخصائص:

وقد كانت حياته حياة جد ونشاط، وتقشف، على العكس من أخيه الأمين، الذي نشأ في كنف (زبيدة)، وما أدراك ما (زبيدة)، فقد كانت حياته حياة نعمة وترف، يميل إلى اللعب والبطالة، أكثر منه إلى الجد والحزم. يظهر ذلك لكل من راجع تاريخ حياة الأخوين..

ولعل سر ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئنا إلى مستقبله، وإلى رضا العباسيين به. بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفة وحاكماً، ولهذا. فقد وجد أنه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد، وبدأ يخطط لمستقبله منذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه..

____________

(١) وتحكى هذه القصة على النحو التالي: أن زبيدة لاعبت الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح وأقذر وأشوه جارية في المطبخ، فبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه من ذلك، فلم تقبل، ولم تجد جارية تجمع الصفات المذكورة غير مراجل، فطلبت إليه أن يطأها، فجاء المأمون..

راجع حياة الحيوان للدميري ج ١ ص ٧٢، وأعلام الناس في أخبار البرامكة، وبني العباس للاتليدي ص ١٠٦، ١٠٧، وعيون التواريخ. وأشار إليها إشارة واضحة: الإسحاقي في لطائف أخبار الأول ص ٧٤، وكذلك في روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ١٥٧. ولا ينافي ذلك أن ولد في الليلة التي تولى فيها أبوه الخلافة، فإن أولياء العهد كانوا يتولون أعظم الولايات من قبل الخلفاء، وقد قسم الرشيد الدولة كلها بين أولاده الثلاثة: الأمين، والقاسم، ولم يبق لنفسه شيئاً، وهو على قيد الحياة..

١٢٩

بل نلاحظ: أنه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين، فإن: (الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين، وحسن السيرة، فأظهر المأمون ذلك.. وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة)(١) .

ومن هنا نعرف السر فيما يظهر من رسالته للعباسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظا تقيا، وأضفى عليها هالة من التقى والورع!! والزهد في الدنيا!! والالتزام بأحكام الشريعة، وتعاليم الدين!!. ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل نوعية أخيه الأمين، وتزيد عليها..

ما يقال عن المأمون:

وعلى كل حال.. فإن المأمون كان قد برع في العلوم والفنون، حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس..

وقد قال بعضهم: (لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون)(٢) .

وقال عنه ابن النديم إنه: (أعلم الخلفاء بالفقه والكلام)(٣) .

وقال عنه محمد فريد وجدي: (لم يل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين أكفأ منه)(٤) .

وفي الأخبار الطوال: (وكان شهماً، بعيد الهمة، أبي النفس، وكان نجم بني العباس في العلم والحكمة)

____________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٢. ولكن سيأتي أن المأمون هو الذي طلب من الفضل: أن يشيع عنه الزهد والتقوى، وليس الفضل هو المشير عليه بذلك..

(٢) حياة الحيوان للدميري ج ١ ص ٧٢.

(٣) فهرست ابن النديم، طبع مطبعة الاستقامة في القاهرة ص ١٧٤.

(٤) دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٦٢٠.

١٣٠

بل لقد روي عن الإمام عليعليه‌السلام ، أنه قال ـ وهو يصف خلفاء بني العباس ـ: (سابعهم أعلمهم)(١) .

وقد وصفه السيوطي وابن تغري بردى، وابن شاكر الكتبي، فقالوا: (وكان أفضل رجال بني العباس: حزماً، وعزماً، وحلماً، وعلماً، ورأياً، ودهاء(٢) وهيبة، وشجاعة، وسؤدداً، وسماحة،

____________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٢٧٦، وسفينة البحار ج ٢ ص ٣٣٢، مادة: (غيب).

(٢) دهاء المأمون، وحنكته، وسياسته من المسلمات، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد روى لنا ابن عبد ربه في العقد الفريد ج ١ ص ١٢٣، والجهشياري في الوزراء والكتاب ص ٣١١: كيف أنه بين للفضل بن سهل: أن أخاه الأمين كان يستطيع أن ينتصر عليه، لو أنه أرسل إلى أهل البلاد التي يحكمها المأمون يخبرهم: (أنه قد وضع عنهم الخراج إلى سنة. فحينئذ، إن لم يقبل المأمون، قامت البلاد ضده، وإن قبل لم يجد ما يعطي الجند، فيقومون ضده، وفي كلا الحالتين يكون النصر للأمين، لو وقعت بينهما الحرب، فحمد الفضل ربه، على أن لم يهتد الأمين، وأتباعه إلى هذا الرأي. وإن كان في العقد الفريد للملك السعيد، ص ٥٠ ينسب هذا الرأي إلى الشيخ أبي الحسن القطيفي، وأنه أشار به على الأمين، فلم يقبله. وفي المحاسن والمساوي طبع مصر ج ٢ ص ٧٧، ٧٨، نسبة إلى شيخ مسن أشار به على الأمين فلم يقبل منه.

وقد رأينا أيضاً: أنه عندما تسلم زمام الحكم قد طلب من الفضل: أن يشيع عنه الزهد والتقوى والورع، ففعل.. راجع تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

ورأينا كذلك: أنه يقتل الفضل، ويبكي عليه، ويقتل قتلته، ويقتل الرضا، ثم يبكي عليه. ويقتل طاهرا، ويولي أبناءه مكانه.. ورأينا أيضاً: أنه يولي الرضا العهد، ويوهم العباسيين: أن ذلك كان من تدبير الفضل، ويقتل أخاه، ويوهمهم أن الذنب في ذلك على الفضل وطاهر. إلى آخر ما هنالك، مما سيأتي، وغيره، مما يدل على عمقه، ودهائه، وحنكته، وسياسته.. وأن الفضل وغيره، ما كانوا إلا دمى له، يلهو ويلعب بها، ويحركها كيف شاء، وحيثما أراد..

١٣١

لولا أنه شان ذلك كله. بالقول بخلق القرآن(١) ، ولم يل الخلاقة من بني العباس أعلم منه.)(٢) .

شهادة ذات أهمية:

وقد شهد له أبوه نفسه بالتقدم على أخيه الأمين، قال: (.. وقد عنيت بتصحيح هذا العهد، وتصييره إلى من أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وآمن ضعفه ووهنه، وهو: عبد الله. وبنو هاشم ـ يعني العباسيين ـ مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه من الانقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوته يده، ومشاركة النساء، والإماء في رأيه، و عبد الله المرضي الطريقة، الأصيل الرأي، الموثوق به في الأمر العظيم، فإن ملت إلى عبد الله، أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمداً بالأمر، لم آمن تخليطه على الرعية..)(٣) .

وقال أيضاً: (إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أنسبه إلى الرابع ـ يعني نفسه ـ لنسبته، وقد قدمت محمداً عليه، وإني لأعلم أنه منقاد لهواه، مبذر

____________

(١) قال القلقشندي في كتابه: مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ ص ٢١٣: إنه قد طعن الناس!! على المأمون ثلاثة أشياء: الأول: القول بخلق القرآن!!. الثاني: التشيع. الثالث: بث علوم الفلاسفة بين المسلمين.

فتأمل، بالله عليك بهذه الأمور، التي عدوها من المطاعن، وبعد ذلك: فاضحك، أو فابك على عقول هؤلاء الجهلاء، الذين يسميهم الناس، أو يسمون أنفسهم علماء!!!

والعلم من هؤلاء وأمثالهم بريء..

(٢) تاريخ الخلفاء ص ٣٠٦، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٣٩، والنجوم الزاهرة، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٣٤.

(٣) مروج الذهب طبع بيروت ج ٣ ص ٣٥٢، ٣٥٣.

١٣٢

لما حوته يده، يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر ـ يعني زبيدة ـ وميل بني هاشم، لقدمت عبد الله عليه..)(١) . يعني في ولاية العهد.

____________

(١) راجع شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢٤٥، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٧، وقريب منه ما في الأخبار الطوال ص ٤٠١، والإتحاف بحب الأشراف ص ٩٦، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٣٤.

هذا.. والرشيد هنا يدعي النسك للمهدي مع أن كتب التاريخ زاخرة بأخبار بذخه، ولهوه ولعبه، ويكفي أن نذكر هنا: أنه قد سلم الأمر ليعقوب بن داوود، وانصرف إلى ملذاته وشهواته، حتى قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة:

بـني أمـية هبوا طال نومكم

إن الـخليفة يـعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خـليفة الله بـين الزق والعود

فراجع: الفخري في الآداب السلطانية ص ١٨٤، ١٨٥، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول جزء ٢ ص ٤٠٧، والبداية والنهاية، وأي كتاب تاريخي شئت..

هذا.. ولعل ما ينسب إليه من الزهد والورع إنما كان بلحاظ ما قدمناه: من تسمية أبيه له بـ‍ (المهدي) لكي يكون مهدي الأمة الذي يملأ الأرض قسطا، وعدلا، واخترع أحاديث كثيرة لتأييد مدعاه هذا.

ولكن الحقيقة هي ما قدمناه، من أنه لم يكن يقل في تهتكه واستهتاره عن غيره من الخلفاء، حتى لقد ذكر الطبري في تاريخه، طبع مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٠٥، أنه ألبس ابنته (البانوقة) لباس الفتيان، لتمشي في مقدمة الجند والقواد، وقد رفع القباء ثدييها الناهدين، وكانت سمراء، حسنة القد، حلوة، على حد تعبير الطبري. فماذا كان يقصد (المهدي المنتظر)!! من تصرفه هذا!!. فهل كان يريد بذلك أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً؟!!.

ولماذا كان الزاهد الورع!! و (المهدي المنتظر) يعذب الناس بالسنانير والزنابير، ليبتز منهم أموالهم، ويتخذ الاتهام بالزندقة ذريعة للقضاء على خصومه، كما قدمنا، وأيضاً يشرب الخمر، ويسمع الغناء، حتى بلغ في ذلك حدا جعل يعقوب بن داوود يلومه على ذلك، ويقول له: (ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك الخ..). وفي ذلك يقول بعض الشعراء، يعرض بيعقوب، ويحث المهدي على الاستمرار في ذلك على ما في البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٤٨، ١٤٩ ـ يقول في ذلك ـ:

فدع عنك يعقوب بن داوود جانباً

واقبل على صهباء طيبة النشر

وأخيراً.. فإننا لا نعرف أحداً يقول بأن المهدي العباسي، هو المهدي الموعود، إلا سلم الخاسر، فقد نقل ذلك عنه ابن المعتز في طبقات الشعراء ص ١٠٤، ويدل على ذلك قول الخاسر في قصيدة له يمدح بها المهدي العباسي على ما في الأغاني ج ٢١ ص ١٨٧، طبع دار الفكر:

له شيم عند بذل العطاء

لا يعرف الناس مقدارها

و (مـهدي أمتنا) والذي

حـماها وأدرك أوتارها

١٣٣

= والسيد الحميري أيضاً ممن كان قد ظن أنه المهدي حقاً لكن فعاله قد بينت: أنه ليس هو، ولذلك يقول السيد حسبما يروي المرزباني أخبار السيد الحميري (المستدرك) ص ٥٨:

ظـننا أنه (المهدي) حقاً

ولا تقع الأمور كما ظننا

ولا والله، ما المهدي إلا

إماماً فضله أعلى وأسنى

ولا بأس بالإشارة هنا إلى ما ذكروه، من أن سبب تسميته بالخاسر: أنه كان عنده مصحف، فباعه، واشترى بثمنه طنبورا، فبقيت من ثمنه بقية، فاشترى بها خمرا!!..

فبورك من مهدي أتباعه أمثال هذا!! وبوركت أمة تعترف بمهدي له تلكم الصفات!!.

١٣٤

وعلى كل حال،. فإن كل من تعرض من المؤرخين وغيرهم، لشرح حال المأمون، قد شهد له بالتقدم، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم.

وما يهمنا هنا، هو مجرد الإشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة، وحسن التدبير. ولسنا هنا في صدد تحقيق أحواله، والإحاطة بكافة شؤونه، فإن ذلك لا يناسب الغرض الذي وضع من أجله هذا الكتاب.

وسيمر معنا في الفصول الآتية المزيد من الكلام عن المأمون وظروفه، مما له نحو ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدد تحقيقه من قريب، أو من بعيد، إن شاء الله تعالى..

آمال المأمون وآلامه

العباسيون لا يرضون بالمأمون!

لا يشك المؤرخون بأن المأمون كان أجدر من الأمين، وأحق بالخلافة(١) . بل لقد مر اعتراف الرشيد نفسه بذلك، لكنه اعتذر عن إسناده الأمر للامين: بأن العباسيين، لا يرضون بالمأمون خليفة، وحاكما، رغم سنه وفضله وكياسته، وأنهم يرجحون أخاه الأمين عليه، قال الرشيد، حسبما تقدم: (وبنو هاشم مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه.. إلى أن قال: فإن ملت إلى ابني عبد الله.أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمداً بالأمر، لم آمن تخليطه على الرعية الخ!!) ومر أيضاً قول الرشيد: (.. ولولا أم جعفر، وميل بني هاشم إليه - أي إلى الأمين - لقدمت عبد الله عليه..).

كما أن المأمون نفسه يقول في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما ذكرتم، مما مسكم من الجفاء في ولايتي، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم: بمظافرتكم عليه، وممايلتكم إياه - أي الأمين -، فلما قتلته، تفرقتم عباديد، فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد، وطوراً أتباعاً لأعرابي، وطوراً أتباعاً لابن شكلة، ثم لكل من سل سيفاً علي. ولولا أن شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز، ما تركت على وجهها منكم أحداً، فكلكم حلال الدم الخ..).

____________

(١) ليس المراد هنا: الجدارة الحقيقية، التي قررها الله، وبينها محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما المراد الجدارة التي يفهمها هؤلاء، واعتاضوا بها عن حكم الله، وسنة نبيه..

١٣٥

سوف يأتي قول الفضل بن سهل للمأمون: (.. وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك الخ..).

إلى آخر ما هنالك من النصوص الدالة على حقيقة الموقف السلبي للعباسيين ضد المأمون، وتفضيلهم أخاه الأمين عليه.

سؤال قد تصعب الإجابة عليه:

فما هو السر يا ترى؟ في عدم رضا العباسيين بالمأمون؟! ولماذا يفضلون أخاه أمين عليه؟!! مع أنه هو الأليق والأجدر والأحق بالخلافة!!.

إن الإجابة على هذا السؤال ربما تبدو لأول وهلة صعبة، وشاقة. ولكننا لن نستسلم لهذا الشعور، ولسوف نحاول الإجابة عليه، معتمدين على بعض ما بأيدينا من النصوص التاريخية، التي تلقي لنا ضوءاً كاشفاً على حقيقة القضية، وواقع الأمر: فنقول:

الجواب عن السؤال:

لعل سر انحراف العباسيين عن المأمون إلى أخيه الأمين يرجع إلى أن الأمين كان عباسياً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى:

فأبوه: هارون..

وأمه: (زبيدة)، حفيدة المنصور، هاشمية(١) ، والتي لو نشرت شعرها، لما تعلقت ـ على ما قيل ـ(٢) إلا بخليفة، أو ولي عهد، والتي كانت أعظم عباسية على الإطلاق.

وكان في حجر الفضل بن يحيى البرمكي، أخي الرشيد من الرضاعة، وأعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد.

وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي، الذي كان جده من طلقاء عثمان، والذي لم يكن ثمة من شك في ولائه للعباسيين.

____________

(١) وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٦، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٥٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٣، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٢: (أنه لم يتفق لخليفة عباسي أن يكون عباسي الأب والأم، غير الأمين)..

ولا بأس أيضاً بمراجعة: مختصر التاريخ ص ١٣٠، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ ص ٢٠٣، وابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ٢٤٣، وزهر الآداب ج ٢ ص ٩٩٣، طبع دار الجيل.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٦.

١٣٦

أما المأمون:

فقد كان في حجر جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذاً من أخيه الفضل. وكان مؤدبه، والذي يشرف على مصالحه، ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه بشكل خاص، لأنه كان متهما بالميل إلى العلويين. والذي كانت العداوة بينه وبين مربي الأمين، الفضل بن الربيع على أشدها، ذلك الرجل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمأمون، ومدبرا لأموره، وأعني به: (الفضل بن سهل الفارسي)، وقد مل العباسيون الفرس، وخافوهم. ولذا سرعان ما استبدلوهم بالأتراك وغيرهم..

أما أم المأمون. فقد كانت خراسانية غير عربية، وقد ماتت أيام نفاسها به، وحتى لو كانت على قيد الحياة، فإنها ـ وهي أشوه، وأقبح، وأقذر جارية في مطبخ الرشيد ـ لن تستطيع أن تكون مثل زبيدة عظمة، ونفوذا ولو قلنا إن موتها كان في مصلحة المأمون لما عدونا الحقيقة، كيف وقد بلغ من مهانتها ـ في نظر الناس ـ أن كان المأمون يعير بها.

فهذه زينب بنت سليمان. التي كانت عند بني العباس بمنزلة عظيمة، عندما لم يحضر المأمون جنازة ابنها، واكتفى بإرسال أخيه صالح من قبله، تغضب، وتقول لصالح: (قل له: يا بن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد، لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته)(١) .

والرقاشي الشاعر يمدح الأمين، ويعرض بهجاء المأمون، فيقول:

لم تلده أمة تعرف في السوق التجارا

لا ولا حد، ولا خان، ولا في الخزي جارا(٢)

يعرض بالمأمون، وأن أمه كانت أمة تباع، وتشرى في الأسواق. بل إن نفس الأمين قد عير أخاه بأمه، فقال:

وإذا تطاولت الرجال بفضلها

فأربع فإنك لست بالمتطاول

____________

(١) الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٢٣٠، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٩٣.

(٢) المعارف لابن قتيبة، طبع سنة ١٣٠٠، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٢.

١٣٧

أعطاك ربك ما هويت وإنما

تلقى خلاف هواك عند (مراجل)

تعلو المنابر كل يوم آملا

ما لست من بعدي إليه بواصل(١)

وقد أقذع في هجائه، حين كتب إليه أيام الفتنة بينهما بقوله:

يابن التي بيعت بأبخس قيمة

بين الملأ في السوق هل من زائد

ما فيك موضع غرزة من إبرة

إلا وفيه نطفة من واحد

فأجابه المأمون:

وإنـمـا أمـهات الـناس أوعـية

مـسـتودعات ولـلأمـاء أكـفاء

فـلرب مـعربة لـيست بـمنجبة

وطالما أنجبت في الخدر عجماء(٢)

وأخيراً. فإن خير ما يصور لنا الحالة المعنوية التي كان يعاني منها المأمون، هو قول دعبل مخاطبا له:

إنـي مـن الـقوم الـذين سيوفهم

قـتلت أخـاك، وشـرفتك بـمقعد

شـادوا بـذكرك بـعد طول خموله

واستنقذوك من الحضيض الأوهد(٣)

مركز الأمين هو الأقوى:

وبعد كل ما تقدم. فإن ما لا بد لنا من الإشارة إليه هنا، هو:

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٤.

(٢) غاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص ١٢١.

(٣) معاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٢، ووفيات الأعيان، طبع سنة ١٣١٠ ه‍. ج ١ ص ١٧٩، وتاريخ الخلفاء ص ٣٢٤، والشعر والشعراء ص ٥٣٩، ٥٤٠، والغدير ج ٢ ص ٣٧٦، والعقد والفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٢ ص ١٩٦، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٣ ص ١١٥، وزهر الآداب طبع دار الجيل ج ١ ص ١٣٤، والكنى والألقاب ج ١ ص ٣٣١، وربيع الأبرار ج ١ ص ٧٤٣.

١٣٨

قوة مركز الأمين، بالنسبة إلى أخيه المأمون، حيث قد كان للأمين حزب قوي جداً، وأنصار يستطيع أن يعتمد عليهم، يعملون من أجله، وفي سبيل تأمين السلطة له، وهم: أخواله، والفضل بن يحيى البرمكي، وأكثر البرامكة، إن لم يكن كلهم. وأمه: زبيدة، بل والعرب أيضاً، كما سيأتي.

وإذا ما عرفنا أن هؤلاء هم الذين كانوا يؤثرون على الرشيد كل التأثير، وكان لهم دور كبير في توجيه سياسة الدولة.. فلسوف نرى أنه كان من الطبيعي أن يضعف الرشيد أمام هذه القوة، وينصاع لها.

ومن ثم.. لتؤثر مساعيها أثرها. وتعطي نتيجتها في الوقت المناسب، فيجعل ولاية العهد من بعده لولده الأصغر سنا، وهو الأمين، ويترك الأكبر ـ المأمون ـ ليكون ولي العهد الثاني بعد الأصغر.

ولعل تعصب بني هاشم. وجلالة عيسى بن جعفر قد لعبا دوراً كبيراً في فوز الأمين بالمركز الأول في ولاية عهد أبيه الرشيد(١) . هذا عدا عن الدور الرئيسي. الذي لعبته (زبيدة) في تكريس الأمر لصالح ولدها(٢) .

فيحدثنا المؤرخون: أن عيسى بن جعفر بن المنصور، خال الأمين جاء إلى الفضل بن يحيى، وهو متوجه إلى خراسان على رأس جيش، وقال له: (أنشدك الله، لما عملت بالبيعة لابن أختي، فإنه ولدك، وخلافته لك، وإن أختي زبيدة تسألك ذلك.. فوعده الفضل أن يفعل، وعندما انتصر على الخارجين هناك. بايع هو ومن معه من القواد والجند لمحمد(٣) .

____________

(١) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ٢٤٥، والإتحاف بحب الأشراف ص ٩٦.

(٢) زهر الآداب طبع دار الجيل ج ٢ ص ٥٨١.

(٣) راجع تفصيل ذلك في: الطبري ج ١٠ ص ٦١١، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٨٨، وأشار إلى ذلك أيضاً ابن خلدون في تاريخه ج ٣ ص ٢١٨.

١٣٩

رغم أن المأمون كان أسن من الأمين بستة أشهر، وعلى أقل الأقوال بشهر واحد.

وأصبح الرشيد حينئذٍ أمام الأمر الواقع، حيث إن الذي أقدم على هذا الأمر، هو ذلك الرجل. الذي لا يمكن رد كلمته، والذي له من النفوذ والسلطان، والخدمات الجلى، والأيادي البيضاء عليه، ما لا يمكن له، ولا لأحد غيره أن يجحده أو أن يتجاهله.

ويلاحظ هنا: أن عيسى بن جعفر قد ذكر أن أخته زبيدة، تسأله أن يقدم على هذا الأمر، وزبيدة التي تخطى باحترام كبير عند العباسيين، ولها نفوذ واسع، وتأثير كبير على الرشيد ـ زبيدة هذه ـ يهتم البرامكة جداً بأن تكون معهم، وإلى جانبهم، وذلك ليبقى لهم سلطانهم، ويدوم لهم حكمهم، الذي أشار إليه عيسى بقوله: (فإنه ولدك، وخلافته لك) فإن في هذا القول دليلاً واضحاً للفضل على سلامة وصحة ما يقدم عليه بالنسبة لمصالحه هو، ومصالح البرامكة بشكل عام. وبالنسبة لدورهم في مستقبل الخلافة العباسية.. وهو في الحقيقة يشتمل على إغراء وترغيب واضح بالعمل لهذا الأمر، وفي سبيله.

كما أن قول عيسى الآنف الذكر يلقي لنا ضوءاً على الدور الذي لعبته زبيدة في مسألة البيعة لولدها بولاية العهد. فهو يشير إلى أنها كانت قد استخدمت نفوذها في إقناع رجال الدولة بتقديم ولدها. هذا بالإضافة إلى أنها كانت تحرض الرشيد على ذلك باستمرار(١) ، حتى لقد صرح الرشيد نفسه بأنه: (لولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدم عبد الله على محمد، كما أشرنا إليه).

قال محمد فريد وجدي مشيراً إلى أن الرشيد لم يكن يريد جرح عاطفة

____________

(١) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٨١، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٠.

١٤٠