الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201529 / تحميل: 8424
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ثورات العلويين. وغيرهم:

فأبو السرايا ـ الذي كان يوماً ما من حزب المأمون(١) ـ خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشاً إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها(٢) .

ويقال: إنه قد قتل من أصحاب السلطان، في حرب أبي السرايا فقط، مئتا ألف رجل، مع أن مدته من يوم خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر(٣) .

وحتى البصرة، معقل العثمانية(٤) ، قد أيدت العلويين، ونصرتهم،

____________

(١) ففي الطبري ج ١٠ ص ٢٣٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٩، طبعة ثالثة: أن المأمون قال لهرثمة: (مالأت أهل الكوفة، والعلويين، وداهنت، ودسست إلى أبي السرايا، حتى خرج، وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك إلخ.) واتهام هرثمة بهذا مهم فيما نحن فيه أيضاً.

(٢) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، ومقاتل الطالبيين ص ٥٣٥.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٥٠، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٧٣، وسيأتي كلام محمد بن علي العباسي. المتعلق بهذا الموضوع، عن قريب..

١٦١

فقد خرج فيها زيد النار(١) ، ومعه علي بن محمد، كما خرج منها من قبل على المنصور إبراهيم بن عبد الله..

وفي مكة، ونواحي الحجاز: خرج محمد بن جعفر، الذي كان يلقب بـ‍ (الديباج) وتسمى بـ‍ (أمير المؤمنين)(٢) .

وفي اليمن: إبراهيم بن موسى بن جعفر..

وفي المدينة: خرج محمد بن سليمان بن داوود، بن الحسن بن الحسين، ابن علي بن أبي طالب.

وفي واسط: التي كان قسم كبير منها يميل إلى العمانية ـ خرج جعفر ابن محمد، بن زيد بن علي. والحسين بن إبراهيم، بن الحسن بن علي.

وفي المدائن: محمد بن إسماعيل بن محمد..

بل إنك قد لا تجد قطراً، إلا وفيه علوي يمني نفسه، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين ـ حسبما نص عليه بعض المؤرخين ـ حتى لقد اتجه أهل الجزيرة، والشام، المعروفة بتعاطفها مع الأمويين،

____________

(١) سمي بذلك. لأنه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار، وكان إذا أتي برجل من المسودة، أحرقه بثيابه.. على ما ذكره الطبري ج ١١ ص ٩٨٦، طبع ليدن، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٧، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٦.

وفي الروايات أن الرضاعليه‌السلام أظهر الاستياء من فعل أخيه زيد. ولعل سبب ذلك أنه بالإضافة إلى أنه أقدم في ثورته على أعمال تنافي أحكام الدين، وتضر إضراراً بالغاً بقضية العلويين العادلة.. كان يمالئ الزيدية،.. أو لأنه أراد إبعاد شر المأمون عن زيد، وإبعاد التهمة عن نفسه، بأنه هو المدبر لأمر أخيه. أو لعل كل ذلك قد قصد.

(٢) وليس في العلويين ـ باستثناء الإمام عليعليه‌السلام طبعاً ـ قبله، ولا بعده، من تسمى بـ‍ (أمير المؤمنين) غيره، كما في مروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩.

و (الديباجة) لقب لأكثر من واحد من العلويين..

١٦٢

وآل مروان.. إلى محمد بن محمد العلوي، صاحب أبي السرايا، فكتبوا إليه: أنهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولاً، ليسمعوا له، ويطيعوا(١) ..

وأما ثورات غير العلويين، فكثيرة أيضاً، وقد كان من بينها ما يدعو إلى: (الرضا من آل محمد)، كثورة الحسن الهرش سنة ١٩٨(٢) ه‍.

وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المتعرضة لها(٣) .

الزعيم العباسي الأول يعترف:

هذا مع أن أكثر تلك الأقطار لم تكن تؤيد العلويين، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي الأول: محمد بن علي بن عبد الله، والد إبراهيم الإمام، حيث قال لدعاته:

(.. أما الكوفة وسوادها: فهناك شيعة علي، وولده. وأما البصرة، وسوادها: فعثمانية، تدين بالكف. وأما الجزيرة: فحرورية مارقة،

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٣٤.. راجع في بيان ثورات العلويين: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤، إلى ص ٢٤٧، واليعقوبي ج ٣ ص ١٧٣، ١٧٤، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩، ٤٤٠، ومقاتل الطالبيين، والطبري. وابن الأثير، وأي كتاب تاريخي شئت، لترى كيف أن الثورات في الفترة الأولى من عهد المأمون، قد عمت جميع الأقطار والأمصار..

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤، والطبري ج ١١ ص ٩٧٥، طبع ليدن.

(٣) وقد تغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية، وكان هو السبب في خروج بابك الخرمي. وتغلب نصر بن شبث على كيسوم، وسمسياط، وما جاورها، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وكثرت جموعه، ولم يستسلم إلا في سنة ٢٠٧ ه‍. وهناك أيضاً حركات الزط. وثورة بابك. وثورة المصريين التي كانت بين القيسية المناصرة للأمين واليمانية المناصرة للمأمون. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

١٦٣

وأعراب كأعلاج، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى. وأما الشام: فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان، عداوة راسخة، وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة: فغلب عليهما أبو بكر، وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان الخ..)(١) .

ونقل عن الأصمعي أيضاً كلام قريب من هذا(٢) .

دلالة هامة:

ومن بعض ما قدمناه في الفصول المتقدمة، سيما فصل: موقف العباسيين من العلويين، وأيضاً مما ذكرناه هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم، قد أصبح من الأمور المسلمة لدى الناس، في القرن الثاني، الذي يعد من خير القرون.. حيث لم تكن عقيدة عامة الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم، والتي أشرنا إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية.. وعليه.

فما يدعيه أهل السنة اليوم من أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يداً بيد، إلى عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير صحيح على الإطلاق، بل إن الشيخ محمد عبده يرى: إن رسوخ عقيدة: (إن حق الخلافة لأهل البيت، وشيوع ذلك في العرب خاصة). هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك، وغيرهم من العجم، يقول الشيخ محمد عبده: (كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان

____________

(١) البلدان للهمداني ج ٢ ص ٣٥٢، وأحسن التقاسيم للمقدسي ص ٢٩٣، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٠٤، والسيادة العربية، والشيعة والإسرائيليات ص ٩٣، ولا بأس بمراجعة: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٠٢.

(٢) روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار ص ٦٧، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٦، ص ٢٤٨.

١٦٤

يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة، فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيراً: ظن أن الجيش العربي قد يكون عوناً لخليفة علوي، لأن العلوي ألصق ببيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأراد أن يتخذ له جيشاً أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك..)(١) .

عودة على بدء:

وعلى كل حال.. فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات، التي كانت تواجه الحكم العباسي، فإننا سوف نجد: أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين، لأنها كانت تظهر في مناطق حساسة جداً.

في الدولة، ولأنها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة، والجدارة الحقيقية، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب..

وكان في تأييد الناس لهم. واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الأمة. بمختلف طبقاتها، وفئاتها تجاه حكم العباسيين، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم، وعلى مدى الغضب الذي كان يستبد بالنفوس، نتيجة استهتار العباسيين، وظلمهم، وسياساتهم الرعناء، مع الناس عامة. ومع العلويين بشكل خاص.

وقد كان المأمون يعلم أكثر من أي شخص آخر، كم سوف يكون حجم الكارثة، لو تحرك الإمام الرضا ـ الذي اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه، لتحكيم مركزه، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم..

____________

(١) الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده.

١٦٥

الناس لم يبايعوا المأمون كلهم بعد:

وبعد كل ما تقدم.. فإن من الأهمية بمكان، أن نشير هنا، إلى أن العلويين، وقسما كبيراً من الناس، بل وعامة المسلمين، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلاً:

فأما أهل بغداد، فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في رسالته، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد..

وأما أهل الكوفة ـ التي كانت دائما شيعة علي وولده ـ فلم يبايعوا له، بل بقوا على الخلاف عليه، إلى أن ذهب أخو الإمام الرضاعليه‌السلام !! العباس بن موسى، يدعوهم، فقعدوا عنه، ولم يجبه إلا البعض منهم، وقالوا: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك. فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك، أجبناك.)(١) .

ويلاحظ هنا: كيف قد اختير رجل علوي، وأخو الإمام الرضاعليه‌السلام بالذات، ليرسل إلى الكوفة، المعروفة بالتشيع للعلويين.. ويلاحظ أيضاً: أن رفضهم الاستجابة له، إنما كان لأجل أن الدعوة تتضمن الدعوة للمأمون العباسي.

وأما أهل المدينة، ومكة، والبصرة، وسائر المناطق الحساسة في الدولة، فقد تقدم ما يدل على حقيقة موقفهم منه، ومن نظام حكمه. وقد كتب المأمون نفسه بخط يده، في وثيقة العهد للإمام يقول: (.. ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وقواده، وخدمه، فبايعوا مسارعين.. إلى أن قال: فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة، من قواده، وجنده، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده، علي بن موسى..) والوثيقة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

فقوله: (لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده.) يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد بايعوا بعد: (لأمير المؤمنين)، فضلاً عن: (أهل المدينة المحروسة..).

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٩٠، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٣٩، وفي تاريخ الطبري ج ١١ ص ١٠٢٠، طبع ليدن، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٨: أنه قد أجابه قوم كثير منهم، ولكن قعد عنه الشيعة وآخرون.. لكن ظاهر حال الكوفة التي كانت دائما شيعة علي وولده هو أن المجيبين له كانوا قلة. كما ذكر ابن الأثير.

١٦٦

وحتى لو أنهم كانوا قد بايعوا له، فإن بيعتهم هذه، وجودها كعدمها، إذ إن عصيانهم، وتمردهم عليه، وعلى حكمه، لم يكن ليخفى على أحد.. بعدما قدمناه من ثوراتهم تلك. التي كانت تظهر من كل جانب ومكان. وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما كانت تدعو إليه تلك، أي إلى: (الرضا من آل محمد)، أو إلى أحد العلويين، الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم، وقوتهم، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار يوماً عن يوم.. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان.

نعم بعد أن عاد إلى بغداد، وكان قد قوي أمره، واتسع نفوذه، بدأ الناس يبايعونه في الأقطار، ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهرياً، وأنهم كانوا في السر معه، وعلى ولائه، على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه.

المأمون يدرك حراجة الموقف:

تلك هي باختصار حالة الحكم العباسي بشكل عام. وحالة المأمون، وظروفه في الحكم بشكل خاص.. في تلك الفترة من الزمن.. وقد اتضح لنا بجلاء: أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون، ونظام حكمه، قد ازداد سوءاً، بعد وصول المأمون إلى الحكم، وتضاعفت الأخطار، التي كان يواجهها، وأصبح ـ هو وعرشه ـ في مهب الريح. وتحت رحمة الأنواء..

وإذا كان ليس من الصعب علينا: أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون، وخلافته، وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام.. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك ـ بعمق، إلى أي حد كان مركزه ضعيفاً، وموقفه حرجاً، حيث إنه هو الذي كان يعيش ـ أكثر من أي إنسان آخر ـ في ذلك الخضم الزاخر بالمشاكل، والمتاعب، والأخطار. وخصوصاً وهو يواجه الثورات. وبالأخص ثورات العلويين، أقوى خصوم الدولة العباسية، تظهر من كل جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء. التي انتهجها أسلافه، مع الناس عامة، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد الإهمال، والتواني في علاج الوضع، سوف يكون من أبسط نتائجه أن تلقى خلافة العباسيين على أيدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الأمويين على أيدي أسلافه من قبل..

١٦٧

ماذا يمكن للمأمون أن يفعل:

ولكن.. وبعد أن نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه، وهو الحكم والسلطان، وإذا كان لا يرضى به بنو أبيه، ولا العلويون، ولا العرب، وإذا كان حتى غير العرب، ضعفت ثقتهم به، وتزعزع مركزه في نفوسهم.

وأيضاً.. إذا كانت ثورات العلويين، فضلاً عن غيرهم.. تظهر من كل جانب ومكان.. وإذا كان الكثيرون، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد..

وهكذا إلى آخر ما تقدم. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف، والأنواء التي تتهدده، ونظام حكمه، مكتوف اليدين؟!

وماذا يمكن للمأمون بعد هذا أن يفعل، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان، الذي هو أعز ما في الوجود عليه؟!.

هذا ـ ما سوف نحاول الإجابة عليه في الفصل التالي.

ظروف البيعة وأسبابها

إنقاذ الموقف!. كيف؟!

قد قدمنا في الفصل السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوماً عن يوم.. وإلى أنه كان لا بد للمأمون من التحرك، والعمل بسرعة، شرط أن لا يزيد الفتق اتساعا، والطين بلة. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء، في سبيل إنقاذ نفسه، ونظام حكمه، وخلافة العباسيين بشكل عام..

وكان المأمون يدرك: أن إنقاذ الموقف يتوقف على:

١ ـ إخماد ثورات العلويين، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات..

٢ ـ أن يحصل من العلويين على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين. وليكون بذلك قد أفقدهم سلاحا قويا، لن يقر له قرار، إذا أفقدهم إياه..

١٦٨

٣ ـ استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام. الذي كانوا يتمتعون به، وكان يزداد يوماً عن يوم ـ استئصاله ـ من نفوس الناس نهائياً، والعمل على تشويههم أمام الرأي العام، بالطرق، والأساليب التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات، حتى لا يقدرون بعد ذلك على أي تحرك، ولا يجدون المؤيدين لأية دعوة لهم، وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائياً ـ سهلاً وميسوراً..

٤ ـ اكتساب ثقة العرب ومحبتهم..

٥ ـ استمرار تأييد الخراسانيين، وعامة الإيرانيين له.

٦ ـ إرضاء العباسيين، والمتشيعين لهم، من أعداء العلويين.

٧ ـ تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سيء على سمعته، وثقة الناس به.

٨ ـ وأخيراً.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة، التي كانت تملأ جوانبه فرقاً، ورعباً.. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأن يمهد الطريق للتخلص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرماً، ونهائياً.

لا بد من الاعتماد على النفس:

وبعد هذا.. فإن من الواضح أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد، أنه:

لم يكن يستطيع أن يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين، بني أبيه، بعد أن كانوا ينقمون عليه، قتله أخاه، العزيز عليهم، وعلى العرب، وبعد مواقفه، التي تقدم بيان جانب منها تجاههم.. وأيضاً. بعد أن كانوا لا يثقون به، ولا يأمنون جانبه، بسبب موقفهم السابق منه.

والأهم من ذلك أنه لم يكن فيهم الرجال الكفاة، الذين يستطيع

١٦٩

أن يعتمد عليهم(١) ، يدلنا على ذلك أنهم بعد أن ثاروا على المأمون، بسبب بيعته للرضاعليه‌السلام ، لم يجدوا فيهم شخصاً أعظم، وأكفأ من ابن شكلة المغني، فبايعوه، مع أنه من أصحاب المزامير والبرابط. وفيه يقول دعبل:

نـعر ابـن شكلة بالعراق وأهله

فـهفا إلـيه كـل أطـلس مائق

إن كـان إبـراهيم مضطلعا بها

فـلتصلحن مـن بـعده لمخارق

ولـتصلحن من بعد ذاك لزلزل

ولـتصلحن مـن بـعده للمارق

أنـى يـكون وليس ذاك بكائن

يرث الخلافة فاسق عن فاسق(٢)

كما أنه عندما أصبح إبراهيم هذا خليفة، قال بعض الأعراب، عندما جاء الخبر بأنه: لا مال عند الخليفة ليعطي الجند، الذين ألحوا في طلب أعطياتهم، قال: (فليخرج الخليفة إلينا، فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاءهم، ولأهل هذا الجانب مثلها..) فقال في ذلك دعبل ـ شاعر المأمون ـ يذم إبراهيم بن المهدي:

يـا معشر الأجناد لا تقنطوا

خذوا عطاياكم، ولا تسخطوا

فـسوف يـعطيكم حـنينية

لا تدخل الكيس، ولا تربط

والـمـعبديات لـقـوادكم

ومـا بـها مـن أحد يغبط

فـهكذا يـرزق أصـحابه

خـليفة مصحفه البربط(٣)

____________

(١) وقد كان بينهم الكثيرون في أول عهد الدولة العباسية. ونقصد بـ‍ (الكفاءة) هنا: الكفاءة الظاهرية، التي يقرها منطق الجبارين المتغطرسين، لا الكفاءة الحقيقية التي يريدها الله، وجاء بها محمد. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

(٢) وفيات الأعيان، طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٨. والورقة لابن الجراح ص ٢٢، ومعاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥، والشعر والشعراء ص ٥٤١، والكنى والألقاب ج ١ ص ٣٣٠. والأطلس: هو الرجل يرمى بالقبيح..

(٣) معاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥، ٢٠٦، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٨١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٩٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٣، والغدير ج ٢ ص ٣٧٧، والأغاني ج ١٨ ص ٦٨، و ص ١٠١ طبع دار الفكر، والورقة لابن الجراح ص ٢٢، ونزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦، والحنينيات: منسوبة إلى حنين النجفي العبادي. المغني المشهور، والمعبديات: منسوبة إلى معبد المغني المشهور، والبربط: ملهاة، تشبه العود، وهو فارسي معرب. وأصله: بربت: لأن الضارب يضعه على صدره.. انتهى عن نزهة الجليس.

١٧٠

وإذا كان لا يستطيع أن يستعين ببني أبيه العباسيين، فبالأحرى أن لا يستطيع أن يستعين على حل مشاكله بالعلويين، والمتشيعين لهم، بعد أن كانوا هم أساس البلاء والعناء له، والذين يخلقون له أعظم المشاكل، ويضعون في طريق حكمه أشق العقبات.

وأما العرب: فهو أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه.

والخراسانيون: لا يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الأناني البشع، بقتله أخاه، وإبعاده طاهرا بن الحسين، مشيد أركان حكمه، عن مسرح السياسة: (ولقد ذكره الرضا بذلك. عندما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك.).

أي الأساليب أنجع:

وبعد ذلك.. فإنه من الواضح أنه:

لم يكن لينقذ الموقف القسوة والعنف، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني.

ولا المنطق والحجاج، لأن العلويين ـ بناء على ما شاع عند الأمة، بتشجيع من خلفائها، من أن السبب في استحقاق الخلافة، هو القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إن العلويين بناء على هذا: أقوى حجة من العباسيين، لأنهم يمتلكون اعترافاً صريحاً منهم بأن المستحق للخلافة هو الأقرب نسبا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذا.. وإذا ما أراد العباسيون، أو غيرهم الاحتجاج بالأهلية والجدارة لقيادة الأمة. فإن العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك، وذلك لما كانوا يتمتعون به من الجدارة والأهلية الذاتية لقيادة الأمة قيادة صالحة وسليمة..

وأما النص فمن هو ذلك الذي يجرؤ على الاستدلال به، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي، وأئمة أهل البيت منهم بالخصوص.

وهكذا.. نرى ويرى المأمون: أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك الأساليب، ولا غيرها من الطرق والأساليب الملتوية، واللا إنسانية، التي اتبعها أسلافه من قبل.

وإذن.. فلا بد وأن يعود السؤال الأول ليطرح نفسه بكل جدية.

والسؤال هو: ماذا يمكن للمأمون إذن أن يفعل؟! وكيف يقوي من دعائم حكمه، الذي هو بالنسبة إليه كل شيء، وليس قبله، ولا بعده شيء.. حتى لا يطمع فيه طامع، ولا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه الأنواء، مهما كانت هوجاء وعاتية؟!.

١٧١

خطة المأمون:

وكان أن اتبع المأمون من أجل إنقاذ موقفه، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية.. ومن أجل الاحتفاظ بالخلافة لنفسه، وأن تبقى في بني أبيه ـ كان أن اتبع ـ أسلوباً جديداً، وغيبيا، لم يكن مألوفاً، ولا معروفاً من قبل.. وأحسب أن لم يتوصل إليه إلا بعد تفكير طويل، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه، والمشاكل التي كان يواجهها.

لقد كانت خطته غريبة وفريدة من نوعها، وكانت في غاية الإتقان، والإحكام في نظره.

فبينما نراه من جهة:

لا يذكر أحداً من الخلفاء، ولا غيرهم من الصحابة بسوء، بل هو يتحرج من المساس بغير الصحابة، وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين، وتعاليم الشريعة، معروفاً ومشهوراً (كالحجاج بن يوسف)! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي معهم فكرياً وسياسياً، ومصلحياً، والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي، والحصن الحصين..

فاستمع إليه يقول ـ كما يروي لنا التغلبي المعاصر له: (.. وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف! والله، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب؟!)(١) . وكذلك نراه يركن إلى رأي يحيى بن أكثم، الذي قال له ـ عندما أراد الإعلان بسب معاوية على المنابر ـ: (والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه، ولا تظهر أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير..)، ثم يدخل عليه ثمامة، فيقول له المأمون: (يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة، وأبقى ذكراً في العامة الخ.)(٢) . وأيضاً.. نرى شعره الذي يرويه لنا غير واحد:

أصبح ديني الذي أدين به

ولست منه الغداة معتذرا

حب علي بعد النبي ولا

أشـتم صديقا ولا عمرا

____________

(١) عصر المأمون ج ١ ص ٣٦٩، نقلاً عن: تاريخ بغداد، لابن طيفور ج ٦ ص ٧٥.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٤١، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٨، و ج ٣ ص ١٥٢، و ١٥٦، وعصر المأمون ج ١ ص ٣٧١، والموفقيات ص ٤١، وكتاب بغداد ص ٥٤.

١٧٢

ثـم ابن عفان في الجنان مع

الأبرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشـتم الـزبير ولا

طـلحة إن قـال قائل غدرا

وعـائش الأم لـست أشتمها

من يفتريها فنحن منه برا(١)

ونراه أيضاً يتجسس على عبد الله بن طاهر، ليعلم: هل له ميل إلى آل أبي طالب أو لا(٢) .

ونراه يقدم على قتل الرضاعليه‌السلام ، وإخوته، وآلاف من العلويين غيرهم، ويصدر أمراً لأمرائه، وقواده بالقضاء عليهم، وفض جمعهم، كما سيأتي.

ونراه كذلك.. يرسل إلى عامله على مصر، يأمره بغسل المنابر، التي دعي عليها لعلوي (هو الإمام الرضاعليه‌السلام ).. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه..

بينما نراه كذلك..

نراه من جهة ثانية

يقدم على الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل عليعليه‌السلام ، والبراءة من معاوية ديناً رسمياً، يحمل الناس كلهم عليه، كما كان الحال بالنسبة لقضية خلق القرآن..

وقضية الإعلان بسب معاوية، وإن كان الإقدام عليه في سنة ٢١٢ ه‍. لكن تفضيله علياً، على جميع الخلق، وتقربه لولده، وإظهاره التشيع

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤١، ما عدا البيت الرابع.

(٢) الطبري ج ١١ ص ١٠٩٤، طبع ليدن، والعقد الفريد للملك السعيد ص ٨٤، ٨٥، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٦١.

١٧٣

والحب لهم(١) إنما كان من أول أيامه. يدلنا على ذلك أمور كثيرة، ويكفي هجاء ابن شكلة له، وهجاؤه لابن شكلة شاهداً على ذلك. فضلاً عن الكثير من الأمور الأخرى غيره.

ثم نراه بعد ذلك يبيح المتعة، ويصف الخليفة الثاني، عمر بن

____________

(١) قال في النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٢٠١، ٢٠٢،، ومثله في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨، وغيرهما: (أن المأمون كان يبالغ في التشيع، ويقول: إن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وأمر أن ينادى ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بخير، لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما، ويعتقد إمامتهما).

وهذا بعينه هو مذهب المعتزلة في بغداد ابتداء من بشر بن المعتمر، وبشر بن غياث المريسي وغيرهم من معتزلة بغداد، حتى لقد قال بشر المريسي المعتزلي المعروف على ما في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٩:

قـد قـال مأموننا وسيدنا

قولاً له في الكتب تصديق

إن عـلياً أعني أبا حسن

خـير من قد أقلت النوق

بـعد نبي الهدى، وإن لنا

أعـمالنا والقرآن مخلوق

وصرح بأنه يذهب مذهب المعتزلة كثيرون، منهم: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٥، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥، وإمبراطورية العرب ص ٦٠٠، وغيرهم، بل لقد قال خيري حماد، في تعليقته على ص ٦٠١، من إمبراطورية العرب بقوله: (أجمعت كتب التاريخ العربي على أن المأمون مال إلى الأخذ بمذهب المعتزلة، فقرب أتباع هذا المذهب إليه إلخ.)، ويدل على ذلك أيضاً أقوال. وأشعار المأمون المتقدمة.. ولعل وصف بعض المؤرخين بالتشيع هو الذي أوهم البعض بأن المأمون كان يتشيع بالمعنى المعروف للتشيع، فجزم بذلك، وبدأ يحشد الدلائل، والشواهد، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، وقد غفل عن أنهم يقصدون بكلمة (التشيع) المعنى اللغوي، لا المعنى الخاص المعروف الآن..

وبعد.. فإن من الواضح: أن عقيدة المأمون تلك، لم تكن تثمر على الصعيد العملي العام، فإنه كان من السياسيين. الذين لا ينطلقون في سلوكهم، ومواقفهم الخارجية ن منطلقات عقائدية، ومفاهيم إنسانية. وإنما يكون المنطلق لهم في مواقفهم، وتصرفاتهم، هو ـ فقط ـ مصالحهم الشخصية، وما له مساس في استمرار فرض سلطتهم، وتأكيد سيطرتهم..

١٧٤

الخطاب بـ‍ (جعل)(١) ، أو نحو ذلك.

ونراه أيضاً أنه عندما سأل أصحابه عن: أنبل من يعلمون نبلاً، وأعفهم عفة، فقال له علي بن صالح: (أعرف القصة في عمر بن الخطاب، فأشاح بوجهه، وأعرض، وذكر كلاما ليس من جنس هذا الكتاب، فنذكره، إلخ..)(٢) على حد تعبير البيهقي.. وذكر طيفور: أن أبا عمر الخطابي دخل على المأمون: فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون: إلا أنه غصبنا، فقال له أبو عمر يا أمير المؤمنين، يكون الغصب إلا بحق يد فهل كانت لكم يد، قال فسكت المأمون عنه، واحتملها له (٣) .

ولكن اعتراض الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الأموال أم هي حق جعله الله لهم؟ ولا ندري سر سكون المأمون عنه، واحتماله منه، إلا ما قدمناه..

بل إن الأهم من ذلك كله.. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة، وغيرهم من الصحابة بأنهم: (ملحدين) ناسياً، أو متناسياً كل أقواله السابقة، وخصوصاً شعره، وقوله: إنه يتحرج حتى من تنقص

____________

(١) وفيات الأعيان ترجمة يحيى بن أكثم ج ٢ / ٢١٨ ط سنة ١٣١٠ ه‍ والسيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦ والنص والاجتهاد ص ١٩٣، وفي قاموس الرجال ٩ / ٣٩٧، نقلاً عن الخطيب في تاريخ بغداد: أنه كان يقول: (ومن أنت يا أحول الخ..) ولا يخفى أنهم أرادوا تلطيف العبارة بقدر المستطاع، فحرفوها إلى ما ترى.

هذا.. وقد يرى البعض: أن تفضيله علياً، وإعلانه بسب معاوية، وإباحته المتعة، وقوله بخلق القرآن، ليس إلا لإشغال الناس بعضهم ببعض، وصرف الناس عن التفكير بالخلافة، التي هي أعز ما في الوجود عليه، والتي ضحى من أجلها بأخيه، وأشياعه، ووزرائه، وقواده. وكذلك من أجل صرف الناس عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وإبعادهم عنهم.. ولعل هذا الرأي لا يعدم بعض الشواهد التاريخية، التي تؤيده، وتدعمه.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٥٠.

(٣) كتاب بغداد ص ٥١.

١٧٥

الحجاج، كيف بالسلف الطيب، فاستمع إليه يقول، على ما يرويه لنا البيهقي:

ومن غاو يغص علي غيظاً

إذا أدنـيت أولاد الـوصي

يـحاول أن نـور الله يطفى

ونـور الله فـي حصن أبي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبـان لك الرشيد من الغوي

وعـرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر الجلي(١)

بـأية خـلة، وبـأي معنى

تفضل (ملحدين) على (علي)

عـلي أعـظم الـثقلين حقاً

وأفضلهم سوى حق النبي(٢)

بل وزاد على ذلك وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد أتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من أن الحق كان للعباس وأنه أجاز علياً فصحت خلافته وذلك بأن أظهر تقديم علي على العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوماً عن المأمون: (سمعته اليوم قدم علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب، وما ظننت أني أعيش حتى أسمع عباسياً يقول هذا، فقال الفضل له: تعجب من هذا؟ هذا والله كان قول أبيه قبله)(٣) ولكن الظاهر: أن أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب، لكن الآن قد اضطرت السياسة المأمون إلى الجهر بذلك، وإظهاره.

وهكذا.. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي تناقض، أو منافاة، بل كانت كلها في نظره صحيحة، ومنطقية، لأنها كانت في ظروف مختلفة، وكان لا بد له من مسايرة تلك الظروف، والانسجام معها، فلا مانع عنده، من أن يقرب العلويين إليه، ويتظاهر بإكرامهم، وتقديرهم.. في يوم.. ثم منعهم من الدخول عليه، واضطهدهم، وقتلهم بالسم تارة، وبالسيف أخرى في يوم آخر.. وهكذا.

____________

(١) القوي خ ل.

(٢) المحاسن والمساوي، طبع دار صادر ص ٦٨، وطبع مصر ج ١ / ١٠٥.

(٣) كتاب بغداد ص ٧.

١٧٦

وأيضاً. لا بد من خطوة أخرى.

ولكن ذلك وحده لم يكن كافياً لإخماد ثورات العلويين، ولا لتحقيق كافة الأهداف، التي قدمنا، وسيأتي شطر منها. فكانت خطوته التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والأحداث.

وتلك الخطوة هي: (أخذ البيعة للإمام علي الرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده..) وجعله أمير بني هاشم طراً، عباسيهم، وطالبيهم(١) ، ولبس الخضرة.

لم يبق إلا خيار واحد:

ومن نافلة القول هنا: أن نقول: إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء، مما ساعده على معرفة الدواء، الذي تجرعه المأمون ـ رغم مرارته القاسية، التي لم تكن لتقاس أبداً بما سوف يعقبها من راحة وطمأنينة وهناء ـ تجرعه ـ بكل رضا، ورجولة، وشجاعة.

إن المأمون ـ على ما أعتقد ـ وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب، ومن أسرة هي أقوى وأخطر المنافسين للحكم العباسي في تلك الفترة.. ولكن ما الحيلة له بعد أن لم يعد أمامه أي خيار في ذلك. إلا إذا أراد أن يتغابى أو يتعامى عن ذلك الواقع المزري الذي وصلت إليه خلافته، التي أصبحت ظلا، لا يلبث أن تلتهمه أشعة الشمس المشرقة، فتحوله إلى سراب.

____________

(١) غاية الاختصار ص ٦٨.

١٧٧

ما الحيلة له.. بعد أن رأى أنه لن تنقاد له الرعية والقواد، ولن تستقيم له الأمور إلا إذا أقدم على مثل تلك اللعبة الجريئة.

ولقد صرح المأمون نفسه للريان، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون: بأن البيعة للإمام كانت من تدبير الفضل بن سهل ـ صرح بقوله: (.. ويحك يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة، قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت له الخلافة، فيقول له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل؟!(١) ).

مع رسالة الفضل بن سهل للإمام:

وكاتب الإمام، وألح عليه، وكاتبه الفضل بن سهل أيضاً.. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة بالملاحظة، فقد أحببت أن أشير ـ باختصار ـ إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة.

كما أنني أوردت نص هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة، ليطلع القارئ عليها بنفسه، ويستخلص منها ما يراه مناسباً وضرورياً..

أما الملاحظات التي رأيت أن من الضروري الإشارة إليها هنا، فتتلخص بما يلي:

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٣، والبحار ج ٤٩ / ١٣٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥١، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٥.

١٧٨

ملاحظات لا بد منها:

أول ما يطالعنا في هذه الرسالة هو استعمال الفضل لكلمة: (الرضا)، التي تنص وثيقة العهد، وغيرها: على أن المأمون هو الذي جعلها لقباً للإمامعليه‌السلام ـ كما سيأتي ـ.. فإطلاق الفضل بن سهل لكلمة (الرضا) عليهعليه‌السلام يجعلنا نقول ـ إن لم نقل أنه كان لقباً مشهوراً ومعروفاً له ـ: إن جعل المأمون هذا اللفظ لقباً رسميا للإمامعليه‌السلام كان بوحي من ذي الرياستين نفسه. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماماً: أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة كان بإيحاء من المأمون.

وثانياً: إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الإمامعليه‌السلام : بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين، الأمر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الإطلاق ـ بينما الرسالة تشتمل على ذلك ـ نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي الرئاستين والمأمون على إمضاء هذا الأمر.

وهذا يعني: أن الممانعة والمقاومة لا تجدي ولا تفيد، ولذا فإن من الأفضل لهعليه‌السلام أن يكف عن ذلك، ويمتنع عنه.

وهذا ما أشار إليه الفضل بقوله: (.. وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الإمام المأمون ومني الخ..).

وثالثاً: يلاحظ: أن الرسالة تتناسب في صياغتها، وانتقاء جملها وألفاظها مع ذوق الإمامعليه‌السلام ومذهبه العقائدي، ومذهب شيعته.

وتنسجم مع ما يدعيه هو، ويدعيه آباؤه، وكان قد اشتهر وشعاع بين الناس: من أن الحق في خلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم دون غيرهم. وأن الغير ـ أياً كانوا ـ ظالمون لهم، ومعتدون عليهم في هذا الحق.

ثم يحاول الفضل أن يفهم الإمام: أنه وإن كان هو والمأمون

قد صمما على توليته العهد، لكنه يقول له، لكن السر في ذلك مختلف بيني وبين المأمون، فأنا أقول فيك: أنك ابن رسول الله، وأنك المهتدي، والمقتدى، وأرى أن ذلك إرجاع لحقك إليك، ورد لمظلمتك عليك. أما المأمون: فهو يراك شريكاً في أمره، وشقيقاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.

١٧٩

فالفضل يحاول بهذا أن يتقرب من الإمام، ويكتسب محبته وثقته. ولعل إظهار هذا الاختلاف، مما اتفق عليه كل من المأمون والفضل. وهكذا كان السياسيون، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة، التي يرون أنها توصلهم إلى أهدافهم. وتحقق لهم مأربهم.

ورابعاً: وأخيراً.. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده، حتى يصير إلى باب المأمون!. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة: إلى أن ذلك منهعليه‌السلام يوجب صلاح الأمة به.. وما ذلك إلا لأنه كان يعلم، كما كان الكل يعلم: أنه إذا تأكد لدى الإمامعليه‌السلام : أن صلاح الأمة متوقف على عمل ما من جهته، فإنه لا يتوانى، ولا يألو جهداً في العمل بوظيفته، والقيام بواجبه.. هذا بالإضافة إلى أن في ذلك إشارة للحالة العامة، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب.

ملاحظات هامة:

هذا.. وقبل الخوض في تفصيل أسباب البيعة، لا بد من ملاحظة:

أ ـ: إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين، الذين ناصبوه العداء، وشجعوا أخاه الأمين عليه، ولسوف يزيد من حنقهم، وغضبهم: حتى إنهم رضوا بإبراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم، عندما سمعوا بهذا النبأ الذي كان له وقع الصاعقة عليهم.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409