الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201326 / تحميل: 8419
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إليك يا أعز من في الوجود عليّ.. يا من تعيش لأجلي، وتشعر بآلامي، وتحس بمشاكلي.. دون أن أراك، ودون أن أعرف مكانك، بل وحتى دون أن أفطن في كثير من الأحيان لوجودك.

إليك يا أملي الحي، الذي يمدني بالقوة، ويجدد في العزيمة ويا قبس الهدى والنور، الذي لولاه لكنت أعيش في الظلام، ظلم الوحدة، والحيرة، والضياع.

إليك يا من تملأ الأرض قسطاً، وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً، وجوراً.

إليك يا سيدي، ومولاي، يا صاحب الزمان. أرفع كتابي هذا راجياً منك القبول.

جعفر

٢

مقدمة الطبعة الثانية:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

فهذه هي الطبعة الثانية لهذا الكتاب، نخرجها إلى القراء الكرام، بعد حوالي ثلاث سنوات من ظهور طبعته الأولى، التي نفدت نسخها بسرعة.

وإنني إذ أعتز بإقبال القراء على هذا الكتاب، لا يسعني إلاّ أن أقف موقف التقدير والإكبار لهذه الرغبة الصادقة منهم في الاطلاع والمعرفة، وهو أمر يبعث على الأمل، ويبشر بمستقبل مشرق إن شاء الله تعالى..

هذا الكتاب:

لقد جاء التفكير في هذا الكتاب في نفس الوقت الذي نشرت فيه مجلة لبنانية مقالاً لبعض السطحيين، من طالبي الشهرة والمال!! يتهجم فيه على ساحة قدس الإمامين العظيمين: الحسن المجتبىعليه‌السلام ؛ لصلحه مع معاوية.. والإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لقبوله بولاية العهد، من قبل المأمون العباسي..

٣

فأما قضية الصلح فقد كان قد بحثها الباحثون، واهتم بها العلماء والمؤرخون، وكشفوا عن جانب كبير من ظروفها وملابساتها، ومن هنا فقد انصب اهتمامي آنئذ على بحث قضية ولاية العهد، والتي كان البحث فيها شاقاً وصعباً للغاية، لأسباب لا يجهلها من له أدنى اطلاع على واقع الكتب التاريخية، ومؤلفيها، وظروف تأليفها..

ولعل ذلك المقال نفسه أيضاً، قد كان هو الحافز لسماحة العلامة البارع، السيد محمد جواد فضل اللهرحمه‌الله ، ليكتب كتابه الشيق، الذي أسماه: (حياة الإمام الرضاعليه‌السلام )، وعقد فيه فصلاً للحديث عن ولاية العهد أيضاً؛ فشكر الله سعيه، وتغمده برحمته، وجزاه خير جزاء المحسنين..

الجديد في الكتاب:

وأود أن أشير هنا، إلى أنه.. إما لسوء حظي، أو لحسن حظ القارئ!! لم تتهيأ لي الفرصة لإعادة النظر في الكتاب من جديد، بشكل يسمح لي بالتعديل والتطوير فيه؛ ولذا فقد اكتفيت بإصلاح كثير من الأخطاء المطبعية، مع زيادات طفيفة، لا تكاد تذكر.

تنبيه وختام:

وبعد هذا.. فإنني أود أن أنبه: على أن كلمة (التشيع) الواردة في هذا الكتاب لا يراد بها المعنى الخاص إلاّ نادراً.. كما أن المقصود من كلمة: (علوي) و(علويين) هو كل من يتصل نسبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبنائه الطيبين الطاهرين..

وفي الختام.. فإنني أعود فأكرر رجائي الأكيد من كل القراء الكرام أن يكتبوا إلي بملاحظاتهم، ووجهات نظرهم، وأنا لهم من الشاكرين.

والحمد لله، وله المنة، وبه الحول، وعليه التكلان.

٢٣/١/١٤٠٠ ه‍ ق

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٤

تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين:

وبعد:

فقد كان هذا الكتاب نتيجة دراسة استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر. وهو يبحث في ظروف وأسباب حدث تاريخي هام في التاريخ الإسلامي.. إلاّ وهو: (أخذ البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد للمأمون).

ورغم الأهمية البالغة لهذا الحدث، وكونه جديراً بالدراسة، والبحث، والتمحيص. فإننا رأينا المؤرخين الباحثين ـ ولأسباب مختلفة ـ يضربون عنه صفحا، ويحاولون تجاهله، والتقليل من أهميته.

وعلى كل حال.. ومهما كانت الحقائق التي أوردتها في هذا الكتاب موافقة لهوى قوم، ومثيرة لحنق آخرين.. فإن ما أريد أن أؤكد عليه هو:

إنني لثقتي من نفسي بأنني ما ادخرت وسعاً، ولم آل جهداً في تمحيص الحقائق، وإبراز المعالم الأصيلة للصورة، التي أريد ـ لسبب أو لآخر ـ طمسها، وتشويه معالمها، وأيضاً لحسن ظني بالقارئ، وثقتي بنزاهته، ونظرته الواعية.

من أجل ذلك أقول ـ وبكل رضاً، وارتياح، واطمئنان ـ: إنني لا أريد أن أفرض ما في هذا الكتاب من آراء، واستنتاجات على أحد.. بل سوف أترك الحكم في ذلك للقارئ نفسه، الذي يمتلك كامل الحرية في أن يقبل، أو أن يرفض، إذا اقتضى الأمر أياً من الرفض، أو القبول.

والله ولينا. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

جعفر مرتضى الحسيني

٥

تمهيد

صلة الماضي بالحاضر والمستقبل:

.. بديهي أن بعض الأحداث التاريخية، التي تمر بالأمة، تؤثر تأثيراً مباشراً، أو غير مباشر في واقعها، إن حاضراً، وإن مستقبلاً. بل وقد تؤثر في روح الأمة، وعقلها، وتفكيرها.. ومن ثم على مبادئها العامة، التي قامت عليها قوانينها ونظمها، التي تنظم لها مسيرتها، وتهيمن على سلوكها.. فقد تقوي من دعائمها، وتؤكد وجودها، واستمرارها، وقد تنسفها من أسسها، إن كانت تلك المبادئ على درجة كبيرة من الضعف والوهن في ضمير الأمة ووجدانها. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام. فمثلاً.. نلاحظ أن الاكتشافات الحديثة، والتقدم التقني قد أثر أثراً لا ينكر حتى في عاطفة الإنسان، التي يفرضها، واقع التعايش. وحتى في مواهبه وملكاته، فضلاً عن سلوكه، وأسلوب حياته. وحيث إن المبادئ الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الإنسان ووجد أنه، ولم تخرج عن المستوى الشكلي في حياته العملية ـ وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحياناً في دورات تاريخية قصيرة ـ نرى أنها بدورها قد تأثرت بذلك، ونسفت أو كادت من واقع هذه الأمة، وعدمت أو كادت من دائرة حياتها. وليكون البديل ـ من ثم ـ عنها لدى هذا الكائن هو (الذاتية) الكافرة بكل العواطف الاجتماعية، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة، التي لا ترحم ولا ترثي، ولا تلين، لا يجد لذة العاطفة، ولا حلاوة الرحمة، وليعود الإنسان ـ بعد لأي ـ متشائما حاقدا، لا يثق بمستقبله، ولا يأمن من يحيط به، ولا يطمئن إلى أقرب الناس إليه.وبطبيعة الحال، سوف يتأثر النشء الجديد بذلك، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه. وهكذا.. وهكذا.. فإن الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلاً، أو أكثر قد نجد له آثارا بارزة، حتى في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم وإذن.. فنستطيع أن نستخلص من هذا: أن الأحداث التاريخية مهما بعدت، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع الأمة، وفي تصرفاتها،وفي حياتها، وسلوكها على المدى الطويل. وتتحكم ـ إلى حد ما ـ في مستقبلها،

٦

وإن العالم التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه المجتمع بالفعل، سواء في ذلك الأدبي منه. أو العلمي، أو الديني، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو غير ذلك.وغني عن القول هنا. أن التأثر بالأحداث يختلف من أمة لأخرى، ومن عصر لآخر.

لماذا كان تدوين التاريخ:

ومن هنا تبرز أهمية التاريخ. ونعرف أنه يلعب دوراً كبيراً في حياة الأمم، مما يجعلنا لا نجد كثير عناء في الإجابة على سؤال: لماذا عنيت الأمم على اختلافها بالتاريخ. تدويناً. ودرساً، وبحثاً، وتمحيصاً؟! فإن ذلك لم يكن إلاّ لأنها تريد أن تستفيد منه، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه، لتستفيد من ذلك لمستقبلها الذي تقدم عليه.. ولتكتشف منه عوامل رقيها. وانحطاطها، ولتنطلق من ثم لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة.. فمهمة التاريخ إذن ـ تاريخ الأمة المدون ـ هي: أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الأمة من أحوال وأوضاع، وأزمات فكرية، واقتصادية، وظروف سياسية: واجتماعية، وغير ذلك.

ونحن. هل نملك تاريخاً!!

ونحن أمة.. لكننا لا نملك تاريخاً ـ وأقصد بذلك كتب التاريخ ـ نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا المضمار، لأن أكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، والهوى المذهبي، والتزلف للحكام، وأقصد بـ‍ (النظرة الضيقة) عملية ملاحظة الحدث منفصلاً عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف على حقيقته وواقعه.

نعم.. إننا بمرارة ـ لا نملك تاريخاً نستطيع أن نستفيد منه الكثير، لأن المسيرة قد انحرفت، والأهواء قد لعبت لعبتها(١) وأثرت أثرها المقيت

____________

(١) ومن أراد أن يعرف المزيد عن ذلك، فليراجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية من ص ٧٢ إلى ص ٧٩ والغدير ج ٥ ص ٢٠٨ إلى ص ٣٧٨، و ج ١١ من ص ٧١، إلى ص ١٠٣، و ج ٩ من ص ٢١٨ إلى آخر المجلد، وغير ذلك من مجلدات هذا الكتاب وصفحاته والاحتجاج للطبرسي، وخمسون ومئة صحابي مختلق للعسكري، وغير ذلك كثير..

٧

البغيض، حتى في تدوين التاريخ نفسه. وإنه لما يدمي قلوبنا، ويملأ نفوسنا أسى وألما، أن نكون قد فقدنا تاريخنا، ودفناه تحت ركام من الأنانيات. والعصبيات، والأطماع الرخيصة، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء، والذكريات الشجية.

ومرة أخرى أقول: إن كل ما لدينا هو ـ فقط ـ تاريخ الحكام والسلاطين، الذين تعاقبوا على كراسي الحكم، وحتى تاريخ الحكام هذا، رأيناه مشوهاً، وممسوخاً، حيث لم يستطع أن يعكس بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام، وأعمالهم وتصرفاتهم. وما ذلك إلاّ لأن المؤرخين لم يكونوا أحراراً في كتابتهم للتاريخ، بل كانوا يؤرخون ويكتبون حسب ما يريده الحكام أنفسهم، ويخدم مصالحهم.

إما رهبة من هؤلاء الحكام، أو رغبة، أو تعصباً لمذهب، أو لغيره. ومن هنا.. فليس من الغريب جداً أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة، حتى لا يفوته شيء منه، أو يختلق ويفتعل أحداثاً لم يكن لها وجود إلاّ في عالم الخيالات والأوهام، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر، بل قد لا يكون لهم وجود أصلاً.. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها مكانتها، وخطرها في التاريخ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه.. ويهمل أو يشوه أحداثاً ذات أهمية كبرى.

صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره. ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الأمة، ومستقبلها، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان، والإبهام.

ومن تلك الأحداث..

وفي طليعة تلك الأحداث التي كان نصيبها ذلك: (البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد) من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون!.

هذا الحدث الذي لم يكن عاديا، وطبيعيا، كسائر ما يجري وما يحدث، والذي كان نصيبه من المؤرخين أن يتجاهلوه، ويقللوا ما أمكنهم من أهميته، وخطره، وأن يحيطوا أسبابه ودوافعه، وظروفه بستائر من الكتمان. وعندما كانت تواجههم الأسئلة حوله تراهم يرددون تلك التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس، دون أن يكون من بينها ما يقنع، أو ما يجدي..

إلا أننا مع ذلك، لم نعدم في هذا الذي يسمى، ب‍ـ (التاريخ) بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا وهناك، التي تلقي لنا ضوءاً ، وتبعث فينا الرجاء والأمل بالوصول إلى الحقائق التي خشيها الحكام، فقضوا عليها ـ بكل قسوة وشراسة ـ بالعدم، والاندثار..

٨

ولو فرض: أنه كان للمؤرخين القدامى العذر ـ إلى حد ما ـ في تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، لظروف سياسية، واجتماعية، ومذهبية معينة.. فإن من الغريب حقاً أن نرى الباحثين اليوم ـ مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع. ـ يحاولون بدورهم تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، عن قصد أحياناً، وعن غير قصد أخرى، وإن كنا نستبعد هذا الشق الأخير، إذ أننا نشك كثيراً في أن لا يسترعي حدث غريب كهذا انتباههم، ويلفت أنظارهم.

وأياً ما كان السبب في ذلك، فإن النتيجة لا تختلف، ولا تتفاوت، إذ أنها كانت في الواقع الخارجي سلبية على كل حال.

وبدافع من الشعور بالواجب

ومن هنا.. وبدافع من الشعور بالمسؤولية، رأيت أن أقوم بدراسة لهذا الحدث بالذات، للتعرف على حقيقة دوافعه وأسبابه، وواقع ظروفه وملابساته.

وكانت نتيجة تلك الدراسة، التي استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر هي: هذا الكتاب الذي بين يديك..

ولا أدعي: أن كل ما في هذا الكتاب من آراء واستنتاجات، لا تعدو الحقيقة، ولا تشذ عن الصواب.

ولا أدعي أيضاً: أنني استطعت أن أضع يدي على كل خيوط القضية، وأن أنفذ إلى جميع جذورها العميقة والرئيسة، فإن ذلك ليس من الأمور السهلة بالنسبة لأي حدث تاريخي مضى عليه العشرات والمئات من السنين، فكيف إذا كان إلى جانب ذلك مما قد أريد له ـ كما قلنا ـ أن تبقى دوافعه وأسبابه طي السرية والكتمان، وظروفه وملابساته رهن الإبهام والغموض..

لا.. لا أدعي هذا، ولا ذاك. وإنما أقول: إن هذا الكتاب قادر ـ ولا شك ـ على أن يرسم علامة استفهام كبيرة حول (طبيعية) هذا الحدث، وحول المأمون، ونواياه، وتصرفاته المشبوهة. وإنه ـ على الأقل يمكن أن يعتبر خطوة على طريق الكشف الكامل عن جميع الحقائق، والتعرف على كافة العوامل والظروف، التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام.

٩

تقسيم الكتاب.. باختصار..

ومن أجل استيفاء البحث من جميع جوانبه، كما لا بد لنا من تقسيم الكتاب إلى أقسام أربعة:

الأول:

يتناول قيام الدولة العباسية، وأساليب دعوتها، ويعطي لمحة عن موقف العلويين، والعباسيين، كل منهما من الآخر، وردود الفعل لذلك، وغير ذلك من أمور..

الثاني:

يبحث حول ظروف البيعة، وأسبابها، ونتائجها.

الثالث:

يتكفل بإلقاء أضواء كاشفة عن المواقف، سواء بالنسبة إلى المأمون، أو بالنسبة إلى الإمامعليه‌السلام ..

الرابع:

نعرض فيه لبعض الأحداث التي تلقي لنا ضوءاً على حقيقة نوايا المأمون، وتكشف لنا عن بعض مخططاته.. وغير ذلك مما يتصل بذلك، ويرتبط به، بنحو من الارتباط والاتصال..

هذا:

وقد وضعنا في آخر الكتاب بعض الوثائق التاريخية الهامة، التي آثرنا أن يطلع القارئ بنفسه على نصها الكامل..

ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً. ويهدينا سبيل الرشاد..

القسم الأول

ممهدات..

١ ـ قيام الدولة العباسية.

٢ ـ مصدر الخطر على العباسيين.

٣ ـ سياسة العباسيين ضد العلويين.

٤ ـ سياسة العباسيين مع الرعية..

٥ ـ فشل سياسة العباسيين ضد العلويين.

١٠

قيام الدولة العباسية

العلويون في الماضي البعيد..

بعد أن أمعن الأمويون في الانحراف عن الخط الإسلامي القويم، وأصبح واضحاً لدى كل أحد، أن هدفهم ليس إلاّ الحكم والسيطرة، والتحكم بمقدرات الأمة وإمكاناتها.. وأن كل همهم كان مصروفا إلى الملذات والشهوات، أينما كانت، وحيثما وجدت.. وليس لمصلحة الأمة، وسعادتهما، ورفاهها عندهم أي اعتبار..

وبعد أن لجوا في عدائهم لأهل البيتعليهم‌السلام ، وبلغوا الغاية فيهم، قتلاً، وعسفاً، وتشريداً، وخصوصاً ما كان منهم في وقعة كربلاء التي لم يعرف التاريخ أبشع، ولا أفظع منها.. وجعلهم لعن عليعليه‌السلام سنة لهم. يشب عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.. ثم ملاحقتهم لولده، ولكل من يتشيع لهم. تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، ليعفوا منهم الآثار، ويخلو منهم الديار.

بعد كل هذا.. وبفضل جهاد أهل البيت المتواصل، في سبيل توعية الأمة، وتعريفها بأحقيتهم، وبحقيقة، وواقع تلك الطغمة الفاسدة.. كان من الطبيعي أن ينمو تعاطف الناس مع أهل البيت

ويزيد، كلما ازداد نفورهم من الأمويين، ونقمتهم عليهم، وذلك تبعاً لتزايد وعيهم. وتكشف الحقائق لهم، ولأنهم أدركوا من واقع الأحداث التي مرت بهم: أن أهل البيتعليهم‌السلام هم: الركن الوثيق، الذي لا نجاة لهم إلاّ بالالتجاء إليه، وذلك الأمل الحي، الذي تحيا به الأمة، وتحلو معه الحياة..

العرش الأموي في مهب الريح

ولهذا نجد: أن الثورات والفتن ضد الحكم الأموي كانت تظهر من كل جانب ومكان. طيلة فترة حكمهم، حتى أنهكت قواهم، وأضعفتهم إلى حد كبير، وفنوا وأفنوا، حتى لم يعد باستطاعتهم ضبط البلاد، ولا السيطرة على العباد..

١١

وكانت تلك الثورات تتخذ الطابع الديني على العموم، مثل: ثورة أهل المدينة المعروفة بـ‍ (وقعة الحرة) وثورة قراء الكوفة والعراق، المعروفة بـ‍ (دير الجماجم) سنة ٨٣ ه‍.. وقبلها ثورة المختار والتوابين سنة ٦٧ ه‍. وأيضاً ثورة يزيد بن الوليد مع المعتزلة على الوليد بن يزيد، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنة ١٢٦ ه‍. وكذلك ثورة عبد الله بن الزبير، الذي تغلب على البلاد ما عدا دمشق، وما والاها مدة من الزمن.. ثم الثورة التي قامت ضد هشام في إفريقيا.

وثورة الخوارج بقيادة المتسمي بـ‍ (طالب الحق) سنة ١٢٨ ه‍. وأيضاً ثورة الحارث بن سريح في خراسان، داعياً إلى كتاب الله، وسنة رسوله سنة ١١٦ ه‍. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه..

وأما ما كان منها بدافع غير ديني، بل من أجل الحكم، والسلطان، فنذكر منها على سبيل المثال: ثورة آل المهلب سنة ١٠٢ ه‍. وثورة مطرف بن المغيرة..

وأما في زمن مروان

وفي زمن مروان بن محمد الجعدي، المعروف بمروان الحمار، كان الوضع في السوء والتدهور قد بلغ الغاية، وأوفى على النهاية، حيث بلغ من انشغال مروان بالثورات والفتن، التي كانت قد شملت أكثر الأقطار: أنه لم يستطع أن يصغي إلى شكوى عامله في خراسان نصر بن سيار، الذي كان بدوره يواجه الثورات والفتن، ومن جملتها دعوة بني العباس، التي كانت تزداد قوة يوماً بعد يوم. بقيادة أبي مسلم الخراساني.

١٢

من خلال الأحداث.

كل ذلك يكشف عن مدى تبرم الناس بحكم بني أمية، وبسلطانهم، الذي كان قائماً على أساس من الظلم والجور، والابتزاز، والتحكم بمقدرات الأمة، وإمكاناتها.. ويتضح لنا ذلك جليا إذا لاحظنا: أن ما كان يتقاضاه الولاة لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، ويكفي مثالاً على ذلك أن نشير إلى أن خالداً القسري، كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره (٢٠ ) مليون درهم، بينما ما كان يختلسه كان يتجاوز الـ (‍١٠٠) مليون(١) ، وإذا كان هذا حال الولاة، فكيف ترى كان حال الخلفاء، الذين كانوا يحقدون على كل القيم، والمثل، والكمالات الإنسانية،.. والذين وصف الكميت رأيهم في الناس، فقال:

رأيــه فـيهم كـرأي ذوي

الثلة في الثائجات جنح الظلام

جز ذي الصوف وانتقاء لذي

المخة، نعقاً ودعدعاً بالبهام(٢)

نعم.. لقد كانت الأمة قد اقتنعت اقتناعاً كاملاً ونهائياً: بأن بني أمية ليس لهم بعد حق في أن يفرضوا أنفسهم قادة للأمة، ولا روادا لمسيرتها، لأن نتيجة ذلك ستكون ـ حتما ـ هي جر الأمة إلى الهاوية. حيث الدمار والفناء، فلفظتهم، وانقلبت عليهم، تأخذ منهم بعض الحقوق التي لها عندهم، إلى أن تمكنت أخيراً من أن تخلي منهم الديار، وتعفي منهم الآثار..

وكان نجاح العباسيين طبيعياً..

ومن هنا نعرف: أن نجاح العباسيين في الاستيلاء على مقاليد الحكم ـ

____________

(١) السيادة العربية ص ٣٢، ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم. وفي البداية والنهاية ج ٩ ص ٣٢٥: أن دخل خالد القسري كان في كل سنة ( ١٣) مليون دينار، ودخل ولده يزيد بن خالد كان (١٠) ملايين دينار سنويا، ولا بأس بمطالعة كتاب السيادة العربية، ليعرف ما أصاب، وخصوصاً العراقيين والخراسانيين في عهد الأمويين.

(٢) الهاشميات ص ٢٦، ٢٧. والثلة: القطعة الكثيرة من الضان. والثائجات: الصائحات. وانتقاء: اختيار، وأراد بذي المخة: السمينة، ونعقاً: أي صياحاً. والدغدغة: زجر البهائم.

يقول: رأي الواحد من هؤلاء الخلفاء في رعيته، ومعاملته لها كرأي أصحاب الغنم في غنمهم، فلا يراعون العدل، ولا الإنصاف فيهم..

١٣

في ذلك الحين ـ لم يكن ذلك الأمر المعجزة، والخارق للعادة. بل كان أمراً طبيعياً للغاية، إذا ما أخذت الحالة الاجتماعية، والظروف والملابسات آنئذٍ بنظر الاعتبار، فإن الأمة كانت مهيأة نفسيا لقبول التغيير، أي تغيير. بل كانت تراه أمراً ضرورياً، لا بد منه، ولا غنى عنه، إذا كانت تريد لنفسها الحياة الفاضلة، والعيش الكريم.

ولهذا.. فليس من الغريب أن نقول: إنه كان بإمكان أية ثورة أن تنجح، لو أنها تهيأت لها نفس الظروف، وسارت على نفس الخط، واتبعت نفس الأساليب، التي اتبعها العباسيون في دعوتهم، وثورتهم. ونستطيع أن نتبين أساليب العباسيين تلك في ثلاثة خطوط عريضة وواضحة.

الخط الأول:

(كانوا يصورون أنفسهم على أنهم ما جاءوا إلاّ لينقذوا الأمة من شرور بني أمية، وظلمهم، وعسفهم، الذي لم يكن يقف عند حدود. وكانت دعوتهم تتخذ اتجاه التبشير بالخلاص، وأنهم سوف يقيمون حكماً مبدؤه العدل، والمساواة، والأمن والسلام. وقد كانت وعودهم هذه كسائر الوعود الانتخابية، التي ألفناها من ساسة العصر الحديث.. بل لقد كانت الأماني التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهير مسئولة إلى حد كبير عن ردود الفعل العنيفة، التي حدثت ضد الحكم العباسي بعد ذلك، حيث كان حكمهم قائماً على الطغيان المتعطش إلى سفك الدماء)(١) .

____________

(١) راجع: إمبراطورية العرب، للجنرال جلوب، ترجمة: خيري حماد.

١٤

الخط الثاني:

إنهم لم يعتمدوا كثيراً على العرب، الذين كانوا يعانون من الانقسامات الداخلية الحادة، وإنما استعانوا بغير العرب، الذين كانوا في عهد بني أمية محتقرين، ومنبوذين، ومضطهدين، ومحرومين من أبسط الحقوق المشروعة، التي منحهم إياها الإسلام. حتى لقد أمر الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلاّ عربي.. وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلاّ عربي(١) .. كما طرد غير العرب من البصرة، والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وا محمدا وا أحمدا. ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن نرى أهل البصرة يلحقون بهم، ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم(٢) بل لقد قالوا: (لا يقطع الصلاة إلا: حمار، أو كلب، أو مولى..)(٣) وقد أراد معاوية أن يقتل شطراً من الموالي، عندما رآهم كثروا، فنهاه الأحنف عن ذلك(٤) . وتزوج رجل من الموالي بنتا من أعراب بني سليم، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل،

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٤، والعقد الفريد ج ١ ص ٢٠٧، ومجلة الهادي، السنة الثانية العدد الأول ص ٨٩، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد ٢ جزء ٤ ص ٣٤٣.

(٢) السيادة العربية ص ٥٦، ٥٧، ولا بأس بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول ج ٢ ص ٢٧٤.

(٣) العقد الفريد طبع مصر سنة ١٩٣٥ ج ٢ ص ٢٧٠، وتاريخ التمدن الإسلامي جزء ٤ ص ٣٤١.

(٤) المصدران السابقان...

١٥

فشكا إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بينه وبين زوجته، وضربه مأتي سوط، وحلق رأسه، وحاجبه، ولحيته. فقال محمد ابن بشير في جملة أبيات له:

قضيت بسنة وحكمت عدلاً

ولم ترث الخلافة من بعيد(١)

ولم تفشل ثورة المختار، إلاّ لأنه استعان فيها بغير العرب، فتفرق العرب عنه لذلك(٢) ويقول أبو الفرج الأصفهاني: (.. كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية، إذا جاء العربي من السوق، ومعه شيء، ورأى مولى، دفعه إليه، فلا يمتنع)(٣) .

بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولدين، الذين ولدوا من أمهات أعجميات(٤) .

وأخيراً.. فإن البعض يقول: إن قتل الحسين كان: (الكبيرة، التي هونت على الأمويين أن يقاوموا اندفاع الإيرانيين؟ إلى الدخول في الإسلام)(٥) .

وبعد هذا.. فإن من الطبيعي أن يبذل الموالي أرواحهم، ودماءهم وكل غال ونفيس في سبيل التخلص من حكم يعاملهم هذه المعاملة، وله فيهم هذه النظرة، فاعتماد الدعوة العباسية على هؤلاء كان منتظراً

____________

(١) الأغاني ج ١٤ ص ١٥٠، وضحى الإسلام ج ١ ص ٢٣، ٢٤.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٤٠، ولا بأس أيضاً بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي، والمجلد الأول، الجزء الثاني ص ٢٨٢، ٢٨٣.

(٣) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥.

(٤) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥، والعقد الفريد ج ٦ ص ١٣٠، ١٣١، طبعة ثالثة، ومجلة الهادي، السنة الثانية، العدد الأول ص ٨٩.

(٥) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٩٥.

١٦

ومتوقعاً، كما أن اندفاع هؤلاء في نصرة الدعوة العباسية كان متوقعاً، ومنتظراً أيضاً.

الخط الثالث:

إنهم ـ أعني العباسيين ـ قد حاولوا في بادئ الأمر أن يربطوا دعوتهم وثورتهم بأهل البيتعليهم‌السلام . وطبيعة البحث تفرض علينا أن نتوسع في بيان هذه النقطة بالذات وذلك لما لها من الأهمية البالغة، بالنظر لما تركته من آثار بارزة على مدى التاريخ، ولأنها كانت الناحية التي اعتمد العباسيون عليها اعتماداً كلياً، وتعتبر السبب الرئيس في وصول العباسيين إلى السلطة، وحصولهم على مقاليد الحكم.. ولهذا. فنحن نقول:

دولة بني العباس في صحيفة ابن الحنفية:

قد نقل ابن أبي الحديد(١) عن أبي جعفر الإسكافي: أنه قد صحت الرواية عندهم عن أسلافهم، وعن غيرهم من أرباب الحديث، أنه: لما مات علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، طلب محمد بن الحنفية من أخويه: الحسن، والحسين ميراثه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو أطلعاه على غيرها لهلك، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس. فصرح ابن الحنفية لعبد الله بن العباس بالأمر، وفصله له.

والظاهر أن تلك الصحيفة انتقلت منه لولده أبي هاشم، وعن طريقه وصلت إلى بني العباس. ويقال: إنها قد ضاعت منهم أثناء

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩، ١٥٠.

١٧

حربهم مع مروان بن محمد الجعدي(١) ، آخر خلفاء الأمويين. وقد ذكرت هذه الصحيفة في كلام بني العباس، وخلفائهم كثيراً، وسيأتي لها ذكر في رسالة المأمون للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

متى بدأ العباسيون دعوتهم، وكيف؟

وبعد هذا.. فإن الشيء المهم هنا هو تحديد الزمن الذي بدأ به العباسيون دعوتهم، وكيف؟

ونستطيع أن نبادر هنا إلى القول:

إن الذين بدءوا بالدعوة أولاً هم العلويون، وبالتحديد من قبل أبي هاشم، عبد الله بن محمد الحنفية، وهو الذي نظم الدعاة، ورتبهم، وقد انضم تحت لوائه: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومعاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و عبد الله بن الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعهم على أمر دعاته.

وقد قرأ محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله تلك الصحيفة، المشار إليها آنفاً، ووجد كل منهما ذكراً للجهة التي هو فيها.

ولهذا نلاحظ: أن كلاً من محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله، قد ادعى الوصاية من أبي هاشم، مما يدل دلالة واضحة على أنه لم يخصص أياً منهما بالوصية، وإنما عرفهما دعاته فقط.

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩.

١٨

هذا. وبعد موت معاوية بن عبد الله، قام ابنه عبد الله يدعي الوصاية من أبيه. من أبي هاشم.. وكان له في ذلك شيعة، يقولون بإمامته سراً حتى قتل. وأما محمد بن علي فقد كان بمنتهى الحنكة والدهاء، وقد تعرف ـ كما قلنا ـ من أبي هاشم على الدعاة، واستطاع بما لديه من قوة الشخصية، وحسن الدهاء أن يسيطر عليهم، ويستقل بهم(١) ، ويبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، و يبعدهما عنهم. واستمر محمد بن علي يعمل بمنتهى الحذر والسرية. وكان عليه أن:

١ ـ يحذر العلويين، الذين كانوا أقوى منه حجة، وأبعد صيتاً. بل عليه أن يستغل نفوذهم ـ إن استطاع ـ لصالحه، وصالح دعوته. ولقد فعل ذلك هو وولده كما سيتضح.

٢ ـ وكان عليه أيضاً أن يتحاشى مختلف الفئات السياسية، التي لن يكون تعامله معها في صالحه، وفي صالح دعوته.

٣ ـ والأهم من ذلك أن يصرف أنظار الحكام الأمويين عنه، وعن نشاطاته، ويضللهم، ويعمي عليهم السبل.

ولذا فقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها. وأوصاهم بوصيته

____________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٠.

١٩

المشهورة، التي يقسم فيها البلاد والأمصار: هذا علوي، وذاك عثماني، وذلك غلب عليه أبو بكر وعمر، والآخر سفياني. إلى آخر ما سيأتي(١) .

وأمرهم ـ أعني الدعاة بالتحاشي عن الفاطميين، لكنه ظل هو شخصياً، ومن معه من العباسيين، الذين استنوا بسنته، وساروا من بعده بسيرته ـ ظلوا ـ يتظاهرون للعلويين بأنهم معهم، وأن دعوتهم لهم، ولم يكن إلا القليلون يعرفون بأنه: كان يدبر الأمر للعباسيين. وقد أعطى دعاته شعارات مبهمة، لا تعين أحداً، وصالحة للانطباق على كل فريق، كشعار: (الرضا من آل محمد) و(أهل البيت). ونحو ذلك.

____________

(١) ولقد بذل محمد بن علي جهداً جباراً في إنجاح الدعوة، وكانت أكثر نشاطاته في حياة والده، علي بن عبد الله، الذي يبدو أنه لم يكن له في هذا الأمر دور يذكر. وتوفي والده على ما يظهر في سنة ١١٨ ه‍. وكان قد بدأ نشاطاته، حسب ما بأيدينا من الدلائل التاريخية من سنة ١٠٠ ه‍. أي بعد وفاة أبي هاشم بسنتين. إذ في: سنة ١٠٠ ه‍. وجه محمد بن علي بن أرض الشراة ميسرة إلى العراق ووجه محمد بن خنيس، وأباً عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار إلى خراسان. وفيها أيضاً جعل اثني عشر نقيباً، وأمر دعاته بالدعوة إليه، وإلى أهل بيته.

وفي سنة ١٠٢ ه‍. وجه ميسرة رسله إلى خراسان، وظهر أمر الدعوة بها وبلغ ذلك سعيد خذينة، عامل خراسان، فأرسل، وأتى بهم، واستنطقهم، ثم أخذ منهم ضمناء وأطلقهم.

وفي سنة ١٠٤ ه‍. دخل أبو محمد الصادق، وعدة من أصحابه، من أهل خراسان إلى محمد بن علي، فأراهم السفاح في خرقة، وكان قد ولد قبل خمسة عشر يوما، وقال لهم (والله، ليتمن هذا الأمر، حتى تدركوا ثأركم من عدوكم).

وفي سنة ١٠٥ ه‍. دخل بكير بن ماهان في دعوة بني هاشم. وفيها مات ميسرة، فجعل محمد بن علي بكيراً هذا مكانه في العراق..

وفي سنة ١٠٧، أو ١٠٨ ه‍ وجه بكير بن ماهان عدة من الدعاة إلى خراسان، فظفر بهم عامل خراسان، فقتلهم، ونجا منهم عمارة، فكان هو الذي أخبر محمد ابن علي بذلك. وفي سنة ١١٣ ه‍. صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمان رجلاً منهم، فقتله، وقال: (من أصيب منهم فدمه هدر).

وفي سنة ١١٧ ه‍. أخذ عامل خراسان أسد بن عبد الله وجوه دعاة بني العباس، وفيهم النقباء، ومنهم سليمان بن كثير، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس آخرين. وفي سنة ١١٨ وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد ـ وهو خداش ـ والياً على شيعة بني العباس، فنزل مروا، ودعا إلى محمد بن علي ؛ ثم غلا..

وفي سنة ١٢٠ ه‍. وجهت شيعة بني العباس سليمان بن كثير إلى محمد بن علي في أمر خداش. وفي سنة ١٢٤ ه‍. قدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة. وفيها أيضاً اشترى بكير بن ماهان أبا مسلم. راجع في ذلك كله: تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج ٥ ص: ٣١٦، ٣٥٨، ٣٦٨، ٣٨٧، ٣٨٩، ٤٢٥، ٤٣٩، ٤٤٠، ٤٦٧، ٥١٢، وغير ذلك من كتب التاريخ.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409