الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)0%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 191776
تحميل: 7342

توضيحات:

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191776 / تحميل: 7342
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مدى سرية الدعوة:

والظاهر.. أن عبد الله بن معاوية كان من جملة أولئك المخدوعين بهذه الشعارات، إذ قد ذكر المؤرخون، ومنهم أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص ١٦٨، وغيره: أنه بعد أن استظهر ابن ضبارة على عبد الله ابن معاوية توجه عبد الله إلى خراسان، وكان أبو مسلم قد ظهر بها، فخرج إلى أبي مسلم طمعاً في نصرته! فأخذه أبو مسلم، فحبسه، ثم قتله..

وهذا يدل دلالة واضحة على أن عبد الله بن معاوية كان يظن أن أبا مسلم سوف ينصره، وأنه ـ يعني أبا مسلم ـ كان يدعو إلى أهل البيت، والرضا من آل محمد على الحقيقة، ولم يخطر في باله: أن الدعوة كانت للعباسيين، وبتدبير من أعظم داهية فيهم!!..

بل لعلنا نستطيع أن نقول: إن محمد بن علي قد استطاع أن يخفي هذا الأمر حتى عن ولديه: السفاح، والمنصور، ولذا نراهما قد التحقا مع جميع بني هاشم العباسيين والعلويين على حد سواء، وبعض الأمويين(١) ووجوه قريش بعبد الله بن معاوية الخارج سنة ١٢٧ ه‍. في الكوفة، ثم في شيراز، حيث تغلب على: فارس، وكورها، وعلى حلوان، وقومس، وأصبهان، والري وعلى مياه الكوفة، وعلى مياه البصرة، وعلى همدان، وقم، وإصطخر، وعظم أمره جداً(٢) .

وقد تولى المنصور من قبل عبد الله بن معاوية هذا على (إيذج)(٣) كما تولى غيره غير ذلك من الأمصار. فقبول المنصور لولاية (إيذج) من قبله، باعتباره من الهاشميين يكشف عن أنه لم يكن يعلم: أن والده كان ابتداءاً من سنة مئة، أي قبل خروج عبد الله بن معاوية بـ (٢٨) سنة يسعى جاهداً، ويشقى ويتعب في تدبير الأمر للعباسيين، وتركيز الدعوة لهم.. وإنما كان يعلم أن الدعوة كانت لأهل البيت، والرضا من

____________

(١) الأغاني ج ١١ ص ٧٤، ومقاتل الطالبيين ص ١٦٧، والوزراء والكتاب ص ٩٨.

(٢) راجع أنساب الأشراف ص ٦٣، والأغاني ج ١١ ص ٧٤، ومقاتل الطالبيين ص ١٦٧، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٥، ٢٦، و ص ٣، وعمدة الطالب، وزاد في تاريخ الجنس العربي: المدائن، ونيسابور.

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري ص ٦٣، وعمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب طبع بمبئي ص ٢٢، والوزراء والكتاب ص ٩٨ و ٩٩، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، وفيه: أن سليمان بن حبيب بن المهلب أخذه، فحبسه، وأراد قتله، فسلم المنصور منه بعد أن أشرف على القتل.. وليراجع الجهشياري أيضاً.

٢١

آل محمد المنطبق ـ بالطبع ـ على العلويين أكثر من غيرهم على الإطلاق.

وإلا فلو كان لمحمد بن علي دعوة واضحة، ومشهورة، ومتميزة، وكان المنصور يعلم بها لكان توليه لايذج من قبل عبد الله بن معاوية مضراً جداً في دعوة أبيه، وضربة قاضية لها..

اللهم إلا أن يكون ثمة غرض آخر أهم، فيكون ذلك منهم حنكة ودهاء ـ كأن يكون نظرهم إلى أنه: لو نجحت دعوتهم، فبها. وإلا.. فلو نجحت دعوة عبد الله بن معاوية، فباستطاعتهم أن يحتفظوا فيها بمراكزهم، ونفوذهم، إذ لهم أن يقولوا: إننا كنا من المعاونين والمساهمين في هذه الدعوة.. كما أن بذلك تنصرف أنظار الحكام عنهم، ويأمن العلويون جانبهم، فلا يناهضون دعوتهم ولا يقفون في وجهها. وبهذه الأسباب نستطيع أن نفسر بيعة العباسيين جميعاً، أكثر من مرة لمحمد بن عبد الله العلوي، وبه أيضاً نفسر جواب المنصور لسائله عن محمد بن عبد الله هذا، حيث قال: (هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن، مهدينا أهل البيت) ويأخذ بركابه. ويسوي عليه ثيابه(١) . وأيضاً قوله في مجلس البيعة لمحمد هذا: (ما الناس أصور أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم لهذا الفتى) كما سيأتي.

ومما يوضح أيضاً مدى تكتم العباسيين بأمر دعوتهم، أن: إبراهيم الإمام قد بشر بأنه قد أخذت له البيعة بخراسان ـ وهو في نفس الاجتماع الذي كان قد عقد ليجددوا فيه البيعة لمحمد بن عبد الله بن الحسن. وسيأتي المزيد من الشواهد لهذا أيضاً إن شاء الله تعالى. وهكذا. فإن النتيجة تكون هي: أن العباسيين ظلوا يتسترون بالعلويين، ويخدعونهم، على اعتبار أنهم لو نجحوا في دعوتهم السرية، فإن بيعتهم للعلويين، ودعوتهم، لهم لا تضرهم، وإذ ما فشلوا فإنهم سوف يحتفظون بنفوذهم ومراكزهم في دولة أبناء عمهم. هذا مجمل الكلام بالنسبة للدعوة العباسية، ولكن طبيعة البحث تفرض علينا التوسع في بيان المراحل التي مرت بها هذه الدعوة، ولاسيما فيما يتعلق بربطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، والعلويين، ومدى اعتمادهم على هذا الربط. فنقول:

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٢٣٩، ٢٤٠.

٢٢

لا بد من ربط الثورة بأهل البيت..

إن كان لا بد للعباسيين من ربط الثورة والدعوة بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث إنهم كانوا بحاجة إلى:

أولاً: صرف أنظار الحكام عنهم.

ثانياً: كسب ثقة الناس بهم، والحصول على تأييدهم لهم.

ثالثاً: أن لا تقابل دعوتهم بالاستغراب، والإستهجان، حيث إنهم لم يكونوا معروفين في أقطار، وأنحاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، ولا كان يعرف أحد لهم حقاً في الدعوة لأنفسهم، كما هو الحال بالنسبة إلى العلويين، مما يجعل الدعوة لهم مع وجود العلويين مستغربة ومستهجنة إلى حد ما.

رابعاً: ـ وهو أهم ما في الأمر ـ أن يطمئن إليهم العلويون، ويثقوا بهم. حتى لا تكون لهم دعوة في مقابل دعوتهم، لأن ذلك بلا شك سوف يضعفهم، ويوهن قوتهم، لما يتمتع به العلويون من نفوذ ومكانة في نفوس الناس بشكل عام.

ولهذا نرى أبا سلمة الخلال، يعتذر لأبي العباس السفاح، عن كتابته

للإمام الصادقعليه‌السلام ، بأن يجعل الدعوة باسمه، ويبايعه ـ يعتذر ـ بأنه: (كان يدبر استقامة الأمر(١) ).

نعم.. لقد كان لربطهم الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام أثر كبير في نجاح ثورتهم، وظهور دعوتهم. وقد أكسبها ذلك قوة ومنعة، وجعلها في منأى ومأمن من طمع الطامعين، وتطلع المتطلعين، الذين كانوا يرجون لأنفسهم حظا من الحياة الدنيا، وما أكثرهم. كما وأن ذلك قد أثر أثراً بالغاً في اكتسابهم عطف الأمة، وتأييدها، وخصوصاً الخراسانيين، الذين كانوا لا يزالون يعيشون الإسلام بعيداً عن أهواء المبتدعين، وتلاعب المتلاعبين، والذين: (وإن كانوا أقل غلواً -أي من أهل الكوفة- فقد كانوا أكثر حماسة للدعوة لأهل البيت)(٢) ، وذلك لأنهم لم يعاملوا معاملة حسنة في الواقع، ولم يسر فيهم بسيرة محمد والقرآن إلا علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧.

(٢) السيادة العربية، والشيعة، والإسرائيليات ص ١٠٦.

(٣) نفس المصدر ص ٣٩.

٢٣

كما أنهم لم ينسوا بعد ما لاقوه في الدولة الأموية من العسف والتنكيل، ولذا فمن الطبيعي أن نراهم مستعدين لتقبل أية دعوة لأهل البيتعليهم‌السلام ، والتفاعل معها، بل والتفاني في سبيلها. كما أن بلدهم كان بعيداً من مركز الخلافة بالشام ولم يكن فيه فرق وأحزاب متناحرة كالعراق الذي كان فيه شيعة وخوارج ومرجئة وغير ذلك، وكانت وطأة الحكم العباسي على العراق ومراقبتهم لكل حركة فيه أشد منها في خراسان.

وبالفعل لقد شيد الخراسانيون، الذين كانوا يحبون أهل البيتعليهم‌السلام أركان دولة بني العباس، وقامت خلافتهم على أكتافهم، واستقامت لهم الأمور بفضل سواعدهم، وأسيافهم، وسيأتي إن شاء الله المزيد من الكلام عن الإيرانيين، وعن سر تشيعهم، وخاصة الخراسانيين منهم في فصل: ظروف المأمون الخ. وغيره من الفصول..

المراحل التي مرت بها عملية الربط:

ولقد مرت عملية الربط هذه بثلاث مراحل أو أربع، طبقاً للظروف التي كانت قائمة آنذاك. وإن كانت هذه المراحل قد تبدو متداخلة. وغير مميزة في أحيان كثيرة(١) . إلا أن ذلك كان تبعاً للظروف المكانية، والزمانية، والاجتماعية، التي كانت تتفاوت وتختلف باستمرار إلى حد كبير.. وهذه المراحل هي:

الأولى: دعوتهم في بادئ الأمر (للعلويين) الثانية: دعوتهم إلى: (أهل البيت)، و(العترة).

الثالثة: دعوتهم إلى (الرضا من آل محمد).

الرابعة: ادعاؤهم الخلافة بالإرث، مع حرصهم على ربط الثورة بأهل البيت، بدعوى: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين. وليرفعوا عنهم الظلم الذي حاق بهم.

____________

(١) قال في العيون والحدائق ص ١٨٠: (وكان قد انتشر في خراسان دعاة من الشيعة، قد انقسموا قسمين: قسم منهم يدعو إلى آل محمد على الإطلاق، والقسم الثاني يدعو إلى أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وكان المتولي لهذه الدعوة إلى آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن كثير، وكان الدعاة يرجعون في الرأي والفقه إلى أبي سلمة الخ..).

٢٤

المرحلة الأولى:

وإذ قد عرفنا أن الدعوة كانت في بدء أمرها للعلويين، فلا يجب أن نستغرب كثيراً، إذا قيل لنا: إن جلة العباسيين، حتى إبراهيم الإمام، والسفاح، والمنصور كانوا قد بايعوا للعلويين أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، فإن ذلك ما كان إلا ضمن خطة مرسومة، وضعت بعناية فائقة، بعد دراسة معمقة لظروفهم مع العلويين خاصة، ومع الناس بشكل عام..

ويمكن أن نعتبر بيعتهم هذه هي المرحلة الأولى من تلك المراحل المشار إليها آنفاً..

فنراهم عدا تعاونهم الواضح مع عبد الله بن معاوية، قد بايعوا محمد بن عبد الله بن الحسن أكثر من مرة أيضاً، فقد:

(اجتمع آل عباس، وآل عليعليه‌السلام بالأبواء، على طريق مكة، وهناك قال صالح بن علي): إنكم القوم الذين تمتد إليهم أعين الناس، فقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاجتمعوا على بيعة أحدكم، فتفرقوا في الآفاق، فادعوا الله، لعل أن يفتح عليكم، وينصركم ، فقال أبو جعفر، أي المنصور: (لأي شيء تخدعون أنفسكم؟ والله، لقد علمتم: ما الناس أصور- أي أميل - أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى)، يريد محمد بن عبد الله العلوي. قالوا: (قد والله صدقت، إنا لنعلم هذا)، فبايعوا جميعاً محمداً، وبايعه إبراهيم الإمام، والسفاح، والمنصور، وصالح بن علي، وسائر من حضر (طبعاً ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ..).

وخرج دعاة بني هاشم عند مقتل الوليد بن يزيد، فكان أول ما يظهرونه فضل علي بن أبي طالب وولده، وما لحقهم من القتل، والخوف، والتشريد، فإذا استتب لهم الأمر ادعى كل فريق الوصية إلى من يدعو إليه..

ولم يجتمعوا (أي المتبايعون الآنف ذكرهم) إلى أيام مروان بن محمد، ثم اجتمعوا يتشاورون، إذ جاء رجل إلى إبراهيم الإمام، فشاوره بشيء، فقام وتبعه العباسيون، فسأل العلويون عن ذلك، فإذا الرجل قد قال لإبراهيم: (قد أخذت لك البيعة بخراسان، واجتمعت لك الجيوش..).

بل لقد بايع المنصور محمد بن عبد الله العلوي مرتين:

إحداهما: بالأبواء على طريق مكة.

والأخرى: بالمدينة.

٢٥

وبايعه مرة ثالثة أيضاً: في نفس مكة، وفي المسجد الحرام بالذات.

ومن هنا نعرف السبب في حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد ابن عبد الله العلوي، فإن ذلك لم يكن إلا بسبب ما كان له في أعناقهما من البيعة(١) .

____________

(١) قد اقتبسنا هذه النصوص كلها من كثير من المراجع، وخصوصاً: مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني، صاحب الأغاني ص ٢٣٣، ٢٣٤. ٢٥٦، ٢٥٧، ٢٩٥، وغيرها. وعلى كل فإن كون الدعوة العباسية كانت في بدء أمرها باسم العلويين، يبدو مما لا شك فيه، ومما اتفقت عليه كلمات المؤرخين، والنصوص التاريخية، التي سوف نشير إلى شطر منها في هذا الفصل..

ولا بأس أن يراجع بالإضافة إلى مقاتل الطالبيين في الصفحات المشار إليها: النصوص التي وردت في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٠، وتاريخ ابن خلدون ج ٤ ص ٣، و ج ٣، ص ١٨٧، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٦٤، ١٦٥، وتاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٣٩٧، ٣٩٨، والبحار ج ٤٧ ص ١٢٠ و ص ٢٧٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ٨٤، والخرائج والجرائح ص ٢٤٤، وجعفر ابن محمد، لعبد العزيز سيد الأهل ص ١١٥، فما بعدها، وغاية الاختصار ص ٢٢، وإعلام الورى ص ٢٧١، ٢٧٢، وإرشاد المفيد ص ٢٩٤، ٢٩٦، وكشف الغمة ج ٢ ص ٣٨٣، ٣٨٤، وابن أعثم الكوفي في كتابه: الفتوح على ما نقله في طبيعة الدعوة العباسية،. وأشار الطبري إلى ذلك في تاريخه ج ١٠ ص ١٤٣، فقال: قد ذكروا أن محمداً كان يذكر أبا جعفر ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة، حين اضطرب أمر بني مروان.. وأشار إلى ذلك أيضاً ابن الأثير ج ٤ ص ٢٧٠، ويراجع أيضاً شرح ميمية أبي فراس ص ١١٤، و ص ١٠٤. ١٠٥، وغير هؤلاء كثير.

٢٦

وقد ذكر أبو فراس الحمداني هذه البيعة في قصيدته المشهورة، المعروفة بـ (الشافية) فقال:

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن

أبـاهم الـعلم الـهادي وأمـهم

لا بـيعة ردعـتكم عـن دمائهم

ولا يـمين، ولا قـربى، ولا ذمم

وذكر ابن الأثير: أن عثمان بن محمد، بن خالد بن الزبير، هرب بعد مقتل محمد إلى البصرة، فأخذ وأتي به إلى المنصور، فقال له المنصور: يا عثمان، أنت الخارج علي مع محمد؟!. قال له عثمان: بايعته أنا وأنت بمكة، فوفيت ببيعتي، وغدرت ببيعتك. فشتمه المنصور، فأجابه، فأمر به فقتل(١) .

وذكر البيهقي: أنه لما حمل رأس محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور، من مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال لمطير بن عبد الله: (أما تشهد أن محمداً بايعني؟) قال: (أشهد بالله، لقد أخبرتني أن محمداً خير بني هاشم، وأنك بايعت له) قال: يا ابن الزانية الخ: وكانت النتيجة: أن المنصور أمر به، فوتد في عينيه، فما نطق!.(٢) إلى آخر ما هنالك من النصوص الكثيرة، التي يتضح معها بما لا مجال معه للشك: أن الدعوة كانت في بدء أمرها لخصوص العلويين، وباسمهم، ثم استغلت بعد ذلك لمصلحة العباسيين.

المرحلة الثانية:

ثم رأينا بعد ذلك: كيف أن الدعوة العباسية تستبعد العلويين.

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٢.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٤٨٢.

٢٧

وتتحاشى التصريح باسمهم، بطريقة فيها الكثير من الدهاء، والسياسة، حيث اقتصروا في دعوتهم ـ بعد ذلك ـ على أنها لـ‍ (أهل البيت)، و (العترة) وهذه هي المرحلة الثانية من المراحل الأربع التي أشرنا إليها.

وكان الناس لا يفهمون من كلمة:(أهل البيت) إلا العلويين، لانصراف الأذهان إليهم عند إطلاق هذه العبارة، وذلك بسبب الآيات والروايات الكثيرة، التي استخدمت هذا التعبير للدلالة عليهم، دون غيرهم.

فهذا أبو داود يقول للنقباء: (.. أفتظنونه ـ أي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خلفه ـ أي العلم ـ عند غير عترته، وأهل بيته، الأقرب، فالأقرب؟!. إلى أن قال: أفتشكون أنهم معدن العلم، وأصحاب ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!..)(١) .

وهذا أبو مسلم الخراساني القائم بالدولة العباسية، يكتب إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويقول: (إني دعوت الناس إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فيه، فأنا أبايعك؟).

فأجابه الإمامعليه‌السلام :((.. ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني)) ، ثم جاء أبو مسلم، وبايع السفاح، وقلده الخلافة(٢) .

وقال السيد أمير علي بعد أن ذكر ادعاء العباسيين للوصاية من أبي هاشم: (.. وقد لاقت هذه القصة بعض القبول في بعض المناطق الإسلامية. أما عند عامة المسلمين، الذين كانوا يتعلقون بأحفاد محمد،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ٩ ص ١٩٦١.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني، طبع مؤسسة الحلبي في القاهرة ج ١ ص ١٥٤، وطبع العنانية ص ٨٧، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨١، نقلاً عن: فصل الخطاب، لمحمد بارسا البخاري.

٢٨

فقد ظل دعاة العباسيين يؤكدون لهم أنهم يعملون لحساب: أهل البيت، وحتى ذلك الوقت كان العباسيون يظهرون الولاء التام لبني فاطمة، ويخلعون على حركتهم، وعلى سياساتهم مظهر الوصول إلى هدف ضمان العدالة، والحق لأحفاد محمد. وكان ممثلوا أهل البيت، ومحبوهم، ولا يخامرهم الشك في الغدر، الذي تبطنه هذه الاعترافات من العباسيين، فشملوا محمد بن علي، وجماعته بعطفهم وحمايتهم، الذين كانوا في حاجة إليهما)(١) .

ويقول: (.. وكانت كلمة: (أهل البيت) هي السحر الذي يؤلف بين قلوب مختلف طبقات الشعب، ويجمعهم حول الراية السوداء)(٢) .

المرحلة الثالثة:

ثم تأتي المرحلة الثالثة، ويتقلص ظل العلويين، وأهل البيت عن هذه الدعوة، أكثر فأكثر، كلما ازدادت قوتها، واتسع نفوذها، حيث رأينا أخيراً إنها اتسعت بحيث تستطيع أن تشمل العباسيين أيضاً مع العلويين. حيث أصبحت إلى: (الرضا من آل محمد)، وإن كانوا لا يزالون يذكرون فضل علي، وما لحق ولده من القتل والتشريد، كما يتضح بأدنى مراجعة لكتب التاريخ.

وهذه العبارة، وإن كانت لا تختلف كثيراً عن عبارة: (العترة، وأهل البيت)، ونحوها. (إلا أنها كانت في أذهان العامة أبعد من أن يراد بها العلويون على الخصوص. ولكن مع ذلك بقيت الجماهير

____________

(١) و(٢) روح الإسلام ص ٣٠٦ و ٣٠٨. ولا بأس بمراجعة ما ورد في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ جزء ٢ ص ٥٣٢. والسيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٩٤. وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وطبيعة الدعوة العباسية، وغير ذلك.

٢٩

تعتقد أن الخليفة سيكون علوياً، كما كان العلويون يعتقدون ذلك..)(١) على حد تعبير أحمد شلبي. وإذا صح هذا، وفرض ـ ولو بعيداً ـ أن شعار: الرضا من آل محمد لا يختلف عن شعار: العترة، وأهل البيت في أذهان عامة الناس، فلسنا نصر على جعل هذا مرحلة مستقلة، بل يكون داخلاً فيما سبقه، وتكون المراحل حينئذٍ ثلاثة، لا أربعة..

ملاحظات لا بد منها في المرحلة الثالثة:

وقبل الانتقال إلى الكلام على المرحلة الرابعة، والأخيرة، لا بد من ملاحظة أمور:

أ: إنهم في نفس الوقت الذي نراهم فيه يبعدون الدعوة عن أهل البيت، كما يدلنا عليه قول محمد بن علي العباسي لبكير بن ماهان: (وحذر شيعتنا التحرك في شيء مما تتحرك فيه بنو عمنا آل أبي طالب، فإن خارجهم مقتول، وقايمهم مخذول، وليس لهم من الأمر نصيب (وسنأخذ بثأرهم..)(٢) .

وكما يدلنا عليه ما رواه الطبري من أن محمد بن علي نهى دعاته عن رجل اسمه: غالب، لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة(٣) .

نراهم من جهة ثانية: وحتى لا يصطدموا بالعلويين وجهاً لوجه. كانوا في جميع مراحل دعوتهم يتكتمون جداً باسم الخليفة، الذي يدعون الناس إليه، وإلى بيعته، بل إن الشخص الذي كانوا يدعون

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية لأحمد شلبي ج ٣ ص ٢٠.

(٢) طبيعة الدعوة العباسية ١٥٢، نقلاً عن: مخطوطة العباسي ص ٩٣ أ، ٩٣ ب.

(٣) راجع: تاريخ الجنس العربي ج ٨ ص ٤١١.

٣٠

الناس إليه، وإلى بيعته.. بل وكان الناس يبايعونه ما كانوا يعرفونه، بل يعرفه الدعاة فقط، وعلى الناس أن يبايعوا إلى (الرضا من آل محمد) ولا بأس بمراجعة نص البيعة في تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، الجزء الأول ص ١٢٥.

ولعل هدفهم من ذلك كان أيضاً: هو أن لا يربطوا الدعوة بفرد معين، حتى لا تضعف إذا ما مات، أو اغتيل..

وعلى كل فقد نص ابن الأثير في الكامل ج ٤ ص ٣١٠، حوادث سنة ١٣٠ على أن أبا مسلم كان يأخذ البيعة إلى (الرضا من آل محمد). ومثل ذلك كثير في كلمات المؤرخين، وإليك بعض النصوص التاريخية، التي تدل على ذلك:

ففي الكامل، ج ٤ ص ٣٢٣ نص على أن محمد بن علي بعث داعياً إلى خراسان يدعو إلى (الرضا من آل محمد) ولا يسمي أحداً، ولعل الذي أرسله هو أبو عكرمة الآتي ذكره.

وقد قال محمد بن علي العباسي لأبي عكرمة: فلتكن دعوتك إلى: (الرضا من آل محمد)، فإذا وثقت بالرجل، في عقله، وبصيرته، فاشرح له أمركم.

وليكن اسمي مستوراً من كل أحد، إلا عن رجل عدلك في نفسك، وتوثقت منه، وأخذت بيعته.

ثم أمره بالتحاشي عن الفاطميين(١) .

ويقول أحمد شلبي: (.. كانوا - أي العباسيون - يوهمون العلويين بأنهم يعملون لهم. ولكنهم في الواقع كانوا يعملون لأنفسهم)(٢) .

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ١٥٥، نقلاً عن: CID. OP ص ٩٥ أ / ٩٥ ب.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٠.

٣١

ويقول أحمد أمين: (.. ومع هذا فكان من إحكام أمرهم أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الإمام، ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض)(١) .

ولو كان الخليفة معينا ومعروفاً عند الناس، لما استطاع أبو مسلم، وأبو سلمة، وسليمان الخزاعي، أن يكاتبوا الإمام الصادقعليه‌السلام ، وغيره من العلويين، أنهم يبايعونهم، ويجعلون الدعوة لهم. وباسمهم.

وقد تقدمت رسالة أبي مسلم للإمام الصادقعليه‌السلام ، التي يصرح فيها بأنه، إنما دعا الناس إلى موالاة أهل البيت فقط، أي من دون تصريح باسم أحد.

وقد قال أحدهم: كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ( ليس لكتابك جواب. أخرج عنا)(٢) .

وقال السيد أمير علي عن أبي مسلم: (وقد ظل إلى هذا الوقت موالياً، بل مخلصاً، بل متحمسا لأبناء علي)(٣) .

وقال صاحب قاموس الأعلام: (وعرض أبو مسلم الخراساني الخلافة ابتداءاً على الإمام الصادق، فلم يقبلها)(٤) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٣٨٠، ٣٨١.

(٢) روضة الكافي ص ٢٧٤، والبحار ج ٤٧ ص ٢٩٧.

(٣) روح الإسلام ص ٣٠٦.

(٤) راجع المجلد الأول، الجزء الأول من كتاب: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ص ٥٧، نقلاً عن: قاموس الأعلام ج ٣ ص ١٨٢١ طبع استانبول تأليف: ش. سامي.

ورغم أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات قامت باسم العلويين، على ما في كتاب: طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٥١، ٢٥٣، فإننا نعتقد أن رسائله هذه، ورسائله التي أرسلها إلى المنصور يظهر فيها الندم على أنه زوى الأمر عن أهله، ووضعه في غير محله. هي السر، والسبب الحقيقي الكامن وراء قتله، مع أنه مؤسس الدولة العباسية (ومن سل سيف البغي قتل به)، ومشيد أركانها. وقد استظهر ذلك أيضاً المستشرق العلامة (بلوشيه) على ما في كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٥١، وأشار إليه أيضاً السيد أمير علي في كتابه: روح الإسلام ص ٣١١.

٣٢

وأما أبو سلمة: فإنه عندما خاف من انتقاض الأمر عليه، بسبب موت إبراهيم الإمام، أرسل ـ والسفاح في بيته ـ إلى الإمام الصادقعليه‌السلام يطلب منه القدوم عليه ليبايعه، وتكون الدعوة باسمه، كما أنه كتب بمثل ذلك إلى عبد الله بن الحسن. لكن الإمامعليه‌السلام ، الذي كان في منتهى اليقظة والحزم. رفض الطلب، وأحرق الكتاب، وطرد الرسول(١) .

وقد نظم أبو هريرة الآبار، صاحب الإمام الصادقعليه‌السلام هذه الحادثة شعراً، فقال:

ولما دعا الداعون مولاي لم يكن

لـيثني إلـيه عـزمه بصواب

ولـما دعـوه بـالكتاب أجابهم

بـحرق الكتاب دون رد جواب

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٣، ٢٥٤، وينابيع المودة ص ٣٨١، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٦، والوزراء والكتاب ص ٨٦، وهامش ص ٤٢١ من إمبراطورية العرب، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٤، ١٥٥ وروح الإسلام ص ٣٠٨، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ٨٢، ٨٣، والكامل لابن الأثير.

ونقله في المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٢٢٩، والبحار ج ٤٧، ص ١٣٢ عن ابن كادش العكبري في: مقاتل العصابة. لكنهما (أعني المناقب والبحار) ذكرا أن الذي كتب للإمام هو أبو مسلم.. وفي المناقب ج ٤ آخر ص ٢٢٩، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣ نقلاً عن رامش الأفزاري أن الذي كتب إلى الإمام هو أبو مسلم الخلال!!.

وواضح أن هذا هو السبب الحقيقي لقتل أبي سلمة، وقد صرح بذلك جمع من المؤرخين والباحثين.

٣٣

وما كان مولاي كمشري ضلالة

ولا مـلبساً منها الردى بثواب

ولـكنه لـله في الأرض حجة

دليل إلى خير، وحسن مآب(١)

وكتب إليه أبو سلمة أيضاً مرة ثانية، عندما أقبلت الرايات: (إن سبعين ألف مقاتل وصل إلينا، فانظر أمرك). فأجابه الإمام بالرفض أيضاً(٢) .

وأما سليمان الخزاعي: المدبر الحقيقي للثورة في خراسان، فإنه اتصل بعبد الله بن الحسين الأعرج، وهما يسايران أبا جعفر المنصور في خراسان، عندما أرسله السفاح إليها، قال سليمان لعبد الله: (إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون!!)، فعلم أبو مسلم بالأمر، فقتل سليمان هذا(٣) .

بل إن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن كثيراً من الدعاة ما كانوا يعرفون: أن الخليفة سيكون عباسياً، فضلاً عن أن يكونوا يعرفونه باسمه الصريح.

قال الدكتور فاروق عمر: (على أننا نستطيع القول: إن اسم الإمام كان معروفا لدى الحلقات الخاصة من الشيعة الهاشمية، أو العباسية، وأن الكثير من الأنصار، الذين ساندوا الثورة، ومنهم ابن الكرماني نفسه، لم يكن يعرف أن (الرضا من آل البيت) سيكون عباسياً، مع أن ابن الكرماني كان قائداً كبيراً، وكان يطمع إلى الاستيلاء على

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٢٣٠، والبحار ج ٤٧، ص ١٣٣.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٢٢٩، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ ص ٤٧.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ١٣٢، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٢٥.

٣٤

خراسان..)(١) .

ب: يلاحظ أن العباسيين قد موهوا على الناس، واستطاعوا أن يخدعوهم. حيث خيلوا لهم في بادئ الأمر أن الثورة كانت للعلويين. ثم بدءوا يعدون العدة لما سوف يقولون للناس عند اكتشافهم لحقيقة الأمر، فصنعوا سلسلة الوصاية المعروفة عنهم من علي بن أبي طالب، إلى محمد ابن الحنفية، وإلى أبي هاشم، فإلى علي بن عبد الله بن العباس.

وهكذا.. وهي في الحقيقة نفس عقيدة الكيسانية، كما سنشير إليها في بعض الهوامش الآتية. وقد جازت حيلتهم هذه على الناس، الذين كانوا يظنون أنهم يعملون للعلويين(٢) ، حتى لقد خفي أمرهم عن عبد الله بن معاوية حسبما قدمنا، بل لقد كان من جملة المخدوعين، الذين اكتشفوا الحقيقة بعد فوات الأوان، سليمان الخزاعي، الذي تقدم أنه ـ باعترافه ـ كان يرجو هذا الأمر للعلويين، وأبو مسلم الخراساني الذي صارح المنصور بأن السفاح كان قد خدعه. وأنه خدع أيضاً من قبل إبراهيم الإمام، حيث ادعيا الوصاية والإمامة، وحرفا الآيات الواردة في أهل البيت لتنطبق عليهم، مما كان من نتيجته أن زوى الأمر عن أهله، ووضعه

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٠٩. ولقد اشتبه الأمر على الدكتور فاروق عمر، فإن ابن الكرماني كان من عمال الأمويين، ولم يكن من الشيعة في أي وقت من الأوقات، وإنما استماله أبو مسلم توطئة للغدر به.. ولم يكن أبو مسلم ولا غيره من الدعاة والنقباء ليصرحوا لعدوهم بمثل هذا الأمر الذي يخفونه عن أخص الناس بهم، بل حتى عمن هم مثل المنصور.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٢٠٦، وغير ذلك كثير.

٣٥

في غير محله(١) .

أما انخداع ابن الكرماني فهو من الأمور الواضحة والمعروفة. بل لقد رأينا البعض يذكر أن أبا سلمة الخلال كان أيضاً من جملة المخدوعين، حيث كان يتوهم: أن الخليفة سيكون علوياً لا عباسياً(٢) .

ج: ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو ما تقدم: من رفض الإمام القاطع لعرض كل من أبي سلمة، وأبي مسلم في جعل الدعوة له، وباسمه.

وما ذلك إلا لعلمهعليه‌السلام : بأن هؤلاء ليس لهم من هدف، إلا الوصول إلى مآربهم من الحكم والسلطان، ثم يتخلصون من كل من لا يعودون بحاجة إليه، إذا اعتبروه عقبة في طريقهم. كما كان الحال في قتلهم أبا مسلم، وسليمان بن كثير، وأبا سلمة. وغيرهم. شاهدنا على ذلك جواب الإمامعليه‌السلام لأبي مسلم:((ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني)) . وكذلك المحاورة التي جرت بينه عليه‌السلام ، وبين عبد الله بن الحسن، عندما جاءه كتاب من أبي سلمة مثل كتابه.

وأيضاً قولهعليه‌السلام : ما لي ولأبي سلمة، وهو شيعة لغيري. بل ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة. ما قدمناه من اعتذار أبي سلمة للسفاح، عن مراسلته للصادق، وغيره من العلويين، بأنه: (كان يدبر استقامة الأمر) بل يذكر الطبري ج ٦ ص ١٠٢ وابن الأثير ج ٥

____________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الأول، جزء ٢ ص ٥٣٣، وسنشير إلى مصادر أخرى لذلك فيما يأتي إن شاء الله.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٥٤، وفي كتاب: السيادة العربية لفان فلوتن ص ٩٧: أن النقباء أمروا بعض الدعاة بستر اسم المدعو له، وأخفوا اسم المدعو له عن البعض الآخر..

٣٦

ص ٤٣٧: أنه عندما جمع السفاح خاصته ليستشيرهم بقتل أبي سلمة وأخبرهم بمكاتبته للعلويين. نجد أن بعض خاصته انبرى ليقول: ما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان من رأي أبي مسلم(١) . وعليه فلا يصح قول صاحب العيون والحدائق ص ١٨١: (ولم يكن هوى أبي سلمة معهم، وإنما كان هواه مع الصادق جعفر الخ) فإن لجوءه إلى الصادق إنما كان لأجل استقامة الأمر. بل إن بعض المحققين لا يستبعد أن يكون من جملة أهدافهم من رسائلهم تلك، إلى الصادق، و عبد الله ابن الحسن، وغيرهما من العلويين. هو معرفة إن كان هؤلاء يطمحون إلى الحكم، ويرغبون فيه أولاً. وذلك ليستعد العباسيون ـ من ثم ـ لمواجهة دعوتهم، ورصد كل حركاتهم، وسكناتهم، ومن ثم شل حركتهم، والقضاء عليهم. وهذا أسلوب استعمله المنصور من بعد، لكن الإمام الصادقعليه‌السلام تنبه للمكيدة، وعمل على إحباطها..

د: وتصريح أبي سلمة هذا وموقف الإمام منه، وقوله: إنه شيعة لغيره يلقي لنا ضوءاً على الروايات التي تتهمه، وتتهم أبا مسلم بميول علوية. وأن أبا مسلم أراد أن يعلن خلافة علوية، بمجرد وصوله إلى خراسان، كما عن الذهبي، وشارح شافية أبي فراس، وتاريخ الخميس. فإن ذلك لا شاهد له إلا رسائلهما التي أشرنا إليها. مع أنها لم يكن الهدف منها إلا استقامة الأمر للعباسيين. خصوصاً إذا لاحظنا أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات للعلويين، وباسمهم ـ كما أشرنا إليه ـ

____________

(١) وأما كتابه للصادق فهو لا يدل على إخلاصه له، بل هو فقط ـ كان يدبر استقامة الأمر، وقتله من قبل العباسيين بهذا الجرم ليس إلا تغاضيا عن حقيقة الأمر بهدف الوصول إلى أهدافهم في التخلص بطريقة مشروعة.

٣٧

وأنه كان يلاحقهم تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، على حد تعبير الخوارزمي(١) .

المرحلة الرابعة:

ثم تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي: ادعاؤهم الخلافة بالإرث، كما أشرنا إليه. ولكنهم استمروا يربطون الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام من ناحيتين:

الأولى: ادعاؤهم الخلافة بالإرث عن طريق علي بن أبي طالب، ومحمد بن الحنفية، كما سيأتي بيانه.

الثانية: ادعاؤهم أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين. فأما ادعاؤهم استحقاقهم الخلافة بالإرث، عن طريق علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، واحتجاجهم بقرباهم النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإننا نلمحها في كثير من مواقفهم، حيث كانوا يستطيلون على الناس بهذه القربى، ويحتجون بها في مختلف المناسبات(٢) .

____________

(١) ولكننا لا نجد فيما بأيدينا من الشواهد التاريخية، ما يؤيد دعوى الخوارزمي هذه عدا ما ذكروه من أنه: قتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين.

(٢) حيث قد ظلوا بحاجة لأن يصلوا حقهم الذي كانوا يدعونه. بحق علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ووصايتهم بالوصاية التي له، والتي لا يجهلها أحد، وليصححوا بهذه الوسيلة خلافتهم، ويتقبلها الناس. فكانت السلسلة التي سيأتي بيانها هي معتمدهم، مضيفين إليها تبرأهم من أبي بكر وعمر وعثمان.

وفي الحقيقة أن تلك هي عقيدة الكيسانية انتحلوها لأنفسهم بوحي من مصالحهم الخاصة. حتى إذا ما وصلوا إلى الحكم نراهم قد قطعوا حبل صلتهم بعلي، وولده، وجعلوا الخلافة حقاً للعباس وولده.. ثم تخلوا عن ذلك كله فيما بعد، ورجعوا إلى العقيدة التي أسسها معاوية، ولكنهم اختلفوا عنه بأنهم أدخلوا علياً، وجعلوه في المرتبة الرابعة، وكان ذلك بداية وجود أهل السنة بخصائصهم، ومميزاتهم المذهبية، ولهذا البحث مجال آخر، والله هو الموفق والمستعان.

٣٨

فقد قال داوود بن علي، أول خطيب لهم على منبر الكوفة، في أول كلام له أمام السفاح: (.. وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)(١) .

ونرى السفاح في خطبته الأولى أيضاً في مسجد الكوفة، بعد أن ذكر عظمة الرب تبارك وتعالى، وفضل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قد قاد الولاية والوراثة، حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيراً..)(٢) .

ويقال: إن من جملة ما قاله السفاح في خطبته الأولى: (.. فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء، والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلاً علينا.

وزعمت السبائية الضلال: أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة. إلى أن قال: ورد علينا حقنا..)(٣) .

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٣١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤١، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٤، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٧، طبع ليدن.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٩، ٤٠، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٧، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤١، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٤، ٣٢٥.

لكن الظاهر أن لعن السبائية (وهم الشيعة الإمامية حسب مصطلحهم) مفتعل على لسان السفاح. لأن كلمة داوود بن علي المتقدمة تدل على إنكار العباسيين ـ في بدء أمرهم ـ خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وتمسكهم بخلافة عليعليه‌السلام ، حيث يصلون حبل وصايتهم بها.. وإن كانوا قد رجعوا عن هذه العقيدة بعد ذلك حسبما أشرنا إليه إلى العقيدة التي كان قد روجها معاوية.. ولكن من المؤكد أنهم استمروا على عقيدتهم تلك، أعني إنكار خلافة الثلاثة، ووصلهم حبل وصايتهم بعليعليه‌السلام ، إلى زمن المنصور، الذي كان أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين كما سيأتي..

٣٩

ويقول داوود بن علي في خطبته الأولى في مسجد الكوفة أيضاً: (.. وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا)(١) .

____________

(١) الطبري ج ١٠ ص ٣٢، طبع ليدن، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٥.

أمر هام لا بد من التنبيه عليه إننا إذا تتبعنا الأحداث التاريخية، نجد: أن كل مطالب بالخلافة كان يدعي أول ما يدعي الرحمية والقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وأول من بدأ ذلك أبو بكر في يوم السقيفة، وتبعه على ذلك عمر، حيث قررا أن ليس لأحد الحق في أن ينازعهم سلطان محمد، إذ أنهم أمس برسول الله رحماً (على ما في نهاية الإرب ج ٨ ص ١٦٨، وعيون أخبار ابن قتيبة ج ٢ ص ٢٣٣، والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٥٨، طبع دار الكتاب العربي، والأدب في ظل التشيع ص ٢٤، نقلاً عن البيان والتبيين للجاحظ)، ولأنهم هم أولياؤه وعشيرته، على ما ذكره الطبري ج ٣ ص ٢٢٠، طبع دار المعارف بمصر، والإمامة والسياسة ص ١٤، ١٥ طبع الحلبي بمصر، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٧، ٨، ٩، ١١، والإمام الحسين للعلا يلي ص ١٨٦، و ص ١٩٠، وغيرهم. أو لأنهم عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصله والبيضة التي تفقأت عنه كما في العثمانية للجاحظ ص ٢٠٠. فأسقطا بذلك دعوى الأنصار عن الاعتبار.

كما أن أبا بكر قد استدل على الأنصار بالحديث الذي صرح باستفاضته جهابذة أهل السنة (على ما في ينابيع المودة للحنفي)، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيراً إلى خلفائه الاثني عشر: (يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، كلهم من قريش). ـ استدل به ـ بعد أن تصرف فيه، بأن حذف صدره، واكتفى بذكر: أن الأئمة من قريش على ما في صواعق ابن حجر ص ٦، وغيره..

وأصبح كون الأئمة من قريش تقليداً متبعاً، بل ومن عقائد أهل السنة المعترف بها، وقد استدل ابن خلدون على ذلك بالإجماع.

ولكن قول عمر: لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته، قد أوقع ابن خلدون. كما أوقع غيره من جهابذة أهل السنة في حيص بيص، لعدم كون سالم قرشيا، فضلاً عن أن يكون أمس رحما برسول الله من غيره، فراجع مقدمة ابن خلدون ص ١٩٤، وغيره من كتبهم.

أما ابن كثير فإنه قد استشكل بالأمر من ناحية أخرى، حيث قال ـ وهو يتحدث عن فتنة محمد بن الأشعث الكندي ـ: (.. والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة، وليس هو من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى أن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين، فأبى الصديق عليهم ذلك.. ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة، الذي دعا إلى ذلك أولاً، ثم رجع عنه).. انتهى. راجع البداية والنهاية ج ٩ ص ٥٤.=

٤٠