الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201453 / تحميل: 8423
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الدرس الثلاثون

في حسن الخلق

الخلق بالضم وبضمتين : الطبع والسجية ، وهو صورة نفس الإنسان وباطنه في مقابل الخلق بالفتح الذي هو صورة جسمه وظاهره ، وهي تتصف بالحسن والقبح كاتصاف الجسم بهما ، إلا أن ذاك الاتصاف يكون تحت اختيار الإنسان وإرادته ، لجل اختيارية اسبابها بخلاف صورته الجسمية الظاهرية ، وذلك لأن صورة النفس والروح البرزخية سواء قلنا بكون الروح في ذلك العالم موجوداً مستقلاً قائماً بنفسه ، أو حالاً في القالب المثالي تتبع صفاته النفسية الدنيوية وتتشكل على وفق تلك الحالات والملكات ، بل وكذا الجسم الدنيوي للمؤمن المنشور من الأرض والمبعوث عنها بعد القيامة ، فهو وإن كان على صورته الدنيوية عند البعث والحشر إلا أنه يتشكل عند اقتراب الوفود على الله والورود في الجنة على طبق الصفات والسجايا التي اكتسبها وحصّلها ورباها وحسّنها ، ففي النشأتين بعد الموت ، أعني : البرزخ والقيامة تبلى السرائر الخلقية ، وتتجلى السجايا الروحية

١٦١

بالصورة البرزخية والأخروية ، حيث أن إصلاح صورة النفس في الدنيا وتحصيل الفضائل لها وإزالة الرذائل عنها بيد الإنسان ، وللعقائد الباطنة من الكفر والإيمان وللأعمال الظاهرة من الطاعة والعصيان دخلاً وافراً في تلك الصفات والملكات فلا جرم تكون الصور البرزخية والأخروية في تشكل هيئتها وحسن منظرها وبياضها وقبح مظهرها وسوادها بيد الإنسان ، فله أن يشكلها بأي شكل أراد ويصورها بأية صورة شاء ، غير أنه يبقى في الشخص شيء من وصفه الكمي أو الكيفي السابق ، ليتعارف به في تلك النشأة في أبناء نوعه كما في « الكاريكاتور » ، قال تعالى :( يتعارفون بينهم ) (١) .

ثم إنه قد يطلق حسن الخلق ويراد به حسن العشرة مع الناس من الأقارب والأباعد بطلاقة الوجه وحسن اللقاء وطيب الكلام ، وجميل المخالطة والمصاحبة ورعاية الحقوق وإعمال الرأفة والإشفاق ونحو ذلك.

وقد يطلق ويراد به : حسن جميع الأوصاف النفسية الدخيلة في حسن الهيئة البرزخية أو الأخروية ، وهو الذي يصعب تحصيله ، ولا يتحقق إلا لأولياء الله تعالى والأوحدي من الناس ، ولذا قيل في تعريف هذه الصفة بأنها : حالة نفسانية يتوقف حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانية بعضها ببعض ، فهي حسن الصورة الباطنة التي هي صورة الناطقة ، كما أن حسن الخلق هو الصورة الظاهرة وتناسب الأجزاء ، إلا أن حسن الصورة الباطنة قد يكون مكتسباً ، ولذا تكررت الأحاديث في الحث به وبتحصيله(٢) .

هذا ، وأدلّة الباب وأخبارها توضح المراد من حسن الخلق بالتأمل فيها.

فقد ورد في الكتاب الكريم خطاباً للنبي الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله :( إنك لعلى خلق

__________________

١ ـ يونس : ٤٥.

٢ ـ راجع البحار : ج٧١ ، ص٣٧٢.

١٦٢

عظيم ) .(١) وقال تعالى :( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك ) (٢) .

وورد في النصوص : أن حدّ حسن الخلق أن تلين جانبك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن(٣) .

وأن المؤمن هين لين سمح ، له خلق حسن(٤) .

وأن خيار المؤمنين أحاسنهم أخلاقاً ، الموطّئون أكنافاً ، الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم.(٥) ( رجل موطئ الأكناف أي : سهل الأخلاق كريم مضياف )

وأن من لم يكن له خلق يداري به الناس ، لم يقم له عمل(٦) .

وأن اكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً(٧) .

وأنه : ما يوضع في ميزان امرئ مؤمن يوم القيامة أفضل من حسن الخلق(٨) .

وأنه : أول ما يوضع في ميزانه(٩) .

__________________

١ ـ القلم : ٤.

٢ ـ آل عمران : ١٥٩.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٩.

٤ ـ الأمالي : ج١ ، ص٣٧٦ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩١.

٥ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٠.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٢.

٧ ـ الكافي : ج٢ ، ص٩٩ ـ الأمالي : ج١ ، ص١٣٩ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥٠٣ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٣ وج٧٧ ، ص١٥١.

٨ ـ الكافي : ج٢ ، ص٩٩ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥٠٥ ـ بحار الأنوار : ج٧ ، ص٢٤٩ وج٧١ ص٣٧٤.

٩ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص ٣٨٥.

١٦٣

وأنه : أفضل ما أعطي المرء المسلم(١) .

وأن حسن الخلق من الخصال التي تكمل بها الإيمان(٢) .

وأنه : ما يقدم المؤمن على الله بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله من أن يسع الناس بخلقه(٣) .

وأن صاحب الخلق الحسن يعطيه الله من الثواب كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدوا عليه ويروح(٤) .

وأن العبد يكون له بعض التقصير من العبادة ويكون له حسن خلق فيبلغه الله به درجة الصائم القائم(٥) ( والثواب إما لنفس الصفة الباطنة تفضلاً ، أو لما يظهر من صاحبها من العشرة المندوبة فيترتب عليها ثواب الواجبات ).

وأن من أكثر ما تلج به الأمة الجنة ، حسن الخلق(٦) .

وأن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد ،(٧) ( الميث : الاذابة والجليد : الماء الجامد ).

وأن ما في الكفار من حسن الخلق أعاره الله إياهم ليعيش أولياؤه معهم في دولاتهم(٨) .

وأن المؤمن مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف(٩) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٧.

٣ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٥.

٤ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٧.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٥.

٦ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٥.

٧ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٥ ـ روضة المتقين : ج١٢ ، ص١١٠.

٨ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٨.

٩ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٢ ـ شرح أصول الكافي : ص٨٢ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥١٠ ـ بحار

١٦٤

وأن أحسن الحسن الخلق الحسن(١) .

وأن قوله تعالى :( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) (٢) منها حسن الخلق(٣) .

وأنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم باخلاقكم ،(٤) أي : بطلاقه الوجه وحسن اللقاء.

وأنه حسن خلقك يخفف الله حسابك(٥) .

وأن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة(٦) .

وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق أسيراً من بين الأسراء وأعلنه أن الله أخبر بحسن خلقه ، فأسلم الأسير لذلك(٧) .

وأنه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً(٨) .

وأن الخلق الحسن نصف الدين(٩) ( ولعل نصفه الآخر التقوى الذي هو حسن المعاملة مع الله ، وقد ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أكثر ما تلج به أمتي الجنة ، تقوى الله وحسن الخلق )(١٠) .

__________________

الأنوار : ج٧١ ، ص١٧.

١ ـ الخصال : ص٢٩ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥٠٧ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٦.

٢ ـ البقرة : ٢٠١.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٣.

٤ ـ الأمالي : ج١ ، ص٢٠ ـ من لا يحضره الفقيه : ج٤ ، ص٣٩٤ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥١٣ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٣ وج٧٧ ، ص١٦٦.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٣.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٤.

٧ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٥.

٨ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٣٠١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٥ وج٧٣ ، ص٢٣١.

٩ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٥.

١٠ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٠ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥٠٤ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٧٥.

١٦٥

وأن حسن الخلق في الجنة لا محالة ؛ وسوء الخلق في النار لا محالة(١) .

وأن حسن الخلق خير قرين(٢) .

وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا زعيم ببيت في ربض الجنة وبيت في وسطها وبيت في أعلاها لمن حسن خلقه(٣) .

وأنه : لا حسب كحسن الخلق(٤) .

وأن الكمال هو تقوى الله وحسن الخلق(٥) .

وأنه : أحسنوا صحبة الدين بحسن الخلق(٦) .

وأنه يزين الرجل كما تزين الواسطة القلادة(٧) .

وأن العجب ممن يشتري العبيد بماله كيف لا يشتري الأحرار بحسن خلقه(٨) .

وأنه : جمال في الدنيا ونزهة في الآخرة(٩) .

وأنه شجرة في الجنة وصاحبه متعلق بغصنها(١٠) .

وأنه يعمر الديار ويزيد في الأعمار(١١) .

__________________

١ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥٠٦ وج١١ ، ص٣٢٤ ـ بحار الأنوار : ج١٠ ، ص٣٦٩ وج٧١ ، ص٣٨٣

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٧.

٣ ـ الخصال : ص١٤٤ ـ بحار الأنوار : ج٢ ، ص١٢٨ وج٧١ ، ص٣٨٨ وج٧٢ ، ص٢٦١.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٨٩ ـ مستدرك الوسائل : ج٨ ، ص٤٤٥.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٠.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩١.

٧ ـ نفس المصدر السابق.

٨ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٢.

٩ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٣ ـ مستدرك الوسائل : ج٨ ، ص٤٤٩.

١٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٣.

١١ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٥.

١٦٦

وأنه : يزيد في الرزق(١) .

وأنه : أكرم الحسب(٢) .

وأنه : خير فيق(٣) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٦ وج٧٨ ، ص٢٥٧.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٦.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

١٦٧

١٦٨

الدرس الحادي والثلاثون

في الحلم وكظم الغيظ والعفو والصفح

الحلم : ضبط النفس عن هيجان الغضب ، والكظم : الحبس والسد ، فكظم الغيظ يرادف الحلم ، والعفو : ترك عقوبة الذنب ، والصفح : ترك التثريب واللوم عليه فالمراد من العبائر والعناوين المذكورة : أن يحلم الإنسان عند غضبه للغير ولا يرتب الآثار التي يقتضيها الغضب من العقوبة بالقول أو الفعل ، والممارسة على ذلك والعمل بما يحكم به الشرع والعقل سبب لحصول ملكة في النفس تمنعها من سرعة الانفعال عن الواردات المكروهة ، وجزعها عن الامور الهائلة ، وطيشها في المؤاخذة ، وصدور الحركات غير المنظمة منها ، وإظهار المزية على الغير ، والتهاون في حفظ ما يجب عليه شرعاً وعقلاً. وهذه الملكة عن أفضل الأخلاق وأشرف الملكات ، والحليم هو صاحب هذه الملكة ، وكذا الكاظم.

وقد ورد في الكتاب والسنة في فضل هذه الخليقة وحسنها والحث على تحصيلها وترتيب آثارها عليها بل ، والجري على وفقها ـ وإن لم يكن عن ملكة ـ

١٦٩

آيات كثيرة ونصوص متواترة.

فقد قال تعالى في الكتاب الكريم في وصف المتقين :( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (١) وأمر بذلك في عدة آيات كقوله :( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) (٢) وقوله :( خذ العفو ) (٣) وقوله :( فاصفح الصفح الجميل ) (٤) وقوله :( ادفع بالتي هي أحسن السيّئة ) (٥) وقوله :( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم ) .(٦) ( وما يلقّاها أي : وما يعطي ويبذل هذه السجية ، أي : مقابلة الإسائلة بالاحسان إلا ذو حظ من الإيمان وفضائل الإنسان ) .

وقوله :( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) (٧) و( فمن عفى وأصلح فأجره على الله ) (٨) و( لمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الامور ) (٩) ( فاصفح عنهم وقل سلام ) (١٠) و( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون ايام الله ) (١١) إلى غير ذلك.

وقد ورد في النصوص : أن من خير أخلاق الدنيا والآخرة ومكارمها : أن تعفو عمن ظلمك وتحلم إذا جهل عليك(١٢) .

__________________

١ ـ آل عمران : ١٣٤.

٢ ـ النور : ٢٢.

٣ ـ الاعراف : ١٩٩.

٤ ـ الحجر : ٨٥.

٥ ـ المؤمنون : ٩٦.

٦ ـ فصلت : ٣٤ و ٣٥.

٧ ـ الشورى : ٣٧.

٨ ـ الشورى : ٤٠.

٩ ـ الشورى : ٤٣.

١٠ ـ الزخرف : ٨٩.

١١ ـ الجاثية : ١٤.ذ ١٢ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٧ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٣٩٩ ـ مرآة العقول : ج٩ ، ص٢٨٤.

١٧٠

وأنه إذا جمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد نادى مناد : أين أهل الفضل؟ فيقوم عنق من الناس فيسأل عن فضلهم ، فيقولون : كنا نعفوا عمن ظلمنا ، فيقال : صدقتم ، ادخلوا الجنة.(١) ( والعنق : الجماعة ).

وأن عليكم بالعفو فإنه لا يزيد العبد إلا عزاً ، فتعافوا يعزكم الله(٢) .

وأن الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة(٣) .

وأنه : ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمها عفواً(٤) .

وأنه : إذا نودي يوم القيامة من بطنان العرش : ألا فليقم كل من أجره عليّ ، فلا يقوم إلا من عفى عن أخيه(٥) .

وأن علي بن الحسينعليه‌السلام قال : إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه(٦) .

وأن الله يحب الحييّ الحليم(٧) . وأنه ما أذل بحلم قط(٨) .

وكفى بالحلم ناصراً وهو وزير المرء. وإذا لم تكن حليماً فتحلم(٩) .

وأن الحليم أقوى الخلق(١٠) .

وأنه : إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للحليم منهما : صبرت وحلمت سيغفر لك إن اتمت ذلك(١١) .

__________________

١ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٧ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٠.

٢ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٨ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠١.

٣ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٨ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠١ ـ نور الثقلين : ج٤ ، ص٥٨٤.

٤ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٨ ـ الأمالي : ص٢١٠ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥١٨ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٢ وج٧٨ ، ص٣٣٩.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٣.

٦ـ الكافي : ج٢، ص١١٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١، ص٤٠٤ ـ وسائل الشيعة : ج١١، ص٢١٠.

٧ ـ الكافي : ج٢ ، ص١١٢ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٢١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٤.

٨ ـ الكافي : ج٢ ، ص١١٢ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٢١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٤.

٩ ـ الكافي : ج٢ ، ص١١٢ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٢١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٤.

١٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٠.

١١ ـ الكافي : ج٢ ، ص١١٢ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٢١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٦.

١٧١

وأن نعم الجرعة الغيظ لمن بر عليها. وأنها من أحب السبيل إلى الله ، فإن عظيم الأجر لمن عظيم البلاء(١) .

وأنك لن تكافئ من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه(٢) .

وأن من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه وحشاه أمناً وإيماناً(٣) .

وأن أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مروّتهم العفو عمن ظلمهم(٤) .

وأنه لا عز أرفع من الحلم(٥) .

وأن كظم الغيظ إذا كان في الرجل استكمل خصال الإيمان وزوّجه الله من الحور العين كيف شاء(٦) .

وأنه : أوحى الله إلى نبي من أنبيائه : إذا أصبحت فأول شيء يستقبلك فكُله ، فلما أصبح استقبله جبل أسود عظيم فبقى متحيراً ، ثم رجع إلى نفسه ، فقال ، إن ربي لا يأمرني إلا بما أطيق ، فمشى غليه ليأكله فلما دنى صغر ، فوجده لقمة فأكلها ، فوجدها أطيب شيء أكله ، ثم قيل له : إن الجبل الغضب ، إن العبد إذا غضب لمن ير نفسه ، وجهل قدره من عظيم الغضب ، فإذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي أكلتها(٧) .

وأن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة(٨) .

__________________

١ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٩ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٨.

٢ ـ الكافي : ج٢ ، ص١٠٩ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٠٨.

٣ ـ الكافي : ج٢ ، ص١١٠ ـ وسائل الشيعة : ج٨ ، ص٥٢٤ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤١١.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤١٤.

٥ ـ نفس المصدر السابق.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤١٧.

٧ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤١٨ و ٤١٩.

٨ ـ نهج البلاغة : الحكمة : ٥٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢١.

١٧٢

وأن من لم يكن له حلم لم يقم له عمل(١) .

وأنه ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم(٢) .

وأن الناس أعوان الحليم على الجاهل(٣) .

وأنه لا يعرف الحليم إلا عند الغضب(٤) .

وأن من كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذاب يوم القيامة(٥) .

وأن الصفح الجميل : العفو بغير عتاب(٦) .

وأنه إذا قدرت على العدو فاجعل العفو شكراً للقدرة عليه(٧) .

وان الحلم عشيرة(٨) .

وأنه غطاء ساتر(٩) .

وأن الحلم والأناة توأمان تنتجهما علو الهمة(١٠) .

وأنه من لا يكظم غيظه يشمت عدوه(١١) .

وأن الحلم سجية فاضلة(١٢) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٢.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٤.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٥.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٦.

٥ ـ الكافي : ج٢ ، ص٣٠٥ ـ وسائل الشيعة : ج١١ ، ص٢٨٩ ـ بحار الأنوار : ج٩٥ ، ص٣٣٩.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٧.

٧ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٧.

٨ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤١٨ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٨.

٩ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤٢٤ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٨.

١٠ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤٦٠ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٨.

١١ ـ بحار الأنوار : ج٧١ ، ص٤٢٨.

١٢ ـ نفس المصدر السابق.

١٧٣

١٧٤

الدرس الثاني والثلاثون

في الفقر والفقراء والغنى والأغنياء

الفقر في اللغة : انكسار فقار الظهر والفقير بمعنى : المفقور المنكسر فقرات ظهره يقال : فقرته الداهية أي : نزلت به وكسرت فقاره ، ويستعمل بمعنى : الحفر ، والفقيرة : الحفيرة ، والفقير من أثّرت المكاره الخدشة والحفرة في نفسه ، أو ذهبت بماله فتركت محله حفرة.

وهو في اصطلاح الشرع وأهله يطلق على معان كما أشار إليها الراغب :

الأول : الحاجة والافتقار ، وهي بمعناها الحقيقي العام ، متحقق في كل موجود بالنسبة إلى الله تعالى ، فالكل مفتقر في وجوده وبقائه ، بل وفي زواله وانعدامه إلى الله تعالى ومشيئته كما قال تعالى :( أنتم الفقراء إلى الله ) (١) والفقر بهذا المعنى أمر وجودي.

__________________

١ ـ فاطر : ١٥.

١٧٥

الثاني : فقد لوازم العيش والحياة بالنسبة إلى من يحتاج إليها ، وهو المراد في أغلب مأثورات الباب ، وهذا أمر عدمي.

الثالث : فقر النفس بمعنى : حرصها وشرهها إلى الدنيا ومتاعها ، ويقابله غنى النفس.

الرابع : الفقر إلى الله بمعنى : حالة اعتماد النفس إليه تعالى وانقطاعها عن غيره وعدم عنايتها إلى الأسباب الظاهرية. ثم إنه لا كلام هنا في المعنى الأول ، والعلم والاذعان به من شؤون الإيمان ، ولا في المعنى الثالث ، فإنه من رذائل الصفات ، وقد وقعت الاشارة في النصوص أحياناً إلى المعنى الرابع ، فعمدة الكلام في المقام هو المعنى الثاني ، وعليه فقد يستظهر من أدلة الباب أن الفقر بنفسه أمر ممدوح مطلوب ذو فضل ورجحان ، مندوب إليه في الشرع. وأن الغنى مذموم مبغوض منهي عنه لكن الظاهر أن الفقر الممدوح مشروط :

أولاً : بعدم كون حصوله من ناحية قصور المكلف وتقصيره في الحركة والسعي إلى تحصيل رزقه كما أمره الله تعالى ، وإلا فلا حسن في ذلك ، ولا يكون مشمولاً لما دل على فضله.

وثانياً : بتقارنه بالرضا والتسليم ، وعدم ظهور الجزع منه والشكوى إلى الناس.

وثالثاً : بعدم وقوع صاحبه في المعصية من جهته ، وهو ممدوح ـ حينئذٍ ـ لرضا الفقير باطناً بقضاء الله تعالى وتسليمه قلباً لأمره ، مع وقوعه في ضيق العيش وضنك الحياة ، مع أن أغلب أهل هذا الفقر ، يصرفون أعمارهم في سبيل دينهم وطاعة ربهم ، وسائر الأمور النافعة لمعاش أنفسهم وإخوانهم ولمعادهم عوضاً عن الأوقات التي يصرفها الأغنياء في دنياهم.

١٧٦

وأما الغنى : فهو مذموم إذا أورث الحرص على الدنيا والغفلة عن الله تعالى ، وعن القيام بالوضائف والطاعات المندوبة أو الواجبة ، بل والوقوع في المعاصي والانهماك فيها كما هو الغالب في هذه الطائفة ونعوذ بالله منها.

ولو فرض أن صاحب الغنى قد واظب في عين تلك الحالة على ما أراد الشرع منه وأدى حقوق أمواله الواجبة والمندوبة ، بل وحصل له توفيق صرف المال في سبيل ربه وإحياء دينه والخدمة لأهل ملته بما لا يمكن ذلك للفقير فلا إشكال في عدم شمول الذموم الواردة في الغنى له.

وبالجملة : كم من غني لم يشغله غناه عن الله ، وكم من فقير شغله فقره عن الله. فإطلاقات المدح والذم في الوصفين محمولة على الغالب ، إذاً ، فالحسن عارض للفقر ، لملازمته أو مقارنته لما هو حسن عقلاً أو شرعاً ، والقبح عارض للغنى لتقارنه لما هو مبغوض كذلك. وقال المجلسيقدس‌سره : ( مقتضى الجمع بين أخبارنا : أن الفقر والغنى كل منهما نعمة من نعم الله يعطيها من يشاء من عباده لمصالح ، وعلى العبد أن يصبر على الفقر ، بل ويشكره ويشكر الغنى ويعمل بمقتضاه ، فمع عمل كل منهما بمقتضى حاله ، فالغالب أن الفقير الصابر أكثر ثواباً من الغني الشاكر ، لكن مراتبهما مختلفة ، والظاهر أن الكفاف أسلم وأقل خطراً من الجانبين ).

والأولى ذكر أدلة الباب حتى يتضح حقيقة الحال ، فإن الحق الحقيق بالاتباع هو المستفاد من الكتاب والسنة.

فقد ورد في الكتاب الكريم قوله :( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) .(١) فقد ورد : أن نزولها كان في

__________________

١ ـ الكهف : ٢٨.

١٧٧

أصحاب النبي وطائفة من الأغنياء ، فصدر الآية ناظر إلى الفقراء من أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذيلها إلى الأغنياء في عصره ، حيث استدعوا من النبي أن يطرد الفقراء من عنده حتى يرغبوا في الإسلام ويجالسوا النبي الأعظم ، فالفقراء هم الذين أرادوا وجه الله ورضوانه ، وداوموا على الدعاء والصلاة صباحاً ومساء ، والأغنياء كانوا ـ عندئذ ـ هم الذين أغفل الله قلبهم عن ذكره واتبعوا أهواءهم وكان أمرهم فرطاً ، أي : في تجاوز عن الحق وتضييع له. ثم إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد نزولها : الحمد لله الذي أمرني أن أصبر مع هؤلاء الرجال ، منعكم المحيا ومعكم الممات(١) . وقال تعالى أيضاً بعد ذكر قولهم :( لولا أنزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) ،(٢) ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً ) .(٣)

فيستفاد من حال الكفار ـ عندئذ كما هو حالهم الآن ـ أن الدنيا وما عليها من الزينة لها فضل وكرامة وأصالة في حياة الإنسان ، مع أنها وجميع ما فيها وعليها ليست إلا مقدمة لغرض أصيل آخر وآلة ووسيلة لتحصيله ، فالغنى المذموم عبارة عن الأموال التي ينظر إليها بتلك النظرة الاستقلالية ، ولذلك قال تعالى : لو شاء ربك لأعطاك فوق ما يقولون ، أو فوق ما يخطر ببالهم ، ونظيرتها الآية ٣٣ من الزخرف. وورد في النصوص :

أن الفقر مخزون عند الله(٤) ( والمراد : إختزان ثوابه إذا صبر عليه صاحبه صبراً جميلاً ).

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج١٧ ، ص٤١ وج٢٢ ، ص٤٤.

٢ ـ الفرقان : ٧ ـ ٨.

٣ ـ الفرقان : ١٠.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٥٢.

١٧٨

وأن الله جعل الفقر والحاجة أمانة عد خلقه ، فمن أسره وكتمه أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم(١) .

وأنه : ما أعطي أحد من الدنيا إلا اعتباراً ، وما زوي عنه إلا اختباراً ( اعتباراً أي : ليعتبر الغير به ، واختباراً : ليختبر نفسه ).

وأن الله يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيهاً بالمعتذر إليهم ، فيقول : ما أفقرتكم في الدنيا من هوانٍ بكم عليّ ، ولترون ما أصنع بكم اليوم ، فتصفحوا وجوه الناس ، فمن صنع إليكم معروفاً لم يصنعه إلاّ فيّ فكافئوه عني بالجنة ، وارفعوا هذا السجف ، فانظروا إلى ما عوضتكم من الدنيا ، فيقولون ما ضرنا ما منعتنا مع ما عوضتنا(٢) ( والسجف ـ بالفتح والكسر ـ الستر ).

وأنه : قال الله تعالى لموسى : يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجلت عقوبته ،(٣) ( عجلت عقوبته أي : وقع مني ذنب وهذه عقوبته قد عجلت ).

وأنه : طوبى للمساكين بالصبر ، وهم الذين يرون ملكوت السموات والأرض(٤) .

وأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا معشر المساكين ، طيبوا نفساً ، وأعطوا الله الرضا من قلوبكم يثبكم الله على فقركم(٥) .

وأنه : كل ما يراه الفقير في السوق من الأمتعة والفاكهة فله بكل ما لم يقدر

__________________

١ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٠ ـ وسائل الشيعة : ج٦ ، ص٣١١ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٨ وج٩٦ ، ص١٥٣.

٢ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦١ ـ بحار الأنوار : ج٧ ، ص٢٠٠ وج٧٢ ص١١.

٣ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٣ ـ الوافي : ج٥ ، ص٧٩٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص١٥.

٤ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٣ ـ الوافي : ج٥ ، ص٧٩٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص١٥.

٥ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٣ ـ وسائل الشيعة : ج٦ ، ص٣١٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص١٧.

١٧٩

على شرائه حسنة(١) .

وأنه : لا تدع أن يغنيك الله عن خلقه ، فإن الله قسّم رزق من شاء على يدي من شاء ، بل إسأل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه(٢) .

وأن في فقر الفقراء ابتلاء للأغنياء(٣) .

وأن الصادق ٧ : قال : مياسير شيعتنا أمناء على محاويجهم فاحفظونا فيهم(٤) .

وأن الفقر أزين للمؤمنين من العذار على خد الفرس(٥) .

وأنه : لا تستخفوا بفقراء الشيعة ، فإن الرجل منهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر(٦) .

وأن من استخف بالفقير لفقره استخف بحق الله ، والله يستخف به يوم القيامة(٧) .

وأن السلام على الفقير خلاف السلام على الغني ، استخفاف(٨) .

وأن ابن آدم يكره قلة المال ، وهي أقل للحساب(٩) .

وأنه : لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى(١٠) .

__________________

١ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٢٥.

٢ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٤.

٣ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٢٦.

٤ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٥ ـ بحار الأنوار : ج٩٦ ، ص١٣١.

٥ ـ الكافي : ج٢ ، ص٢٦٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٢٨.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٣٥ ـ مستدرك الوسائل : ج٩ ، ص١٠٦.

٧ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٣٨.

٨ ـ نفس المصدر السابق.

٩ ـ بحار الأنوار : ج٧٢ ، ص٣٩.

١٠ ـ بحار الأنوار : ج٦ ، ص١٣٠ وج٦٧ ، ص٣٠٠ وج٧٢ ، ص٤٠.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

المأمون في قفص الاتهام:

وهكذا.. وبعد أن اتضحت الأسباب الحقيقية للبيعة، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات، التي أحاطت بهذا الحدث الهام، فإننا نستطيع أن نضع المأمون، ونواياه، وأهدافه، في قفص الاتهام، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبداً، أي ادعاء سطحي، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة، وسلامة طويته، سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضاعليه‌السلام من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر، وحتى إلى ما بعد وفاته، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم.

والأدهى من ذلك كله رسالته للسري، عامله على مصر، التي (يخبره فيها بوفاة الرضا، ويأمره بأن تغسل المنابر، التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت.)(١) .

____________

(١) الولاة والقضاة للكندي ص ١٧٠.

٢٢١

وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين، الآخرين.. كما أشرنا إليه في رسالته لعبد الله بن موسى، التي يذكر فيها: أنه راح يختلهم واحداً فواحداً.. وأيضاً عندما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه، بعد وفاة الرضا، ويأخذهم بلبس السواد(١) .. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم، والقضاء عليهم، كما سيأتي.

مع المأمون في وثيقة العهد:

ويحسن بنا هنا: أن نقف قليلاً مع وثيقة العهد، التي كتبها المأمون للإمامعليه‌السلام بخط يده، فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث إننا قد تحدثنا، ولسوف نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها.. فلسوف نقتصر هنا على:

أولاً: إننا نلاحظ: أنه يؤكد كثيراً على نقطتين:

الأولى: أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله، وإيثاره لمرضاته.

الثانية: أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الأمة، والخير لها.

وسر ذلك واضح: فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس، الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب، ولمن يعتبر زعيماً لأخطر المنافسين للعباسيين.. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به، وبنظام حكمه.

وعدا من ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته، ومصلحة الأمة، والصالح العام.

____________

(١) الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٢٠٤.

٢٢٢

وثانياً: نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة، وذلك لكي يضمن لأهل بيته حقاً في الخلافة كآل علي.

وثالثا ً: يلاحظ: أنه يعطي خلافته صفة الشرعية، حيث يربطها بالمصدر الأعلى (الله) وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح، لأنهم بمجرد أن يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة، ويصير مقبولا لدى الناس.. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده..

وهو أيضاً تام وصحيح حسب منطق العباسيين، الذين يدعون الخلافة بالإرث عن طريق العباس بن عبد المطلب، حسبما تقدم بيانه..

ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب! مع أن عبد الله تلميذ علي. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة، وجعل حق له بالخلافة، بل وجعل نفسه الأحق بها. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي، وصل إليه بالطريق الشرعي، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة، أو على حسب منطق العباسيين.

وفي هذا إرضاء للعباسيين، وتطمين لهم، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس، الذين كانوا غالباً ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر، حيث أثبت لهم: أنه لا يزال على مذهبه، وعلى نفس الخط الذي هم عليه.

ورابعاً: إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه، ووجهة نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفاً ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي: أنه إنما يجعل الخلافة للرضاعليه‌السلام لا من جهة أنها حق له، ولا من جهة النص عليه، حسبما يدعيه الرضا، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه. وهذا أمر طبيعي جداً، وليس إقراراً بمقالة الرضا.. وكما ينطبق الآن على الرضا، يمكن أن ينطبق غداً على غيره، عندما يوجد من له فضل، وأهلية.. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة، ومن النص، وغير ذلك..

هذا.. ولسوف يأتي في فصل: خطة الإمام، شرح ما كتبه الإمامعليه‌السلام على ظهر الوثيقة، ولنرى من ثم كيف نسف الإمام كل ما بناه المأمون، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.

٢٢٣

كلمة أخيرة:

وأخيراً: فإننا مهما شككنا في شيء، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة، وقبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات، ومختلف النتائج، سواء مما قدمناه، أو من غيره، مما أخفته عنا الأيدي الأثيمة، والأهواء الرخيصة.. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها، التي كان يرجوها منها، وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمامعليه‌السلام قد اتبعها.

ولعمري: (.. إن بيعته للإمام لم تكن بيعة محاباة، إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه، وسائر ولده، أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه.) على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

أسباب البيعة لدى الآخرين

أحمد أمين المصري، وأسباب البيعة:

وعلى ضوء ما تقدم، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين، والباحثين، مما جعلوه أسباباً لأخذ البيعة للإمامعليه‌السلام بولاية العهد، ولنرى ـ من ثم ـ أنها لا تقوى على الصمود أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق، إذ أنها على الغالب: إما أنها لا تعتمد على سند تاريخي أصلاً، أو أنها تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه. ولعل الدكتور أحمد أمين المصري، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله ـ بنظره ـ أسباباً للبيعة، حيث نلاحظ: أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي، بل التاريخ على اختلاف أهوائه، واتجاهاته يدحضه، ويكذبه. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد عليه، ولذا فلا يكون من التجني عليه القول: إن ما ذكره كان سطحيا، أو بوحي من تعصب مذهبي رخيص..

وما ذكره يرجع إلى أسباب أربعة، رأى أنها صالحة، كلاً أو بعضاً، لأن تكون سبباً لأخذ البيعة للرضا بولاية العهد.. ونلخصها بما يلي:

١ ـ إن المأمون قد أراد بذلك: أن يصلح بين البيتين، العلوي، والعباسي، ويجمع شملهما، ليتعاونا على ما فيه خير الأمة، وصلاحها. وتنقطع الفتن، وتصفو القلوب.

٢٢٤

٢ ـ إنه كان معتزلياً، على مذهب معتزلة بغداد، يرى أحقية عليعليه‌السلام وذريته بالخلافة، فأراد أن يحقق مذهبه.

٣ ـ إنه كان تحت تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين. والفرس يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما، حتى أقرها، ونفذها.

٤ ـ (إنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة، يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس، وبان خطؤهم، وصوابهم، فزال عنهم هذا التقديس.)(١) .

هذا.. وقد ادعى في كتابه: (المهدي والمهدوية): أن هؤلاء الأئمة كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء، فأراد المأمون: أن يظهرهم، ليعرفهم الناس على حقيقتهم..

كان ذلك ما يراه أحمد أمين يصلح ـ كلاً أو بعضاً ـ سبباً للبيعة..

آراء أحمد أمين في الميزان:

ونحن بدورنا، وإن كنا نعتقد أن فيما قدمناه، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم وإسقاطها، إلا أننا نرى لزاماً علينا أن نشير بإيجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها، معتمدين في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ، وتنبهه، ووعيه. فنقول:

أما ما ذكر أولاً: فقد كفانا هو نفسه مؤونة الكلام فيه، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى السطحية والسذاجة.

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

٢٢٥

وأما ما جعله سبباً ثانياً: فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن، سيما بملاحظة ما قدمناه في الفصلين السابقين، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها، وأيضاً ملاحظة ما سيأتي من سلوك المأمون المشبوه، مع الإمامعليه‌السلام ، ومعاملته السيئة للعلويين، وكل من يتشيع معهم، ويتعاطف معهم. وعلى الأخص إذا لاحظنا: أن المأمون لم تكن عقيدته هي المنطلق له في مواقفه السياسية، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة، ويؤكد وجوده في الحكم. وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف، وتارة يصف الصحابة، ما عدا الإمام عليعليه‌السلام بـ‍ (الملحدين)، ويصف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بـ‍ (جعل) إلى آخر ما هنالك من الشواهد والأدلة، مما لا نرى ضرورة لإعادته، ولعل الأهم من ذلك كله: أن تفضيل المعتزلة ـ معتزلة بغداد ـ علياًعليه‌السلام على جميع الصحابة، لم يكن واضحاً بعد في تلك الفترة، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل خطة الإمام. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم، على جميع الوجوه والتقادير.

وأما ما جعله سبباً ثالثاً: فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل.. ولكننا نستغرب منه جداً، بل ونأسف كل الأسف، لما طلع به علينا.

بما جعله سبباً رابعاً: من أن عدم تولي الأئمة للحكم يكسبهم شيئاً من التقديس، فأراد أن يولي الإمام الرضا العهد، ليزول عنهم ذلك التقديس ـ وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن القفطي في تاريخ الحكماء.

وليس واضحاً تماماً من هم (الأئمة) الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد الأئمة الاثني عشر، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم، وهو الإمام الرضا.. بل أعلن ذلك صراحة في عبارته الأخرى، التي أوردها في كتابه: (المهدي والمهدوية) ـ إذا كان كذلك ـ، فإننا نرى: أن لنا كل الحق في أن نتساءل:

هل عثر أحمد أمين لهؤلاء الأئمة، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس، على مدى تاريخهم الطويل؟!

وهل يستطيع أن يثبت عليهم أدنى شيء يمس كرامتهم، ويتنافى مع مروءتهم، ويخالف دينهم ورسالتهم؟!.

٢٢٦

ولماذا تظهر تفاهات غيرهم، وأخطاؤهم، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها، وإخفائها.. ولا تظهر أخطاء هؤلاء الأئمة، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم، والتعرف على أية نقيصة أو خطأ منهم إن كان؟!.

ومتى كان هؤلاء الأئمة مستورين عن الناس، منفصلين عنهم، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس؟!.

وهل كل شخصية لا تصل إلى الحكم يقدسها الناس؟!.

وهل كل شخصية تصل إلى الحكم لا يقدسها الناس؟!.

وهل التقديس مقصور على الشخصية المستورة، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه؟!.

وهل أثر وصول الإمام عليعليه‌السلام للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له؟!.

وهل يستطيع أحمد أمين أن يذكر لنا خطأ واحداً، ارتكبه الإمام عليعليه‌السلام ، طيلة فترة حكمه؟! رغم أن معاوية وسواه، ممن كانوا معادين للإمامعليه‌السلام ، ما كانوا يألون جهداً في إلصاق التهم به، والافتراء عليه؟!.

وأما عن الإمام الرضاعليه‌السلام :

فمتى كان مستوراً عن الناس، بعيداً عنهم؟!.

وهل تتفق دعواه باستتار الأئمة ـ والرضا منهم ـ عن الناس، مع ما اعترف به المأمون نفسه للإمام الرضاعليه‌السلام ، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد، حيث يقول: (.. وقد استبان له ـ أي للمأمون ـ ما لم تزل الأخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعاً، وناشئاً، وحدثاً، ومكتهلاً الخ.).

فهل يعقل: أن إنساناً من هذا النوع يكون مستتراً عن الناس، بعيداً عنهم، ولا يعيش فيما بينهم، منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله؟!.

ومع ذلك.. فأي خطأ يستطيع أحمد أمين، أن يسجله على الإمام الرضاعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون، رغم محاولاته الجادة ـ وهو الحاكم المطلق ـ من أجل أن يضع من الإمامعليه‌السلام قليلاً قليلاً، ويصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، على حد تعبير نفس المأمون؟!.

٢٢٧

وهل لم يقرأ أحمد أمين أقوال كبار علماء أهل السنة. وأئمتهم، وتصريحاتهم الكثيرة جداً حول أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، والإمام الرضا منهم بالذات، ليعرف مقدار عظمتهم، وطهارتهم، ونزاهتهم التي لا يشك، ولا يرتاب، ولا يناقش فيها أحد؟!.

وأخيراً.. هل زال ذلك التقديس عن الإمام الرضا، عندما ظهر للناس؟! أم أن الأمر كان على عكس ذلك تماماً؟!.

هذه بعض الأسئلة التي نوجهها للأستاذ: (أحمد أمين)، ولكل من يرى رأيه، ويذهب مذهبه،. وإننا لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.. وإنما ستواجه عنتاً وعناداً صاعقين، يبتزان منهم كل غريبة، ويظهران الكثير الكثير من الترهات العجيبة.. ولكن ليطمئن بالهم، وتهدأ ثائرتهم، فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل هذه الترهات، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات، فما تلك إلا: (شنشنة أعرفها من أخزم).

رأي غريب آخر في البيعة:

هذا.. ويرى بعض المؤلفين: أن المأمون كان في بيعته للرضاعليه‌السلام واقعاً تحت تأثير القوات المسلحة، وأنها هي التي أجبرته على ذلك، حيث كان القسم الكبير من قوادها، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين، وقد شرطوا عليه: أنهم لا يفتحون نار الحرب ضد الأمين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده، فأجابهم إلى ذلك(١) .

وأقول: ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ، الذي نقل له هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه، وسلوكه مع الإمامعليه‌السلام ، حتى قبل أن يصل إلى مرو، وكذلك سائر مواقفه معه، والتي تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه.

____________

(١) هذا ما ذكره الشيخ القرشي في كتابه: حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٣٨٧.

٢٢٨

وأحسب أن هذا المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته: (الأمين والمأمون) ص ٢٠٣، طبع دار الأندلس، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك. واحتمل ذلك أيضاً في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩. وكأن مؤلفنا يريد أن يقول: إن المأمون كان مضطراً إلى إجابتهم: إما خوفاً من انتفاضتهم عليه، أو رغبة في القضاء على أخيه الأمين، أو للسببين معاً.. ولكن هذا الاشتراط كما قلنا، ليس له أي سند تاريخي يدعمه، بل الشواهد التاريخية كلها على خلافه، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخوه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره (زيدان) لا يصلح شاهداً تاريخياً، بعد أن كان روائياً، لا يلتزم بالحقائق التاريخية. وبعد أن لاحظنا: أنه يعتمد التضليل في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي.

وأحسب أن هذا هو عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة، بأنه هو المدبر لها، والقائم بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الإيهام والإبهام.

وفريق آخر يرى:

وهناك بعض الباحثين يرى: أن من جملة الأسباب الهامة للبيعة: هو أن المأمون أراد أن يحذر العباسيين من مغبة المخالفة له، والاستمرار في ذلك. وأن يرغمهم، ويدفعهم إلى الوقوف إلى جانبه، بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين. وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد، وتأييدهم أخاه الأمين عليه، وتشجيعهم له ضده. كما أنه يكون بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له، ليستطيع مقابلتهم، والوقوف في وجههم، وينتقم منهم(١) .

ولكنه رأي لا تمكن المساعدة عليه:

لأن منطق الأحداث، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الإباء أن يكون هذا سبباً منطقياً للبيعة.. وقد قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع. هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون، من الدهاء والسياسة، وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها؟ وعلى الأخص في تلك الفترة من الزمن، التي كانت طافحة بالمشاكل، وكان العصيان فيها معلناً في أكثر مناطق الدولة، ومهددا به من كل جانب ومكان؟!.

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ جزء ٤ ص ٤٩٢، والتربية الدينية للفضلي ص ١٠٠، الطبعة الخامسة، وغير ذلك.

٢٢٩

إن الحقيقة هي: أن المأمون في تلك الفترة بالذات، وكان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلاً عن ثقة وحب أهل بيته، وعشيرته: العباسيين.

ثم.. وهل يمكن أن يلجأ المأمون للانتقام منهم، إلى هذا الأسلوب بالعاجز، بعد أن خضعوا له وانقادوا لأمره، وسلموا بالأمر الواقع، بعد مقتل الأمين؟!

ولماذا لا يقدر: أنهم سوف يقابلونه بالمثل، ويقومون في وجهه، ثأراً لكرامتهم، ودفاعاً عن وجودهم؟!. ولماذا يعطيهم الفرصة لإبراز عضلاتهم ضده، ويجعلهم يفكرون في تحدي سلطته، وهتك حرمته؟!. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون، بسبب بيعته للإمامعليه‌السلام ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي، في أواخر ذي الحجة، من نفس السنة التي بويع فيها للإمامعليه‌السلام بولاية العهد.

وأخيراً.. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه الضعفاء جداً، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم، بأساليب أخرى، أقل إثارة، وأشد نكاية؟!.

ولقد أشرنا، ولسوف نشير إلى ما قاله المأمون لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين. بل ويكفينا هنا: أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم، يقول المأمون: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ـ يعني للعلويين ـ عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..) وكذلك ما كتبه بخط يده في وثيقة العهد..

إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

فتلخص أن ما ذكر هنا، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون، ودهائه السياسي.

الفضل في قفص الاتهام:

وأخيراً.. فإن بعض المؤلفين، كأحمد أمين في كلامه المتقدم، وجرجي زيدان(١) وأحمد شلبي(٢) ، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٣، وابن الطقطقي في:

الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، وغيرهما.. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة (ولاية العهد) هذه، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل، الذي كان يتشيع.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٢٠.

٢٣٠

ويرى آخر: أن سبب إشارة الفضل على المأمون بذلك، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في العلويين(١) .

الفضل بريء من كل ما نسب إليه:

أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي: إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يأبى عن نسبة التشيع للفضل، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الأمر، فضلاً عن كونه المدبر له، والقائم به.. اللهم إلا أن تكون مؤامرة اشترك الرجلان معاً في وضع خطوطها العريضة، آخذان في اعتبارهما ظروفهما، ومصالحهما الشخصية، ليس إلا..

بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدواً للإمامعليه‌السلام ، حيث إنه كان من صنائع البرامكة(٢) ، أعداء أهل البيتعليهم‌السلام . وأنه لم يكن حتى راغباً في البيعة للرضاعليه‌السلام ، وأنه وأخاه قد مانعا في عقد العهد للرضا(٣) ، فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له.. بل لم يكن يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان وإحضار المأمون له، وإعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢ والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي أرسلها إلى الإمام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين.

وذلك ما يقوي أنه كان متآمرا على الإمام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه وبين المأمون فراجعها.

____________

(١) البحار ٤٩ ص ١٣٢، وعيون أخبار الرضا ص ١٤٧، نقلاً عن: البيهقي عن الصولي.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٤٣، ١١٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦، و ص ٢٢٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٧٠، ونور الأبصار للشبلنجي ص ١٤٢، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٦، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٩، والبحار ج ٤٩، ص ١٤٥، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، ٣١١، وغير ذلك.

٢٣١

ولو أنه كان ممن يتشيع للإمامعليه‌السلام ، فكيف يمكن أن يتآمر عليه، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للإقدام على التخلص منهعليه‌السلام ، وذلك عندما ذهب إلى الرضا، وحلف له بأغلظ الأيمان، ثم عرض عليه قتل المأمون، وجعل الأمر إليه(١) . لكن الإمام بسبب وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة، حيث أدرك للتو أنها دسيسة ومؤامرة، فزجر الفضل وطرده، ثم دخل من فوره على المأمون، وأخبره بما كان من الفضل، وأوصاه أن لا يأمن له.

وبذلك يكون الإمامعليه‌السلام قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن. وعاد الفضل من مهمته تلك بخفي حنين، يجر هو وسيده أذيال الخيبة، والخزي، والخسران.

أما إذا كان الفضل قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ـ كما هو غير بعيد ـ فليس ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الإمامعليه‌السلام ، وحسده له، يريد بذلك تمهيد الطريق لمقتله، ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء، وحسبما يريد.

وأياً ما كانت الحقيقة، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية.

ويا ليته كان قد قنع بذلك.. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الإمامعليه‌السلام حتى إن بعض المؤرخين يرى: أن المأمون لم يقتل الإمام إلا بتحريض من الفضل بن سهل!!.

وبعد.. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون بإرجاع الإمام عن صلاة العيد، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه؟!. كما سنشير إليه إن شاء الله.

____________

(١) وإن كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون، وبدافع من حقده الدفين على الإمامعليه‌السلام ، وحسده له، يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد.

٢٣٢

وأيضاً.. مع إظهاره العداوة الشديدة للإمامعليه‌السلام وحسده له على ما كان المأمون يفضله به، على حد تعبير الريان بن الصلت؟!(١) .

وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي. وجعله عيناً للمأمون على الإمام، ينقل إليه حركاته وسكناته، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم؟!.

ولو أن الفضل كان ممن يتشيع للإمام، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء، إذ كيف لا يلتفت لأمر المأمون المؤكد لرسله: أن لا يمروا بالإمام عن طريق الكوفة وقم، لئلا يفتتن به الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل، إن لم يقبل ما يعرضه عليه، ثم إلى جلبه العلماء والمتكلمين من أقاصي البلاد، من أجل إفحام الإمام. وإظهار جهله وعجزه، إلى آخر ما هنالك، من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

ثم نرى أنه هو بنفسه يشارك في ذلك كله، وسواه، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للإمام، إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون..

وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون ينازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني، الذي انتهجه مع الإمام، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة، وإلى آخر لحظة عاشها معه، وبعد ذلك إلى ما شاء الله.

هذا كله من جهة.

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٩. وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٣.

٢٣٣

موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له:

ومن جهة ثانية.. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للإمامعليه‌السلام ، أو كان ممن يتشيع له، لم يكن من اللائق من الرضاعليه‌السلام أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون، وجعل الأمر إليه. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له، ويخبره بغشه وكذبه، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد، وغيرها(١) .

ولا من اللائق منه أيضاً: أن يعامله تلك المعاملة، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون. والتي كان فيها الكثير من الخشونة، والاحتقار والامتهان، فقد قدمنا أنه عندما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب الأمان، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه، ثم أمره بقراءة الكتاب، فقرأه ـ وكان كتاباً في أكبر جلد ـ وهو واقف، لم يأذن له بالجلوس.

وكذلك لم يكن من اللائق منه: أن يزري عليه عند المأمون، فقد ذكر المؤرخون: أنه (.. كان يذكر ابني سهل عند المأمون، ويزري عليهما، مما دفعهما إلى السعاية به، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما)(٢) .

إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر في حق أي إنسان عادي آخر في حق من يتشيع له، فضلاً عمن يتسبب في جعله ولياً لعهد الخلافة الإسلامية للأمة بأسرها.

والمأمون نفسه يستنكر ذلك:

ومن جهة ثالثة.. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية.. ولا شك أن (عند جهينة الخبر اليقين).

فقد قدمنا في الفصل السابق: أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل(٣) ! ـ عندما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا، وأنهم يقولون: (إن هذا من تدبير الفضل). قال للمأمون ذلك، فأجابه المأمون: (.. ويحك يا ريان! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت الخلافة، فيقول

____________

(١) تاريخ الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ١٠٢٥.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٥، ٥٦٦، وإعلام الورى ص ٣٢٥، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧١، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٦، والبحار ج ٤٩، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وغير ذلك.

(٣) صرح بأنه من رجاله في كتاب: البحار ج ٤٩ ص ١٣٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩.

٢٣٤

له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!.. الخ) لا.. أبداً.. لا يمكن أن نتصور، ولا يجوز في العقل: أن يأتي وزير ملك إليه، ويطلب منه التنازل عن عرشه، ويسلمه إلى رجل غريب، وهو يعلم أن ذلك الملك، قد قتل أخاه، وغيره، وهدم البلاد، وأهلك العباد، من أجل ذلك العرش.. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب، أي شأن، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون له من النفوذ، والسلطة والطول، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر، محكوماً لا حاكماً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. اللهم إلا أن يكون قد تآمر مع ذلك الملك الأول، لتنفيذ خطة معينة. قد رسماها معاً من قبل، وعملاً على أن تكون الأمور في نهاية الأمر في صالحهما، ومن أجل تعزيز نفوذهما وسلطتهما.

أما حصيلة هذه الجولة:

وهكذا.. تأبى الأحداث، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شيء، إلا على طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون، أفعى الدهاء والسياسة، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع، وتقييم عام له.

اتفقا على أثره على خطة للتخلص من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما، وتشكل ـ إلى حد ما ـ خطراً على وجودهما في الحكم، وتفردهما بالسلطة.. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول إبراهيم بن العباس في مدح الفضل في جملة أبيات له:

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأيــاً تـفل بـه كـتائبها

رأيا إذا نبت السيوف مضى

عـزم بـه فشفى مضاربها

٢٣٥

أجرى إلى فئة بدولتهـــا

وأقام في أخرى نواد بها(١)

ولعل الفضل كان مخدوعاً!.

ولكن ألا يحتمل قريباً: أن يكون الفضل مخدوعاً في هذه المرة على الأقل؟ وأنه هو أيضاً راح ضحية تآمر وتضليل من نفس سيده: المأمون؟!.

الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جداً، لأننا نرى في النصوص التاريخية، ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون، وأنه قد جازت عليه حيلة في بادئ الأمر، بادعائه: أنه إنما يوليه العهد، لأنه يريد خير الأمة ومصلحتها. أو لأنه يريد أن يفي بنذره (أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الأمين، فلسوف يسلم الخلافة لرجل غريب!)..

وقد تقدم أن ابن القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية، ولا عالماً بواقع الأمر.. ولعلنا نستطيع: أن نستدل على ذلك بقوة بممانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الأمر.

كما أننا رأينا المأمون: يرفض أن يطلب من الإمامعليه‌السلام كتاب الأمان للفضل، بحجة أن الإمام كان قد اشترط: أن لا يتدخل في شيء من أمور الدولة وشؤونها(٢) .

ثم نرى المأمون نفسه يطلب من الإمام: أن يولي فلاناً، أو أن يكتب إلى فلان بكذا، أو أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة، أو أن يصلي بالناس، إلى غير ذلك من الأمور.. مع أن ما كان يريده الفضل من الإمام، لم يكن له من الأهمية مثل ما كان يطلبه منه المأمون.

وعلى كل فقد يجوز للمأمون ـ حتى مع الشرط ـ ما لا يجوز لغيره بدونه.

____________

(١) الأغاني ط ساسي ج ٩ ص ٣١ ـ ٣٢.

(٢) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢. والبحار ج ٤٩ ص ١٦٨. ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٨.

٢٣٦

الفضل يقع في الشرك:

وأخيراً.. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول: مسكين الفضل بن سهل، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي ارتكبها، وأن يجعل هذا الوزير المسكين، الذي كان عدوا للإمام، والذي لم يشعر إلا وهو في الفخ، هو المسؤول عن أكثر جرائمه وموبقاته، بل وعنها جميعاً، حتى البيعة للرضاعليه‌السلام بل وحتى عن قتل أخيه الأمين! ولقد أدرك الفضل أنه قد وقع في الشرك، ولكن.. بعد فوات الأوان، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى بغداد، لأنه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار، وما سوف يتعرض له من مؤامرات، وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه، وبين له صراحة أنه هو المتهم بالبيعة للرضا، وبقتل الأمين، فلقد قال له:

(.. يا أمير المؤمنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك، وعند العامة، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع، وبيعة الرضا، ولا آمن السعاة والحساد، وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان الخ.)(١) .

ولكن أنى له أن يتركه المأمون، الذي كان يريد التخلص منه، من أجل أن ترضى عنه بغداد، مضافاً إلى أنه هو أيضاً كان يخشاه ويخافه. فلقد كان قد أعد العدة، وأحكم الخطة في أمره، ولم يبق إلا التنفيذ (كما سيأتي بيانه).

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٧.

٢٣٧

وبعد أن يئس الفضل من إقناع المأمون، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك. فطلب منه أن يكتب له كتاب ضمان وأمان. فاستجاب المأمون لهذا الطلب، وكتب له كتاباً(١) ، يسمى كتاب الحباء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون، وتوطيد سلطانه.

ونلاحظ: أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد، بل وزاد على ما كان يتوقعه الفضل الشيء الكثير، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه، ما دام أنه قد أحكم الخطة، ودبر له النهاية.

وكما رسم ودبر. كانت النهاية!.

لماذا الإصرار على اتهام الفضل:

وهكذا.. فإننا بعد كل ما تقدم، لا نرى مجالاً للإصرار على نسبة التشيع للفضل، أو القول: بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره، وخاضعا لإرادته، فقد يكون الفضل قد أعطي أكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة.. ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك، حتى وإن أنكره المأمون نفسه، وكذبته جميع الوقائع والأحداث ـ لعله ـ يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون ـ السلطة ـ بما لا يحبون اتهامه به، كالتشيع، والحب لآل عليعليهم‌السلام ، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة، لو فرض وجودها فعلاً.. أو لعل لأنهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لإدراك حقيقة ظروف المأمون، وأهدافه من البيعة..

____________

(١) الكتاب موجود في: البحار ج ٤٩ ص ١٦٠، ١٦٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٧، ١٥٩، وأوعز إليه اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ٤٥١ طبع صادر

٢٣٨

هذا.. وقد رأينا: أن العباسيين في بغداد، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم، يتهمون الفضل بن سهل بتدبيرها(١) .. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الأمر وواقع القضية، وما ذلك إلا لما قلناه، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون، وليبقى باب الصلح معه في المستقبل مفتوحاً. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون، حتى لا تلصق بها تهمة، يعلمون هم أكثر من غيرهم ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ ببراءته منها، ألا وهي تهمة: الحب لعلي، وآل بيته.

ولعله أيضاً لهذه الأسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل، وأنه لا يملك معه من الأمر شيئاً، حتى لقد قالوا عنه: إنه مسجون ومسحور(٢) . وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلاً إلا البيعة للرضا عليه‌السلام ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلاً..

جميل.. وجميل جداً.. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل، وإن كانت جميع الدلائل والشواهد متضافرة على العكس من ذلك.. ولو لم يكن ذلك يكفي لتبرئة المأمون، فهم على استعداد لاتهامه بعقله، كما قد حدث ذلك بالفعل، فذلك عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي والتشيع لهم..

____________

(١) فقد اتهموا الفضل بذلك بمجرد وصول رسالة الحسن بن سهل إليهم، يخبرهم فيها بأمر البيعة. راجع: الطبري ج ١١ ص ١٠١٣، طبع ليدن وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٣٦ وغير ذلك من كتب التاريخ.

(٢) راجع: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٨، والطبري ج ١١، وغير ذلك..

٢٣٩

احتمال وجيه جداً:

على أننا لا نستبعد كثيراً.. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذي هذه التبريرات والتمويهات، وخصوصاً بعد مقتل الفضل، ليبرئ نفسه أمام العباسيين، وليشوه الفضل.. كما أننا لا نشك أبداً في أن كثيراً مما يذكر عن الأمين هو في عداد الخرافات والأساطير التي شجعها المأمون وحزبه، لأن الأمين كان هو المغلوب، والمأمون كان هو الغالب.. وللغالب القدرة، بل والحق أيضاً ـ في نظر قاصري النظر ـ في أن يشوه المغلوب، ويصوره بالصورة التي يريد.

ويدلنا على أن المأمون هو المسؤول عن ذلك، ما رواه الحصري في زهر الآداب من: (أنه لما خلع المأمون أخاه أمين، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته. كان يعمل كتبا بعيوب أخيه، تقرأ على المنابر بخراسان الخ..)(١) .

وطبيعي بعد ذلك: أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا أحراراً، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم: أن يؤرخوا كما يريد المأمون، وأن يكتبوا ما يمليه عليهم، لا ما هو حق وواقع. يرونه بأم أعينهم. أو تحكم به ـ إن كانت ـ ضمائرهم.

وأخيراً.. وإذا تحقق أن الفضل بريء من تهمة التشيع، وتهمة تدبير أمر البيعة إلا على نحو التآمر، فلا يعني ذلك أنه بريء مما هو أشنع من ذلك وأقبح (فكل إناء بالذي فيه ينضح).

____________

(١) راجع: أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٨٦، نقلاً عن: زهر الآداب ج ٢ ص ١١١، تحقيق زكي مبارك، وطبع دار الجيل ج ٢ ص ٤٦٤.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409