الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)19%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201590 / تحميل: 8427
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

المأمون في قفص الاتهام:

وهكذا.. وبعد أن اتضحت الأسباب الحقيقية للبيعة، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات، التي أحاطت بهذا الحدث الهام، فإننا نستطيع أن نضع المأمون، ونواياه، وأهدافه، في قفص الاتهام، ولا يمكن أن نصدق ـ بعد هذا ـ أبداً، أي ادعاء سطحي، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة، وسلامة طويته، سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضاعليه‌السلام من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الأمر، وحتى إلى ما بعد وفاته، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم.

والأدهى من ذلك كله رسالته للسري، عامله على مصر، التي (يخبره فيها بوفاة الرضا، ويأمره بأن تغسل المنابر، التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت.)(١) .

____________

(١) الولاة والقضاة للكندي ص ١٧٠.

٢٢١

وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لأي واحد من العلويين، الآخرين.. كما أشرنا إليه في رسالته لعبد الله بن موسى، التي يذكر فيها: أنه راح يختلهم واحداً فواحداً.. وأيضاً عندما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه، بعد وفاة الرضا، ويأخذهم بلبس السواد(١) .. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم، والقضاء عليهم، كما سيأتي.

مع المأمون في وثيقة العهد:

ويحسن بنا هنا: أن نقف قليلاً مع وثيقة العهد، التي كتبها المأمون للإمامعليه‌السلام بخط يده، فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث إننا قد تحدثنا، ولسوف نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها.. فلسوف نقتصر هنا على:

أولاً: إننا نلاحظ: أنه يؤكد كثيراً على نقطتين:

الأولى: أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله، وإيثاره لمرضاته.

الثانية: أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الأمة، والخير لها.

وسر ذلك واضح: فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس، الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم ـ يرونه الآن ـ يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب، ولمن يعتبر زعيماً لأخطر المنافسين للعباسيين.. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به، وبنظام حكمه.

وعدا من ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته، ومصلحة الأمة، والصالح العام.

____________

(١) الكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٢٠٤.

٢٢٢

وثانياً: نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة، وذلك لكي يضمن لأهل بيته حقاً في الخلافة كآل علي.

وثالثا ً: يلاحظ: أنه يعطي خلافته صفة الشرعية، حيث يربطها بالمصدر الأعلى (الله) وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح، لأنهم بمجرد أن يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة، ويصير مقبولا لدى الناس.. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده..

وهو أيضاً تام وصحيح حسب منطق العباسيين، الذين يدعون الخلافة بالإرث عن طريق العباس بن عبد المطلب، حسبما تقدم بيانه..

ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب! مع أن عبد الله تلميذ علي. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة، وجعل حق له بالخلافة، بل وجعل نفسه الأحق بها. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي، وصل إليه بالطريق الشرعي، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة، أو على حسب منطق العباسيين.

وفي هذا إرضاء للعباسيين، وتطمين لهم، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس، الذين كانوا غالباً ـ يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر، حيث أثبت لهم: أنه لا يزال على مذهبه، وعلى نفس الخط الذي هم عليه.

ورابعاً: إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه، ووجهة نظره بتلك الأساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفاً ـ نراه في نفس الوقت ـ يدعي: أنه إنما يجعل الخلافة للرضاعليه‌السلام لا من جهة أنها حق له، ولا من جهة النص عليه، حسبما يدعيه الرضا، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه. وهذا أمر طبيعي جداً، وليس إقراراً بمقالة الرضا.. وكما ينطبق الآن على الرضا، يمكن أن ينطبق غداً على غيره، عندما يوجد من له فضل، وأهلية.. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة، ومن النص، وغير ذلك..

هذا.. ولسوف يأتي في فصل: خطة الإمام، شرح ما كتبه الإمامعليه‌السلام على ظهر الوثيقة، ولنرى من ثم كيف نسف الإمام كل ما بناه المأمون، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.

٢٢٣

كلمة أخيرة:

وأخيراً: فإننا مهما شككنا في شيء، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة، وقبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات، ومختلف النتائج، سواء مما قدمناه، أو من غيره، مما أخفته عنا الأيدي الأثيمة، والأهواء الرخيصة.. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها، التي كان يرجوها منها، وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الإمامعليه‌السلام قد اتبعها.

ولعمري: (.. إن بيعته للإمام لم تكن بيعة محاباة، إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه، وسائر ولده، أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه.) على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

أسباب البيعة لدى الآخرين

أحمد أمين المصري، وأسباب البيعة:

وعلى ضوء ما تقدم، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين، والباحثين، مما جعلوه أسباباً لأخذ البيعة للإمامعليه‌السلام بولاية العهد، ولنرى ـ من ثم ـ أنها لا تقوى على الصمود أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق، إذ أنها على الغالب: إما أنها لا تعتمد على سند تاريخي أصلاً، أو أنها تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه. ولعل الدكتور أحمد أمين المصري، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله ـ بنظره ـ أسباباً للبيعة، حيث نلاحظ: أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي، بل التاريخ على اختلاف أهوائه، واتجاهاته يدحضه، ويكذبه. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد عليه، ولذا فلا يكون من التجني عليه القول: إن ما ذكره كان سطحيا، أو بوحي من تعصب مذهبي رخيص..

وما ذكره يرجع إلى أسباب أربعة، رأى أنها صالحة، كلاً أو بعضاً، لأن تكون سبباً لأخذ البيعة للرضا بولاية العهد.. ونلخصها بما يلي:

١ ـ إن المأمون قد أراد بذلك: أن يصلح بين البيتين، العلوي، والعباسي، ويجمع شملهما، ليتعاونا على ما فيه خير الأمة، وصلاحها. وتنقطع الفتن، وتصفو القلوب.

٢٢٤

٢ ـ إنه كان معتزلياً، على مذهب معتزلة بغداد، يرى أحقية عليعليه‌السلام وذريته بالخلافة، فأراد أن يحقق مذهبه.

٣ ـ إنه كان تحت تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين. والفرس يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما، حتى أقرها، ونفذها.

٤ ـ (إنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة، يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس، وبان خطؤهم، وصوابهم، فزال عنهم هذا التقديس.)(١) .

هذا.. وقد ادعى في كتابه: (المهدي والمهدوية): أن هؤلاء الأئمة كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء، فأراد المأمون: أن يظهرهم، ليعرفهم الناس على حقيقتهم..

كان ذلك ما يراه أحمد أمين يصلح ـ كلاً أو بعضاً ـ سبباً للبيعة..

آراء أحمد أمين في الميزان:

ونحن بدورنا، وإن كنا نعتقد أن فيما قدمناه، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم وإسقاطها، إلا أننا نرى لزاماً علينا أن نشير بإيجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها، معتمدين في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ، وتنبهه، ووعيه. فنقول:

أما ما ذكر أولاً: فقد كفانا هو نفسه مؤونة الكلام فيه، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى السطحية والسذاجة.

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

٢٢٥

وأما ما جعله سبباً ثانياً: فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن، سيما بملاحظة ما قدمناه في الفصلين السابقين، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها، وأيضاً ملاحظة ما سيأتي من سلوك المأمون المشبوه، مع الإمامعليه‌السلام ، ومعاملته السيئة للعلويين، وكل من يتشيع معهم، ويتعاطف معهم. وعلى الأخص إذا لاحظنا: أن المأمون لم تكن عقيدته هي المنطلق له في مواقفه السياسية، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة، ويؤكد وجوده في الحكم. وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف، وتارة يصف الصحابة، ما عدا الإمام عليعليه‌السلام بـ‍ (الملحدين)، ويصف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بـ‍ (جعل) إلى آخر ما هنالك من الشواهد والأدلة، مما لا نرى ضرورة لإعادته، ولعل الأهم من ذلك كله: أن تفضيل المعتزلة ـ معتزلة بغداد ـ علياًعليه‌السلام على جميع الصحابة، لم يكن واضحاً بعد في تلك الفترة، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل خطة الإمام. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم، على جميع الوجوه والتقادير.

وأما ما جعله سبباً ثالثاً: فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل.. ولكننا نستغرب منه جداً، بل ونأسف كل الأسف، لما طلع به علينا.

بما جعله سبباً رابعاً: من أن عدم تولي الأئمة للحكم يكسبهم شيئاً من التقديس، فأراد أن يولي الإمام الرضا العهد، ليزول عنهم ذلك التقديس ـ وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن القفطي في تاريخ الحكماء.

وليس واضحاً تماماً من هم (الأئمة) الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد الأئمة الاثني عشر، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم، وهو الإمام الرضا.. بل أعلن ذلك صراحة في عبارته الأخرى، التي أوردها في كتابه: (المهدي والمهدوية) ـ إذا كان كذلك ـ، فإننا نرى: أن لنا كل الحق في أن نتساءل:

هل عثر أحمد أمين لهؤلاء الأئمة، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس، على مدى تاريخهم الطويل؟!

وهل يستطيع أن يثبت عليهم أدنى شيء يمس كرامتهم، ويتنافى مع مروءتهم، ويخالف دينهم ورسالتهم؟!.

٢٢٦

ولماذا تظهر تفاهات غيرهم، وأخطاؤهم، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها، وإخفائها.. ولا تظهر أخطاء هؤلاء الأئمة، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم، والتعرف على أية نقيصة أو خطأ منهم إن كان؟!.

ومتى كان هؤلاء الأئمة مستورين عن الناس، منفصلين عنهم، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس؟!.

وهل كل شخصية لا تصل إلى الحكم يقدسها الناس؟!.

وهل كل شخصية تصل إلى الحكم لا يقدسها الناس؟!.

وهل التقديس مقصور على الشخصية المستورة، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه؟!.

وهل أثر وصول الإمام عليعليه‌السلام للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له؟!.

وهل يستطيع أحمد أمين أن يذكر لنا خطأ واحداً، ارتكبه الإمام عليعليه‌السلام ، طيلة فترة حكمه؟! رغم أن معاوية وسواه، ممن كانوا معادين للإمامعليه‌السلام ، ما كانوا يألون جهداً في إلصاق التهم به، والافتراء عليه؟!.

وأما عن الإمام الرضاعليه‌السلام :

فمتى كان مستوراً عن الناس، بعيداً عنهم؟!.

وهل تتفق دعواه باستتار الأئمة ـ والرضا منهم ـ عن الناس، مع ما اعترف به المأمون نفسه للإمام الرضاعليه‌السلام ، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد، حيث يقول: (.. وقد استبان له ـ أي للمأمون ـ ما لم تزل الأخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعاً، وناشئاً، وحدثاً، ومكتهلاً الخ.).

فهل يعقل: أن إنساناً من هذا النوع يكون مستتراً عن الناس، بعيداً عنهم، ولا يعيش فيما بينهم، منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله؟!.

ومع ذلك.. فأي خطأ يستطيع أحمد أمين، أن يسجله على الإمام الرضاعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون، رغم محاولاته الجادة ـ وهو الحاكم المطلق ـ من أجل أن يضع من الإمامعليه‌السلام قليلاً قليلاً، ويصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، على حد تعبير نفس المأمون؟!.

٢٢٧

وهل لم يقرأ أحمد أمين أقوال كبار علماء أهل السنة. وأئمتهم، وتصريحاتهم الكثيرة جداً حول أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، والإمام الرضا منهم بالذات، ليعرف مقدار عظمتهم، وطهارتهم، ونزاهتهم التي لا يشك، ولا يرتاب، ولا يناقش فيها أحد؟!.

وأخيراً.. هل زال ذلك التقديس عن الإمام الرضا، عندما ظهر للناس؟! أم أن الأمر كان على عكس ذلك تماماً؟!.

هذه بعض الأسئلة التي نوجهها للأستاذ: (أحمد أمين)، ولكل من يرى رأيه، ويذهب مذهبه،. وإننا لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.. وإنما ستواجه عنتاً وعناداً صاعقين، يبتزان منهم كل غريبة، ويظهران الكثير الكثير من الترهات العجيبة.. ولكن ليطمئن بالهم، وتهدأ ثائرتهم، فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل هذه الترهات، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات، فما تلك إلا: (شنشنة أعرفها من أخزم).

رأي غريب آخر في البيعة:

هذا.. ويرى بعض المؤلفين: أن المأمون كان في بيعته للرضاعليه‌السلام واقعاً تحت تأثير القوات المسلحة، وأنها هي التي أجبرته على ذلك، حيث كان القسم الكبير من قوادها، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين، وقد شرطوا عليه: أنهم لا يفتحون نار الحرب ضد الأمين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده، فأجابهم إلى ذلك(١) .

وأقول: ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ، الذي نقل له هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه، وسلوكه مع الإمامعليه‌السلام ، حتى قبل أن يصل إلى مرو، وكذلك سائر مواقفه معه، والتي تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه.

____________

(١) هذا ما ذكره الشيخ القرشي في كتابه: حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٣٨٧.

٢٢٨

وأحسب أن هذا المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته: (الأمين والمأمون) ص ٢٠٣، طبع دار الأندلس، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك. واحتمل ذلك أيضاً في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩. وكأن مؤلفنا يريد أن يقول: إن المأمون كان مضطراً إلى إجابتهم: إما خوفاً من انتفاضتهم عليه، أو رغبة في القضاء على أخيه الأمين، أو للسببين معاً.. ولكن هذا الاشتراط كما قلنا، ليس له أي سند تاريخي يدعمه، بل الشواهد التاريخية كلها على خلافه، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخوه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره (زيدان) لا يصلح شاهداً تاريخياً، بعد أن كان روائياً، لا يلتزم بالحقائق التاريخية. وبعد أن لاحظنا: أنه يعتمد التضليل في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي.

وأحسب أن هذا هو عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة، بأنه هو المدبر لها، والقائم بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الإيهام والإبهام.

وفريق آخر يرى:

وهناك بعض الباحثين يرى: أن من جملة الأسباب الهامة للبيعة: هو أن المأمون أراد أن يحذر العباسيين من مغبة المخالفة له، والاستمرار في ذلك. وأن يرغمهم، ويدفعهم إلى الوقوف إلى جانبه، بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين. وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد، وتأييدهم أخاه الأمين عليه، وتشجيعهم له ضده. كما أنه يكون بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له، ليستطيع مقابلتهم، والوقوف في وجههم، وينتقم منهم(١) .

ولكنه رأي لا تمكن المساعدة عليه:

لأن منطق الأحداث، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الإباء أن يكون هذا سبباً منطقياً للبيعة.. وقد قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع. هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون، من الدهاء والسياسة، وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها؟ وعلى الأخص في تلك الفترة من الزمن، التي كانت طافحة بالمشاكل، وكان العصيان فيها معلناً في أكثر مناطق الدولة، ومهددا به من كل جانب ومكان؟!.

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ جزء ٤ ص ٤٩٢، والتربية الدينية للفضلي ص ١٠٠، الطبعة الخامسة، وغير ذلك.

٢٢٩

إن الحقيقة هي: أن المأمون في تلك الفترة بالذات، وكان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلاً عن ثقة وحب أهل بيته، وعشيرته: العباسيين.

ثم.. وهل يمكن أن يلجأ المأمون للانتقام منهم، إلى هذا الأسلوب بالعاجز، بعد أن خضعوا له وانقادوا لأمره، وسلموا بالأمر الواقع، بعد مقتل الأمين؟!

ولماذا لا يقدر: أنهم سوف يقابلونه بالمثل، ويقومون في وجهه، ثأراً لكرامتهم، ودفاعاً عن وجودهم؟!. ولماذا يعطيهم الفرصة لإبراز عضلاتهم ضده، ويجعلهم يفكرون في تحدي سلطته، وهتك حرمته؟!. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون، بسبب بيعته للإمامعليه‌السلام ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي، في أواخر ذي الحجة، من نفس السنة التي بويع فيها للإمامعليه‌السلام بولاية العهد.

وأخيراً.. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه الضعفاء جداً، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم، بأساليب أخرى، أقل إثارة، وأشد نكاية؟!.

ولقد أشرنا، ولسوف نشير إلى ما قاله المأمون لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين. بل ويكفينا هنا: أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم، يقول المأمون: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ـ يعني للعلويين ـ عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..) وكذلك ما كتبه بخط يده في وثيقة العهد..

إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

فتلخص أن ما ذكر هنا، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون، ودهائه السياسي.

الفضل في قفص الاتهام:

وأخيراً.. فإن بعض المؤلفين، كأحمد أمين في كلامه المتقدم، وجرجي زيدان(١) وأحمد شلبي(٢) ، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٣، وابن الطقطقي في:

الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧، وغيرهما.. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة (ولاية العهد) هذه، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل، الذي كان يتشيع.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٢٠.

٢٣٠

ويرى آخر: أن سبب إشارة الفضل على المأمون بذلك، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في العلويين(١) .

الفضل بريء من كل ما نسب إليه:

أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي: إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يأبى عن نسبة التشيع للفضل، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الأمر، فضلاً عن كونه المدبر له، والقائم به.. اللهم إلا أن تكون مؤامرة اشترك الرجلان معاً في وضع خطوطها العريضة، آخذان في اعتبارهما ظروفهما، ومصالحهما الشخصية، ليس إلا..

بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدواً للإمامعليه‌السلام ، حيث إنه كان من صنائع البرامكة(٢) ، أعداء أهل البيتعليهم‌السلام . وأنه لم يكن حتى راغباً في البيعة للرضاعليه‌السلام ، وأنه وأخاه قد مانعا في عقد العهد للرضا(٣) ، فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له.. بل لم يكن يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان وإحضار المأمون له، وإعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢ والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي أرسلها إلى الإمام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين.

وذلك ما يقوي أنه كان متآمرا على الإمام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه وبين المأمون فراجعها.

____________

(١) البحار ٤٩ ص ١٣٢، وعيون أخبار الرضا ص ١٤٧، نقلاً عن: البيهقي عن الصولي.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٤٣، ١١٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦، و ص ٢٢٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٧٠، ونور الأبصار للشبلنجي ص ١٤٢، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٦، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٩، والبحار ج ٤٩، ص ١٤٥، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، ٣١١، وغير ذلك.

٢٣١

ولو أنه كان ممن يتشيع للإمامعليه‌السلام ، فكيف يمكن أن يتآمر عليه، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للإقدام على التخلص منهعليه‌السلام ، وذلك عندما ذهب إلى الرضا، وحلف له بأغلظ الأيمان، ثم عرض عليه قتل المأمون، وجعل الأمر إليه(١) . لكن الإمام بسبب وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة، حيث أدرك للتو أنها دسيسة ومؤامرة، فزجر الفضل وطرده، ثم دخل من فوره على المأمون، وأخبره بما كان من الفضل، وأوصاه أن لا يأمن له.

وبذلك يكون الإمامعليه‌السلام قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن. وعاد الفضل من مهمته تلك بخفي حنين، يجر هو وسيده أذيال الخيبة، والخزي، والخسران.

أما إذا كان الفضل قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ـ كما هو غير بعيد ـ فليس ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الإمامعليه‌السلام ، وحسده له، يريد بذلك تمهيد الطريق لمقتله، ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء، وحسبما يريد.

وأياً ما كانت الحقيقة، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية.

ويا ليته كان قد قنع بذلك.. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الإمامعليه‌السلام حتى إن بعض المؤرخين يرى: أن المأمون لم يقتل الإمام إلا بتحريض من الفضل بن سهل!!.

وبعد.. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون بإرجاع الإمام عن صلاة العيد، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه؟!. كما سنشير إليه إن شاء الله.

____________

(١) وإن كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون، وبدافع من حقده الدفين على الإمامعليه‌السلام ، وحسده له، يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد.

٢٣٢

وأيضاً.. مع إظهاره العداوة الشديدة للإمامعليه‌السلام وحسده له على ما كان المأمون يفضله به، على حد تعبير الريان بن الصلت؟!(١) .

وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي. وجعله عيناً للمأمون على الإمام، ينقل إليه حركاته وسكناته، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم؟!.

ولو أن الفضل كان ممن يتشيع للإمام، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء، إذ كيف لا يلتفت لأمر المأمون المؤكد لرسله: أن لا يمروا بالإمام عن طريق الكوفة وقم، لئلا يفتتن به الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل، إن لم يقبل ما يعرضه عليه، ثم إلى جلبه العلماء والمتكلمين من أقاصي البلاد، من أجل إفحام الإمام. وإظهار جهله وعجزه، إلى آخر ما هنالك، من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

ثم نرى أنه هو بنفسه يشارك في ذلك كله، وسواه، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للإمام، إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون..

وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون ينازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني، الذي انتهجه مع الإمام، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة، وإلى آخر لحظة عاشها معه، وبعد ذلك إلى ما شاء الله.

هذا كله من جهة.

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٩. وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٣.

٢٣٣

موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له:

ومن جهة ثانية.. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للإمامعليه‌السلام ، أو كان ممن يتشيع له، لم يكن من اللائق من الرضاعليه‌السلام أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون، وجعل الأمر إليه. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له، ويخبره بغشه وكذبه، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد، وغيرها(١) .

ولا من اللائق منه أيضاً: أن يعامله تلك المعاملة، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون. والتي كان فيها الكثير من الخشونة، والاحتقار والامتهان، فقد قدمنا أنه عندما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب الأمان، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه، ثم أمره بقراءة الكتاب، فقرأه ـ وكان كتاباً في أكبر جلد ـ وهو واقف، لم يأذن له بالجلوس.

وكذلك لم يكن من اللائق منه: أن يزري عليه عند المأمون، فقد ذكر المؤرخون: أنه (.. كان يذكر ابني سهل عند المأمون، ويزري عليهما، مما دفعهما إلى السعاية به، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما)(٢) .

إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر في حق أي إنسان عادي آخر في حق من يتشيع له، فضلاً عمن يتسبب في جعله ولياً لعهد الخلافة الإسلامية للأمة بأسرها.

والمأمون نفسه يستنكر ذلك:

ومن جهة ثالثة.. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية.. ولا شك أن (عند جهينة الخبر اليقين).

فقد قدمنا في الفصل السابق: أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل(٣) ! ـ عندما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا، وأنهم يقولون: (إن هذا من تدبير الفضل). قال للمأمون ذلك، فأجابه المأمون: (.. ويحك يا ريان! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت الخلافة، فيقول

____________

(١) تاريخ الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ١٠٢٥.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٥، ٥٦٦، وإعلام الورى ص ٣٢٥، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧١، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٦، والبحار ج ٤٩، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وغير ذلك.

(٣) صرح بأنه من رجاله في كتاب: البحار ج ٤٩ ص ١٣٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩.

٢٣٤

له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!.. الخ) لا.. أبداً.. لا يمكن أن نتصور، ولا يجوز في العقل: أن يأتي وزير ملك إليه، ويطلب منه التنازل عن عرشه، ويسلمه إلى رجل غريب، وهو يعلم أن ذلك الملك، قد قتل أخاه، وغيره، وهدم البلاد، وأهلك العباد، من أجل ذلك العرش.. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب، أي شأن، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون له من النفوذ، والسلطة والطول، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر، محكوماً لا حاكماً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. اللهم إلا أن يكون قد تآمر مع ذلك الملك الأول، لتنفيذ خطة معينة. قد رسماها معاً من قبل، وعملاً على أن تكون الأمور في نهاية الأمر في صالحهما، ومن أجل تعزيز نفوذهما وسلطتهما.

أما حصيلة هذه الجولة:

وهكذا.. تأبى الأحداث، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شيء، إلا على طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون، أفعى الدهاء والسياسة، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع، وتقييم عام له.

اتفقا على أثره على خطة للتخلص من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما، وتشكل ـ إلى حد ما ـ خطراً على وجودهما في الحكم، وتفردهما بالسلطة.. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول إبراهيم بن العباس في مدح الفضل في جملة أبيات له:

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأيــاً تـفل بـه كـتائبها

رأيا إذا نبت السيوف مضى

عـزم بـه فشفى مضاربها

٢٣٥

أجرى إلى فئة بدولتهـــا

وأقام في أخرى نواد بها(١)

ولعل الفضل كان مخدوعاً!.

ولكن ألا يحتمل قريباً: أن يكون الفضل مخدوعاً في هذه المرة على الأقل؟ وأنه هو أيضاً راح ضحية تآمر وتضليل من نفس سيده: المأمون؟!.

الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جداً، لأننا نرى في النصوص التاريخية، ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون، وأنه قد جازت عليه حيلة في بادئ الأمر، بادعائه: أنه إنما يوليه العهد، لأنه يريد خير الأمة ومصلحتها. أو لأنه يريد أن يفي بنذره (أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الأمين، فلسوف يسلم الخلافة لرجل غريب!)..

وقد تقدم أن ابن القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية، ولا عالماً بواقع الأمر.. ولعلنا نستطيع: أن نستدل على ذلك بقوة بممانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الأمر.

كما أننا رأينا المأمون: يرفض أن يطلب من الإمامعليه‌السلام كتاب الأمان للفضل، بحجة أن الإمام كان قد اشترط: أن لا يتدخل في شيء من أمور الدولة وشؤونها(٢) .

ثم نرى المأمون نفسه يطلب من الإمام: أن يولي فلاناً، أو أن يكتب إلى فلان بكذا، أو أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة، أو أن يصلي بالناس، إلى غير ذلك من الأمور.. مع أن ما كان يريده الفضل من الإمام، لم يكن له من الأهمية مثل ما كان يطلبه منه المأمون.

وعلى كل فقد يجوز للمأمون ـ حتى مع الشرط ـ ما لا يجوز لغيره بدونه.

____________

(١) الأغاني ط ساسي ج ٩ ص ٣١ ـ ٣٢.

(٢) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢. والبحار ج ٤٩ ص ١٦٨. ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٨.

٢٣٦

الفضل يقع في الشرك:

وأخيراً.. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول: مسكين الفضل بن سهل، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي ارتكبها، وأن يجعل هذا الوزير المسكين، الذي كان عدوا للإمام، والذي لم يشعر إلا وهو في الفخ، هو المسؤول عن أكثر جرائمه وموبقاته، بل وعنها جميعاً، حتى البيعة للرضاعليه‌السلام بل وحتى عن قتل أخيه الأمين! ولقد أدرك الفضل أنه قد وقع في الشرك، ولكن.. بعد فوات الأوان، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى بغداد، لأنه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار، وما سوف يتعرض له من مؤامرات، وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه، وبين له صراحة أنه هو المتهم بالبيعة للرضا، وبقتل الأمين، فلقد قال له:

(.. يا أمير المؤمنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك، وعند العامة، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع، وبيعة الرضا، ولا آمن السعاة والحساد، وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان الخ.)(١) .

ولكن أنى له أن يتركه المأمون، الذي كان يريد التخلص منه، من أجل أن ترضى عنه بغداد، مضافاً إلى أنه هو أيضاً كان يخشاه ويخافه. فلقد كان قد أعد العدة، وأحكم الخطة في أمره، ولم يبق إلا التنفيذ (كما سيأتي بيانه).

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٧.

٢٣٧

وبعد أن يئس الفضل من إقناع المأمون، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك. فطلب منه أن يكتب له كتاب ضمان وأمان. فاستجاب المأمون لهذا الطلب، وكتب له كتاباً(١) ، يسمى كتاب الحباء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون، وتوطيد سلطانه.

ونلاحظ: أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد، بل وزاد على ما كان يتوقعه الفضل الشيء الكثير، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه، ما دام أنه قد أحكم الخطة، ودبر له النهاية.

وكما رسم ودبر. كانت النهاية!.

لماذا الإصرار على اتهام الفضل:

وهكذا.. فإننا بعد كل ما تقدم، لا نرى مجالاً للإصرار على نسبة التشيع للفضل، أو القول: بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره، وخاضعا لإرادته، فقد يكون الفضل قد أعطي أكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة.. ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك، حتى وإن أنكره المأمون نفسه، وكذبته جميع الوقائع والأحداث ـ لعله ـ يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون ـ السلطة ـ بما لا يحبون اتهامه به، كالتشيع، والحب لآل عليعليهم‌السلام ، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة، لو فرض وجودها فعلاً.. أو لعل لأنهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لإدراك حقيقة ظروف المأمون، وأهدافه من البيعة..

____________

(١) الكتاب موجود في: البحار ج ٤٩ ص ١٦٠، ١٦٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٧، ١٥٩، وأوعز إليه اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ٤٥١ طبع صادر

٢٣٨

هذا.. وقد رأينا: أن العباسيين في بغداد، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم، يتهمون الفضل بن سهل بتدبيرها(١) .. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الأمر وواقع القضية، وما ذلك إلا لما قلناه، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون، وليبقى باب الصلح معه في المستقبل مفتوحاً. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون، حتى لا تلصق بها تهمة، يعلمون هم أكثر من غيرهم ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ ببراءته منها، ألا وهي تهمة: الحب لعلي، وآل بيته.

ولعله أيضاً لهذه الأسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل، وأنه لا يملك معه من الأمر شيئاً، حتى لقد قالوا عنه: إنه مسجون ومسحور(٢) . وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلاً إلا البيعة للرضا عليه‌السلام ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلاً..

جميل.. وجميل جداً.. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل، وإن كانت جميع الدلائل والشواهد متضافرة على العكس من ذلك.. ولو لم يكن ذلك يكفي لتبرئة المأمون، فهم على استعداد لاتهامه بعقله، كما قد حدث ذلك بالفعل، فذلك عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي والتشيع لهم..

____________

(١) فقد اتهموا الفضل بذلك بمجرد وصول رسالة الحسن بن سهل إليهم، يخبرهم فيها بأمر البيعة. راجع: الطبري ج ١١ ص ١٠١٣، طبع ليدن وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٣٦ وغير ذلك من كتب التاريخ.

(٢) راجع: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٨، والطبري ج ١١، وغير ذلك..

٢٣٩

احتمال وجيه جداً:

على أننا لا نستبعد كثيراً.. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذي هذه التبريرات والتمويهات، وخصوصاً بعد مقتل الفضل، ليبرئ نفسه أمام العباسيين، وليشوه الفضل.. كما أننا لا نشك أبداً في أن كثيراً مما يذكر عن الأمين هو في عداد الخرافات والأساطير التي شجعها المأمون وحزبه، لأن الأمين كان هو المغلوب، والمأمون كان هو الغالب.. وللغالب القدرة، بل والحق أيضاً ـ في نظر قاصري النظر ـ في أن يشوه المغلوب، ويصوره بالصورة التي يريد.

ويدلنا على أن المأمون هو المسؤول عن ذلك، ما رواه الحصري في زهر الآداب من: (أنه لما خلع المأمون أخاه أمين، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته. كان يعمل كتبا بعيوب أخيه، تقرأ على المنابر بخراسان الخ..)(١) .

وطبيعي بعد ذلك: أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا أحراراً، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم: أن يؤرخوا كما يريد المأمون، وأن يكتبوا ما يمليه عليهم، لا ما هو حق وواقع. يرونه بأم أعينهم. أو تحكم به ـ إن كانت ـ ضمائرهم.

وأخيراً.. وإذا تحقق أن الفضل بريء من تهمة التشيع، وتهمة تدبير أمر البيعة إلا على نحو التآمر، فلا يعني ذلك أنه بريء مما هو أشنع من ذلك وأقبح (فكل إناء بالذي فيه ينضح).

____________

(١) راجع: أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٨٦، نقلاً عن: زهر الآداب ج ٢ ص ١١١، تحقيق زكي مبارك، وطبع دار الجيل ج ٢ ص ٤٦٤.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (1) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (3) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (4) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج13، ص158 - 159.

(2) المؤمنون 23: 12 - 14.

(3) تفسير الجلالَين، ج2، ص44.

(4) تفسير المراغي، ج18، ص8.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (1) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (2) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 18، ص 16 - 17.

(2) المـُلك 67: 5.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (2) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (3) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين 50 و 60 كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(1) الصافّات 37: 7 - 10.

(2) الجنّ 72: 8 و 9.

(3) الحجر 15: 16 - 18.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(1) العنكبوت 29: 43.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (1) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (3) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (4) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (6) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (7) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (8) .

____________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 130 نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(2) الأنبياء 21: 18.

(3) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 301.

(4) الجنّ 72: 1 - 9.

(5) الحجر 15: 9.

(6) الفتح 48: 28.

(7) الحجّ 22: 52.

(8) الأمالي للصدوق، ص 253، المجلس 48، وبحار الأنوار، ج 15، ص 257.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (1) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (2) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (3) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (4) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (5) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (6) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 226 عن قرب الإسناد للحميري، ص 133.

(2) الحجر 15: 16.

(3) الأعراف 7: 10، الحجر 15: 20.

(4) الصافّات 37: 6 - 10. راجع: تفسير الجواهر، ج 8، ص 13، وج 18، ص 10.

(5) الأعراف 7: 40.

(6) فصّلت 41: 30.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (1) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (3) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (4) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (5) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (6) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (7) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(1) إبراهيم 14: 24.

(2) فاطر 35: 10.

(3) القمر 54: 11.

(4) الأنعام 6: 44، الأعراف 7: 96، الحجر 15: 14، النبأ 78: 19.

(5) بحار الأنوار، ج2، ص93، رقم 22 من كتاب العلم.

(6) الأنعام 6: 97.

(7) تفسير القميّ، ج1، ص211.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (1) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (3) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (4) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (5) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (6) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (7) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج36، ص 289، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص293.

(2) بحار الأنوار، ج40، ص203 عن جامع الأخبار للصدوق، ص15.

(3) راجع: بحار الأنوار، ج28، ص275.

(4) الملك 67: 3 - 5.

(5) النبأ 78: 12.

(6) ق 50: 6.

(7) الإسراء 17: 85.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (1) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (2)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (3) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(1) الذاريات 51: 47.

(2) في ظِلال القرآن، ج28، ص152.

(3) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب 371 والفصل الثالث منه، ج3، ص416 و433، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج1، ص75)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج1، ص 127.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (1) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (2) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(1) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

1 - الشمس: نَواة المنظومة.

2 - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس 13 مليون ميلاً، ودورها المحوري 18 ساعة، ودورها حول الشمس 20 يوماً.

3 - كوكب عطارد: بُعدها 35 مليون ميلاً دَورها المحوري 24 ساعة و5 دقائق، حول الشمس 88 يوماً.

4 - الزُهرة: بُعدها 66 مليون ميلاً، دَورها المحوري 23 ساعة و22 دقيقة، حول الشمس 225 يوماً.

5 - الأرض: بُعدها 93 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة، حول الشمس 365 يوماً.

6 - المرّيخ: بُعدها 140 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة و38 دقيقة، حول الشمس 687 يوماً.

7 - المشتري: بُعدها 476 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 12 سنة.

8 - زُحل: بُعدها 876 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات و 15 دقيقة، حول الشمس 29 سنة ونصفاً.

9 - أُورانوس: بُعدها 1753 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 84 سنة وأُسبوعا.

10 - نبتون: بُعدها 2746 مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس 164 سنة و285 يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص61 - 62.

(2) تفسير الجواهر، ج1، ص49 الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (1) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (2) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (4) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (5) .

____________________

(1) المصدر: ص 50 - 51 بتصرّف وتلخيص.

(2) الهيئة والإسلام، ص177 - 179.

(3) البقرة 2: 255.

(4) المؤمنون 23: 86.

(5) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج2، ص7.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (1) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (2) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد 1883م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(1) المصدر: ج2، ص6.

(2) تفسير الميزان، ج17، ص392 - 393.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (1)

____________________

(1) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط3)، ص199.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

1 - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (3) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (4) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

2 - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (5) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(1) الأنبياء 21: 33.

(2) يس 36: 40.

(3) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(4) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص452 - 453.

(5) المؤمنون 23: 17.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (1) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (2) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (3) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (4) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (5) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (6) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (7) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (8) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (9) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (10) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (11) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (12) .

____________________

(1) الجن 72: 11.

(2) طه 20: 63.

(3) طه 20: 104.

(4) الجنّ 72: 16.

(5) النازعات 79: 5، والذرايات 51: 4.

(6) السجدة 32: 5.

(7) الذاريات 51: 22.

(8) يونس 10: 3.

(9) الحجر 15: 21.

(10) مريم 10: 64.

(11) القدر 97: 4.

(12) راجع: الميزان، ج15، ص21.

٣٣٥

3 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (1)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

4 - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (2)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(1) الذاريات 51: 7.

(2) نوح 71: 15.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (1) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (2) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (3) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

5 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (4)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (5) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (6) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(1) ق 50: 6.

(2) الملك 67: 3.

(3) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج 10، ص 322 و 363، وروح المعاني للآلوسي، ج 29، ص 6 و75، وتفسير المراغي، ج 29، ص 6 و 85... وغيرها.

(4) البروج 85: 1.

(5) الحجر 15: 16.

(6) الفرقان 25: 61.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (1) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (2) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (3) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (4) .

6 - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(1) الحجر 15: 17.

(2) تفسير القمي، ج 1، ص 373، والميزان، ج 12، ص 143 و 154، وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 548، وروح المعاني، ج 14، ص 20.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 368.

(4) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 57.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (1) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (2) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (3) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (4) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(1) النور 24: 43.

(2) مجمع البيان، ج 7، ص 148.

(3) روح المعاني، ج 18، ص 172، وراجع: التفسير الكبير، ج 24، ص 14.

(4) الشعراء 26: 184.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (1) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (2) .

____________________

(1) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج 2، ص 304 - 306.

(2) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج 1، ص 325.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409