الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)9%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201565 / تحميل: 8426
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

هي قضية مصير:

وبأوضح بيان نقول: إنه لم يكن امتناع الإمامعليه‌السلام عن قبول ولاية العهد بالذي يثني المأمون عما كان قد عقد العزم عليه، لأن الأسباب التي كانت تدعوه لذلك لم تكن تسمح له أبداً بالإصغاء لهذا الرفض، فهي تحتم عليه أن يفعل ذلك، مهما كلفه الأمر، ومهما كانت النتائج، ولم يكن لديه مانع من تنفيذ تهديداته، ولو علم أنه لا سبيل إلى تنفيذ ما يصبو إليه، والحصول على ما يريد الحصول عليه، والقضية بالنسبة إليه هو المتعطش إلى الحكم والسلطة قضية مصير ومستقبل، لا يمكن المساومة معها، ولا مجال لغض النظر والتساهل فيها..

وإذا كان قد قتل أخاه من أجل الملك وفي سبيله، فأي مانع يمنعه من قتل الرضاعليه‌السلام من أجل الملك أيضاً، وفي سبيله.. أم يعقل أن يكون الرضا أعز عليه من أخيه، وسائر من قتل من وزرائه هو، وقواده، وأشياعه؟!؟.

ولسوف لا نستغرب على المأمون ـ بعد قتله أخاه ـ الإقدام على أي تصرف في سبيل الملك، حتى الإقدام على قتل الرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان أبوه الرشيد قد أملى عليه درس، (الملك عقيم)، وقال له: (والله، لو نازعتني أنت هذا الأمر، لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم..)(١) .

____________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ٧٣، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، وقاموس الرجال ج ١٠ صرح ٣٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩١، وينابيع المودة ص ٣٨٣، مع بعض تحريف لها، وغير ذلك..

٢٦١

ولم يكن ليخفى عليه أيضاً قول موسى بن عيسى، عندما رأى عبادة الحسين بن علي وأصحابه، في وقعة فخ: (.. هم والله، أكرم عند الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم. ولو أن صاحب هذا القبر ـ يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ، نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف.)(١) .

والمنصور أيضاً قد قرر هذه القاعدة بالذات حينما اعترض عليه سليمان بن مهران، وهذا الدرس قد أخذه الكل عن عبد الملك بن مروان، فإنه عندما قتل مصعب بن الزبير بكى، وقال: (لقد كان أحب الناس إلي، وأشدهم مودة لي، ولكن الملك عقيم، ليس أحد يريده من ولد ولا والد إلا كان السيف)(٢) .

بل وحتى نفس أخيه الأمين، عندما لم يعد له نجاة من براثن أخيه المأمون، نراه يتذكر هذه القاعدة، فيقول: (هيهات، الملك عقيم، لا رحم له..)(٣) .

ولقد عمل المأمون بهذه القاعدة، فقتل أخاه، وأعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم. بعد أن سجد شكراً لله، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس، إلى آخر ما مر تفصيله..

وإذا كانت القضية بالنسبة إلى المأمون قضية مصير ومستقبل وقضية ملك وسلطان، فطبيعي إذن أن نراه يخاطر بالخلافة (وإن كنا قدمنا أن ذلك كان منه سياسة ودهاء من أجل التمهيد لفرض ولاية العهد)، وأقدم على التخلي عن ولاية العهد، مع أن العباس ابنه وسائر ولده كانوا أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه من كل أحد، على حد تعبيره في رسالته للعباسيين.

ولقد قدمنا الشرح الكافي والوافي لحقيقة الظروف والأسباب، التي دعت المأمون إلى ذلك، والتي هي دون شك كافية لأن تجعل المأمون يقدم على أي عمل ـ ولو كان انتحاريا ـ من أجل إنقاذ نفسه وخلافته، والعباسيين.. حتى ولو كان ذلك الشيء هو قتل الإمامعليه‌السلام .. ولقد أخبر الإمام كرات، ومرات: أنه لم يقبل إلا بعد أن أشرف من المأمون على الهلاك.

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٥٣، وثمرات الأعواد ١٩٩، ٢٠٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ٧٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٢٩٦، وطبقات ابن سعد ج ٥ ص ١٦٨، والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣١٦.

(٣) تتمة المنتهى ص ١٨٥.

٢٦٢

مبررات قبول الإمام لولاية العهد:

ولقد قبل الإمامعليه‌السلام ولاية العهد. ولكن.. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها.. ولو فرض أنه كان له هوعليه‌السلام الحق ـ في مثل هذه الظروف ـ في أن يعرض نفسه للهلاك، فلن يكون له حق أبداً في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه، والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضاً..

هذا.. عدا عن أنهعليه‌السلام كان عليه أن يحتفظ بحياته، وحياة شيعته ومحبيه، لأن الأمة كانت بأمس الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم، ليكونوا لها قدوة ومناراً، تهتدي، وتقتدي به، في حالكات المشاكل، وظلم الشبهات.

نعم.. لقد كانت الأمة بأمس الحاجة إلى الإمامعليه‌السلام ، وإلى من رباهم الإمام، حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري، وثقافي غريب، من الزندقة والإلحاد، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات بالمبادئ الإلهية الحقة، فكان على الإمامعليه‌السلام أن يقف. ويقوم بواجبه، وينقذ الأمة، ولقد كان ذلك منه بالفعل، فلقد قام بواجبه، وأدى ما عليه، على أكمل وجه، رغم قصر المدة التي عاشها بعد البيعة نسبياً، ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية،((.. السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين، حتى خصم أهل الكتب، وثبت قواعد الدين..)) (١) .

والمراد بذلك: الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولو أنهعليه‌السلام رفض ولاية العهد، وعرض نفسه، وشيعته، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته، وموتهم أدنى أثر في هذا السبيل، بل كان الأثر عكسياً، وخطيراً جداً..

أضف إلى ذلك: أن قبول الإمام بولاية العهد، معناه اعتراف من العباسيين عملاً، مضافاً إلى القول: بأن العلويين لهم حق في هذا الأمر، بل إنهم هم الأحق فيه، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم.

____________

(١) البحار ج ١٠٢ ص ٥٣.

٢٦٣

وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا ولياً للعهد، لا يعني أن الحق في الخلافة كان للرضا والعلويين، دون المأمون والعباسيين. وأنه إنما أعطاهم عن طريق التقوى والورع، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا أنفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه، فهو يقول:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـذي قـد حرصتم

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غير مكثر

كما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

فمات الرضا من بعد ما قد علمتم

ولاذت بنا من بعده مرة أخرى(١)

وأيضاً.. حتى لا يتناساهم الناس، ويقطعوا آمالهم بهم، وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء، لا يهمهم العمل لما فيه خير الأمة، ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح وإصلاح ولعل إلى ذلك كله، يشير الإمامعليه‌السلام في قوله لمحمد ابن عرفة، عندما سأله عن قبوله بولاية العهد، فقال له: (يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟!).. فأجابه الإمامعليه‌السلام :((ما حمل جدي على الدخول في الشورى..)) (٢) .

هذا بالإضافة إلى أنه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الملأ، وعرفهم بواقع وأهداف كل ما أقدم عليه، وأزال كل شبهة ولبس في ذلك. كما قد حدث ذلك بالفعل.

هل الإمام راغب في هذا الأمر:

ولكن هذا كله وسواه، لا يعني أن الإمامعليه‌السلام كان راغباً في أي من الخلافة، أو ولاية العهد، فإن ما ذكرناه لا يبرر ذلك، حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان لا يمكن الحصول على بعضها

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٦٥، وديوان ابن المعتز ص ٢٢ ـ ٢٣ وإن اهتمام ابن المعتز الواضح بقضية الرضا مع المأمون، كما يظهر من شعره هنا، والذي قدمناه مع التعليق عليه في فصل: ظروف البيعة.. يدلنا على أن هذه القضية كان لها في الأمة صدي واسعاً، وآثاراً هامة، لم يكن بوسع ابن المعتز التغاضي عنها، والسكوت عليها.

(٢) راجع: مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٤، ومعادن الحكمة ص ١٩٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٠ ١٤١.

٢٦٤

من دون الدخول في هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره، ما سوف يجره الدخول في هذا الأمر من مآس ومشاكل، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.

وقد قدمنا في الفصل السابق البيان الكافي والوافي، لما سوف يعترض طريق الإمامعليه‌السلام من عقبات في الحكم، لو أنه كان قبل عرض الخلافة، وكيف ستكون النهاية له، ولنظام حكمه..

وهو يوضح لنا أيضاً حقيقة حاله، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد، إذ أنهعليه‌السلام كان يعلم: أن وصوله للخلافة، وتسلمه لازمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة، وأهوال عظيمة، لن يكون من اليسير التغلب عليها، وتجاوزها.

فلقد كان يعلم ـ كما أظهرت الأحداث والوقائع بعد ذلك ـ أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه، بحيث يبقى محتفظا بحياته، أو على الأقل بمركزه، إلى ما بعد وفاة المأمون، ولم يكن يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة، من أجل التخلص منه، وتصفيته، إن جسدياً، وإن معنوياً..

بل.. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل، فإن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، وهو بهذه السن المتقدمة، بالنسبة لسن المأمون.. كانت ضعيفة جداً، لا تبرر له الإقدام على قبول مثل هذا الأمر، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعاً عن نفسه، بأنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت، كما كان يريد المأمون!!

ومع غض النظر عن كل ذلك.. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة، وفوق ذلك كله، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين، وأشياعهم، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك، ولو تمكن من ذلك، فلسوف لا يدخرون وسعا، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول، من أجل زعزعة حكمه، وتقويض سلطانه، وخلق المشاكل الكثيرة له، لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم.

إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الأمة قيادة صالحة، وسليمة وحكيمة، وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل الذريع، والخيبة، القاتلة.

ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف، الطافحة بالمشاكل، وذلك عندما يجدون أن الإمامعليه‌السلام لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جديه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام .

٢٦٥

وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لتقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك، ويخضعوا لإرادته، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الأمويين، والعباسيين، المليئة بالانحرافات والموبقات.

اللهم إلا أن يقوم الإمامعليه‌السلام في فترة ولاية العهد، أو بداية حكمه بإعداد مسبق، وتعبئة عامة وشاملة، على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات.. وإلا.. فلسوف لا يكون قادراً على مواجهة ذلك الركام الهائل من المشاكل، ولا على النجاح والاستمرار في الحكم.. ولن يفسح العباسيون، والمأمون، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الإعداد، وتلك التعبئة، مهما كلفهم ذلك من تضحيات.

فالسلبية إذن هي الموقف الصحيح:

وبعد كل ما تقدم: فإن من الطبيعي أن لا يفكر الإمامعليه‌السلام في الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق الملتوي، والمحفوف بالأخطار، والذي لم يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس: سوف يكون موجباً للقضاء عليه، وعلى كل آماله، وكل العلويين، والمتشيعين لهم، ويحقق فقط آمال الآخرين، وأهدافهم.. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملاً انتحارياً، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.

لا بد من خطة لمواجهة الموقف:

وأخيراً.. وإذا كان لم يكن الرضاعليه‌السلام خيار في قبول ولاية العهد.. وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف، وآلة يتوصل بها إلى مآرب يمقتها، ويكرهها كل الكره، لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة، على حاضر الأمة، ومستقبلها، وعلى مستقبل هذا الدين، وكذلك لا يمكنه أن يسكت، ويظهر بمظهر الموافق، والمؤيد، والمساعد.

فإن كل ما يمكن له أن يفعله ـ بعد هذا ـ هو أن يضع خطة، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون، وإحباط مخططاته، حتى لا يزداد الوضع سوءا، والطين بلة..

فإلى الحديث عن خطته هذه في الفصل التالي.

٢٦٦

خطة الإمامعليه‌السلام

انحراف الحكام:

إن أدنى مراجعة لتاريخ الحكام آنذاك ـ العباسيين والأمويين على حد سواء ـ لكفيلة بأن تظهر بجلاء مدى منافاة تصرفات أولئك الحكام، وسلوكهم، وحياتهم لمبادئ الإسلام وتعاليمه.. الإسلام، الذي كانوا يستطيلون على الناس به، ويحكمون الأمة ـ حسب ما يدعون ـ باسمه، وفي ظله. حتى لقد أصبح الناس، والناس على دين ملوكهم، يتأثرون بذلك، ويفهمون خطأ: أن الإسلام لا يبتعد كثيراً عما يرون، ويشاهدون، مما كان من نتائجه شيوع الانحراف عن الخط الإسلامي القويم. بنحو واسع النطاق، ليس من السهل بعد السيطرة عليه، أو الوقوف في وجهه.

العلماء المزيفون وعقيدة الجبر:

ولقد ساعد على ذلك، وزاد الطين بلة، فريق من أولئك الذين اشتريت ضمائرهم، ممن يتسمون، أو بالأحرى سماهم الحكام بـ‍ (العلماء) حيث إنهم قاموا يتلاعبون بمفاهيم الإسلام، وتعاليمه، لتوافق هوى، وتخدم مصالح أولئك الحكام المنحرفين، الذين أغدقوا عليهم المال، وغمروهم بالنعمة.

حتى إن أولئك المأجورين قد جعلوا عقيدة الجبر ـ الواضح لكل أحد زيفها وسخفها ـ من العقائد الدينية الإسلامية!.، من أجل أن يسهلوا على أولئك الحكام استغلال الناس، ولكي يوفروا لهم حماية لتصرفاتهم تلك. التي يندى لها جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، إذ أنهم يكونون بذلك قد جعلوا كل ما يصدر منهم هو بقضاء من الله وقدره، ولذا فليس لأحد الحق في أن ينكر عليهم أي تصرف من تصرفاتهم، أو أي جناية من جناياتهم.

وكان قد مضى على ترويجهم هذه العقيدة المبتدعة ـ حتى زمان المأمون ـ أكثر من قرن ونصفاً، أي من أول خلافة معاوية، بل وحتى قبل ذلك أيضاً. بزمان طويل!

عقيدة الخروج على سلاطين الجور:

كما أنهم ـ أعني هؤلاء العلماء ـ قد جعلوا الخروج على سلاطين الجور والفساد موبقة من الموبقات، وعظيمة من العظائم..

٢٦٧

وقد جرحوا بذلك عدد من كبار العلماء: مثل الإمام أبي حنيفة وغيره، بحجة أنه: (يرى السيف في أمة محمد)(١) .

بل لقد جعلوا عدم جواز الخروج هذا من جملة العقائد الدينية، كما يظهر من تتبع كلماتهم(٢) .

وأما عقائد التشبيه، وقضية خلق القرآن، فلعلها أشهر من أن تذكر، أو تحتاج إلى بيان.

والذي زاد الطين بلة:

يضاف إلى ذلك كله غرور الحكام، الذي لا مبرر له، وكذلك من لف لفهم، الذين كانوا يحكمون الأمة باسم الدين.

وكذلك غفلة الناس، وعدم إدراكهم لحقيقة ما يجري وما يحدث، وللواقع المزري، الذي كان قائماً آنذاك.

وأيضاً.. وهو الأهم من كل ذلك ـ ابتعادهم، بسعي من الهيئات الحاكمة، عن أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة.

____________

(١) راجع: نظرية الإمامة، للدكتور أحمد محمود صبحي وغيره.

وفي تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٧٤،: أنه قيل لأبي مسهر: كيف لم تكتب عن محمد بن راشد؟! قال: (كان يرى الخروج على الأئمة).. وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى ج ٣ ص ٥٨، في مقام ترجيح سفيان على حسن بن حي، كان من جملة ما جرحه به أنه: (كان يرى السيف) ومثل ذلك كثير لا نرى حاجة لاستقصائه.

(٢) حسبما صرح به أحمد بن حنبل في رسالة (السنة) وهي عقايد أهل الحديث، والسنة. وقد أوردها أبو يعلى في طبقات الحنابلة ج ١ ص ٢٦. وصرح بذلك أيضاً الأشعري في مقالات الإسلاميين ج ١ ص ٣٢٣، وفي الإبانة ص ٩. وقد علل ذلك في نظرية الإمامة ص ٤١٧بقوله : (.. ذلك أنها: إن كانت بلوى من الله عقابا لهم، فما ثورتهم برادة عقاب الله. وإن كانت محنة للمسلمين، فما هم برادي قضاء الله)!. وفي كتاب السنة قبل التدوين ص ٤٦٧، نقل عن ابن خزيمة، في وصفه الطاعنين على أبي هريرة، قوله: إنهم إما معطل جهمي.. (وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد، أو قدري، اعتزل الإسلام، وأهله الخ.).

٢٦٨

كل ذلك.. قد أدى بالفعل إلى انحلال الدولة داخليا، وتمزيق أوصالها.. كما وأنه قد أسهم إسهاماً كبيراً في إبعاد الناس عن تعاليم السماء، وشريعة الله.. الأمر الذي لم يكن يعني إلا نهاية الحكم الإسلامي، وردة الناس إلى الجاهلية الجهلاء.. الأمر الذي لم يكن يرهب الحكام كثيراً، لأن الإسلام الذي يريدون، والدين الذي ينشدون، هو ذلك الذي يستطيعون أن يتسلطوا على الأمة، ويستأثروا بقدراتها وإمكاناتها في ظله. ويمهد لهم السبيل لاستمرارهم في فرض نفوذهم وسيطرتهم، ولو كان ذلك على حساب جميع الشرائع السماوية، وكل المفاهيم الإنسانية.

إن أولئك الحكام. ما كانوا يفكرون إلا في وسائل بقائهم واستمرارهم في الحكم، وإلا في شؤونهم ومصالحهم الخاصة بهم. أما الأمة المسلمة، وأما الإسلام، فلم يكن لهما لديهم أية قيمة، أو شأن يذكر، إلا في حدود ما يستطيعون الإفادة منهما في بقائهم ووجودهم في الحكم والسلطة.

الأئمة في مواجهة مسؤولياتهم:

وفي هذا الوسط الغريب: من غفلة الناس، ومن سيرة الحكام، والمتسمين بالعلماء وسلوكهم.. كان الأئمةعليهم‌السلام يؤدون واجبهم في نشر تعاليم السماء، ويكافحون، وينافحون عنها، بقدر ما كانت تسمح لهم ظروفهم، التي كانت في ظل سلطان أولئك المنحرفين قاسية إلى حد بعيد.

وأما عن الإمام الرضا بالذات:

وقد سنحت للإمام الرضاعليه‌السلام فرصة لفترة وجيزة، كان الحكام منشغلين فيها بأمور تهمهم.. للقيام بواجبه في توعية الأمة، وتعريفها بتعاليم الإسلام. وذلك في الفترة التي تلت وفاة الرشيد، وحتى قتل الأمين. بل نستطيع أن نقول: إنها امتدت ـ ولو بشكل محدود ـ حتى وفاة الإمامعليه‌السلام في سنة (٢٠٣). الأمر الذي كان من نتيجته ازدياد

نفوذهعليه‌السلام ، واتساع قاعدته الشعبية، حتى لقد كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان هو الأرضى في الخاصة والعامة، حسبما ألمحنا إليه من قبل.

الخطة الحكيمة:

وعندما أراد المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد، وعرف الرضا: أن لا مناص له من قبول ذلك، كان من الطبيعي أن يعدعليه‌السلام العدة، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون، وإحباط أهدافه الشريرة، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الإمامعليه‌السلام ، وتحطيمه معنوياً واجتماعياً.

٢٦٩

ولقد كانت خطة الإمام هذه في منتهى الدقة والإحكام، وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة وتضييع كثير من أهدافها، وجعل الأمور في صالح الإمامعليه‌السلام ، وفي ضرر المأمون.. حتى لقد ضاع رشد المأمون (بل ورشد أشياعه أيضاً)، وهو أفعى الدهاء والسياسة، ولم يعد يدري ما يصنع، ولا كيف يتصرف..

مواقف لم يكن يتوقعها المأمون:

ولعلنا نستطيع أن نسجل هنا بعض المواقف للإمامعليه‌السلام ، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا، والتي كانت ضمن خطة الإمامعليه‌السلام في مواجهة مؤامرات المأمون..

الموقف الأول:

إننا نلاحظ أن الإمامعليه‌السلام قد رفض دعوة المأمون، وهو في المدينة

ولم يقبل إلا بعد أن علم أنه لا يكف عنه.. بل إن بعض النصوص تشير إلى أنه قد حمل إلى مرو بالرغم عنه، لا باختياره..

وما ذلك إلا ليعلم المأمون: أن حيلته لم تكن لتجوز عليه، وأنهعليه‌السلام على علم تام بأبعاد مؤامرته وأهدافها.. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث، وسلامة النوايا فيه.

الموقف الثاني:

إنه رغم أن المأمون كان قد طلب من الإمامعليه‌السلام ـ وهو في المدينة ـ أن يصطحب معه من أحب من أهل بيته في سفره إلى مرو.

إنه رغم ذلك.. نلاحظ: أنهعليه‌السلام لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الإمام الجوادعليه‌السلام ، مع علمه بطول المدة، التي سوف يقضيها في هذا السفر، الذي سوف يتقلد فيه زعامة الأمة الإسلامية، حسب ما يقوله المأمون.. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره ذاك، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية.

شكوك لها مبرراتها:

ونرى أننا مضطرون للشك في نوايا المأمون وأهدافه من وراء طلبه هذا (أن يصطحب الإمامعليه‌السلام من شاء من أهل بيته إلى مرو).

٢٧٠

بعد أن رأينا: أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر إلى مرو، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد، ولا غير هؤلاء، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره..

فلعل الإمامعليه‌السلام بل إن ذلك هو المؤكد، الذي تدل عليه تصريحاته وتصرفاته حيث تأهب للسفر ـ لعله ـ قد ظن لنوايا المأمون هذه، فضيع الفرصة عليه، وأعاد كيده إليه..

الموقف الثالث:

سلوكه في الطريق، كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك(١) ، حتى اضطر المأمون لأن يظهر على حقيقته، ويطلب من رجاء هذا: أن لا يذكر ما شاهده منه لأحد، بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على لسانه(٢) ، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا، حتى ولو مرة واحدة، فلم يدع أحد أنه سمع شيئاً من المأمون عن سلوك الإمامعليه‌السلام ، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء، فلعله لم يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون، وبعد أن ارتفعت الموانع، وقضي الأمر.

الموقف الرابع:

موقفه في نيشابور، الذي لم يكن أبداً من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضاً، حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الألوف(٣) ـ أبلغهم ـ:((كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل

____________

(١) راجع: البحار ج ٤٩ من ص ٩١ حتى ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨١ فما بعدها: وهو كلام معروف لا نرى أننا بحاجة لتكثير مصادره هنا.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٣.

(٣) وذلك يدل على مدى تعاطف الناس مع أهل البيت، ومحبتهم لهم. الأمر الذي كان يرعب المأمون ويخيفه. حتى لقد كان يحاول كبت عواطف الناس هذه، وهذا هو السبب في منع الإمام من المرور عن طريق الكوفة وقم، كما سيأتي.

٢٧١

حصني أمن من عذابي)) (١) .

هذه الكلمة.. التي عد أهل المحابر والدوي، الذين كانوا يكتبونها، فأنافوا على العشرين ألفاً.. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم..

(.. ونلاحظ: أنهعليه‌السلام ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية، ترتبط ببعض مجالات الحياة: كالصوم، والصلاة، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا، وترغبهم في الآخرة، كما كان شأن العلماء آنذاك.

كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لأهداف شخصية، أو سياسية، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف.. مع أنه يتوجه إلى مرو، ليواجه أخطر محنة تحدد وجوده، وتهدد العلويين، ومن ثم الأمة بأسرها.

وإنما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي، الذي يفترض فيه: أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم، ووجودهم، إن حاضراً، وإن مستقبلاً، ألا وهي مسألة:

التوحيد.. التوحيد: الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى، بمختلف جوانبها، وإليه تنتهي، وعلى وبه تقوم..

التوحيد: الذي ينجي كل الأمم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الإنسان، فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه..

مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد:

هذا.. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ لهم سماع كلمة الإمامعليه‌السلام ، لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة، أو لتوجههم لأمور جانبية أخرى، كما يحدث ذلك كثيراً في مناسبات كهذه..

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه القضية في فصل: (شخصية الإمام الرضا) فمن أراد فليراجع.

٢٧٢

نرى الإمامعليه‌السلام يتصرف بنحو آخر، حيث إنه عندما سارت به الناقة، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم. وقلوبهم مشدودة إليها.. نراه يخرج رأسه من العمارية، فيسترعي ذلك انتباه الناس، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم، ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الأخرى:((بشروطها، وأنا من شروطها)) .

لقد أملى الإمامعليه‌السلام كلمته هذه عليهم، وهو مفارق لهم، لتبقى الذكرى الغالية، التي لا بد وأن يبقى لها عميق الأثر في نفوسهم(١) .

لقد أبلغهمعليه‌السلام مسألة أساسية أخرى، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوحيد، ألا وهي مسألة: (الولاية).

وهي مسألة بالغة الأهمية، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى، وتنعم بالعيش الكريم، إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة. والعادلة، والواعية لكل ظروف الحياة. وشؤونها، ومشاكلها ـ ما دامت هذه

____________

(١) ويلاحظ: أن هذه الكلمة قد صيغت بنحو لا بد معه من الرجوع إلى الكلمة الأولى، ومعرفتها.

وبعد.. فما أشبه موقفهعليه‌السلام هنا بموقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم، حيث إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيضاً قد أبلغ المسلمين مسألة الولاية، في ذلك الموقف الحاشد، وفي المكان الذي لا بد فيه من تفرق الناس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذهاب كل منهم إلى بلده، ولعل إرجاع المتقدمين، وحبس المتأخرين يشبهها إخراج الإمامعليه‌السلام رأسه من العمارية..

يضاف إلى ذلك: أن موقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان آخر مواقفه العامة في حياته إلى آخر ما هنالك من وجوه الشبه بين الواقعتين.

ولعلنا نجد تشابهاً بين هذه الواقعة، وبين قضية إرجاع أبي بكر عن تبليغ آيات سورة براءة، ثم إرسال علي مكانه..

٢٧٣

المسألة ـ لم تحل، فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت، والذين يجعلون لأنفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله، ويحكمون بغير ما أنزل الله، وليبقى العالم ـ من ثم ـ يعني الشقاء والبلاء، ويعيش في متاهات الجهل، والحيرة، والضياع..(١) .

وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة: (الولاية) بمسألة (التوحيد) فلسوف نعرف: أن قولهعليه‌السلام :((وأنا من شروطها)) لم تمله عليه مصلحته الخاصة، ولا قضاياه الشخصية..

ولسوف ندرك أيضاً: الهدف الذي من أجله ذكر الإمامعليه‌السلام سلسلة سند الرواية، الأمر الذي ما عهدناه، ولا ألفناه منهمعليهم‌السلام . إلا في حالات نادرة، فإنهعليه‌السلام قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للأمة بالمبدأ الأعلى..

الإمام ولي الأمر من قبل الله، لا من قبل المأمون:

وعدا عن ذلك كله.. فإننا نجد أن الإمامعليه‌السلام ، حتى في هذا الموقف، قد اهتبل الفرصة، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الألوف: أنه الإمام للمسلمين جميعاً، والمفترض الطاعة عليهم، على حد تعبير القندوزي الحنفي، وغيره وذلك عندما قال لهم:((وأنا من شروطها)) .

وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمامعليه‌السلام إلى مرو. ألا وهو: الحصول على اعتراف بشرعية خلافته، وخلافة بني أبيه العباسيين.

إذ أنه قد بين للملأ بقوله:((وأنا من شروطها)) أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد، لا من جهة أنه ولي الأمر من قبل المأمون، أو سيكون ولي الأمر أو العهد من قبله، وإنما لأن الله تعالى جعله من شروطها.

____________

(١) قد استرشدنا في بعض ما ذكرناه بما ذكره الأستاذ علي غفوري، في كتابه: (ياد بود هشتمين إمام) (فارسي).

٢٧٤

وقد أكدعليه‌السلام على هذا المعنى كثيراً، وفي مناسبات مختلفة، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي، وأيضاً في الكتاب الجامع لأصول الإسلام والأحكام، الذي طلبه منه المأمون، حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ، مع أن عدداً منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرةعليه‌السلام .

الإمام يبلغ عقيدته لجميع الفئات:

وأخيراً.. لا بد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الإشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم، الذي يقدر بعشرات. بل بمئات الألوف:

١ ـ حشداً من أهل الحديث وأتباعهم، الذين جعلوا صلحاً جديداً بين الخلفاء الثلاثة، وبين عليعليه‌السلام في معتقداتهم، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم، حتى جعلوه إذا سمع ذكراً لأبي بكر يبكي حباً، ويمسح عينيه ببرده(١) .

وجعلوه أيضاً ضراباً للحدود بين يدي الثلاثة: أبي بكر، وعمر،

____________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١٢٠، وغيره.

٢٧٥

وعثمان(١) ، كما تنبأ هو نفسهعليه‌السلام بذلك(٢) . إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير، والناقد الخبير..

٢ ـ وحشداً من أهل الإرجاء، الذين ما كانوا يقيمون وزناً لعلي، وعثمان. بل كانت المرجئة الأولى لا يشهدون لهما بإيمان، ولا بكفر..

٣ ـ وأيضاً.. أن يضم حشداً من أهل الاعتزال، الذين أحاطوا بالمأمون، بل ويعد هو منهم، والذين تدرجوا في القول بفضل عليعليه‌السلام حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم، فقد كان مؤسسا نحلة الاعتزال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلاً، ولكن أتباعهما تدرجوا على مر الزمان في القول بفضله، فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر، أو القول بتساويهما في الفضل.

ولكن رئيس معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة، ولكنه قال بصحة خلافتهم.. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد، وكثير من البصريين.

وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء. وغيرهم ممن لم نذكرهم.. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الإمام هذه:((وأنا من شروطها)) ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء، وإقامة للحجة عليهم جميعا. على اختلاف أهوائهم، ومذاهبهم..

ويكون قد بلغ بهذه الكلمة:((وأنا..)) صريح عقيدته، وعقيدة آبائه الطاهرين عليهم‌السلام في أعظم مسألة دينية، تفرقت لأجلها الفرق في الإسلام، وسلت من أجلها السيوف.

____________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١١٩، ١٢٠، والمحاسن والمساوي ج ١ ص ٧٩ طبع مصر. والفتوحات الإسلامية لدحلان ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٣٦٨.

(٢) فقد قال بعد أن ضرب الوليد بن عقبة الحد، لشربه الخمر: (لتدعوني قريش بعد هذا جلادها». الغدير ج ٨ ص ١٢١. وقد صدقت نبوءته، صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعلوه ـ كما ترى ـ ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة!!.

٢٧٦

بل لقد قال الشهرستاني: (.. وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان.)(١) .

وبعد كل ما قدمناه.. لا يبقى مجال للقول: إن قوله هذا:((وأنا..)) لا ينسجم مع ما عرف عنه عليه‌السلام من التواضع البالغ، وخفض الجناح، إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لا بد للإمام في ذلك المقام، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولاً وآخراً، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، وإن جزع من ذلك قوم. وحنق آخرون.

تعقيب هام وضروري:

ومما هو جدير بالملاحظة هنا، هو أن أئمة الهدىعليهم‌السلام كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهمعليهم‌السلام الأحق بقيادة الأمة، وخلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . مع أنها لا شيء أخطر منها عليهم. كما تشير إليه عبارة الشهرستاني الآنفة، وغيرها.

وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم، وبأحقيتهم بهذا الأمر.

____________

(١) الملل والنحل، ج ١ ص ٢٤، وقال الخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٧: (.. والخلاصة: أن مسألة الخلافة الإسلامية والاستخلاف، لم تسر مع الزمن في طريق يؤمن فيه العثار. بل كان تركها على ما هي عليه، من غير محل محدد ترضاه الأمة، وتدفع عنه سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق والحروب المتواصلة، التي قلما يخلو منها زمن، سواء كان ذلك بين بيتين، أو بين شخصين.) انتهى.

وأقول: إذن. كيف جاز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك الأمة هكذا هملا، ثم لا يضع حلاً لأعظم مشكلة تواجهه، مع أن شريعته كاملة وشاملة، وقد بين فيها كل ما تحتاجه الأمة، حتى أرش الخدش.

٢٧٧

فنرى الإمام موسىعليه‌السلام يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة، ويصارحه بها، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة(١) . بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ.

ولقد نقل غير واحد(٢) أنه: عندما وقف الرشيد على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال مفتخرا: السلام عليك يا ابن عم. جاء الإمام موسىعليه‌السلام ، وقال:((السلام عليك يا أبة)) . فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه: وعندما قال له الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سراً؟!

أجابه الإمامعليه‌السلام :((أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم)) (٣) . وأما الحسن، والحسين، وأبوهما، فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضاعليه‌السلام للقائل له: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم؟!.

____________

(١) راجع: الصواعق المحرقة، وينابيع المودة، ووفيات الأعيان، والبحار، وقاموس الرجال، وغير ذلك.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٨٣، والكامل لابن الأثير ج ٦، ص ١٦٤ ط صادر، والصواعق المحرقة ص ١٢٢، والإتحاف بحب الأشراف ص ٥٥، ومرآة الجنان ج ١ وأعيان الشيعة، وينابيع المودة، وغير ذلك.

(٣) الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٥، والصواعق المحرقة ص ١٢٢.

٢٧٨

فأجابه الإمامعليه‌السلام :((جرأني على هذا ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة، فأشهد أني لست بنبي.. وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة، فاشهدوا أني لست بإمام.)) (١) .

وفي هذا المعنى روايات عديدة(٢) .

ولكنهمعليهم‌السلام قد انصرفوا بعد الحسينعليه‌السلام عن طلب هذا الأمر بالسيف. إلى تربية الأمة، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار، ولأنهم كانوا يعلمون: أن طلب هذا الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة، وواعية، لن يؤدي إلى نتيجة، ولن يقدر له النجاح، الذي يريدونه هم، ويريده الله. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلواعليهم‌السلام يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر، حتى مع خلفاء وقتهم، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة.

الموقف الخامس:

رفضه الشديد لكلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر أشهراً، وهو في مرو نفسها، حتى لقد هدده المأمون أكثر من مرة بالقتل.

وبذلك يكون قد مهد الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة، حيث قال له: إنه يريد أن يقول للناس: إن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه، وليكون بذلك قد أفهم المأمون أن

____________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢١٣.

(٢) راجع: البحار ج ٤٩، وروضة الكافي: وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.

٢٧٩

حيلته لم تكن لتجوز، وأن زيفه لا ينطلي عليه، وأن عليه أن يكف في المستقبل عن كل مؤامراته ومخططاته. وليكون المأمون بعد هذا غير مطمئن لأي عمل يقدم عليه، وضعيف الثقة بكل الحيل والمؤامرات التي يحوكها. هذا بالإضافة إلى أن الناس سوف يشكون في طبيعية هذا الأمر، وسلامة نوايا المأمون فيه.

الموقف السادس:

ولم يكتف الإمامعليه‌السلام بذلك كله.. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا يؤكد فيها على أن المأمون قد أكرهه على هذا الأمر، وأجبره عليه، وهدده بالقتل إن لم يقبل.

يضاف إلى ذلك.. أنه كان يخبر الناس في مختلف المناسبات: أن المأمون سوف ينكث العهد، ويغدر به.. حتى لقد قال في نفس مجلس البيعة للمستبشر:((لا تستبشر، فإنه شيء لا يتم)) بل لقد كتب في نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن.

هذا عدا عن أنه كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون، ولا يسمه إلا هو، حتى لقد واجه نفس المأمون بهذا الأمر.

بل إنه لم يكن يكتفي بمجرد القول، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير إلى عدم رضاه بهذا الأمر، وإلى أنه مكره مجبر عليه.

٢٨٠

حيث إنه كان على حد تعبير الرواة: (في ضيق شديد، ومحنة عظيمة) و (لم يزل مغموماً مكروباً حتى قبض)، و (قبل البيعة، وهو باك حزين) وكان كما يقول المدائني: (إذا رجع يوم الجمعة من الجامع، وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه وقال:((اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت، فعجل لي الساعة)) (١) .

إلى آخر ما هنالك، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة..

وواضح: أن كل ذلك سوف يؤدي إلى عكس النتيجة، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة، وخصوصاً إذا ما أردنا الملائمة بين مواقفه هذه، وموقفه في نيشابور، وموقفه في صلاتي العيد في مرو.

الموقف السابع:

إنه كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم، بل وإثبات أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا هي شرعية.

أما ما يتعلق بصحة خلافة المأمون:

فنلاحظ: أنهعليه‌السلام حتى في كيفية البيعة يشير ـ على ما صرح به كثير من المؤرخين ـ إلى أن المأمون، الذي يحتل عنوة مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يجهل حتى كيفية ذلك العقد الذي خوله ـ بنظره ـ أن يكون في ذلك المجلس الخطير، حيث إنهعليه‌السلام : (.. رفع يده، فتلقى بظهرها وجه نفسه، وبطنها وجوههم، فقال له المأمون: إبسط

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٤٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥.

٢٨١

يدك للبيعة، فقال له:((إن رسول الله هكذا كان يبايع، فبايعته الناس)) (١) .

ونظير ذلك أيضاً: ما روي من أن المأمون قد أمر الناس: أن يعودوا للبيعة من جديد، عندما أعلمه الإمامعليه‌السلام : بأن كل من كان قد بايعه، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشاب الأخير.. وهاج الناس بسبب ذلك. وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضاً(٢) .

وأما أن الخلافة حق للإمامعليه‌السلام دون غيره:

فلعله لا يكاد يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الإمامعليه‌السلام ومواقفه وقد تحدثنا آنفاً عن موقفه في نيشابور، وهو في طريقه إلى مرو، وكيف أنهعليه‌السلام جعل نفسه الشريفة والاعتراف بإمامته شرطا لكلمة التوحيد، والدخول في حصن الله الحصين..

وأشرنا أيضاً: إلى أنه قد عدد الأئمة الشرعيين، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما كتبه للمأمون. بل لقد المح إلى ذلك أيضاً بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده.

كما أن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الإمامعليه‌السلام حينما بويع له بولاية العهد، وهو ما يلي:

____________

(١) راجع: المناقب ج ٤ ص ٣٦٩، ٣٦٤ والبحار ج ٤٩ ص ١٤ ٤. وعلل الشرايع، ومقاتل الطالبيين، ونور الأبصار، ونزهة الجليس، وعيون أخبار الرضا.

(٢) راجع: على سبيل المثال: شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤.

٢٨٢

((.. إن لنا عليكم حقاً برسول الله، ولكم علينا حق به، فإذا أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم..)).

ولم يؤثر عنه في ذلك المجلس غير ذلك.. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ..

ومن الواضح: أن اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة، يتعرض فيها لمختلف المواضيع، وعلى الأقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده ـ إن اقتصاره على هذا ـ يعتبر أسلوباً رائعاً لتركيز المفهوم الذي يريده الإمامعليه‌السلام في أذهان الناس، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة، وعن موقفه منها، ومن جهاز الحكم، في نفس مجلس البيعة، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن: الإمام كان يرغب في هذا الأمر، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه. وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون.

يضاف إلى كل ذلك: أنهعليه‌السلام قال لحميد بن مهران، حاجب المأمون:((.. وأما ذكرك صاحبك ـ يعني المأمون، والمأمون جالس ـ،الذي أجلني، فما أحلَّني إلا المحل الذي أحلَّه ملك مصر ليوسف الصديق عليه‌السلام ، وكانت حالهما ما قد علمت.)) .

كما أنهعليه‌السلام قد قال أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة:((إن من أخذ برسول الله، لحقيق بأن يعطي به)) ، وذلك عندما عرض له المأمون بالمن عليه بأن جعله ولي عهده، وفي غير هذه المناسبة أيضاً.

المأمون يعترف بأحقية آل علي بالأمر:

ولعل من أعظم المواقف الجديرة بالتسجيل هنا موقفةعليه‌السلام مع المأمون، عندما حاول هذا أن يحصل منهعليه‌السلام على اعتراف بأن العباسيين والعلويين سواء بالنسبة لقرباهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك من أجل أن يثبت ـ بزعمه ـ أن له ولبني أبيه حقاً في الخلافة.

فكانت النتيجة: أن نجح الإمامعليه‌السلام في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الأقرب.. وتكون النتيجة ـ على حسب منطق المأمون، ومنطق أسلافه كما قدمنا ـ هي: أن العلويين هم الأحق بالخلافة والرياسة، وأنه هو، وآباءه غاصبون، ومعتدون..

٢٨٣

فبينما المأمون والرضاعليه‌السلام يسيران، إذ قال المأمون:

(.. يا أبا الحسن، إني فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه: فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.

فقال له أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :((إن لهذا الكلام جوابا، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت..

فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه..

قال له الرضاعليه‌السلام :أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، يخطب إليك ابنتك، كنت مزوجه إياها؟.

فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!.

فقال له الرضاعليه‌السلام ،أفتراه كان يحل له أن يخطب إلي)) ؟.

قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال: (أنتم والله، أمس برسول الله رحماً)(١) .

وكانت هذه ضربة قاضية وقاصمة للمأمون. لم يكن قد حسب لها أي حساب. ولم يكن ليتمكن في مقابل ذلك من أي عمل ضد الإمامعليه‌السلام ، بعد أن كان هو الجاني على نفسه، فـ‍ (على نفسها جنت براقش).

____________

(١) كنز الفوائد للكراجكي ص ١٦٦، والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص ١٥، ١٦، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٨، ومسند الإمام الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ١٠٠.

٢٨٤

وبعد كل ذلك فقد قدمنا قول ابن المعتز:

وأعطاكم المأمون حق خلافة

لـنا حقها، لكنه جاد بالدنيا

وخلاصة الأمر:

إنهعليه‌السلام لم يكن يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون، وتضييع الفرصة عليه، وإفهام الناس أنه مكره على هذا الأمر، مجبر عليه. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية، أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقاً للإمام اغتصبه الغاصبون، واعتدى عليه فيه المعتدون، فليس المأمون حق في أن يعرض لهعليه‌السلام بالمن عليه، بما جعل له من ولاية العهد.

وكذلك ليس للمأمون بعد: أن يدعي العدل والإنصاف، فضلاً عن الإيثار والتضحية في سبيل الآخرين، بعد أن فضح الإمام أهدافه من لعبته تلك، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة.

الأكذوبة المفضوحة:

وبعد.. فقد ذكر بعض أهل الأهواء، كابن قتيبة، وابن عبد ربه، واقعة خيالية، غير تلك التي ذكرناها آنفاً وهي:

أن المأمون قال لعلي بن موسى: علام تدعون هذا الأمر؟!.

قال:((بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..)) .

٢٨٥

فقال المأمون: (إن لم تكن إلا القرابة، فقد خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هو أقرب إليه من علي، أو من هو في قعدده. وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن الأمر بعدها للحسن، والحسين، فقد ابتزهما علي حقهما، وهما حيان، صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه). فلم يحر علي بن موسى له جواباً(١) .. انتهى.

وهي واقعة مزيفة ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية، التي جرت بينهما، والتي تنسجم مع كل الأحداث والوقائع، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها، ألا وهي تلك التي قدمناها آنفاً..

والدليل على زيف هذه الرواية: أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها، لأنهم يرون ـ كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة، وأقوالهم المتضافرة ـ: أن منصب الإمامة لا يكون إلا بالنص.

وأما الاستدلال بالقرابة، فقد قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب: أن أول من التجأ إليه أبو بكر، ثم عمر. ثم الأمويون، فالعباسيون، ثم أكثر، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة.. وأنه إذا كان في كلام الأئمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك، فإنما اقتضاه الحجاج مع خصومهم.

وبعد.. فهل يخفى على الإمامعليه‌السلام ضعف ووهن هذه الحجة، مع أننا نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد ـ كما سنشير إليه ـ وأنه لا بد في الإمام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات، وعلى جميع المستويات.

ولقد كان على المأمون ـ لو صحت هذه الرواية ـ أن يغتنمها فرصة، ويعلنها على الملأ، ويشهر بالإمامعليه‌السلام ، ليسقطه ـ ومن ثم.. يسقط العلويين كلهم من أعين الناس.. ويسلبهم وإلى الأبد السلاح الذي كانوا يحاربونه ويحاربون آباءه به.. مع أن ذلك هو ما كان يبحث عنه المأمون ليل نهار، ويدبر المكايد، ويعمل الحيل، من أجله، وفي سبيله..

____________

(١) راجع: عيون الأخبار ج ٢ ص ١٤٠، ١٤١، طبع مصر سنة ١٣٤٦، والعقد الفريد ج ٥ ص ١٠٢، و ج ٢ ص ٣٨٦، طبع دار الكتاب العربي..

٢٨٦

وعدا عن ذلك كله. كيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع مواقف الإمام، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الإمامة، وبأي شيء تثبت، وحول أوصاف الإمام ووظائفه، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات؟!.

وكذلك.. مع احتجاج الإمامعليه‌السلام على العلماء والمأمون في أكثر من مناسبة بالنص، وأيضاً مع موقفهعليه‌السلام في نيشابور؟!

اللهم إلا أن يكون أعلم أهل الأرض ـ باعتراف المأمون قد نسي حجته، وحجة آبائه، وكل من ينتسب إليهم، ويذهب مذهبهم..

تلك الحجة ـ التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان ـ نسيها ـ في تلك اللحظة فقط، لأن المأمون هو الذي يسأل، والرضا هو الذي يجيب!!.

وبعد، فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد.. وهو يرى رسالة الرضا، التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه، وجمع له بها أصول الإسلام، والتي صرح فيها بالنص على عليعليه‌السلام . بل وذكر فيها الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم بأسمائهم، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم؟!. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين(١) .

وفيها يصف الإمامعليه‌السلام أئمة الهدى أدق وصف، وأروعه، وأوفاه.

____________

(١) وكان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: نظرية الإمامة ص ٣٨٨، وقال: إنها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم ١٢٥٨.

٢٨٧

بل إن المأمون نفسه كان يرى وجوب نصب الإمام من قبل الله كالنبي، كما يتضح من مناظرته الشهيرة لعلماء وقته، التي أوردها غير واحد من كتب التاريخ، والأدب، والرواية، وذكرها في العقد الفريد أيضاً قبل ذكره لهذه الرواية المفتعلة. وإن كان قد تصرف فيها (أي في المناظرة)، فحرف فيها، وحذف منها الكثير.. وأشار إليها أيضاً أحمد أمين في ضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٧، وغيره..

فلماذا لا يلزمه الإمام بمقالته التي كان يلزم نفسه بها؟!. أم يمكن أن لا يكون مطلعاً على مقالة المأمون هذه، التي سار ذكرها في الآفاق؟!.

ويحسن بنا هنا أن ننبه إلى أن الاختلاف في نقل مثل هذه القضايا، حسب أهواء الناقلين لم يكن بالأمر الذي يخفى على أحد.

فقد رأينا: أن جواب أحمد بن حنبل في المحنة بخلق القرآن، يرويه كل من الشيعة، والمعتزلة، وأهل السنة بصور ثلاثة مختلفة، ومناظرة هشام لأبي الهذيل العلاف يروي المعتزلة أن الغلبة فيها كانت لأبي الهذيل، بينما يروي الشيعة، ويؤيدهم المسعودي(١) أن الغلبة فيها كانت لهشام. إلى غير ذلك من عشرات القضايا بل المئات..

ولكن الأمر هنا مختلف تماماً، إذ إن مختلق الرواية هنا قد غفل عن أن روايته المفتعلة تتنافى كلياً مع نظرة الأئمةعليهم‌السلام ورأيهم في الخلافة ومستحقها.. ويبدو أنه لم يكن مطلعا على الآراء المختلفة الشائعة آنذاك في مسألة الإمامة، ولذا نراه ينسب إلى الإمامعليه‌السلام رأياً لا يقول به، ولا يقره. وإنما هو يناسب رأي الشيعة الزيدية القائلين بإمامة ولد عليعليه‌السلام من فاطمة، بشرط أن يكون بليغاً، شجاعاً، عادلاً مجتهداً،

____________

(١) مروج الذهب ج ٤ ص ٢١.

٢٨٨

يخرج بالسيف ضد كل ظلم وانحراف إلخ.. وبأن إمامة عليعليه‌السلام قد ثبتت بالوصف والإشارة إليه، لا بالتصريح والنص عليه(١) .

كما أنه غفل عن أن الذين كانوا يحتجون بالقرابة والإرث هم العباسيون، الذين كانوا إلى عصر المهدي ـ كما قدمنا ـ يدعون انتقال الخلافة إليهم عن طريق عليعليه‌السلام ، ومحمد بن الحنفية، وفي عصر المهدي عدلوا عن ذلك، لما يتضمنه من اعتراف للعلويين، ورأوا أن يجعلوا إمامتهم عن طريق العباس وأبنائه.. وحاولوا تقوية هذه النحلة بكل وسيلة، وبذلوا من أجلها الأموال الطائلة للعلماء والفقهاء، والشعراء.

ولم يكن لتخفى على أحد أبيات مروان بن أبي حفصة المتقدمة:

هل تطمسون من السماء نجومها

أو تــسـتـرون إلـــخ..

ولا قوله:

أنى يكون وليس ذلك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

وقد أجابه جعفر بن عفان المعاصر له. على هذا البيت بقوله:

مـا لـلطليق ولـلتراث وإنـما

صلى الطليق مخافة الصمصام(٢)

وكيف يخفى كل ذلك على الإمامعليه‌السلام ، خصوصاً بعد أن كان الجدل في هذا الموضوع قائماً على قدم وساق في زمن هارون، بل وفي زمن المأمون كما يظهر من قول ابن شكلة المتقدم:

فضجت أن نشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث الـنبي

____________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٩٧ ر ١٩٨.

(٢) مقتل الحسين للمقرم ص ١١٩، والأغاني ج ٩ ص ٤٥، طبع ساسي، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠١، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٣١٣، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٣٩٣، وغير ذلك.

٢٨٩

ومن قول القاسم بن يوسف وهي قصيدة طويلة فلتراجع(١) .

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.. وبعد كل تلك الوقائع الشهيرة التي حدثت قبل خلافة المأمون، وأثناءها بالنسبة لدعوى العباسيين هذه، فلا يمكن أبداً أن تجري المحاورة بين أعلم أهل الأرض (باعتراف المأمون) وبين المأمون أعلم خلفاء بني العباس على هذا النحو من السذاجة والبساطة. اللهم إلا إذا كان أعلم أهل الأرض، لا يرى ولا يسمع، أو أنه كان يعيش في غير هذا العالم، أو في سرداب تحت هذا الأرض. واللهم إلا إذا كان القائل: ما للطليق وللتراث إلخ.. أعلم بالحجة للدعوى التي يدعيها أعلم أهل الأرض من مدعي الدعوى نفسه.. وهل لم يكن يحسن أن يقول للمأمون ـ لو سلم أنه احتج بالقرابة ـ: إن قرابة العباس لا تفيده، بعد أن تخلى عنها يوم الإنذار. وبعد أن كان من الظالمين، الذين حرمهم الله من عهده. حيث قال تعالى:( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) . وبعد أن ترك الهجرة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وبعد أن حارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر. وبعد جهله بالدين وأحكامه، ولقد قال سبحانه: ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلّا أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.. ) (٢) . إلى آخر ما هنالك.

وأخيراً.. وبعد أن لم يبق مجال للشك في زيف هذه الرواية وافتعالها. فإننا نرى أن لنا كل الحق في أن نسجل هنا: أنه لم يخف علينا، ونأمل أن لا يخفى على أحد سر ذكر ابن عبد ربه هذه الرواية المزيفة المفتعلة، بعد ذكره لرواية احتجاج المأمون على علماء وقته في أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الخلق، والتي تصرف فيها ما شاء له حقده ونصبه، الحذف والتحريف، فإنه ـ على ما يبدو ـ ليس إلا من أجل التشويش على تلك، وإبطال كل أثر لها، ظلماً للحقيقة، وتجنيا على التاريخ.

____________

(١) الأوراق للصولي ص ١٨٠، وقد تقدم شطر منها في بعض فصول هذا الكتاب.

(٢) يونس آية ٣٥.

٢٩٠

الموقف الثامن:

وأعتقد أنه أعظمها أثراً، وأعمها نفعاً، وهو ما كتبهعليه‌السلام على وثيقة العهد، التي كتبها المأمون بخط يده..

فإننا إذا ما رجعنا إليه نجد: أن كل سطر فيه، بل كل كلمة لها مغزى عميق، ودلالة هامة، تلقي لنا ضوءاً كاشفاً على خطتهعليه‌السلام في مواجهة مؤامرات المأمون، وخططه، وأهدافه.

فلقد كان يعلم: أن هذه الوثيقة ستقرأ في مختلف الأقطار الإسلامية، ولذلك نراهعليه‌السلام قد اتخذها وسيلة لإبلاغ الأمة الحقيقة كل الحقيقة، وتعريفها بواقع نوايا وأهداف المأمون. وأيضاً تأكيد حق العلويين، وكشف المؤامرة التي تحاك ضدهم..

فبينما نراهعليه‌السلام يبدأ كلامه ـ فيما كتبه في الوثيقة المشار إليها ـ بداية غير طبيعية، ولا مألوفة في مناسبات كهذه حيث قال:((الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.. . لا يأتي بعدها بما يناسب المقام، ويتلائم مع سياق الكلام، من تمجيد الله، والثناء عليه على أن ألهم أمير المؤمنين! هذا الأمر.. بل نراه يأتي بعبارة غريبة، وغير متوقعة، ألا وهي قوله:يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور..)) الخ.

أفلا توافقني ـ قارئي العزيز ـ على أنهعليه‌السلام يريد أن يوجه أنظار الناس إلى أن الأمر ينطوي على خيانة مبيتة، وأن هناك صدوراً تخفي غير ما تظهر؟!..

ثم.. ألا توافقني على أن هذه العبارة تعريض بالمأمون نفسه، من أجل تعريف الناس بحقيقة نواياه وأهدافه؟!. هذا مع علمهعليه‌السلام بأن هذه الوثيقة سوف ترسل إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي، لتقرأ على الملأ العام، كما حدث ذلك بالفعل.

وإذا ما وصلنا إلى فقرة أخرى، مما كتبهعليه‌السلام على وثيقة العهد، فإننا نراه يقول:((.. وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين..)) فإننا إذا لاحظنا: أنه لم تجر العادة في الوثائق الرسمية في ذلك العهد بعطف (الآل) على (محمد)، ثم توصيفهم ب‍ـ (الطيبين الطاهرين) ـ نعرف أن هذا ليس إلا ضربة أخرى للخليفة المأمون، وهجوم آخر عليه، حيث إنه يتضمن التأكيد على طهارة أصل الإمامعليه‌السلام ، وسنخه، ومحتده، وعلى أن الآل قد اختصوا بهذه المزية، وليس لكل من سواهم. حتى الخليفة المأمون، مثل هذا الشرف، ولا مثل تلك المزية..

٢٩١

ثم نراهعليه‌السلام يعقب ذلك بقوله:((.. إن أمير المؤمنين.. عرف من حقنا ما جهله غيره..)) .

فما هو ذلك الحق الذي جهله الذي كلهم، حتى بنو العباس، فيما عدا المأمون؟!.

فهل يمكن أن تكون الأمة الإسلامية قد أنكرت أنهمعليهم‌السلام أبناء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!. أليس ذلك منهعليه‌السلام إعلان للأمة بأسرها بأن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كان قد اغتصبه منهم الغاصبون، واعتدى عليهم به المعتدون؟!. بل أليس ذلك ضربة للمأمون نفسه، وأن خلافته ليست شرعية، ولا صحيحة، لأنه كآبائه مغتصب لحق غيره؟!.

نعم.. إن الحق الذي جهله الناس هو حق الطاعة. ولم يكن الإمامعليه‌السلام يتقي المأمون، ولا غيره من رجال الدولة، في إظهار هذا الحق، وبيان أن خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كانت في عليعليه‌السلام ، وولده الطاهرين، وأنه يجب على الناس كلهم طاعتهم، والانقياد لهم. وقد أعلنعليه‌السلام ذلك في نيشابور كما قدمنا.. ورأيناه يصرح به، ويطلب من الناس أن يعلم شاهدهم غائبهم به، في محضر من رجال الدولة في خراسان.

ففي الكافي: بسنده عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضاعليه‌السلام بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال:((يا إسحاق، بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا!. لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩٢

ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكنني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب)) (١) .

وستأتي الإشارة إلى هذه الرواية مرة أخرى في الفصل الآتي.. وليتأمل في عبارته الأخيرة، فليبلغ إلخ.. وليلاحظ أيضاً أنه اختار لتوجيه خطابه: إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي!!.

وفي الكافي أيضاً بسنده عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسنعليه‌السلام ، فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال:((نعم . قال: مثل طاعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟. قال:نعم)) (٢) .

والمراد بأبي الحسن هو الرضاعليه‌السلام ، لأنه هو الذي كان في خراسان، وهو الذي يروي عنه معمر بن خلاد كثيراً.. ومثل ذلك كثير لا مجال لتتبعه.

____________

(١) الكافي ص ١٨٧، وأمالي المفيد ص ١٤٨ ط النجف وأمالي الطوسي ج ١ ص ٢١، ومسند الإمام الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ٩٦.

(٢) الكافي: ج ١ ص ١٨٧، والاختصاص ٢٧٨، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٠٣ عنه.

٢٩٣

ويقولعليه‌السلام في وثيقة العهد، بعد تلك العبارة مباشرة:((.. فوصل أرحاماً قطعت، وآمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذا افتقرت)) .

وهو كما ترى.. في حين يشكر المأمون، ويكتب تحت اسمه:((بل جعلت فداك)) ـ حسب رواية الإربلي فقط ـ، لا ينسى أن يشوب ذلك بالإزراء ضمناً على آبائه العباسيين. ويذكر بما اقترفوه في حق العلويين، حيث كانوا يلاحقونهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبونهم في كل سهل وجبل، كما قدمنا..

هذا.. ولا بأس أن نقف قليلاً عند قوله:((وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده)) .

فإننا لا نكاد نتردد في أنهعليه‌السلام يشير بقوله:((إن بقيت بعده)) إلى ذلك الفارق الكبير بالسن بينه عليه‌السلام ، وبين المأمون، وأنه يتعمد توجيه الأنظار إلى عدم طبيعية هذا الأمر، وإلى عدم رغبته فيه.

وإنه كان يريد أن يعرف الناس بأنه يتوقع في أن لا يدخر المأمون وسعاً من أجل التخلص منه، ولو بالاعتداء على حياتهعليه‌السلام ، فيما لو سنحت له الفرصة لذلك، بعد أن يكون قد حقق كل ما كان يريد تحقيقه، ووصل إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، حيث لا بد حينئذ أن (يحل العقدة التي أمر الله بشدها). ولا بد أيضاً أن تنكشف خيانته للملأ، ويظهر ما يخفيه في صدره، على حد تعبيرهعليه‌السلام .. وإلا فما هو الداعي لهعليه‌السلام لإقحام هذا الشرط ـ إن بقيت ـ في أثناء مثل هذا الكلام.

وإننا إذا نظرنا بعمق إلى قوله بعد ذلك:((فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها.. )) .. وتأملنا قوله السابق:

((يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور . وقوله اللاحق:لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه..)) فلسوف نعرف: أنهعليه‌السلام يعرض هنا بالمأمون نفسه، ويقول الناس جميعاً: إنه لا يشك في أن المأمون سوف ينقض العهد، ويحل العقدة.

ويلاحظ هنا أيضاً: أنه وصف هذه العقدة بأنها مما أمر الله بشده، وأحب إيثاقه.. وهذا لعله لا يختلف عما كانعليه‌السلام يردده، ويؤكد عليه كثيراً، ونص عليه آنفاً، وهو أن المأمون لم يجعل له إلا الحق الذي جهله غيره، واغتصبه هو وآباؤه، منهعليه‌السلام ومن آبائه..

٢٩٤

وإذا ما وصلنا إلى قولهعليه‌السلام :((.. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية ..)) الخ.

فإننا نراه كأنه يستشهد لإطاعته المأمون، وعدم إصراره على الرفض الموجب لتعريض نفسه، والعلويين، وشيعته لهلاك، والاضطهاد ـ يستشهد لذلك ـ بما جرى لسالفه: وهو أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث صبر على الفلتات(١) التي كانت من خلفاء عصره، ولم يعترض عليه‌السلام على ما كانوا قد عقدوا العزم عليه، من المضي قدما في مخططاتهم، التي كانت تستهدف إبعاده عن مسرح السياسة، وتكريس الأمر الواقع، وتثبيته، لأنه يخدم مصالحهم، ويرضي مطامحهم.

ـ لم يعترض عليعليه‌السلام على ذلك ـ لأنه خاف من شتات الدين،

____________

(١) ومن المحتمل جداً أنهعليه‌السلام : يشير إلى تعبير عمر((كانت بيعة أبي بكر فلتة))إلخ ـ ولكنه عمم الكلام بحيث يشمل غير بيعة أبي بكر أيضاً، باعتبار أن بيعة عمر وعثمان، ومعاوية وغيرها، كانت أيضاً من الفلتات، أو باعتبار تفرعها على بيعة أبي بكر التي كانت فلتة..

٢٩٥

واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية.. وهذا مما قد نص عليه عليعليه‌السلام نفسه في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، قالعليه‌السلام :((.. وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه.. ، ويقول:إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أدنى خلف..)) (١) .

وهكذا تمام كان الحال بالنسبة للإمام الرضاعليه‌السلام ، حفيد عليعليه‌السلام ، ووارثه، الذي كان زمانه لا يبعد حال الناس فيه على حال الجاهلية، فإنه آثر أن يصبر على هذه المحنة، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، وذلك بتعريض نفسه، وشيعته، والعلويين للهلاك، أو على الأقل للاضطهاد، الأمر الذي سوف تكون له أسوأ النتائج على الدين والأمة، كما قلنا..

وإذا ما قرأنا بعد ذلك قولهعليه‌السلام :((.. وقد جعلت الله على نفسي، ـ إن استرعاني على المسلمين، وقلدني خلافته ـ العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. .. فإن ما يسترعي انتباهنا هو تنصيصه على بني العباس خاصة وأنه سوف يعمل فيهم بطاعة الله، ورسوله..فلا يسفك دماً حراماً، ولا يبيح فرجاً ولا مالاً، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه.) إلخ.

فإن هذا التنصيص إنما هو في مقابل (الأرحام التي قطعت، وفزعت، وتلفت، وافتقرت..)، من العلويين، على يد بني العباس، الذين فعلوا بهم. أكثر من فعل بني أمية معهم، حسبما قدمنا.

وتعهده والتزامه بأن يعمل في المسلمين عامة. وفي بني العباس خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله.. هو التزام بنفس الخط الذي التزم به عليعليه‌السلام ، وتعهد بانتهاجه. الأمر الذي كان سبباً في إبعاده عن الخلافة في الشورى، واضطلاع عثمان بها. بل كان ذلك هو السبب في إبعاده عنها، بالنسبة لما قبل ذلك أيضاً، وما جرى بعده.

____________

(١) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٣٠٧، ٣٠٨ وغير ذلك.

٢٩٦

وعليعليه‌السلام هو نفس ذلك الذي استشهد به آنفاً، وبين أنه صبر على الفلتات، ولم يعترض على العزمات خوفاً من شتات الدين إلخ.. والالتزام بخط عليعليه‌السلام لن يرضي المأمون، والعباسيين، والهيئة الحاكمة، ولن يكون في مصلحتهم، حسبما المحنا إليه في فصل: جدية عرض الخلافة..

كما أننا لا نستبعد كثيراً: أنهعليه‌السلام يريد أن ينبه على مدى التفاوت بين المنطلقات لسياسات أهل البيت، ومنطلقات سياسات خصومهم، التي عرفت جانباً منها في القسم الأول من هذا الكتاب.

ومن هنا نعرف السر في قولهعليه‌السلام :((.. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي..)) فإنه إشارة إلى أنهعليه‌السلام سوف ينطلق في كل نصب وعزل ـ تماماً كالإمام عليعليه‌السلام ـ من مصلحة الأمة، وعلى وفق رضا الله، وتعاليم رسوله. لا من مصالح شخصية، أو اعتبارات سياسية، أو قبلية، أو غير ذلك من الاعتبارات، التي لا يعترف بها الإسلام، ولا يقيم لها وزناً.

وإذا ما قرأنا قولهعليه‌السلام :((.. وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه)) إلخ..

فإننا ندرك للتو أنهعليه‌السلام يريد ضرب العقيدة، التي كان قد شجعها الحكام، وروج لها علماء السوء.. من أن الخليفة، بل مطلق الحاكم في منأى ومأمن من أي مؤاخذة، أو عقاب، مهما اقترف من جرائم، وأتاه من موبقات، فهو فوق القانون، ولا يجوز لأحد الخروج، أو الاعتراض عليه، في أي ظرف من الظروف والأحوال، حتى ولو رمى القرآن بالنبل، وقتل ابن بنت رسول الله، فضلاً عما عدا ذلك من الجرائم والموبقات..

والإمام.. الذي يعرف كيف كانت سيرة المأمون، وسائر خلفاء بني العباس، ومن لف لفهم، والتي عرفت فيما تقدم طرفاً منها، والذين كانوا يتمتعون بهذه الحصانة الزائفة.. قد أراد أن يوجه ضربة قاضية لهم جميعا، حتى للمأمون. وأشياعه، وكل من كان الطواغيت والظلمة على شاكلتهم، ويبين لهم. وللملأ أجمع: أن الحاكم حارس للنظام والقانون، ولا يمكن أن يكون فوق النظام والقانون، ولذا فلا يمكن أن يكون في منأى عن العقاب والقصاص، لو ارتكب أي جريمة، أو اقترف أية عظيمة.

٢٩٧

فالمأمون، وآباؤه، وأشياعهم، كانوا يضحون بكل شيء في سبيل أنفسهم، ومصالحهم الشخصية، ويقترفون كل عظيمة في سبيل تدعيم حكمهم، وتقوية سلطانهم.. أما الإمامعليه‌السلام فهو مستعد لأن يقدم نفسه ـ إن اقتضى الأمر ـ للعقاب والنكال، عند صدور أية مخالفة، وحصول أي تجاوز عما يرضي الله تعالى، وعن سنة رسوله.

وبعد كل ما تقدم.. نراه يعبر عن عدم رضاه بهذا الأمر، وعدم تهالكه عليه، لعلمه بعدم تماميته له، ويقول بصريح العبارة:((إنه أمر لا يتم، لأن (.. الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك))) . كما أن في هذا تنويه مهم منهعليه‌السلام بذكر الركن الثاني من أركان إمامة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو أن الله تعالى اختصهم بأمور غيبية، وعلوم لدنية، منعها عن سائر الناس، وهذان الكتابان: الجفر، والجامعة، هما من الكتب التي أملاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكتبها بخط يده، وقد أظهر الأئمةعليهم‌السلام بعض هذه الكتب التي بخط عليعليه‌السلام ، وبإملاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدة من كبار شيعتهم، واستشهدوا بها في موارد عديدة في الأحكام(١) .

وفي الحقيقة.. إن الإمامعليه‌السلام ، وإن قبل ولاية العهد مكرها من المأمون.. ولكنه يريد بكلامه هذا، واستشهاده بالجفر والجامعة أن يقول له، ولكل من كان على شاكلته بصريح العبارة:((.. قد أنبأنا الله بأخباركم، وسيرى الله عملكم. ورسوله، والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون، ويجزيكم على ظلمكم وبغيكم علينا، وانتهاككم الحرمات منا، ولعبكم بدمائنا وأعراضنا، وأموالنا)) .

ثم نراه يترقى في صراحته، حيث يقول:((.. لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه..)) أي أنه لو لم يقبل بهذا الأمر لتعرض لسخط المأمون.. والكل يعلم ماذا كان يعني سخط أولئك الحكام، الذين كانوا لا يحتاجون إلى أي مبرر لاقترافهم أي جريمة. وإقدامهم على أي عظيمة.

وأخيراً.. ورغم أن المأمون قد تقدم منهعليه‌السلام وطلب منه أن يشهد الله، والحاضرين على نفسه.. نراه يأبى أن يكون المأمون، ولا أي من الحاضرين شاهداً على نفسه، ولا جعل لهم على نفسه سبيلا، لأنه

____________

(١) راجع: كتاب مكاتيب الرسول ج ١ من ص ٥٩ حتى ص ٨٩، فقد أسهب القول حول هذه الكتب، واستشهادات الأئمة بها، وغير ذلك.

٢٩٨

كان يعلم بما كانت تكنه صدورهم. وتضطرم به قلوبهم عليه. بل جعل الله فقط شهيداً عليه، واستعان بالآية الكريمة، التي تقطع الطريق على كل أحد، وتكتفي بالله شهيداً، حيث قال:((وأشهدت الله على نفسي ( وكفى بالله شهيداً ) )) .

وإذا كان لا بد من كلمة:

وإذا كان لا بد في نهاية المطاف من كلمة، فإننا نقول: إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة، ووقفوا على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ـ إن هؤلاء ولا شك ـ كانوا أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الإمامعليه‌السلام من كل كلمة، كلمة، مما كتبه على وثيقة العهد..

وإذا كان هناك من يرى: أن بعض الفقرات تحتمل غير ما قلناه..

فإننا نرى: أن كون بعض الفقرات الأخرى لا يحتمل غير ما قلنا، وأيضاً بما أن ما ذكرناه هو الذي يساعد على الجو العام. الذي توحي به النصوص التاريخية الكثيرة جداً، والتي قدمنا وسيأتي شطر منها ـ إن ذلك ـ وهو ما يجعلنا نجزم بأن ما فهمناه هو بعض ما كان يرمي إليهعليه‌السلام مما كتبه على وثيقة العهد.

ملاحظات هامة:

إن من الأمور الغريبة حقاً أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جداً! ـ بخط يده.. وأغرب منه أنه تقدم إلى الإمامعليه‌السلام ، وقال له: (اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك، بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين...)(١) .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته، وإن استلزم ذلك كل تلك الأمور، وإلا.. فما هو الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!. ثم ما الداعي لأن يطلب من الإمام ذلك!!.

هذا.. ولا بأس أيضاً بملاحظة تعبير المأمون بـ‍ (قبول)!!. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول ب‍ـ (خط يده)!!. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه!!.

____________

(١) مآثر الإنافة ج ٢ ص ٣٣٢.

٢٩٩

حقا.. إنها للعبقرية السياسية:

وعلى كل حال.. فلا شك أن المحاورات السياسية تعتبر من الصنايع المستظرفة،، وذلك لما تتضمنه من تعريضات، وكنايات، حسبما تفرضه الاتجاهات السياسية، التي يلتزم بها المتحاورون..

ولذا.. نلاحظ أنهعليه‌السلام .. وإن كان يضمن كلامه الشكر للمأمون، بل ويكتب تحت اسمه ـ حسب رواية الاربلي فقط ـ:((بل جعلت فداك)) . ولكنه يبطن كلامه، ويضمنه تعريضات عميقة، بلهجة معتدلة، لا عنف فيه.

وذلك يعني: أن الإمامعليه‌السلام لم يتنازل عن مبدئه، ولا حاد عن نهجه، الذي اختطه لنفسه، بوحي من رسالة الله، وتعاليم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخطى جده عليعليه‌السلام .. لم يحد عنه قيد شعرة، ولا هاون فيه، ولا حابى أحداً، حتى في هذا الموقف.

ولعمري.. لو كان ما كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام على وثيقة العهد من شخص عادي آخر، لكان يقال عنه الشيء الكثير تعظيماً وتبجيلاً، حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة.. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة، ولم يكن هو مستعداً، ولا متوقعا لذلك، لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك..

وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الإمام، ويعلي من شأنه، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له.

ولكن الحقيقة هي: أنه ـ وهو الإمام المعصوم ـ غني عن كل تلكم التقريظات، وعن ذلكم التعظيم والتبجيل..

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409