الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201599 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

هي قضية مصير:

وبأوضح بيان نقول: إنه لم يكن امتناع الإمامعليه‌السلام عن قبول ولاية العهد بالذي يثني المأمون عما كان قد عقد العزم عليه، لأن الأسباب التي كانت تدعوه لذلك لم تكن تسمح له أبداً بالإصغاء لهذا الرفض، فهي تحتم عليه أن يفعل ذلك، مهما كلفه الأمر، ومهما كانت النتائج، ولم يكن لديه مانع من تنفيذ تهديداته، ولو علم أنه لا سبيل إلى تنفيذ ما يصبو إليه، والحصول على ما يريد الحصول عليه، والقضية بالنسبة إليه هو المتعطش إلى الحكم والسلطة قضية مصير ومستقبل، لا يمكن المساومة معها، ولا مجال لغض النظر والتساهل فيها..

وإذا كان قد قتل أخاه من أجل الملك وفي سبيله، فأي مانع يمنعه من قتل الرضاعليه‌السلام من أجل الملك أيضاً، وفي سبيله.. أم يعقل أن يكون الرضا أعز عليه من أخيه، وسائر من قتل من وزرائه هو، وقواده، وأشياعه؟!؟.

ولسوف لا نستغرب على المأمون ـ بعد قتله أخاه ـ الإقدام على أي تصرف في سبيل الملك، حتى الإقدام على قتل الرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان أبوه الرشيد قد أملى عليه درس، (الملك عقيم)، وقال له: (والله، لو نازعتني أنت هذا الأمر، لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم..)(١) .

____________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ٧٣، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، وقاموس الرجال ج ١٠ صرح ٣٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩١، وينابيع المودة ص ٣٨٣، مع بعض تحريف لها، وغير ذلك..

٢٦١

ولم يكن ليخفى عليه أيضاً قول موسى بن عيسى، عندما رأى عبادة الحسين بن علي وأصحابه، في وقعة فخ: (.. هم والله، أكرم عند الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم. ولو أن صاحب هذا القبر ـ يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ، نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف.)(١) .

والمنصور أيضاً قد قرر هذه القاعدة بالذات حينما اعترض عليه سليمان بن مهران، وهذا الدرس قد أخذه الكل عن عبد الملك بن مروان، فإنه عندما قتل مصعب بن الزبير بكى، وقال: (لقد كان أحب الناس إلي، وأشدهم مودة لي، ولكن الملك عقيم، ليس أحد يريده من ولد ولا والد إلا كان السيف)(٢) .

بل وحتى نفس أخيه الأمين، عندما لم يعد له نجاة من براثن أخيه المأمون، نراه يتذكر هذه القاعدة، فيقول: (هيهات، الملك عقيم، لا رحم له..)(٣) .

ولقد عمل المأمون بهذه القاعدة، فقتل أخاه، وأعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم. بعد أن سجد شكراً لله، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس، إلى آخر ما مر تفصيله..

وإذا كانت القضية بالنسبة إلى المأمون قضية مصير ومستقبل وقضية ملك وسلطان، فطبيعي إذن أن نراه يخاطر بالخلافة (وإن كنا قدمنا أن ذلك كان منه سياسة ودهاء من أجل التمهيد لفرض ولاية العهد)، وأقدم على التخلي عن ولاية العهد، مع أن العباس ابنه وسائر ولده كانوا أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه من كل أحد، على حد تعبيره في رسالته للعباسيين.

ولقد قدمنا الشرح الكافي والوافي لحقيقة الظروف والأسباب، التي دعت المأمون إلى ذلك، والتي هي دون شك كافية لأن تجعل المأمون يقدم على أي عمل ـ ولو كان انتحاريا ـ من أجل إنقاذ نفسه وخلافته، والعباسيين.. حتى ولو كان ذلك الشيء هو قتل الإمامعليه‌السلام .. ولقد أخبر الإمام كرات، ومرات: أنه لم يقبل إلا بعد أن أشرف من المأمون على الهلاك.

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٥٣، وثمرات الأعواد ١٩٩، ٢٠٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ٧٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٢٩٦، وطبقات ابن سعد ج ٥ ص ١٦٨، والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣١٦.

(٣) تتمة المنتهى ص ١٨٥.

٢٦٢

مبررات قبول الإمام لولاية العهد:

ولقد قبل الإمامعليه‌السلام ولاية العهد. ولكن.. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها.. ولو فرض أنه كان له هوعليه‌السلام الحق ـ في مثل هذه الظروف ـ في أن يعرض نفسه للهلاك، فلن يكون له حق أبداً في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه، والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضاً..

هذا.. عدا عن أنهعليه‌السلام كان عليه أن يحتفظ بحياته، وحياة شيعته ومحبيه، لأن الأمة كانت بأمس الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم، ليكونوا لها قدوة ومناراً، تهتدي، وتقتدي به، في حالكات المشاكل، وظلم الشبهات.

نعم.. لقد كانت الأمة بأمس الحاجة إلى الإمامعليه‌السلام ، وإلى من رباهم الإمام، حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري، وثقافي غريب، من الزندقة والإلحاد، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات بالمبادئ الإلهية الحقة، فكان على الإمامعليه‌السلام أن يقف. ويقوم بواجبه، وينقذ الأمة، ولقد كان ذلك منه بالفعل، فلقد قام بواجبه، وأدى ما عليه، على أكمل وجه، رغم قصر المدة التي عاشها بعد البيعة نسبياً، ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية،((.. السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين، حتى خصم أهل الكتب، وثبت قواعد الدين..)) (١) .

والمراد بذلك: الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولو أنهعليه‌السلام رفض ولاية العهد، وعرض نفسه، وشيعته، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته، وموتهم أدنى أثر في هذا السبيل، بل كان الأثر عكسياً، وخطيراً جداً..

أضف إلى ذلك: أن قبول الإمام بولاية العهد، معناه اعتراف من العباسيين عملاً، مضافاً إلى القول: بأن العلويين لهم حق في هذا الأمر، بل إنهم هم الأحق فيه، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم.

____________

(١) البحار ج ١٠٢ ص ٥٣.

٢٦٣

وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا ولياً للعهد، لا يعني أن الحق في الخلافة كان للرضا والعلويين، دون المأمون والعباسيين. وأنه إنما أعطاهم عن طريق التقوى والورع، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا أنفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه، فهو يقول:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـذي قـد حرصتم

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غير مكثر

كما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

فمات الرضا من بعد ما قد علمتم

ولاذت بنا من بعده مرة أخرى(١)

وأيضاً.. حتى لا يتناساهم الناس، ويقطعوا آمالهم بهم، وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء، لا يهمهم العمل لما فيه خير الأمة، ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح وإصلاح ولعل إلى ذلك كله، يشير الإمامعليه‌السلام في قوله لمحمد ابن عرفة، عندما سأله عن قبوله بولاية العهد، فقال له: (يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟!).. فأجابه الإمامعليه‌السلام :((ما حمل جدي على الدخول في الشورى..)) (٢) .

هذا بالإضافة إلى أنه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الملأ، وعرفهم بواقع وأهداف كل ما أقدم عليه، وأزال كل شبهة ولبس في ذلك. كما قد حدث ذلك بالفعل.

هل الإمام راغب في هذا الأمر:

ولكن هذا كله وسواه، لا يعني أن الإمامعليه‌السلام كان راغباً في أي من الخلافة، أو ولاية العهد، فإن ما ذكرناه لا يبرر ذلك، حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان لا يمكن الحصول على بعضها

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٦٥، وديوان ابن المعتز ص ٢٢ ـ ٢٣ وإن اهتمام ابن المعتز الواضح بقضية الرضا مع المأمون، كما يظهر من شعره هنا، والذي قدمناه مع التعليق عليه في فصل: ظروف البيعة.. يدلنا على أن هذه القضية كان لها في الأمة صدي واسعاً، وآثاراً هامة، لم يكن بوسع ابن المعتز التغاضي عنها، والسكوت عليها.

(٢) راجع: مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٤، ومعادن الحكمة ص ١٩٢، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٠ ١٤١.

٢٦٤

من دون الدخول في هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره، ما سوف يجره الدخول في هذا الأمر من مآس ومشاكل، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.

وقد قدمنا في الفصل السابق البيان الكافي والوافي، لما سوف يعترض طريق الإمامعليه‌السلام من عقبات في الحكم، لو أنه كان قبل عرض الخلافة، وكيف ستكون النهاية له، ولنظام حكمه..

وهو يوضح لنا أيضاً حقيقة حاله، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد، إذ أنهعليه‌السلام كان يعلم: أن وصوله للخلافة، وتسلمه لازمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة، وأهوال عظيمة، لن يكون من اليسير التغلب عليها، وتجاوزها.

فلقد كان يعلم ـ كما أظهرت الأحداث والوقائع بعد ذلك ـ أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه، بحيث يبقى محتفظا بحياته، أو على الأقل بمركزه، إلى ما بعد وفاة المأمون، ولم يكن يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة، من أجل التخلص منه، وتصفيته، إن جسدياً، وإن معنوياً..

بل.. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل، فإن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، وهو بهذه السن المتقدمة، بالنسبة لسن المأمون.. كانت ضعيفة جداً، لا تبرر له الإقدام على قبول مثل هذا الأمر، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعاً عن نفسه، بأنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت، كما كان يريد المأمون!!

ومع غض النظر عن كل ذلك.. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة، وفوق ذلك كله، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين، وأشياعهم، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك، ولو تمكن من ذلك، فلسوف لا يدخرون وسعا، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول، من أجل زعزعة حكمه، وتقويض سلطانه، وخلق المشاكل الكثيرة له، لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم.

إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الأمة قيادة صالحة، وسليمة وحكيمة، وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل الذريع، والخيبة، القاتلة.

ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف، الطافحة بالمشاكل، وذلك عندما يجدون أن الإمامعليه‌السلام لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جديه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام .

٢٦٥

وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لتقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك، ويخضعوا لإرادته، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الأمويين، والعباسيين، المليئة بالانحرافات والموبقات.

اللهم إلا أن يقوم الإمامعليه‌السلام في فترة ولاية العهد، أو بداية حكمه بإعداد مسبق، وتعبئة عامة وشاملة، على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات.. وإلا.. فلسوف لا يكون قادراً على مواجهة ذلك الركام الهائل من المشاكل، ولا على النجاح والاستمرار في الحكم.. ولن يفسح العباسيون، والمأمون، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الإعداد، وتلك التعبئة، مهما كلفهم ذلك من تضحيات.

فالسلبية إذن هي الموقف الصحيح:

وبعد كل ما تقدم: فإن من الطبيعي أن لا يفكر الإمامعليه‌السلام في الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق الملتوي، والمحفوف بالأخطار، والذي لم يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس: سوف يكون موجباً للقضاء عليه، وعلى كل آماله، وكل العلويين، والمتشيعين لهم، ويحقق فقط آمال الآخرين، وأهدافهم.. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملاً انتحارياً، لا مبرر له، ولا منطق يساعده.

لا بد من خطة لمواجهة الموقف:

وأخيراً.. وإذا كان لم يكن الرضاعليه‌السلام خيار في قبول ولاية العهد.. وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف، وآلة يتوصل بها إلى مآرب يمقتها، ويكرهها كل الكره، لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة، على حاضر الأمة، ومستقبلها، وعلى مستقبل هذا الدين، وكذلك لا يمكنه أن يسكت، ويظهر بمظهر الموافق، والمؤيد، والمساعد.

فإن كل ما يمكن له أن يفعله ـ بعد هذا ـ هو أن يضع خطة، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون، وإحباط مخططاته، حتى لا يزداد الوضع سوءا، والطين بلة..

فإلى الحديث عن خطته هذه في الفصل التالي.

٢٦٦

خطة الإمامعليه‌السلام

انحراف الحكام:

إن أدنى مراجعة لتاريخ الحكام آنذاك ـ العباسيين والأمويين على حد سواء ـ لكفيلة بأن تظهر بجلاء مدى منافاة تصرفات أولئك الحكام، وسلوكهم، وحياتهم لمبادئ الإسلام وتعاليمه.. الإسلام، الذي كانوا يستطيلون على الناس به، ويحكمون الأمة ـ حسب ما يدعون ـ باسمه، وفي ظله. حتى لقد أصبح الناس، والناس على دين ملوكهم، يتأثرون بذلك، ويفهمون خطأ: أن الإسلام لا يبتعد كثيراً عما يرون، ويشاهدون، مما كان من نتائجه شيوع الانحراف عن الخط الإسلامي القويم. بنحو واسع النطاق، ليس من السهل بعد السيطرة عليه، أو الوقوف في وجهه.

العلماء المزيفون وعقيدة الجبر:

ولقد ساعد على ذلك، وزاد الطين بلة، فريق من أولئك الذين اشتريت ضمائرهم، ممن يتسمون، أو بالأحرى سماهم الحكام بـ‍ (العلماء) حيث إنهم قاموا يتلاعبون بمفاهيم الإسلام، وتعاليمه، لتوافق هوى، وتخدم مصالح أولئك الحكام المنحرفين، الذين أغدقوا عليهم المال، وغمروهم بالنعمة.

حتى إن أولئك المأجورين قد جعلوا عقيدة الجبر ـ الواضح لكل أحد زيفها وسخفها ـ من العقائد الدينية الإسلامية!.، من أجل أن يسهلوا على أولئك الحكام استغلال الناس، ولكي يوفروا لهم حماية لتصرفاتهم تلك. التي يندى لها جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، إذ أنهم يكونون بذلك قد جعلوا كل ما يصدر منهم هو بقضاء من الله وقدره، ولذا فليس لأحد الحق في أن ينكر عليهم أي تصرف من تصرفاتهم، أو أي جناية من جناياتهم.

وكان قد مضى على ترويجهم هذه العقيدة المبتدعة ـ حتى زمان المأمون ـ أكثر من قرن ونصفاً، أي من أول خلافة معاوية، بل وحتى قبل ذلك أيضاً. بزمان طويل!

عقيدة الخروج على سلاطين الجور:

كما أنهم ـ أعني هؤلاء العلماء ـ قد جعلوا الخروج على سلاطين الجور والفساد موبقة من الموبقات، وعظيمة من العظائم..

٢٦٧

وقد جرحوا بذلك عدد من كبار العلماء: مثل الإمام أبي حنيفة وغيره، بحجة أنه: (يرى السيف في أمة محمد)(١) .

بل لقد جعلوا عدم جواز الخروج هذا من جملة العقائد الدينية، كما يظهر من تتبع كلماتهم(٢) .

وأما عقائد التشبيه، وقضية خلق القرآن، فلعلها أشهر من أن تذكر، أو تحتاج إلى بيان.

والذي زاد الطين بلة:

يضاف إلى ذلك كله غرور الحكام، الذي لا مبرر له، وكذلك من لف لفهم، الذين كانوا يحكمون الأمة باسم الدين.

وكذلك غفلة الناس، وعدم إدراكهم لحقيقة ما يجري وما يحدث، وللواقع المزري، الذي كان قائماً آنذاك.

وأيضاً.. وهو الأهم من كل ذلك ـ ابتعادهم، بسعي من الهيئات الحاكمة، عن أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة.

____________

(١) راجع: نظرية الإمامة، للدكتور أحمد محمود صبحي وغيره.

وفي تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٧٤،: أنه قيل لأبي مسهر: كيف لم تكتب عن محمد بن راشد؟! قال: (كان يرى الخروج على الأئمة).. وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى ج ٣ ص ٥٨، في مقام ترجيح سفيان على حسن بن حي، كان من جملة ما جرحه به أنه: (كان يرى السيف) ومثل ذلك كثير لا نرى حاجة لاستقصائه.

(٢) حسبما صرح به أحمد بن حنبل في رسالة (السنة) وهي عقايد أهل الحديث، والسنة. وقد أوردها أبو يعلى في طبقات الحنابلة ج ١ ص ٢٦. وصرح بذلك أيضاً الأشعري في مقالات الإسلاميين ج ١ ص ٣٢٣، وفي الإبانة ص ٩. وقد علل ذلك في نظرية الإمامة ص ٤١٧بقوله : (.. ذلك أنها: إن كانت بلوى من الله عقابا لهم، فما ثورتهم برادة عقاب الله. وإن كانت محنة للمسلمين، فما هم برادي قضاء الله)!. وفي كتاب السنة قبل التدوين ص ٤٦٧، نقل عن ابن خزيمة، في وصفه الطاعنين على أبي هريرة، قوله: إنهم إما معطل جهمي.. (وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد، أو قدري، اعتزل الإسلام، وأهله الخ.).

٢٦٨

كل ذلك.. قد أدى بالفعل إلى انحلال الدولة داخليا، وتمزيق أوصالها.. كما وأنه قد أسهم إسهاماً كبيراً في إبعاد الناس عن تعاليم السماء، وشريعة الله.. الأمر الذي لم يكن يعني إلا نهاية الحكم الإسلامي، وردة الناس إلى الجاهلية الجهلاء.. الأمر الذي لم يكن يرهب الحكام كثيراً، لأن الإسلام الذي يريدون، والدين الذي ينشدون، هو ذلك الذي يستطيعون أن يتسلطوا على الأمة، ويستأثروا بقدراتها وإمكاناتها في ظله. ويمهد لهم السبيل لاستمرارهم في فرض نفوذهم وسيطرتهم، ولو كان ذلك على حساب جميع الشرائع السماوية، وكل المفاهيم الإنسانية.

إن أولئك الحكام. ما كانوا يفكرون إلا في وسائل بقائهم واستمرارهم في الحكم، وإلا في شؤونهم ومصالحهم الخاصة بهم. أما الأمة المسلمة، وأما الإسلام، فلم يكن لهما لديهم أية قيمة، أو شأن يذكر، إلا في حدود ما يستطيعون الإفادة منهما في بقائهم ووجودهم في الحكم والسلطة.

الأئمة في مواجهة مسؤولياتهم:

وفي هذا الوسط الغريب: من غفلة الناس، ومن سيرة الحكام، والمتسمين بالعلماء وسلوكهم.. كان الأئمةعليهم‌السلام يؤدون واجبهم في نشر تعاليم السماء، ويكافحون، وينافحون عنها، بقدر ما كانت تسمح لهم ظروفهم، التي كانت في ظل سلطان أولئك المنحرفين قاسية إلى حد بعيد.

وأما عن الإمام الرضا بالذات:

وقد سنحت للإمام الرضاعليه‌السلام فرصة لفترة وجيزة، كان الحكام منشغلين فيها بأمور تهمهم.. للقيام بواجبه في توعية الأمة، وتعريفها بتعاليم الإسلام. وذلك في الفترة التي تلت وفاة الرشيد، وحتى قتل الأمين. بل نستطيع أن نقول: إنها امتدت ـ ولو بشكل محدود ـ حتى وفاة الإمامعليه‌السلام في سنة (٢٠٣). الأمر الذي كان من نتيجته ازدياد

نفوذهعليه‌السلام ، واتساع قاعدته الشعبية، حتى لقد كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان هو الأرضى في الخاصة والعامة، حسبما ألمحنا إليه من قبل.

الخطة الحكيمة:

وعندما أراد المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد، وعرف الرضا: أن لا مناص له من قبول ذلك، كان من الطبيعي أن يعدعليه‌السلام العدة، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون، وإحباط أهدافه الشريرة، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الإمامعليه‌السلام ، وتحطيمه معنوياً واجتماعياً.

٢٦٩

ولقد كانت خطة الإمام هذه في منتهى الدقة والإحكام، وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة وتضييع كثير من أهدافها، وجعل الأمور في صالح الإمامعليه‌السلام ، وفي ضرر المأمون.. حتى لقد ضاع رشد المأمون (بل ورشد أشياعه أيضاً)، وهو أفعى الدهاء والسياسة، ولم يعد يدري ما يصنع، ولا كيف يتصرف..

مواقف لم يكن يتوقعها المأمون:

ولعلنا نستطيع أن نسجل هنا بعض المواقف للإمامعليه‌السلام ، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا، والتي كانت ضمن خطة الإمامعليه‌السلام في مواجهة مؤامرات المأمون..

الموقف الأول:

إننا نلاحظ أن الإمامعليه‌السلام قد رفض دعوة المأمون، وهو في المدينة

ولم يقبل إلا بعد أن علم أنه لا يكف عنه.. بل إن بعض النصوص تشير إلى أنه قد حمل إلى مرو بالرغم عنه، لا باختياره..

وما ذلك إلا ليعلم المأمون: أن حيلته لم تكن لتجوز عليه، وأنهعليه‌السلام على علم تام بأبعاد مؤامرته وأهدافها.. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث، وسلامة النوايا فيه.

الموقف الثاني:

إنه رغم أن المأمون كان قد طلب من الإمامعليه‌السلام ـ وهو في المدينة ـ أن يصطحب معه من أحب من أهل بيته في سفره إلى مرو.

إنه رغم ذلك.. نلاحظ: أنهعليه‌السلام لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الإمام الجوادعليه‌السلام ، مع علمه بطول المدة، التي سوف يقضيها في هذا السفر، الذي سوف يتقلد فيه زعامة الأمة الإسلامية، حسب ما يقوله المأمون.. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره ذاك، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية.

شكوك لها مبرراتها:

ونرى أننا مضطرون للشك في نوايا المأمون وأهدافه من وراء طلبه هذا (أن يصطحب الإمامعليه‌السلام من شاء من أهل بيته إلى مرو).

٢٧٠

بعد أن رأينا: أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر إلى مرو، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد، ولا غير هؤلاء، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره..

فلعل الإمامعليه‌السلام بل إن ذلك هو المؤكد، الذي تدل عليه تصريحاته وتصرفاته حيث تأهب للسفر ـ لعله ـ قد ظن لنوايا المأمون هذه، فضيع الفرصة عليه، وأعاد كيده إليه..

الموقف الثالث:

سلوكه في الطريق، كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك(١) ، حتى اضطر المأمون لأن يظهر على حقيقته، ويطلب من رجاء هذا: أن لا يذكر ما شاهده منه لأحد، بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على لسانه(٢) ، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا، حتى ولو مرة واحدة، فلم يدع أحد أنه سمع شيئاً من المأمون عن سلوك الإمامعليه‌السلام ، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء، فلعله لم يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون، وبعد أن ارتفعت الموانع، وقضي الأمر.

الموقف الرابع:

موقفه في نيشابور، الذي لم يكن أبداً من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضاً، حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الألوف(٣) ـ أبلغهم ـ:((كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل

____________

(١) راجع: البحار ج ٤٩ من ص ٩١ حتى ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨١ فما بعدها: وهو كلام معروف لا نرى أننا بحاجة لتكثير مصادره هنا.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ٩٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٣.

(٣) وذلك يدل على مدى تعاطف الناس مع أهل البيت، ومحبتهم لهم. الأمر الذي كان يرعب المأمون ويخيفه. حتى لقد كان يحاول كبت عواطف الناس هذه، وهذا هو السبب في منع الإمام من المرور عن طريق الكوفة وقم، كما سيأتي.

٢٧١

حصني أمن من عذابي)) (١) .

هذه الكلمة.. التي عد أهل المحابر والدوي، الذين كانوا يكتبونها، فأنافوا على العشرين ألفاً.. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم..

(.. ونلاحظ: أنهعليه‌السلام ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية، ترتبط ببعض مجالات الحياة: كالصوم، والصلاة، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا، وترغبهم في الآخرة، كما كان شأن العلماء آنذاك.

كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لأهداف شخصية، أو سياسية، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف.. مع أنه يتوجه إلى مرو، ليواجه أخطر محنة تحدد وجوده، وتهدد العلويين، ومن ثم الأمة بأسرها.

وإنما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي، الذي يفترض فيه: أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم، ووجودهم، إن حاضراً، وإن مستقبلاً، ألا وهي مسألة:

التوحيد.. التوحيد: الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى، بمختلف جوانبها، وإليه تنتهي، وعلى وبه تقوم..

التوحيد: الذي ينجي كل الأمم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الإنسان، فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه..

مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد:

هذا.. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ لهم سماع كلمة الإمامعليه‌السلام ، لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة، أو لتوجههم لأمور جانبية أخرى، كما يحدث ذلك كثيراً في مناسبات كهذه..

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه القضية في فصل: (شخصية الإمام الرضا) فمن أراد فليراجع.

٢٧٢

نرى الإمامعليه‌السلام يتصرف بنحو آخر، حيث إنه عندما سارت به الناقة، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم. وقلوبهم مشدودة إليها.. نراه يخرج رأسه من العمارية، فيسترعي ذلك انتباه الناس، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم، ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الأخرى:((بشروطها، وأنا من شروطها)) .

لقد أملى الإمامعليه‌السلام كلمته هذه عليهم، وهو مفارق لهم، لتبقى الذكرى الغالية، التي لا بد وأن يبقى لها عميق الأثر في نفوسهم(١) .

لقد أبلغهمعليه‌السلام مسألة أساسية أخرى، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوحيد، ألا وهي مسألة: (الولاية).

وهي مسألة بالغة الأهمية، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى، وتنعم بالعيش الكريم، إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة. والعادلة، والواعية لكل ظروف الحياة. وشؤونها، ومشاكلها ـ ما دامت هذه

____________

(١) ويلاحظ: أن هذه الكلمة قد صيغت بنحو لا بد معه من الرجوع إلى الكلمة الأولى، ومعرفتها.

وبعد.. فما أشبه موقفهعليه‌السلام هنا بموقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم، حيث إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيضاً قد أبلغ المسلمين مسألة الولاية، في ذلك الموقف الحاشد، وفي المكان الذي لا بد فيه من تفرق الناس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذهاب كل منهم إلى بلده، ولعل إرجاع المتقدمين، وحبس المتأخرين يشبهها إخراج الإمامعليه‌السلام رأسه من العمارية..

يضاف إلى ذلك: أن موقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان آخر مواقفه العامة في حياته إلى آخر ما هنالك من وجوه الشبه بين الواقعتين.

ولعلنا نجد تشابهاً بين هذه الواقعة، وبين قضية إرجاع أبي بكر عن تبليغ آيات سورة براءة، ثم إرسال علي مكانه..

٢٧٣

المسألة ـ لم تحل، فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت، والذين يجعلون لأنفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله، ويحكمون بغير ما أنزل الله، وليبقى العالم ـ من ثم ـ يعني الشقاء والبلاء، ويعيش في متاهات الجهل، والحيرة، والضياع..(١) .

وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة: (الولاية) بمسألة (التوحيد) فلسوف نعرف: أن قولهعليه‌السلام :((وأنا من شروطها)) لم تمله عليه مصلحته الخاصة، ولا قضاياه الشخصية..

ولسوف ندرك أيضاً: الهدف الذي من أجله ذكر الإمامعليه‌السلام سلسلة سند الرواية، الأمر الذي ما عهدناه، ولا ألفناه منهمعليهم‌السلام . إلا في حالات نادرة، فإنهعليه‌السلام قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للأمة بالمبدأ الأعلى..

الإمام ولي الأمر من قبل الله، لا من قبل المأمون:

وعدا عن ذلك كله.. فإننا نجد أن الإمامعليه‌السلام ، حتى في هذا الموقف، قد اهتبل الفرصة، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الألوف: أنه الإمام للمسلمين جميعاً، والمفترض الطاعة عليهم، على حد تعبير القندوزي الحنفي، وغيره وذلك عندما قال لهم:((وأنا من شروطها)) .

وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمامعليه‌السلام إلى مرو. ألا وهو: الحصول على اعتراف بشرعية خلافته، وخلافة بني أبيه العباسيين.

إذ أنه قد بين للملأ بقوله:((وأنا من شروطها)) أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد، لا من جهة أنه ولي الأمر من قبل المأمون، أو سيكون ولي الأمر أو العهد من قبله، وإنما لأن الله تعالى جعله من شروطها.

____________

(١) قد استرشدنا في بعض ما ذكرناه بما ذكره الأستاذ علي غفوري، في كتابه: (ياد بود هشتمين إمام) (فارسي).

٢٧٤

وقد أكدعليه‌السلام على هذا المعنى كثيراً، وفي مناسبات مختلفة، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي، وأيضاً في الكتاب الجامع لأصول الإسلام والأحكام، الذي طلبه منه المأمون، حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ، مع أن عدداً منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرةعليه‌السلام .

الإمام يبلغ عقيدته لجميع الفئات:

وأخيراً.. لا بد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الإشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم، الذي يقدر بعشرات. بل بمئات الألوف:

١ ـ حشداً من أهل الحديث وأتباعهم، الذين جعلوا صلحاً جديداً بين الخلفاء الثلاثة، وبين عليعليه‌السلام في معتقداتهم، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم، حتى جعلوه إذا سمع ذكراً لأبي بكر يبكي حباً، ويمسح عينيه ببرده(١) .

وجعلوه أيضاً ضراباً للحدود بين يدي الثلاثة: أبي بكر، وعمر،

____________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١٢٠، وغيره.

٢٧٥

وعثمان(١) ، كما تنبأ هو نفسهعليه‌السلام بذلك(٢) . إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير، والناقد الخبير..

٢ ـ وحشداً من أهل الإرجاء، الذين ما كانوا يقيمون وزناً لعلي، وعثمان. بل كانت المرجئة الأولى لا يشهدون لهما بإيمان، ولا بكفر..

٣ ـ وأيضاً.. أن يضم حشداً من أهل الاعتزال، الذين أحاطوا بالمأمون، بل ويعد هو منهم، والذين تدرجوا في القول بفضل عليعليه‌السلام حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم، فقد كان مؤسسا نحلة الاعتزال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلاً، ولكن أتباعهما تدرجوا على مر الزمان في القول بفضله، فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر، أو القول بتساويهما في الفضل.

ولكن رئيس معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة، ولكنه قال بصحة خلافتهم.. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد، وكثير من البصريين.

وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء. وغيرهم ممن لم نذكرهم.. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الإمام هذه:((وأنا من شروطها)) ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء، وإقامة للحجة عليهم جميعا. على اختلاف أهوائهم، ومذاهبهم..

ويكون قد بلغ بهذه الكلمة:((وأنا..)) صريح عقيدته، وعقيدة آبائه الطاهرين عليهم‌السلام في أعظم مسألة دينية، تفرقت لأجلها الفرق في الإسلام، وسلت من أجلها السيوف.

____________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١١٩، ١٢٠، والمحاسن والمساوي ج ١ ص ٧٩ طبع مصر. والفتوحات الإسلامية لدحلان ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٣٦٨.

(٢) فقد قال بعد أن ضرب الوليد بن عقبة الحد، لشربه الخمر: (لتدعوني قريش بعد هذا جلادها». الغدير ج ٨ ص ١٢١. وقد صدقت نبوءته، صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعلوه ـ كما ترى ـ ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة!!.

٢٧٦

بل لقد قال الشهرستاني: (.. وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان.)(١) .

وبعد كل ما قدمناه.. لا يبقى مجال للقول: إن قوله هذا:((وأنا..)) لا ينسجم مع ما عرف عنه عليه‌السلام من التواضع البالغ، وخفض الجناح، إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لا بد للإمام في ذلك المقام، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولاً وآخراً، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، وإن جزع من ذلك قوم. وحنق آخرون.

تعقيب هام وضروري:

ومما هو جدير بالملاحظة هنا، هو أن أئمة الهدىعليهم‌السلام كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهمعليهم‌السلام الأحق بقيادة الأمة، وخلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . مع أنها لا شيء أخطر منها عليهم. كما تشير إليه عبارة الشهرستاني الآنفة، وغيرها.

وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم، وبأحقيتهم بهذا الأمر.

____________

(١) الملل والنحل، ج ١ ص ٢٤، وقال الخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٧: (.. والخلاصة: أن مسألة الخلافة الإسلامية والاستخلاف، لم تسر مع الزمن في طريق يؤمن فيه العثار. بل كان تركها على ما هي عليه، من غير محل محدد ترضاه الأمة، وتدفع عنه سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق والحروب المتواصلة، التي قلما يخلو منها زمن، سواء كان ذلك بين بيتين، أو بين شخصين.) انتهى.

وأقول: إذن. كيف جاز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك الأمة هكذا هملا، ثم لا يضع حلاً لأعظم مشكلة تواجهه، مع أن شريعته كاملة وشاملة، وقد بين فيها كل ما تحتاجه الأمة، حتى أرش الخدش.

٢٧٧

فنرى الإمام موسىعليه‌السلام يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة، ويصارحه بها، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة(١) . بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ.

ولقد نقل غير واحد(٢) أنه: عندما وقف الرشيد على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال مفتخرا: السلام عليك يا ابن عم. جاء الإمام موسىعليه‌السلام ، وقال:((السلام عليك يا أبة)) . فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه: وعندما قال له الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سراً؟!

أجابه الإمامعليه‌السلام :((أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم)) (٣) . وأما الحسن، والحسين، وأبوهما، فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضاعليه‌السلام للقائل له: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم؟!.

____________

(١) راجع: الصواعق المحرقة، وينابيع المودة، ووفيات الأعيان، والبحار، وقاموس الرجال، وغير ذلك.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٨٣، والكامل لابن الأثير ج ٦، ص ١٦٤ ط صادر، والصواعق المحرقة ص ١٢٢، والإتحاف بحب الأشراف ص ٥٥، ومرآة الجنان ج ١ وأعيان الشيعة، وينابيع المودة، وغير ذلك.

(٣) الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٥، والصواعق المحرقة ص ١٢٢.

٢٧٨

فأجابه الإمامعليه‌السلام :((جرأني على هذا ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة، فأشهد أني لست بنبي.. وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة، فاشهدوا أني لست بإمام.)) (١) .

وفي هذا المعنى روايات عديدة(٢) .

ولكنهمعليهم‌السلام قد انصرفوا بعد الحسينعليه‌السلام عن طلب هذا الأمر بالسيف. إلى تربية الأمة، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار، ولأنهم كانوا يعلمون: أن طلب هذا الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة، وواعية، لن يؤدي إلى نتيجة، ولن يقدر له النجاح، الذي يريدونه هم، ويريده الله. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلواعليهم‌السلام يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر، حتى مع خلفاء وقتهم، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة.

الموقف الخامس:

رفضه الشديد لكلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر أشهراً، وهو في مرو نفسها، حتى لقد هدده المأمون أكثر من مرة بالقتل.

وبذلك يكون قد مهد الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة، حيث قال له: إنه يريد أن يقول للناس: إن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه، وليكون بذلك قد أفهم المأمون أن

____________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢١٣.

(٢) راجع: البحار ج ٤٩، وروضة الكافي: وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك.

٢٧٩

حيلته لم تكن لتجوز، وأن زيفه لا ينطلي عليه، وأن عليه أن يكف في المستقبل عن كل مؤامراته ومخططاته. وليكون المأمون بعد هذا غير مطمئن لأي عمل يقدم عليه، وضعيف الثقة بكل الحيل والمؤامرات التي يحوكها. هذا بالإضافة إلى أن الناس سوف يشكون في طبيعية هذا الأمر، وسلامة نوايا المأمون فيه.

الموقف السادس:

ولم يكتف الإمامعليه‌السلام بذلك كله.. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا يؤكد فيها على أن المأمون قد أكرهه على هذا الأمر، وأجبره عليه، وهدده بالقتل إن لم يقبل.

يضاف إلى ذلك.. أنه كان يخبر الناس في مختلف المناسبات: أن المأمون سوف ينكث العهد، ويغدر به.. حتى لقد قال في نفس مجلس البيعة للمستبشر:((لا تستبشر، فإنه شيء لا يتم)) بل لقد كتب في نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن.

هذا عدا عن أنه كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون، ولا يسمه إلا هو، حتى لقد واجه نفس المأمون بهذا الأمر.

بل إنه لم يكن يكتفي بمجرد القول، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير إلى عدم رضاه بهذا الأمر، وإلى أنه مكره مجبر عليه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409