الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)0%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 191866
تحميل: 7342

توضيحات:

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191866 / تحميل: 7342
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ونرى أنهعليه‌السلام يقول ـ وعنده جماعة من بني هاشم، فيهم إسحاق ابن عيسى العباسي ـ:((يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا. لا.. وقرابتي من رسول الله ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله ..)) الخ. وقد تقدمت هذه الرواية في فصل: خطة الإمام.

كما أن هشام بن إبراهيم العباسي، الذي وضعه الفضل بن سهل ليراقب الرضاعليه‌السلام ، ويضيق عليه، كان يشيع عن الرضاعليه‌السلام : أنه أحل له الغناء، فلما سئلعليه‌السلام عن ذلك قال:((كذب الزنديق..)) الخ (١) .

بهذه الشائعات الكاذبة، وأمثالها أراد المأمون الحط من كرامة الإمام وتضعيف مركزه، وزعزعة ثقة الناس به، وبالعلويين بصورة عامة.

ولكن كما يقولون: حبل الكذب قصير، إذ إن أقوال الإمامعليه‌السلام وأفعاله وجميع جهات سلوكه، سواء قبل توليته للعهد أو بعدها.. كانت تناقض هذه الشائعات، وتدحضها(٢) . الأمر الذي كان من شأنه أن يثير شكوك الناس، وظنونهم في المأمون نفسه، فلم ير بداً من أن يضرب عن هذا الأسلوب صفحا. ويتجه إلى غيره بتخيل أنه أجدى وأكثر نفعاً وأقل ضرراً!.

وبقي في كنانته سهم أخير، كان يحسب أنه سوف يصيب الهدف، ويحقق الغاية: التي هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، والحط من كرامته. ألا وهو:

____________

(١) رجال المامقاني ج ٣ ص ٢٩١، وقاموس الرجال ج ٩ ص ٣٠٩، ووسائل الشيعة ج ١٢ ص ٢٢٧، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٤٥٢، عن رجال الكشي ص ٤٢٢. والبحار ج ٤٩ ص ٢٦٣، عن قرب الإسناد ص ١٩٨.

وكان هشام بن إبراهيم هذا جريئا على المأمون، لأنه هو الذي رباه، وشخص إلى خراسان في فتنة إبراهيم بن المهدي، راجع الأغاني ط ساسي ج ٩ ص ٣١. ويسمى: العباسي مع أنه لم يكن عباسياً: إما لأن المأمون ولاه تربية ولده العباس، أو لأنه ألف كتاباً في إمامة العباس نص على ذلك الكشي ط النجف ص ٢٢٣ وغيره.

(٢) وكيف يمكن أن نصدق مثل هذا الذي لا يقره العقل، ولا يقبل به القرآن، على الإمام الذي كان يتخذ لنفسه أسلم، وأروع منهج، ألا وهو منهج القرآن، حتى إنه عندما أنكر رؤية النبي لله تعالى، واستدل على ذلك بالآيات، وقال له أبو قرة: فتكذب بالروايات؟!

قال الإمام عليه‌السلام : ((إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها. وما أجمع المسلمون عليه: أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء)). راجع: تفسير البرهان طبعة حجرية ص ١٠٥٧، ١٠٥٨. نقلاً عن الكافي.. ومثل ذلك كثير لا مجال لاستقصائه..

٣٢١

التركيز على إفحام الإمامعليه‌السلام :

فبدأ يجمع العلماء. وأهل الكلام من المعتزلة، وهم أصحاب جدل، وكلام، واستدلال، وتنبه للدقائق من الأمور، ليحدق هؤلاء بالرضاعليه‌السلام وتجري فيما بينهم وبينه محاورات، ومجادلات، من أجل أن ينقصوا منه مجلساً بعد مجلس، وأن يكسروه في أعظم ما يدعيه هو وآباؤهعليه‌السلام : من العلم والمعرفة بآثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلومه.. والذي هو الشرط الأعظم لإمامة الإمام، على ما يدعيه الشيعة المفتونون بالرضاعليه‌السلام ، وبسائر آبائه وأبنائه الأئمة الطاهرين.. ولا يبقى من ثم مجال لأبي نؤاس لأن يقول فيه عندما رآه خارجاً من عند المأمون:

مـطـهرون نـقـيات ثـيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

مـن لـم يكن علوياً حين تنسبه

فـما لـه في قديم الدهر مفتخر

الله لـمـا بــرى خـلقاً فـأتقنه

صـفاكم واصـطفاكم أيـها البشر

فـأنـتم الـملأ الأعـلى وعـندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور(١)

هذه الأبيات التي سارت بها الركبان والتي هي تعبير صادق عن هذه الحقيقة التي أشرنا إليها، والتي كانت تقض على المأمون وكل أسلافه وأتباعه مضاجعهم، وتنغص عليهم حياتهم.. وعليه: وإذا استطاع المأمون أن يظهر للملأ أن الإمامعليه‌السلام صفر اليدين مما يدعيه، ويدعيه آباؤه من قبل، فإنه يكون قد قضى على المصدر والأساس لكل المشاكل، والأخطار، وينهار المذهب الشيعي حينئذٍ بانهيار فكرة الإمامة فيه، التي هي المحور، والأساس له، ويتحقق من ثم ـ حلمه الكبير، الذي طالما جهد وشقي من أجل تحقيقه. وأعتقد: أنه لو كان تم له ما أراد، فلسوف لا يتعرض بعد هذا للإمامعليه‌السلام بسوء، وأنه كان سوف يبقى على حياتهعليه‌السلام إبقاء لحجته، وأنه خال من شرائط الإمامة، وليأفل من ثم.. نجمه، ونجم العلويين من بعده.. وإلى الأبد.

____________

(١) شهرة هذه الأبيات تغنينا عن ذكر مصادرها، وقد أعطاهعليه‌السلام ما كان معه، وهو مئة دينار، والبغلة التي كان يركبها.. لكن بعض الباحثين يرى أن أبا نؤاس لم يعش إلى زمان تولي الرضا العهد، بل مات قبل ذلك بثلاث سنوات أي في سنة ١٩٨ ه‍. ومن ثم هو ينكر الحادثة الأخرى، التي تقول: إن البعض لام أبا نؤاس حيث لم يمدح الإمامعليه‌السلام ، فقال أبياته المشهورة: (قيل لي أنت أشعر الناس طرا في فنون إلخ..). ولكن الظاهر أن هذا الباحث لم يطلع على عبارة ابن خلكان في وفيات الأعيان، طبع سنة ١٣١٠ ج ١ ص ٤٥٧، فإنه قال: (وفيه ـ أي في الرضاعليه‌السلام ـ يقول أيضاً ـ وله ذكر في شذور العقود سنة إحدى أو اثنتين وماءتين ـ: مطهرون نقيات إلخ..). بل يكفي دلالة على أنه عاش إلى ما بعد ولاية العهد ذكر هذه الأبيات، وتلك له والنص على أنه قد قالها فيهعليه‌السلام .

٣٢٢

ومن أجل ذلك ـ بكل تأكيد ـ أخذ يجمع العلماء(١) ويجلبهم من أقاصي البلدان، ويأمرهم بتهيئة أشكل المسائل وأصعبها، وطرحها على الإمامعليه‌السلام عله يقطعه عن الحجة. ولو مرة واحدة. ليحط بذلك من كرامته، ويشوه سمعته، ويظهر عجزه وعيه، ويرى الناس أن ما يدعيه من العلم والمعرفة بآثار رسول الله وعلومه لا حقيقة له، ولا واقع وراءه.

قال الصدوق عليه الرحمة: (.. كان المأمون يجلب على الإمامعليه‌السلام من متكلمي الفرق، وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصاً على انقطاع الرضاعليه‌السلام عن الحجة مع واحد منهم إلخ.)(٢) .

وقال إبراهيم بن العباس: (سمعت العباس يقول:.. وكان المأمون يمتحنه ـ أي يمتحن الإمامعليه‌السلام بالسؤال عن كل شيء ـ، فيجيبه الجواب الشافي..)(٣) .

وقال أبو الصلت: (.. فلما لم يظهر منه للناس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم،. جلب عليه المتكلمين من البلدان، طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصائبين، والبراهمة، والملحدين، والدهرية، ولا خصم

____________

(١) مع أنه هو نفسه قد فرق عن الإمام تلامذته، عندما أخبروه أنه يقوم بمهمة التدريس، كما أشرنا إليه!.

(٢) مسند الإمام الرضا ج ٢ ص ١٠٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٩١.

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٣٧، وإعلام الورى ص ٣١٤، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٠٧، ويراجع أيضاً: مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٥٠، وغير ذلك.

٣٢٣

من فرق المسلمين المخالفين له إلا قطعه، وألزمه الحجة، وكان الناس الخ..)(١) .

وقال المأمون لسليمان المروزي: (.. إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط..)(٢) .

وتقدم قوله لحميد بن مهران، عندما طلب منه هذا أن يوليه مجادلته، لينزله منزلته: (ما من شيء أحب إلي من هذا..).

بل لقد صرح المأمون نفسه: بأنه كان يريد أن يجعل من جهل الإمام ـ نعوذ بالله ـ ذريعة ووسيلة إلى خلعه، ليشتهر بين الناس أنه قد خلع بسبب جهله، وقلة معرفته، فقد ورد أنه عندما أخبره الرضا بصفات حمل جاريته، قال المأمون: (فقلت في نفسي هذه والله فرصة، إن لم يكن الأمر على ما ذكر، خلعته، فلم أزل أتوقع أمرها إلخ..)(٣) .

إلى غير ذلك مما قد امتلأت به كتب الأخبار والسير.

وحتى مع الإمام الجواد قد حاول ذلك:

لا نستبعد أيضاً: أن يكون قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع الإمام الجوادعليه‌السلام أيضاً، والذي كان لا يزال صغير السن، فأغرى العباسيين بأن يقفوا ذلك الموقف، ليفسح المجال ليحيى بن أكثم ليطرح مسائله الصعبة على الإمام الصغير، ليعجز عنها، ويظهر للملأ: أن إمام الشيعة طفل صغير، لا يعلم ولا يعقل شيئاً، وإن كل ما يدعونه في الإمام ما هو إلا زخرف باطل، وظل زائل..

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩، ومثير الأحزان ص ٢٦٣، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٢٨، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٧٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٩٧.

(٣) الغيبة للشيخ الطوسي ص ٤٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٢٤، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٧، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٣٣ عن الجلاء والشفاء.

هذا.. ولا بأس بملاحظة قوله: إنها والله فرصة!.. الدالة على أنه كان يتحين الفرص لذلك.

٣٢٤

ويلاحظ: أنه قام بهذه اللعبة قبل أن يسلم إليه ابنته، التي كان قد عقد له عليها في حياة أبيه الرضاعليه‌السلام ، وجعل شرط تسليمها أن يغلب يحيى بن أكثم ويجيبه على مسائله! ومعنى ذلك: أنه لو توقف ولو في مسألة واحد لامتنع عن إعطائه زوجته، وكانت النتيجة أن يشتهر ذلك بين الناس كلهم، ويصبح حديث كل الندوات والمحافل أن سبب عدم تسليمه زوجته هو جهله وعيُّه..

لكن الإمام الجواد كان كأبيه قد أعاد على المأمون كيده ومكره، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.. ولقد سبقه إلى ذلك المنصور مع الإمام الصادق، حيث أمر أبا حنيفة بتهيئة مسائل صعبة يلقيها على الإمام، لأنه رأى الناس قد فتنوا به(١) .. وجرى على منواله في ذلك المعتصم مع الجواد أيضاً، وغيره مع غيره.. وكان الله هو المؤيد والناصر والمسدد.

ملاحظة لا بد منها:

ومما يلاحظ هنا: أننا لا نجد أثراً لهذه المجالس العلمية للمأمون!، والمناظرات الكلامية! بعد موت الإمامعليه‌السلام ، فبعد أن ماتعليه‌السلام بسم المأمون، وهدأت ثائرة العلويين والشيعة أو صد الباب كليا تقريباً، وانصرف عن ذلك نهائياً.. اللهم إلا بعض مناظرات نادرة ومحدودة جداً في بغداد، لا تقاس بتلك التي كانت تجري في مرو على الإطلاق..

____________

(١) راجع: البحار ج ٤٧ ص ٢١٧.

٣٢٥

الإمام يقول: المأمون سوف يندم:

هذا.. ولم يكن من الغريب: أن يعلم الرضاعليه‌السلام بمقاصد المأمون، وحقيقة نواياه من مثل هذه التصرفات، وكانعليه‌السلام يقول: ((.. إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابدة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه..))(١) .

نعم.. إنه سوف يندم كثيراً عندما يرى: أن كل ما كان يدبره ينقلب عليه، ويؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يرجوها منه.. حتى إن الناس كانوا يقولون: (والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه، فيغتاظ ويشتد حسده..)(٢) .

وهكذا.. فإن هذا القول يعتبر تحقيقا لنبوءة الإمام: من أن المأمون سوف يندم. إذا علم أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له. ولقد علم المأمون، ولكن بعد فوات الأوان بذلك، وبأنه قد ساعد بأعماله تلك على اتساع القاعدة الشعبية للإمامعليه‌السلام وإظهار مزاياه وفضائله، التي كان يجهد المأمون في طمسها وإخفائها. بل لقد ساعد على ترسيخ عقيدة الشيعة في نفوسهم، وشد إلى قلوب الكثيرين، حيث قد ثبت بالفعل: أن الإمام أعلم أهل الأرض على الإطلاق وأفضلهم وأتقاهم إلى آخر ما هنالك من الكمالات والفضائل الأخلاقية، ولم يعد ذلك مجرد دعوى لا يدعمها دليل، ولا يؤيدها برهان.

وكان على المأمون أن يتبع أسلوباً جديداً، يضمن له تحقيق غاياته في التخلص من الإمامعليه‌السلام ، والقضاء عليه إجتماعياً، ونفسياً، بل وحتى جسدياً أيضاً.

وبقي في كنانته سهم آخر، ظن أن سوف يحقق له ما عجز كل ما سواه عن تحقيقه.. ألا وهو:

الاقتراح العجيب:

وكل قضايا المأمون تثير عجباً، وهو أن يذهب الإمام إلى بغداد، وقبل أن نتكلم عن هذا الاقتراح العجيب.. يحسن بنا أن نتكلم عن بغداد أولاً، وعن موقفها من البيعة للرضاعليه‌السلام ، وعن ردة الفعل فيها تجاه هذا الفعل الذي أقدم عليه المأمون من دون رضا منها.. فنقول:

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٧٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٥، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٦.

(٢) كشف الغمة ج ٣ ص ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩.

٣٢٦

موقف بغداد من المأمون والبيعة للرضاعليه‌السلام :

تعتبر بغداد أهم معقل للعباسيين على الإطلاق وهي عاصمتهم، وحصنهم، الذي يلوذون به، ويلجأون إليه.

والعباسيون هم الذين نقموا على المأمون بسبب جعل ولاية العهد للرضاعليه‌السلام ، وخلعوا المأمون بمجرد سماعهم لذلك النبأ الذي نزل عليهم نزول الصاعقة، فشغبوا في بغداد، وأخرجوا الحسن بن سهل منها، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي، المعروف، بابن شكلة المغني، الذي كان عاملاً للمأمون على البصرة(١) والذي كان من ألد أعداء الإمام علي بن أبي طالب وولده..

وموقف بغداد هذا لم يكن ليخفى على أحد، فكيف يخفى على المأمون، وقد رأينا: أن الإمام نفسه يخبر المأمون: بأن الناس ـ يعني العباسيين، ومواليهم(٢) ـ ينقمون عليه مكان الإمام منه، ومكان بيعته له بولاية العهد (٣) .

والفضل بن سهل أيضاً قال للمأمون: (.. ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك. والعامة والعلماء، والفقهاء، وآل عباس، لا يرضون بذلك. وقلوبهم

____________

(١) مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٨.

(٢) لأنهم هم فقط الذين كانوا ينقمون ذلك عليه، كما تدل عليه النصوص التاريخية، ولم يشر التاريخ، ولو من بعيد إلى شيء من ذلك من غيرهم على الإطلاق، بل نص على عكس ذلك كما عرفت، حتى من أهل بغداد أنفسهم..

(٣) الطبري ج ١١ ص ١٠٢٥، وابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٩، والكامل لابن الأثير ج ٥، وغير ذلك.

وقال في النجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٧٤: (أنه بسبب ولاية العهد للرضا قامت الفتن، واضطربت البلاد) وقريب منه ما في مقدمة ابن خلدون ص ٢١١، وواضح: أن ذلك قول مبالغ فيه. حيث لم يحدث بسبب البيعة شيء أصلاً إلا في بغداد، وأما سائر البلاد، فقد خمدت الثورات فيها، واستوسقت للمأمون كما نص عليه الذهبي، وغيره حسبما تقدم، وحتى في بغداد نفسها كان أكثرها يؤيد المأمون في ذلك باستثناء العباسيين، ومن لف لفهم، قال في تاريخ أبي الفداء ج ٢ ص ٢٢: (وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة).. ويتفق المؤرخون: على أن بغداد انقسمت إلى قسمين: قسم يقول: نلبس الخضرة، ونبايع وقسم يأبى ذلك. إلى أن غلب الممتنعون، لأن من بينهم رجال الدولة، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي..

٣٢٧

متنافرة عنك، والرأي: أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا إلخ..)(١) .

وسيأتي أن المأمون قد كتب للعباسيين، بعد وفاة الإمام: أن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت.. إلى غير ذلك مما ليس في تتبعه كثير فائدة..

وأما نصب ابن شكلة:

لقد رضي العباسيون بابن شكلة حاكماً عليهم، مع علمهم بانحرافه عن علي، ونصبه، بل لعل هذا هو أحد المرجحات لاختيارهم له.

ويكفي دلالة على انحرافه عن عليعليه‌السلام وولده ما تقدم: من أن المأمون كان يظهر التشيع، وابن شكلة يظهر التسنن(٢) ، وأنه عير المأمون بتشيعه فقال:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

وعيره المأمون بنصبه، فقال:

إذا الـمرجي سـرك أن تـراه

يـموت لـحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي (ع)

وصل على النبي وأهل بيته(٣)

وقال إبراهيم هذا مرة للمأمون: إن علياً ليس من البلاغة في شيء،

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٦. وواضح أن من مصلحة الفضل: أن يضخم الأمر ويهول به على المأمون، لأنه يريد أن يردعه عن الذهاب إلى بغداد، التي يعرف أنه سوف يتعرض فيها لأهوال وأخطار قد لا يكون له القدرة على تحملها.

(٢) استعمال المسعودي لكلمة (التسنن) هنا يفند ما ادعاه أحمد أمين المصري: من أنه هو المصطنع لهذه الكلمة، وأول من استعملها. والظاهر أنه قرأها فيه أو في النجوم الزاهرة، أو وفيات الأعيان ترجمة علي بن الجهم أو غيرها.. ثم نسي.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧ وراجع: ص ٢٣١ ـ ٢٣٢ من هذا الكتاب.

٣٢٨

حيث إنه رآه في منامه، فسأله مسألة، فقال له الإمامعليه‌السلام :((سلاماً سلاماً)) .. فعندما أفهمه المأمون: أنهعليه‌السلام يشير بذلك إلى قوله تعالى:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً ) خجل، وندم على إخباره المأمون بما كان(١) .

وعن صلاح الدين الصفدي في شرح الجهورية: أنه لما مات إبراهيم ابن المهدي سأل الواثق عن وصيته، فوجده قد أمر بمال عظيم: أن يفرق على أولاد الصحابة، إلا أولاد عليعليه‌السلام ، فقال الواثق: (والله، لولا إطاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه، ولا انتظرت دفنه) ثم انصرف الواثق وهو يقول: (منحرف عن شرفه، وخير أهله، والله، لقد أدليته في قبره كافراً.)(٢) .

إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد التي يطول بذكرها المقام.

المأمون: هو الذي ينقل لنا اقتراحه العجيب:

ولكن رغم موقف بغداد ذاك، ورغم أنه كان يعلم به، ويعلم بكل ما جرى في بغداد بسبب جعله ولاية العهد للرضا نرى المأمون يحاول أن يرسل الإمام إلى بغداد، ليكون وجها لوجه مع ألد أعدائه العباسيين، وفي نفس معقلهم، ومحل قوتهم، وحيث لهم كل النفوذ والسيطرة، يرسله ـ وحده! ـ ويبقى هو خليفته في خراسان. ويرفض الإمام، ويصر على الرفض، حتى يئس المأمون من قبوله.

يقول المأمون: (رحم الله الرضاعليه‌السلام ، ما كان أعلمه، لقد

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٢٧١، ونزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٣.

(٢) نزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٤.

٣٢٩

أخبرني بعجب. سألته ليلة، وقد بايع له الناس، فقلت: جعلت فداك، أرى لك أن تمضي إلى العراق، وأكون خليفتك بخراسان، فتبسم، ثم قال:((لا.. لعمري..)) ) إلى أن يقول المأمون: (فجهدت الجهد كله، وأطمعته في الخلافة، وما سواها، فما أطمعني في نفسه..)(١) .

ولماذا هذا العرض:

عجيب إذن!.. هكذا أصبحت الخلافة رخيصة إلى هذا الحد! الخلافة. التي لم يكن يعدلها عنده في الدنيا شيء!. الخلافة.. التي قتل من أجلها المئات والألوف!، وخرب المدن ودك الحصون!!. التي قتل من أجلها أخاه، ومن معه، وقواده، ووزراءه!.. الخلافة هذه.. أصبحت رخيصة إلى حد أنه يبذلها ـ حسب منطقه ـ لرجل غريب!، وفي مقابل أي شيء؟! في مقابل أن يذهب إلى العراق!.!.

ولقد عرفنا الخلافة التي بذلها، لكن ما سواها لم نستطع أن نعرفه بالتحديد!.

ولماذا يجهد الجهد كله؟! ولماذا يبذل الخلافة؟! ولماذا يبذل ما سواها؟! لماذا كل ذلك؟!. أليس هو ذا القوة والسلطان؟!، فلم لا يجبر الإمامعليه‌السلام على ذلك، كما أجبره على قبول ولاية العهد؟!.

ألم يكن باستطاعته أن يرسله مقيدا مصفدا بالحديد؟!. ولماذا يسمح له بأن يعصيه ويخالف أمره؟!. أفلا يعتبر ذلك جريمة يستحق عليها أقسى العقوبات، باعتبار أنه يعرض الخليفة والخلافة، وهيبتهما للخطر؟!.

____________

(١) الغيبة للطوسي ص ٤٨، ومناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٣٧، والبحار ج ٤٩ ص ٥٨ و ١٤٥.

٣٣٠

نعم.. إنه يريد أن يذهب الإمام إلى بغداد، ولكنه يريد في نفس الوقت أن يذهب راضياً وغافلاً عما يهدف إليه المأمون من وراء ذهابه هذا.. وإلا فإن ذهابه لن يجديه نفعا، لأنه قد جرب معه الإكراه والإجبار من قبل، في قضية ولاية العهد، ورأى أن الإمام قد اتخذ ذلك وسيلة من الوسائل المضادة، من أجل تضييع الفرصة على المأمون.

كما أن بذله للخلافة لم يكن مجازفة بها، لأنه كان مطمئناً إلى أن ما يبذله اليوم سوف يعود إليه غداً.. وبالشكل الأفضل والأكمل، لو أن الإمامعليه‌السلام قبل منه ما كان عرضه عليه.

نعم.. إنه يريد أن يرسله إلى العراق ـ بغداد ـ وطلب منه أن يذهب وحده، ويبقى هو خليفة له في خراسان، ليواجه المحنة، التي لن يكون له القدرة على تحملها، والصمود في وجهها.. ويتخلص المأمون منه بذلك من أهون سبيل.

المأمون يتحرك نحو بغداد بنفسه:

لكن رفض الإمام القاطع جعله يفكر في الأمر بنحو آخر، فلقد تحرك هو بنفسه نحو بغداد، مصطحبا معه وزيره الفضل بن سهل وولي عهده الإمام الرضاعليه‌السلام ، الذي كان هو الشجا المعترض في حلق المأمون.

ولقد كان من الممكن: أن يحتفظ بهما حتى يدخلوا بغداد، فتقوم قائمة بني العباس، ويثورون، ويعصفون، وتعم الفوضى، ويختل النظام.. وقد يتخلص المأمون حينئذٍ من الإمامعليه‌السلام على يد من يرتفع به حقده، ويخرجه غضبه عن طوره.

وإن لم يكن ذلك، وجبنوا على الإقدام عليه.. وبعد أن يكون الناس قد رأوا أن وجود الإمام ـ وليس قتل الأمين ـ هو المانع والعائق من عودة المياه إلى مجاريها بين المأمون، وبين العباسيين بني أبيه، الذين أصبح يرى الناس: أن لهم ـ كغيرهم ـ الحق في الخلاقة.. فإن المأمون سوف يجد ـ من ثم ـ العذر والمبرر لخلعه من ولاية العهد، من أجل أن تستقر البلاد، وتذهب الأحقاد والإحن، وتعود الأمور إلى حالتها الطبيعية بينه وبين بني أبيه، والمحبين والمتشيعين لهم.. ولتكون هذه ـ وبعد ملاحقتها بحملة دعائية واسعة ـ ضربة قاضية لسمعة الإمام، وطعنة نجلاء في كرامته، سوف يسعد المأمون بها أيما سعادة..

٣٣١

لكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين:

لقد كان من الممكن ذلك.. ولكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين، الذين في بغداد، أن يتفهموا حقيقة موقفه، ويدركوا ما ترمي إليه مخططاته.. فقد يثورون ضده هو، ويوصلون إليه ما يسوءه ويزعجه، كما حدث ذلك من قبل.. فهو مع أنه لم يبايع للرضا بولاية العهد، إلا من أجل أن يحقن دماءهم، ومع أنه كان يدبر الأمر ليدوم لهم، ولعقبهم من بعدهم.. إلا أنهم لم يدركوا ذلك رغم أنه كتب إليهم به صراحة.. واستمروا على مناوأته ومحاربته.

ولا كان واثقاً من سكوت الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان يخشى أن الإمام، الذي رأى المأمون منه العجائب، والذي أصبح قريباً من العباسيين، وأشياعهم، وقريبا، من محبيه ومواليه أيضاً ـ كان يخشى أن يتمكن ـ من قلب ما يدبره، ويخططه، وجعله وبالاً عليه. وقد تقدم إن أباه موسىعليه‌السلام قد أفسد على الرشيد قلوب شيعته، رغم أنه كان في سجونه وتحت نظره ومراقبته الدقيقة.

كما أنه لم ينس بعد أبداً: أنه قد أفسد عليه جل، إن لم يكن كل مؤامراته، وتدبيراته.. بل لقد كان يجعلها كلها في صالحه هو، ودماراً، ووبالاً على المأمون مدبرها، ومخططها الحقيقي.

وقد يكون الإمام مستعداً لقبول اقتراح من المأمون بالتنحي عن ولاية العهد. ولكن ذلك ولا شك سوف يعيد الأمور إلى سيرتها الأولى. بل سوف يزيد الأمر تعقيدا، والوضع خطورة عما كان عليه قبل البيعة لهعليه‌السلام بولاية العهد. ولن يسكت العلويون ولا الخراسانيون، بل حتى ولا العرب عن أمر كهذا. ولن يعيد الأمور إلى سيرتها الأولى بيعة أو مناورة أخرى من أي نوع كانت، وعلى أي مستوى كانت.

كيف يخرج المأمون من المأزق إذن؟!

وهكذا.. وبعد أن رأى المأمون نفسه قد فشل في تحقيق الجزء الأهم من خطته، ألا وهو أن يضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر.. بل لقد رأى نفسه يحصد غير ما يزرع، وأن النتائج التي كان يحصل عليها هي تماماً عكس ما كان ينتظر ويؤمل، وذلك بسبب وعي الإمام وحنكته، ويقظته..

٣٣٢

ورأى أنه قد حارب الإمام بجميع الأسلحة التي كان يمتلكها، من المكر والخديعة، والدهاء إلخ.. لكن أسلحة الإمام كانت أمضى وأقوى من كل ما كان يمتلكه المأمون. ومن أين للمأمون علم الإمام وزهده، وتقواه وفضله، وفضائله النفسية، وشخصيته الفذة، وسائر صفاته وخصاله الحميدة، صلوات الله وسلامه عليه؟..

وإذا كان قد تأكد لديه أن محاولاته تلك لم تكن تثمر إلا أن يزداد الإمام رفعة بين الناس، ومحلا في نفوسهم، وإلا اتساع قاعدته الشعبية باطراد وأنه هو نفسه قد ساعد على اتساعها.. حتى لقد اضطر هو نفسه لأن يستجير بالإمام لينقذه من أولئك الذين شغبوا عليه بسبب قتله الفضل ابن سهل.. إلى آخر ما هنالك مما قدمناه.. إذا كان كذلك.. فإنه قد أصبح يرى نفسه مستحقاً لذلك التأنيب القاسي الذي تلقاه من حميد بن مهران، وجمع من العباسيين، حيث قال له حميد: (.. ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتوثب على مملكتك. هل جنى أحد مثل جنايتك؟!).. وقد تقدم جواب المأمون لهم في أول هذا الفصل، فلا نعيد..

ويلاحظ هنا: أن قول حميد بن مهران: (ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي) قد كان بعد البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد، فكأنه كان على علم بخطة المأمون، وأهدافه من البيعة..

نعود فنقول: إنه كما أصبح يرى نفسه مستحقاً لذلك التأنيب القاسي أصبح أيضاً يرى أن من الضروري العثور على وسيلة تسهل عليه الخروج من ذلك المأزق الحرج الذي أوقع نفسه فيه. حتى لا ينتهي به الأمر إلى تلك النهاية المرعبة، التي كان يخشاها كل الخشية، وتمتلئ نفسه فرقاً ورعباً منها..

فما هي تلك الوسيلة؟!، وأين يجدها؟! وهل يستطيع أن يحصل عليها؟! وكيف؟.

٣٣٣

ولقد وجد الوسيلة وهي سهلة جداً، ولكنها غير مأمونة العواقب، وهذه الوسيلة هي:

تصفية الإمامعليه‌السلام جسدياً:

والتدبير فيه ـ وبسرعة ـ بما يحسم عنه مواد بلائه.. وواضح:

أن قتل الإمامعليه‌السلام جهاراً سوف يثير مشاعر العلويين والشيعة. سواء من الخراسانيين، أو من غيرهم. بل هو يثير الأمة بأسرها، ولسوف يعطيهم، وخصوصاً العلويين الفرصة، بل والحق في القيام بوجه نظام الحكم من جديد. وبكلمة.. سوف يخسر المأمون حينئذٍ كل ما كان يرى نفسه أنه قد ربحه، هذا إن لم تكن النتيجة أسوأ من ذلك بكثير. وأسوأ مما يتصور.

وإذن.. فلا بد للقضاء على الإمام من إعمال الحيلة، وإحكام الخطة. ودراستها دراسة كافية ووافية.

قضية حمام سرخس:

وحاول أن يقضي على الإمامعليه‌السلام ، والفضل معاً، مرة واحدة في حمام سرخس. ولكن يقظة الإمامعليه‌السلام ، ووعيه قد حال دون ذلك، حيث إنه رفض الذهاب إلى الحمام. وأصر المأمون بدوره على ذلك، وأعاد عليه الرقعة مرتين!. لكن الإمام قد بين له بياناً قاطعاً: أنه لن يدخل الحمام بأي وجه من الوجوه.. كما أنهعليه‌السلام قد حاول أن يدفع المكيدة عن الفضل، فقال للمأمون:((ولا أرى للفضل أن يدخل الحمام غداً)) لكن المأمون يصر على أن يدخل الفضل الحمام، ويمتنع من تحذيره، حيث قال للإمام: (وأما الفضل فهو أعلم وما يفعله..)(١) .

مقتل الفضل بن سهل:

ونجح المأمون في تنفيذ أحد جزئي مهمته، وفشل في تنفيذ الجزء الآخر، والأهم منها، فقد نجا الإمامعليه‌السلام بفضل وعيه ويقظته، ووقع الفضل في الشرك وحده وقتل بتدبير من المأمون، فرضي بذلك العباسيون، وقتل قتلته، فرضي الحسن بن سهل والخراسانيون.

____________

(١) قد تقدم بعض مصادر هذا النص في فصل: شخصية الإمام الرضا، عند ذكر التجاء المأمون إلى الرضاعليه‌السلام عندما شغب عليه الجند، بسبب مقتل الفضل.

٣٣٤

ومجمل قضية قتل الفضل هنا: (أن المأمون لما رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة إلى بني علي، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل، ورأى الفتنة قائمة ولا يستطيع أن يقتل الفضل جهاراً لمكان أخيه الحسن بن سهل، وكثرة من معه من الرجال(١) فأعمل الفكرة في ذلك، ودس جماعة لقتل الفضل..

والذين قتلوا الفضل كانوا خمسة أشخاص من حشم المأمون، أحدهم: خاله غالب، فأخذوا وجيء بهم إليه، فقالوا: أنت أمرتنا بقتله!.

فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأما ما ادعيتموه: من أني أنا أمرتكم بذلك، فدعوى ليس لها بينة، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وحمل رؤوسهم إلى الحسن أخي الفضل، وأظهر الحزن عليه..)(٢) ! كما أنه قد أقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، وأظهر عليه أشد الجزع كما نص عليه اليعقوبي، وواضح أن قتله لقتلة الفضل، ثم إرساله رؤوسهم إلى الحسن، ثم إظهاره للحزن عليه لخير دليل على دهائه وحنكته السياسية.

بل ذكر المسعودي، ويظهر ذلك من غيره أيضاً: أن المأمون قتل

____________

(١) راجع لطف التدبير ص ١٦٤ ـ ١٦٦.

(٢) راجع في ذلك: الآداب السلطانية ص ٢١٨، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٩، ولطف التدبير ص ١٦٤ ـ ١٦٦ ومآثر الإنافة ج ١ ص ٢١١، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٩١ و ١٩٢، والطبري ج ١١ ص ١٠٢٧، ووفيات الأعيان، طبع سنة ١٣١٠ ج ١ ص ٤١٤، ومرآة الجنان ج ٢ ص ٧، وإثبات الوصية ص ٢٠٧، وليراجع تجارب الأمم ج ٦ ص ٤٤٣.

٣٣٥

الفضل بن سهل بيده، وأنه باشر قتله بنفسه(١) ، ولعله اتهم هؤلاء من أجل أن يبعد التهمة عن نفسه لأسباب سياسية لا تكاد تخفى ومن أهمها أن لا يفسد عليه الحسن بن سهل ومن معه والخراسانيون.

وتحسن الإشارة هنا إلى ما قدمناه من عرض المأمون على الفضل أن يزوجه ابنته ـ على الرغم من استهجان تزويج بنات الخلفاء من غير ذوي قرباهم. فرفض الفضل العرض، وشكر المأمون، وجهد المأمون الجهد كله في إقناعه، فلم يفلح!. وقال له: لو صلبتني ما فعلته(٢) فإن عرضه هذا، وجهده في إقناعه ما كان إلا شركاً منه للتجسس والإيقاع بالفضل على يدها، كما فعل بالجواد والرضا عليه‌السلام .. وعندما لم يفلح في إقناع الفضل، وفشلت مؤامرته، دبر قضية حمام سرخس، ونحج في تدبيره ذاك كما عرفنا..

وقبل أن نمضي في الحديث يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره الأصفهاني في أغانيه، فيما يتعلق بمقتل الفضل، حيث قال ما ملخصه: إن إبراهيم ابن العباس الشاعر كان من خواص الفضل بن سهل. وجعله كاتباً لعبد العزيز بن عمران، فلما دبر المأمون قتل الفضل، وندب إليه عبد العزيز ابن عمران. علم إبراهيم بذلك، فأخبر به الفضل، فأظهره للمأمون، وعاتبه عليه.. وبعد قتل المأمون للفضل ولقتلته سأل من أين سقط الخبر للفضل، فعرف أنه من جهة إبراهيم، فطلبه، فاستتر، وتحمل إبراهيم بالناس على المأمون. وجرد في أمره هشام الخطيب المعروف بالعباسي،

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧، ويظهر أيضاً من: الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٨.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٣٠٧.

٣٣٦

وكان جريئاً على المأمون، لأنه رباه، فلم يجبه المأمون إلى ما سأل(١) . إلى آخر ما قال.

ظاهرة قتل الوزراء:

وتحسن الإشارة هنا: إلى أن قتل الوزراء كان ظاهرة شائعة في حياة الخلفاء العباسيين، حتى إن أحمد بن أبي خالد الأحول امتنع بعد مقتل الفضل عن قبول اسم (وزير) مع قبوله بالقيام بكل أعمال الوزير ووظائفه.

وهنا لطائف وظرائف تتعلق بهذا المطلب، ليس هنا محل ذكرها.. ولنعد الآن للحديث عن موقف المأمون فنقول:

لا بد من العودة إلى سنة معاوية:

إنه رغم فشل المأمون في قضية حمام سرخس، لم ييأس، ولم يهن في الوصول إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، فاستمر يعمل الحيلة ويدبر المكيدة للإمامعليه‌السلام .

وكان عليه: أن لا يعرض نفسه للخطأ الذي وقع فيه في قضية الفضل، حيث أعلن القتلة في وجهه بأنه هو الذي أمرهم بقتله، مما كان سبباً في ثورة الجند عليه، وتعرض لخطر عظيم جداً، لو لم يلتجئ إلى الإمام، الذي أنقذ موقفه، وفرق الناس عنه، كما تقدم..

ولم ير وسيلة أسهل وأسلم من تلك التي سنها سلفه معاوية، الذي قدمنا في فصل: آمال المأمون وآلامه: أن المأمون قد ارتضى سيرته، ورد سيرة أبي بكر وعمر وعلي وهذه الوسيلة هي: (السم).

____________

(١) الأغاني ط الساسي ج ٩ ص ٣١.

٣٣٧

ودس إليه السم في العنب، أو في ماء الرمان، ومضى الإمامعليه‌السلام شهيداً، صابراً محتسباً.. وهذه هي نفس الطريقة التي تخلص بواسطتها، من قبل: محمد بن محمد، صاحب أبي السرايا، ولا نستبعد أنه قد دبر مثل ذلك في محمد بن جعفر، الذي مات هو الآخر ـ كالرضاعليه‌السلام والفضل بن سهل ـ في طريق بغداد(١) .

كما ويلاحظ: أنه لما مات محمد بن جعفر نادى منادي المأمون: (ألا لا تسيئن الظن بأمير المؤمنين؛ فإن محمد بن جعفر جمع بين أشياء في يوم واحد. وكان سبب موته أنه جامع وافتصد، ودخل الحمام فمات)(٢) وهكذا.. مات اللذان تكرههما بغداد، في نفس طريق بغداد.. ولم يعد هناك ما يعكر صفو العلاقات بينه، وبين بني أبيه العباسيين وأشياعهم، وأصبح باستطاعته أن يكتب إليهم:

(.. إن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت، وأنهم ما نقموا عليه إلا بيعته لعلي بن موسى الرضاعليه‌السلام وقد مات، فارجعوا إلى السمع والطاعة، وإنه يجعل ولاية العهد في ولد العباس..)(٣) .

____________

(١) ولعل ابن قتيبة يشير إلى هذا في معارفه طبع سنة ١٣٠٠ ص ١٣٣ حيث يقول: (وظفر بمحمد بن جعفر، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته، فلم يرجع منهم أحد..)!!.

ولكننا نراه مع ذلك، عندما يؤتى بجنازة محمد بن جعفر قد نزل بين العمودين، وحمله! وقال: هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة، وصلى عليه وقضى دينه!!.. بل إننا لا نستبعد أن يكون هو المدبر لشائعة غلبة السوداء على الحسن بن سهل أخي الفضل. وهكذا.. فيكون قد قضى على كل أولئك الذين تكرههم بغداد وتخشاهم، وتخلص منهم واحداً بعد الآخر.

(٢) تاريخ جرجان ص ٤٠٤.

(٣) راجع في ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٣٠، والبداية والنهاية ج ١ ص ٢٤٩، وتاريخ الخلفاء ص ٣٠٧، وابن الأثير ج ٥ ص ١٩٣، والفخري الآداب السلطانية ص ٢١٨، وتاريخ أبي الفداء ج ٢ ص ٢٤، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٠، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٧٣، وغير ذلك، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٤٤.

٣٣٨

فرجعوا إليه، وانقادوا له، ولكن بعد التخلص ممن كان يكره ويكرهون، ويخاف ويخافون..

رجع إلى بغداد، فأطاعته، وانقادت له، لأنه قضى على من كانت تخافهم، وتخشاهم، وحقق لها ما كانت ترجوه، وتصبو إليه، وغفرت له قتله أخاه، ونسيته حتى كأنه أمر لم يكن!.. بل لقد أصبحت ترى أنه أفضل من أخيه الأمين، لأنه استطاع أن يثبت أقدام بني أبيه في الحكم والسلطان إلى ما شاء الله..

رجع إلى بغداد، إلى بني أبيه، لأن رجوعه إليهم كان ضرورياً، من أجل أن يرجع إليهم اعتبارهم من جهة.. ولأنهم هم الدرع الواقي له، والحصن الحصين من جهة أخرى.. هذا بالإضافة إلى أن خلافة لا تكون بغداد مقراً لها ليست في الحقيقة بخلافة. إلى غير ذلك من أمور واعتبارات.

نبوءة الإمامعليه‌السلام قد تحققت:

هذا.. وكما تنبأ الإمامعليه‌السلام من قبل بأن أمر البيعة لا يتم، وتنبأ أيضاً بأنه يموت ويدفن بخراسان.. لم يكن ليصعب عليه أن يتنبأ بأن المأمون سوف يقدم في النهاية على ما أقدم عليه: من الاعتداء على حياتهعليه‌السلام سيما وأنه كان على علم أكثر من أي إنسان آخر بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه.. وبالفعل نرى الإمامعليه‌السلام يصرح بذلك في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، حتى للمأمون نفسه، كما تقدم..

ومن جهة أخرى، فرغم محاولات المأمون للتستر على جريمته النكراء تلك خوفاً من ثورة الرأي العام ضده.. فإنه لم يستطع إخفاء الحقيقة، وطمس الواقع بل شاع الأمر، وافتضح المأمون.. بل سيمر معنا أنه هو نفسه قد فضح نفسه..

الحقد الدفين:

وأخيراً.. فإن ما أقدم عليه المأمون من الغدر بالإمامعليه‌السلام ودس السم له لخير دليل على فشل المأمون في سياسته، الفشل المزري والمهين.. حتى إنه عندما عجز عن أن ينال من الإمامعليه‌السلام حياً أراد أن ينال منه ميتاً، بدافع من حقده الدفين، الذي لم يعد يستطيع أن يتحمل مضاعفاته، فكتب إلى السري عامله على مصر، يخبره بوفاة الرضا، ويأمره بغسل المنابر، التي دعي له عليها، فغسلت.. كما تقدم.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحقد كان قد أكل قلبه، وأعمت البغضاء بصره وبصيرته..

كما أنه يدل على خسة في النفس، وإسفاف في التفكير، وشعور بالعجز، وبالنقص أيضاً..

٣٣٩

كاد المريب أن يقول: خذوني

ومع غض النظر عن كل ما تقدم:

لسوف نغض النظر هنا عن تصريحات المأمون الدالة على أنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه، وعن تأكيدات الإمام وتصريحاته بأنه سوف يموت شهيداً بسم المأمون، حتى لقد واجه نفس المأمون بذلك، لكنه تجاهل الأمر، وغير الحديث(١) .

ولسوف نغض النظر أيضاً عن اعتراف المأمون نفسه بأن الإمامعليه‌السلام لم يمت حتف أنفه، وإنما مات مقتولاً بالسم، وأن قتلته هما عبيد الله، والحمزة، ابنا الحسن(٢) واللذان لم يكن بينهما وبين الإمام عليه‌السلام ما يوجب ذلك.. بل إن كان لهما دور ما، فإنما هو بإشارة من يهمه مثل هذا الأمر..

بل لقد ورد أن المأمون رمى بنفسه على الأرض، وجعل يخور كما يخور الثور، ويقول: (ويلك يا مأمون، ما حالك، وعلى ما

____________

(١) راجع: عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٩، وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٣٧، وأمالي الصدوق ص ٤٢، ٤٣، وغير ذلك.

(٢) راجع: غيبة الشيخ الطوسي ص ٤٩، والبحار ج ٤٩. ص ٣٠٦.

٣٤٠