الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201600 / تحميل: 8428
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

هذا بالإضافة إلى أن صغر سنه لم يكن ليضره، بعد أن كان من أهل بيت زقوا العلم زقاً، وبعد أن شهد المأمون، واعترف له العباسيون بالعلم والفضل، بعد ذلك المجلس الذي أجاب فيه يحيى بن أكثم عن مسائله، حيث كان العباسيون قد بذلوا له الأموال الطائلة ليقطعه عن الحجة!(١) . راجع فصل: مع بعض خطط المأمون لتعرف أهداف المأمون من هذه المناظرة.

رأي الفريق السادس: الرأي الحق:

وأما ذلك الفريق الذي يرى: أنهعليه‌السلام مات مسموماً دون شك، والذين أشار إليهم ابن الجوزي بقوله: (وزعم قوم أن المأمون قد سمه) ـ أما هؤلاء، فكثيرون:

ويمكننا أن نقول: إن ذلك مما تسالم عليه الشيعة رضوان الله عليهم، ما عدا المرحوم الإربلي في كشف الغمة، ونسب ذلك أيضاً إلى السيد ابن طاووس، وإلى الشيخ المفيد (قدس سره)، لكن ربما يستظهر من المفيد أنه يذهب إلى مسموميته، حيث ذكر أنهما ـ أي المأمون والرضا ـ قد أكلا معاً عنباً، فمرض الرضا، وتمارض المأمون!

واتفاق الشيعة على ذلك لخير دليل على أنهعليه‌السلام قد قضى شهيداً، لأنهم هم أعرف وأخبر بأحوال أئمتهم من غيرهم، وليس لديهم ما يوجب كتم الحقائق، أو تشويهها. فإذا ما سنحت لهم فرصة لإظهارها أظهروها، دون تكتم على شيء، أو تشويه لشيء. ومن أهل السنة، وغيرهم. طائفة كبيرة من العلماء، والمؤرخين، يعتقدون بأنهعليه‌السلام لم يمت حتف أنفه، أو على الأقل يرجحون ذلك، وإن لم يعين كثير منهم من فعل ذلك، أو أمر به. ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:

ابن حجر في صواعقه ص ١٢٢.

____________

(١) راجع الصواعق المحرقة، والفصول المهمة، لابن الصباغ، وينابيع المودة للحنفي، وإثبات الوصية للمسعودي، والبحار، وأعيان الشيعة، وإحقاق الحق ج ٢ نقلاً عن: أخبار الدول للقرماني، ونور الأبصار، وأئمة الهدى للهاشمي، والإتحاف بحب الأشراف ومفتاح النجا في مناقب أهل العبا إلخ..

٣٦١

وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٥٠ والمسعودي في إثبات الوصية ص ٢٠٨، وفي التنبيه والإشراف ص ٢٠٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧، وإن كان في مكان آخر من مروجه قد حكى ذلك بلفظ: قيل.

والقلقشندي في مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ ص ٢١١.

والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص ٢٦٣، وغيرها.

وجرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني جزء ٤ ص. ٤٤ قال: (وفكر في بيعته علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها، وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان، فيقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك، فدس إليه من أطعمه عنباً مسموماً، فمات).

وذكر ذلك أيضاً في آخر صفحة من كتابه: الأمين والمأمون. وأبو بكر الخوارزمي يقول في رسالته: (وسم علي بن موسى الرضا بيد المأمون) وقد تقدم شطر كبير من هذه الرسالة.. ويؤيد قوله هذا بعض ما تقدم بالإضافة إلى عدة روايات ليس هنا محل ذكرها.

وأحمد شلبي في: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٧ يقول: إن ثورة بغداد قد أرغمت المأمون على التخلص من الرضا، وخلع الخضرة إلخ.

وأبو الفرج الأصفهاني يقول في مقاتل الطالبيين: (وكان المأمون عقد له على العهد من بعده، ثم دس إليه ـ فيما ذكر ـ بعد ذلك سما فمات).

وذكر استشهاده أيضاً أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل ١٧١ / ٣٥٢.

وابن طباطبا في الآداب السلطانية ص ٢١٨.

والشبلنجي في نور الأبصار ص ١٧٦، ١٧٧ طبع سنة ١٩٤٨ يروي ذلك أيضاً.

ويروي ابن حجر عن الحاكم في تاريخ نيسابور أنه قال: (استشهد علي بن موسى الرضا بسنا آباد).

٣٦٢

وهو نفسه ينقل عن ابن حبان أنهعليه‌السلام مات مسموماً بماء الرمان(١) .

والسمعاني أيضاً في أنسابه ج ٦ ص ١٣٩، يذهب إلى استشهادهعليه‌السلام .

وينقل القندوزي ذلك عن محمد بارسا البخاري في كتاب فصل الخطاب.

كما وينقله عن اليافعي، فراجع ص ٣٨٥ من ينابيع المودة..

وفي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال ص ٢٧٨ ينقل ذلك عن سنن ابن ماجة القزويني.

وينقل ذلك أيضاً عن السلامي في كتابه الذي ألفه في تاريخ خراسان(٢) .

وعن البيهقي في تاريخ بيهق.

وعارف تامر في كتابه: الإمامة في الإسلام ص ١٢٥ يقول بذلك أيضاً.

ونقله في إحقاق الحق (الملحق) ج ١٢ ص ٣٤٦ فصاعداً عن: النبهاني في جامع كرامات الأولياء ج ٢ ص ٣١١.

وعن السيد عباس بن علي بن نور الدين في نزهة الجليس ج ٢ ص ٦٥.

وعن المناوي في الكواكب الدرية ج ١ ص ٢٥٦.

وعن ابن طلحة بن مطالب السؤول ص ٨٦.

وعن الهاشمي الأفغاني في كتابه: أئمة الهدى ص ١٢٧.

وعن البدخشي في: مفتاح النجا ص ١٨١ (مخطوط).

وعن الجوزجاني الحنفي في: طبقات ناصري ص ١١٣.

وذكر ذلك أيضاً صاحب كتاب عيون الحدائق ص ٣٥٧.

وأخيراً.. فقد قال الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٦: (.. ومات الرضا مسموماً، كما يرى أكثر المؤرخين).

وهذا غيض من فيض.. وحسبنا ما ذكرنا هنا، فإننا لو أردنا تتبع ما قيل حول وفاة الإمام، لاحتجنا إلى وقت طويل..

هذا كله.. بالنسبة إلى أقوال المؤرخين.

____________

(١) تهذيب التهذيب لابن حجر ج ٧ ص ٣٨٨، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٥٤.

(٢) راجع: البحار ج ٤٩ ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦.

٣٦٣

صدى قتل الرضا في نفس زمن المأمون:

وأما إذا راجعنا كتب التاريخ أنفسها، فإننا نستطيع أن نقول: إن استشهاد الإمامعليه‌السلام بالسم على يد المأمون كان شائعاً ومعروفاً بين الناس في ذلك الزمان، أعني: زمن المأمون نفسه، ومتسالما عليه فيما بينهم..

فلقد تقدم في الفصل السابق: أن المأمون قد اعترف بأن الناس يتهمونه: بأنه قد اغتاله وقتله بالسم!.

وورد أيضاً أن الخلق عند وفاة الرضاعليه‌السلام اجتمعوا وقالوا: إن هذا قتله واغتاله ـ يعنون المأمون ـ، وأكثروا من القول والجلبة، حتى أرسل إليهم المأمون محمد بن جعفر، عم أبي الحسن يخبرهم: أن أبا الحسن لا يخرج في ذلك اليوم، خوفاً من الفتنة(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٣٠، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٩، ٣٠٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤٢.

٣٦٤

كما وأن عبد الله بن موسى يصرح في رسالته التي أرسلها إلى المأمون بأنه قد بلغه ما فعله بالرضا من إطعامه العنب المسموم، وستأتي هذه الرسالة بتمامها في أواخر هذا الكتاب..

وسئل أبو الصلت الهروي: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إياه ومحبته له؟!) فجاء في آخر جوابه قوله: (فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسم..)(١) .

فإن هذا السؤال يكشف عن أن ذلك كان معروفاً آنذاك بين الناس لكن الناس كانوا في حيرة من ذلك، بسبب ما كانوا يرونه من إكرام المأمون للرضاعليه‌السلام في الظاهر.

وعن الطالقاني: (إنه كان متى ظهر للمأمون من الرضا علم وفضل، وحسن تدبير حسده على ذلك، وحقد عليه، حتى ضاق صدره منه، فغدر به فقتله).

بل لقد ذكر ابن خلدون: أن سبب خروج إبراهيم ابن الإمام موسىعليه‌السلام على المأمون هو أنه اتهم المأمون بقتل أخيه علي الرضاعليه‌السلام (٢) .

ويؤيد ذلك: أنه قد نقل الاتفاق من كل من ترجم لإبراهيم هذا على أنه مات مسموماً، وأن المأمون هو الذي دس إليه السم، وقد أنشد ابن السماك الفقيه، حينما ألحده:

مات الإمام المرتضى مسموماً

وطوى الزمان فضائلاً وعلوما

قد مات بالزوراء مظلوماً كما

أضـحى أبوه بكربلا مظلوما

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٢٨، ١٢٩.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١١٥.

٣٦٥

إلى آخر الأبيات(١) .. وإبراهيم هذا هو الذي كان قد خرج على المأمون في اليمن قبل ذلك أيضاً. كما أن المأمون قد دس السم إلى أخيه زيد ابن موسى(٢) ، الذي كان قد خرج عليه قبلاً بالبصرة، وإن كان اليعقوبي يذكر أن المأمون قد عفا عن زيد وإبراهيم(٣) .. لكن من الواضح أن عفوه عنهما في الظاهر بسبب خروجهما عليه في البصرة واليمن، لا ينافي أنه دس إليهما السم بعد ذلك بأعوام بسبب مطالبتهما بدم أخيهما الرضاعليه‌السلام .

كما أن بعض المصادر التاريخية تذكر: أن (أحمد بن موسى) أخا الإمام الرضا.. لما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا، وكان آنذاك في بغداد، خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه، وكان معه ثلاثة آلاف من العلوية. وقيل: اثنا عشر ألفاً.

وبعد وقائع جرت بينه وبين (قتلغ خان)، الذي أمره المأمون فيهم بأمره، والذي كان عاملاً للمأمون على شيراز.. استشهد أصحابه، واستشهد هو، وأخوه (محمد العابد) أيضاً(٤) .

____________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٤٠٨، والبحار ج ٤٨ ص ٢٧٨ باختصار. ولكن في وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٩١ وصفة الصفوة ج ٣ ص ١٧٧ والكنى والألقاب ج ١ ص ٣١٦، ومرآة الجنان ج ١ ص ٣٩٣، والطبري في أحداث سنة ١٨٣: أن تاريخ وفاة محمد بن السماك كانت سنة ١٨٣ ه‍. وأما وفاة إبراهيم فهي إما سنة ٢١٠، أو سنة ٢١٣، فلا يمكن أن يكون ابن السماك هو المتولي لحده، فضلاً عن أن ينشد الشعر المذكور.. اللهم إلا أن يكون ابن السماك اثنين، أحدهما الفقيه، والآخر: القصاص، أو لعل هناك تصحيف عمدي، أو عفوي من الراوي.

(٢) البحار ج ٤٨ ص ٣١٥، وكذا هامش ص ٣٨٦ منه وشرح ميمية أبي فراس ص ١٧٨، وعمدة الطالب ص ٢٢١، وأيضاً حياة الإمام موسى بن جعفر.

(٣) مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٩.

(٤) راجع: كتاب قيام سادات علوي ص ١٦٩ (فارسي)، وأعيان الشيعة ج ١٠ من المجلد ١١ ص ٢٨٦، ٢٨٧، نقلاً عن كتاب: الأنساب، لمحمد بن هارون الموسوي النيشابوري. وراجع أيضاً: مدينة الحسين (السلسلة الثانية) ص ٩١، والبحار ج ٨ ص ٣٠٨، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٤١٣، وفرق الشيعة هامش ص ٩٧ عن بحر الأنساب ط بمبي وغير ذلك.

٣٦٦

وأيضاً.. فإن شرطة المأمون قد قتلوا (هارون بن موسى) أخا الرضا، حيث إن هارون هذا كان في القافلة التي كانت تقصد خراسان، وكانت تضم (٢٢) علوياً، وعلى رأسها السيدة فاطمة أخت الرضاعليه‌السلام (١) .

فأرسل المأمون إلى هذه القافلة، فقتل وشرد كل من فيها، وجرحوا هارون المذكور، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه(٢) . وأما زعيمة القافلة السيدة فاطمة بنت موسىعليه‌السلام فيقال إنها هي الأخرى قد دس إليها السم في ساوة، ولهذا لم تلبث إلا أياماً قليلة واستشهدت(٣) .

وآخر من يذكره المؤرخون من ضحايا المأمون: (حمزة بن موسى)، أخا الإمامعليه‌السلام ، حيث ذكروا أنه كان من جملة من قتلهم أتباع المأمون(٤) .

فيكون المأمون قد قتل ستة، بل سبعة من إخوة الإمامعليه‌السلام ، لأنهم طالبوه بدم أخيهم، أو كادوا. وألحق بهم ما شاء الله ممن تابعهم، أو خرج معهم.

ويقول الكاتب الفارسي، علي أكبر تشيد: (إن كثيراً من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان، أيام تولي الإمام العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمامعليه‌السلام ، وأمر المأمون الحكام، وأمراء البلاد بقتل، أو القبض على كل علوي)(٥) .

____________

(١) قيام سادات علوي ص ١٦١.

(٢) جامع الأنساب ص ٥٦، وقيام سادات علوي ص ١٦١، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢.

(٣) قيام سادات علوي ص ١٦٨.

(٤) حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢.

(٥) قيام سادات علوي ص ١٦٠.

٣٦٧

وفي الشعر أيضاً نجد ما يدل على ذلك:

بل إن دعبلاً المعاصر للإمام والمأمون، يرثي الإمامعليه‌السلام فيقول:

شككت: فما أدري أمسقي شربة

فـأبكيك أم ريب الردى فيهون

أيا عجباً منهم: يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

فدعبل لم يكن شاكا في الأمر، بدليل البيت الثاني، أعني قوله: أيا عجباً منهم يسمونك إلخ.. وبدليل مرثيته الأخرى للإمام، التي يقول فيها:

لـم يبق حي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان ولا بكر ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمائهم

كـما تشارك أيسار على جزر

إلى آخر الأبيات.. ومهما شككت في شيء، فإنني لا أشك في أن أقوال دعبل هذه هي التي دعتهم لاتهامه بالزندقة، والمروق من الدين..

ويقول السوسي:

بأرض طوس نائي الأوطان

إذ غـره الـمأمون بالأمان

حين سقاه السم في الرمان(١) والقاضي التنوخي أيضاً يقول:

ومـأمونكم سم الرضا بعد بيعة

فآدت له شم الجبال الرواسب(٢)

وأبو فراس أيضاً يقول في شافيته:

بـاءوا بقتل الرضا من بعد بيعته

وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا

عصابة شقيت من بعدما سعدت

ومعشر هلكوا من بعدما سلموا

لا بـيعة ردعـتهم عن دمائهم

ولا يمين، ولا قربى، ولا ذمم

وهكذا.. يتضح بما لا مجال معه للشك: أن كون المأمون هو الذي اغتال الإمام قد كان معروفا لدى الناس، وشائعا بينهم منذ ذلك الحين..

ولا غرابة في ذلك فلقد كان وعد حاجبه، وجمعاً من العباسيين بأنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه!.

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٤.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٢٨، وفي الغدير ج ٣ ص ٣٨٠، هكذا: (تود ذرى شم الجبال إلخ).، ولعل الصواب فيه: (تهد ذرى الخ).

٣٦٨

الإمام وآباؤهعليهم‌السلام يخبرون بشهادته:

وبعد كل ما تقدم.. نرى أنه لا بد لنا قبل أن نأتي على آخر هذا الفصل من الإشارة إلى أن الإمام نفسه قد أخبر أكثر من مرة بأنه سوف يقضي شهيداً بالسم، بل لقد أخبر بذلك آباؤه الطاهرون، وغيرهم ممن عاشوا في ذلك الزمان. ونستطيع أن نقسم هذه الروايات الكثيرة جداً إلى ثلاث طوائف:

١ ـ طائفة وردت على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمةعليهم‌السلام : يخبرون فيها عن استشهاد الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس، وهذه على ما يبدو خمسة أحاديث.

٢ ـ طائفة وردت عن الإمام نفسه، يخبر فيها بهذا الأمر، وبأن المأمون نفسه هو الذي سوف يقدم على ذلك، وأنه سوف يدفن في طوس إلى جنب هارون.

وهذه الطائفة كثيرة جداً ـ وفي بعضها يصرح بذلك للمأمون نفسه، كما المحنا إليه ـ حتى إنه زاد في قصيدة دعبل، من أجل تتميم قصيدته قوله:

وقـبر بطوس يا لها من مصيبة

ألحت على الأحشاء بالزفرات(١)

٣ ـ تلك الطائفة التي تشرح لنا كيفية دس السم إليه. وأنه بالعنب، أو بإدخال الإبر المسمومة في، أو بالرمان، أو بهما معاً، أو بغير ذلك. وهذه الطائفة كثيرة أيضاً، وقد ورد بعضها عن الإمام نفسه. وقال بعض الكتاب: إنه تتبع هذه الروايات، فوجد انها تنتهي إلى ستة أشخاص، هم:

أبو الصلت عبد السلام الهروي، والريان بن شبيب، وهرثمة بن أعين(٢) ومحمد بن الجهم، وعلي بن الحسين الكاتب، و عبد الله بن بشير(٣) . ولكنني قد راجعت بدوري هذه الروايات، فوجدت: أن عدداً آخر غير هؤلاء قد رووا ذلك أيضاً.

____________

(١) ينابيع المودة ص ٤٥٤، ومناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ٢٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٣، ٢٦٤.

(٢) لم يكن هرثمة حيا حين وفاة الإمام، لأنه بعد مقتل أبي السرايا ذهب إلى مرو، فلم يمهله المأمون. وتخلص منه بعد أيام قلائل من وصوله، فروايته لكيفية وفاة الإمامعليه‌السلام لا تصح. إلا أن يكون هرثمة اثنين.. هذا ويلاحظ بعض التشابه بين رواية هرثمة، ورواية أبي الصلت.. فلعل الأمر قد اشتبه على الراوي، أو أنه قد ذكر اسم هرثمة لحاجة في نفسه قضاها..

(٣) القائل بذلك هو علي موحدي في كتابه: ولاية عهدي إمام رضا..

٣٦٩

وحتى الزيارة تؤكد على استشهادهعليه‌السلام :

وأخيراً.. فقد ورد في الزيارة الجوادية قول الإمام الجوادعليه‌السلام :

 ((السلام عليك من إمام عصيب، وإمام نجيب، وبعيد قريب، ومسموم غريب..)) (١) .

وفي كامل الزيارة لابن قولويه، وهو من الكتب المعتمدة، والموثوقة، وغيره: قد ورد قولهمعليهم‌السلام في زيارته:((قتل الله من قتلك بالأيدي والألسن)) (٢) . وفقرة أخرى في زيارته تقول:((السلام عليك أيها الشهيد السعيد، المظلوم المقتول .. إلى أن قال:لعن الله أمة قتلتك، لعن الله أمة ظلمتك)) (٣) .

وأما قولهمعليهم‌السلام :((أيها الصديق الشهيد)) ، فهي موجودة في غير مورد من زيارته، وفي مختلف الكتب الموردة لها.

القمة الشامخة الخالدة:

والآن.. وبعد أن أصبح الصبح واضحاً لكل ذي عينين، وبان وظهر ما جهد المأمون ومن يدور في فلكه في إخفائه وطمسه ـ الآن ـ قد آن لنا أن نقول:

فليكد المأمون كيده، وليسع سعيه، وليناصب جهده، فلقد بقي الإمامعليه‌السلام رغم كل مؤامراته ودسائسه: قمة شامخة، لم تدنسه الأهواء، ولم تنل منه العوادي.. ويبقى ـ وإلى الأبد ـ كعبة الزوار، ومهوى الأفئدة، من شرق الأرض وغربها.

أما المأمون.. فيبوء بعارها وشنارها، ويذهب إلى.... لعنة الله والتاريخ.

____________

(١) البحار ج ١٠٢ ص ٥٣.

(٢) كامل الزيارات ص ٣١٣. ومفاتيح الجنان ص ٥٠١، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٧٠ .

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٩.

٣٧٠

دعبل والمأمون!

الموقف الجريء

جاء في أمالي الشيخ ج ١ ص ٩٨، ٩٩، وأمالي المفيد ص ٢٠٠، ٢٠١، و ط الحيدرية في النجف ص ١٩٢ ـ ١٩٣ والأغاني ٨ ص ٥٧، والغدير ج ٢ ص ٣٧٥، ٣٧٦ عنه، وعن ابن عساكر في تاريخه ج ٥ ص ٢٣٣ وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ٩٤ ـ ٩٥ ما يلي:

عن يحيى بن أكثم، قال: إن المأمون أقدم دعبلرحمه‌الله ، وآمنه على نفسه، فلما مثل بين يديه، وكنت جالساً بين يدي المأمون، فقال له: أنشدني قصيدتك (الرائية) فجحدها دعبل، وأنكر معرفتها، فقال له: لك الأمان عليها كما آمنتك على نفسك، فأنشده:

تأسفت جارتي لما رأت زوري

وعـدت الـحلم ذنباً غير مغتفر

ترجو الصبا بعدما شابت ذوائبها

وقـد جرت طلقا في حلبة الكبر

أجارتي: إن شيب الدهر يعلمني

ذكر المعاد، وأرضاني عن القدر

لـو كـنت أركن للدنيا وزينتها

إذن بكيت على الماضين من نفر

أخـنى الزمان على أهلي فصدعهم

تـصدع الشعب لاقى صدمة الحجر

بـعض أقـام، وبعض قد أصار به

داعـي الـمنية والباقي على الأثر

أمـا الـمقيم: فـأخشى أن يفارقني

ولـست أوبـة مـن ولى بمنتظر

أصبحت أخبر عن أهلي وعن ولدي

كـحالم قـص رؤيـا بـعد مدكر

لـولا تـشاغل عيني بالأولى سلفوا

مـن أهـل بيت رسول الله لم أقر

وفـي مـواليك لـلحرين مـشغلة

مـن أن تـبيت لمشغول على أثر

كـم مـن ذراع لـهم بالطف بائنة

وعـارض بـصعيد الترب منعفر

أمـسى الـحسين ومسراهم لمقتله

وهـم يـقولون هـذا سـيد البشر

يـا أمة السوء ما جازيت أحمد في

حـسن البلاء على التنزيل والسور

خـلفتموه عـلى الأبناء حين مضى

خـلافة الـذئب فـي انفاد ذي بقر

٣٧١

قال يحيى: وأنفذني المأمون في حاجة، فقمت، فعدت إليه، وقد انتهى إلى قوله:

لـم يـبق حـي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمـائهم

كـما تـشارك أيـسار على جزر

قـتلاً، وأسـراً، وتـخويفاً ومنهبة

فـعل الـغزاة بأهل الروم والخزر

أرى أمـية مـعذورين إن قـتلوا

ولا أرى لـبني الـعباس من عذر

قـوم قـتلتم عـلى الإسلام أولهم

حتى إذا استمكنوا جازوا على الكفر

أبـناء حـرب، ومروان، وأسرتهم

بـنو مـعيط، ولاة الـحقد والوغر

إربـع بطوس على قبر الزكي بها

إن كـنت تربع من دين على وطر

قـبران في طوس: خير الناس كلهم

وقـبر شـرهم، هـذا مـن الـعبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

هـيهات كل امرئ رهن بما كسبت

لـه يـداه فـخذ مـن ذاك أو فذر

قال: فضرب المأمون بعمامته الأرض، وقال: (صدقت والله يا دعبل).

كلمة ختامية

وفي الختام:

فإنني أرجو أن أكون قد وفقت في هذه الدراسة، للكشف عن الحقائق التي أريد لها أن تبقى طي الكتمان.. وأن يكون القارئ قد وجد فيها ما يصح أن يكون جوابا على الأسئلة الكثيرة، التي قد يثيرها لديه هذا الحدث التاريخي الهام، الذي لم يكن طبيعياً، وعاديا كسائر ما يجري وما يحدث..

الإكثار من النصوص التاريخية في الكتاب:

ولعل المطلع على هذا الكتاب يكون قد لاحظ: أنني أكثرت فيه من النصوص التاريخية، ولم يكن هدفي إلا أن لا يجد القارئ كبير عناء في استخلاص الحقائق، بعيداً عن نزوات العاطفة، وعثرات الميول..

٣٧٢

ولا شك أنه يكون قد لاحظ أيضاً: أنني لم أحاول انتقاء ألفاظه، ولا صياغة جمله صياغة فنية أنيقة.. وإذا كنت مقتنعاً بأن ذلك من مميزاته وحسناته، لاعتقادي بأن ذلك هو ما تفرضه طبيعة البحث الموضوعي الهادئ. فلسوف لا أستغرب، ولا أتألم إذا كان هناك الكثيرون، ممن يعتقدون أنه عيب ونقص، كان بالإمكان تجنبه، والابتعاد عنه.

ومع ذلك: فلن أجد نفسي مغبوناً حين أقدم ـ بإخلاص ـ اعتذاري لهم، وطلب المسامحة، وغض النظر منهم.

رجاء واعتذار:

وإذا كان يجوز لي أخيراً: أن أطلب من إخواني الأعزاء شيئاً، فإن رجائي الأكيد من كل من يقرأ كتابي هذا: أن يتحفني بملاحظاته، وأن ينبهني لما يجده، أو يراه خطأ، أو نقصاً، فإن الإنسان ـ إلا من اصطفى الله ـ معرض للخطأ وللصواب.. وإذا كان كثيراً ما يكون له فضل فيما أصاب، فكثيراً ما يكون له العذر أيضاً فيما أخطأ.

شكر وتقدير:

هذا.. ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بجزيل شكري، وعميق تقديري لسماحة حجة الإسلام المحقق السيد مهدي الروحاني، ولأصحاب السماحة والفضيلة. من أساتذتي وإخواني، الذين تفضلوا بمطالعة هذا الكتاب، حيث كان لآرائهم الصائبة، وتوجيهاتهم السديدة، وملاحظاتهم الدقيقة أكبر الأثر على هذا الكتاب، إن في الشكل، وإن في المحتوى..

وأخيراً.. فإنني أتقدم أيضاً بخالص شكري، وفائق تقديري للقارئ الكريم. الذي جعلني مدينا له، بما منحني من وقته. وعقله، وفكره. وأرجو أن أكون قد وفقت للفوز بثقته أيضاً.

ولا أطيل عليك ـ قارئي الكريم ـ، فقد كان الفراغ من نقله إلى المبيضة ليلة الأحد السابع من صفر، الساعة التاسعة منها سنة ١٣٩٦ ه‍ ـ ق. الموافق ٨ شباط سنة ١٩٧٦ م ـ ش.

والحمد لله، وله المنة، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى..

نزيل قم المقدسة

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٣٧٣

رسالة نقد وجوابها

وبعد.. فإن سماحة الأخ الجليل، والفاضل النبيل، الشيخ عفيف النابلسي (حفظه الله)، قد تفضل مشكوراً برسالة.. أبدى فيها رضاه وإعجابه بالكتاب، ثم أشار فيها إلى المآخذ التالية:

١ ـ لقد ورد في ص١٣٣: أن زبيدة، زوجة الرشيد، كانت تتشيع.. مع أن سلوكها، وظروفها، وأجواءها، وأيضاً تاريخ أهلها وذويها.. كل ذلك يبعدها كل البعد عن نسبة التشيع لها؛ لا بمعناه الخاص، ولا العام، الذي يعني الوقوف مع الإمام الكاظمعليه‌السلام ، ضد خصومه. والتعاطف معه، والاستنكار للظلم..

وإرادة الرشيد طلاقها، لعله لمضايقتها له، في محاولاتها منعه من التمتع بحسناوات القصر.. وأما إحراق قبرها فهو لعدم تمييز العامة بين قبرها، وبين قبر آل بويه..

٢ ـ جاء في ص١٣٣ أيضاً: أن نكبة البرامكة يقال: إن سببها هو تشيعهم للعلويين، وهذا لا يتلاءم مع موقف يحيى حينما شكا إلى الرشيد أمر الكاظمعليه‌السلام ، وشحن صدره غيظاً على العلويين، وبالأخص على الإمام الرضاعليه‌السلام منهم.. مع أن هذا ينافي ما ذكر في ص٢٦٣ من أن البرامكة كانوا أعداء لأهل البيتعليهم‌السلام ..

٣ ـ ما جاء في هامش ص٣٥٥ من عدم الجزم بأن الأبيات، التي أولها: ذكروا بطلعتك النبي محمداً الخ..

هي للبحتري، وقد كان اللازم الجزم بذلك؛ لانسجام هذه الأبيات مع سائر أبيات قصيدة البحتري.. هذا بالإضافة إلى أن الشاعر يقول: (حتى انتهيت إلى المصلى لابساً) ومعلوم أن الإمامعليه‌السلام لم يصل إلى المصلى، بل رجع من وسط الطريق.. الأمر الذي يدل على أن الأبيات قد قيلت في غير الإمامعليه‌السلام ، وقضية صلاته..

أما نحن فنقول:

ونستميح سماحة الأخ العذر، إذا أشرنا إلى ما يلي:

١ ـ أما بالنسبة إلى النقطة الأولى، وهي تشيع زبيدة، فإننا نقول: إننا لربما نجدهم في كتب التاريخ يقولون عن مثل المغيرة بن شعبة، والأشعث بن قيس، وأمثالهما، ممن بايع علياًعليه‌السلام

٣٧٤

في خلافته، وكذلك كل من ناصر قضايا أهل البيت سياسياً، وبذل نفسه في سبيلها: إنه من شيعة الإمام عليعليه‌السلام وأهل البيت.. من دون نظر إلى سلوكه، وميوله، وعقائده، ومذهبه.. وهذا الإطلاق كان في الصدر الأول طبعاً.. والمقصود منه: أنه من أتباع علي وأهل البيت وأنصارهم..

وإذا تجاوزنا تلك المرحلة.. فإننا لا بد وأن نؤكد على الفرق بين كلمتي (شيعي)، و(تشيع).. فإن (الشيعي) في اصطلاحهم هو من كان من الإمامية، أو الزيدية، أو الكيسانية، أو غيرهم من فرق الشيعة.

وكلمة: (يتشيع)، أو (فيه تشيع) يقصد منها في كتب المتقدمين من أهل السنة ـ كما يرى العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني ـ كل من كان يحب علياًعليه‌السلام ، وأهل بيته الطاهرين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. ونشأت هذه الكلمة على شكل تهمة وطعن؛ بتأثير من الأجهزة الحاكمة، كمعاوية والمروانيين بعده، ثم كل الحكام المعادين لأهل البيتعليهم‌السلام ؛ فكانت المحبة لأهل البيت ـ مجرد المحبة ـ تعد عند الناس أتباع السلطة الحاكمة جريمة كبرى، وعظيمة لا تغفر.. قال الكميت (رحمه الله..):

بــأي كـتاب أم بـأية سـنة

تـرى حبهم عاراً علي وتحسب

وطـائفة قـد كـفرتني بـحبهم

وطـائفة قـالوا مـسيء ومذنب

يـعيبونني مـن حبهم وضلالهم

على حبكم، بل يسخرون وأعجب

فمحبة آل الرسول كانت في دولة بني أمية تعد تشيعاً، استبشاعاً لها، وتقبيحاً لأمرها، ثم زالت بشاعتها في عصر بني العباس لأمور تاريخية ذات طابع خاص، حتى كان يطلق على كل من كان من غير الشيعة كلمة (التشيع)..

ولأجل هذا قال ابن النديم في الفهرست: إن الإمام الشافعي كان شديد التشيع، وقالوا في محمد بن جرير الطبري: فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر.. مع أن من الواضح: أنهما ليسا من الشيعة.. وهذا الإطلاق يوجد كثيراً في كتب التراجم والرجال في مقام الجرح والتعديل..

وعلى كل حال.. فإن هذا الفرق بين (الشيعة) و(المتشيعة) قد خفي على سيدنا آية الله الإمام شرف الدين رحمه الله؛ حيث إنه.. قد ذكر عدداً ممن كان فيه (تشيع) فجعلهم من (الشيعة)..

ولعل الذي أوقعه في الاشتباه هو أن بعض (أهل الجرح والتعديل) ممن تغلب عليه نزعة النصب، قد عد جماعة من هؤلاء (المتشيعة) من الروافض، توهيناً لنزعتهم، وتسفيهاً لرأيهم في محبة عليعليه‌السلام ، وأهل بيته الطاهرين.

٣٧٥

وهارون الرشيد كان ناصبياً، وقد تقدم في فصل (موقف العباسيين من العلويين) وغيره بعض مواقفه وأفعاله.. فلعله لما رأى حب زوجته لأهل البيت أراد طلاقها..

وواضح.. أن (التشيع) على النحو الذي ذكرناه، لا يتنافى، ولا يتعارض مع الإعلان عن مواقف هي ضد الجهة التي يتعاطف معها، بوحي من مصالحه المعيشية والأمنية ونحوها.. كما أنه لا يتنافى، ولا يتعارض مع عدم الالتزام العملي بالتعاليم المذهبية، بل إنه قد يكون مستهتراً عملاً، وينتهج سلوكاً شاذاً، وبعيداً عن روح وتعاليم الدين الحنيف. ومع ذلك يدعي أنه ملتزم بدين، ومنتم إلى مذهب، شأن الكثيرين من السياسيين المعاصرين وغيرهم.. كما أنه لا ملازمة بين التشيع وبين وجوب القيام بثورة مسلحة ضد نظام الحكم القائم.. وعليه.. فتشيع زبيدة ربما يكون مقتصراً على هذا التعاطف والحب لأهل البيت، ولا يتنافى ذلك مع ما ذكره سماحة الأخ الكريم.

كما أن من البعيد جداً: أن لا يكون قبر زبيدة، أعظم عباسية في التاريخ متميزاً، ومعروفاً لدى الناس، حتى العامة منهم.. كما أن تعليل طلاقه لها بأنها: كانت تضايقه، وتمنعه من التمتع بحسناوات القصر، ما هو إلا اجتهاد في مقابل النص!!..

٢ ـ وأما البرامكة، فإن ما ذكره الأخ لم يغب عن بالي وقتها، وهو صحيح مئة بالمئة.. ولكنه لا يعني أن النص الآخر كذب محض؛ إذ ربما يكون القصد منه: ليس أنهم كانوا يتشيعون حقيقة، وإنما المراد أنه: حين رأى الرشيد نفوذهم وقوتهم، وخافهم على الملك، تعلل عليهم بذلك؛ ليقتلهم، ويتخلص منهم.. كما أنه ليس من البعيد.. أنهم كانوا يجارون التيار، فيتظاهرون بالتشيع للعلويين؛ ليحافظوا على مكانتهم في العامة.. في نفس الوقت الذي كانوا يتآمرون فيه على آل عليعليه‌السلام ، ويبغون لهم فيه الغوائل، تماماً، كما كان المتوكل يكرم الهاديعليه‌السلام في الظاهر، ويبغي له الغوائل في الباطن والشواهد التاريخية على مثل هذا كثيرة جداً..

٣ ـ وأما قضية الشعر.. فإننا لا نصر على أنه للبحري.. وإن كنا قد أشرنا إلى أن من الجائز أن يكون البحتري قد أخذه على سبيل الاستشهاد، والتضمين؛ فإن ذلك أمر شائع ومعروف بين الشعراء.. كما أنني قد بينت أن من الجائز أن يكون البحتري قد صُحف عمداً أو سهواً فصار: البحري.. كما أنه قد يكون العكس هو الصحيح. وأما أنه لم يصل إلى المصلى، فإن للشاعر أن يدعي ذلك إذا كان الإمامعليه‌السلام قد قرب منه على سبيل المبالغة..

وبعد.. فإننا نستميح الأخ الشيخ العذر، ونسأل الله له دوام التوفيق والتسديد.

٢٢/١/١٤٠٠ ه‍ ـ ق.

جعفر مرتضى الحسيني العاملي..

٣٧٦

وثائق هامة

١ ـ رسالة الفضل بن سهل إلى الإمامعليه‌السلام .

٢ ـ وثيقة ولاية العهد.

٣ ـ رسالة المأمون إلى العباسيين.

٤ ـ رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون.

٥ ـ رسالة سفيان إلى هارون.

قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني.

رسالة الفضل بن سهل إلى الإمامعليه‌السلام

هذه الرسالة:

هذه الرسالة هي التي أرسلها الفضل بن سهل إلى الإمامعليه‌السلام ، يطلب فيها منه القدوم، من أجل عقد ولاية العهد له..

وقد اطلعت عليها في وقت متأخر، وتحدثت عن بعض ما يمكن استخلاصه منها في بعض فصول الكتاب.

ونظراً لأهميتها.. فقد آثرت أن أجعلها مع الوثائق الهامة، ليطلع عليها القارئ بنفسه.

وقد أورد هذه الرسالة أبو القاسم عبد الكريم بن محمد، بن عبد الكريم الرافعي، الشافعي، القزويني المتوفى سنة ٦٢٣ ه‍. في كتابه: (التدوين).

والكتاب موجود منه نسختان خطيتان: إحداهما في مكتبة (ناصرية) القسم الثاني رقم ٧٨٢ في لكنهو. والأخرى: خطية أيضاً موجودة في الإسكندرية.. وهناك نسختان مصورتان عنهما:

إحداهما: في دفتر تبليغات إسلامي في قم مصورة عن نسخة لكنهو.

والأخرى: في مكتبة المرعشي النجفي العامة في قم مصورة في طهران عن نسخة الإسكندرية.

٣٧٧

وهي في النسخة المصورة عن لكنهو موجودة في المجلد الثاني. وفي المصورة عن مكتبة الإسكندرية موجودة في ج ٤ ص ٥١. ونقلها عن هذه النسخة السيد المرعشي النجفي في ج ١٢ من ملحقات الإحقاق ص ٣٨١، ٣٨٢:

نص الرسالة:

قال في التدوين: والنص لنسخة: لكنهو: ولما عزم المأمون على تفويض العهد إليه ـ أي إلى الرضا ـ، بسعي ذي الرياستين الفضل بن سهل.. كتب إليه ذو الرياستين:

بسم الله الرحمن الرحيم

لعلي بن موسى الرضا، وابن رسول الله المصطفى، المهتدى بهديه، المقتدى بفعله، الحافظ لدين الله، الخازن لوحي الله، من وليه الفضل ابن سهل، الذي بذل في رد حقه إليه مهجته، ووصل ليله فيه بنهاره.. سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته.

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله.

أما بعد:

فإني أرجو أن الله قد أدى لك، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك، وأن يعظم مننه عليك، وأن يجعلك الإمام الوارث. ويري أعداك، ومن رغب عنك، منك ما كانوا يحذرون..

وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الإمام المأمون ومني: على رد مظلمتك عليك، وإثبات حقوقك في يديك، والتخلي منها إليك، على ما أسأل الله الذي وقف عليه: أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين، وعند الله من الفائزين، ولحق رسول الله من المؤدين. ولك عليه من المعاونين، حتى أبلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين(١) .

فإذا أتاك كتابي ـ جعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك، حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين، الذي يراك شريكاً في أمره، وشفيعاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملايكته محفوظاً، وبكلاءته محروساً. وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك، وصلاح الأمة بك.

وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..

وكتبت بخطي.

____________

(١) الظاهر أنها: الحسنيين، لأنها اقتباس من الآية الكريمة..

٣٧٨

وثيقة ولاية العهد

مصادر الوثيقة:

نذكر من المصادر التي أوردت هذه الوثيقة، على سبيل المثال لا الحصر:

القلقشندي في صبح الأعشى ج ٩ من ص ٣٦٢، إلى ص ٣٦٦، وأكملها بذكر ما كتبه الرضاعليه‌السلام والشهود في نفس الجزء من ٣٩١ وحتى ٣٩٣، وأوردها أيضاً في مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ٢ من ص ٣٢٥ حتى ص ٣٣٦، وهي أيضاً في شرح ميمية أبي فراس من ٢٩٩ إلى ٣٠٣، وفي نور الأبصار ١٤٢، ١٤٣، وفي البحار ج ٤٩ ص ١٤٨، إلى ١٥٣ ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ من ص ١٠٢ إلى ص ١٠٧، والفصول المهمة لابن الصباغ ابتداء من ص ٢٩٣.

ووسيلة النجاة لمحمد مبين الهندي ابتداء من ص ٣٨٧، طبع لكنهو، ورواها أيضاً الكاشاني في معادن الحكمة، والشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف مختصراً وابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، والإربلي في كشف الغمة، والسيد الأمين في المجالس السنية، وأعيان الشيعة، وابن الجوزي في التذكرة، وذكر الأخيران إنها قد ذكرها عامة المؤرخين، وعن التفتازاني إن الوثيقة كانت موجودة في عهده، والإربلي أيضاً يقول بأنها كانت موجودة في عهده، وأنه في سنة سبعين وستماية اطلع على وثيقة العهد الأصلية، ونقلها في كتابه حرفاً فحرفاً.. وأشار إليها أيضاً ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية.

وغير هؤلاء كثير. ونحن نذكر الوثيقة موافقة لما في صبح الأعشى، ومآثر الإنافة، فنقول:

نص الوثيقة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده.

أما بعد:

فإن الله عز وجل اصطفى الإسلام ديناً، واصطفى من عباده رسلاً دالين عليه، وهادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم. ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهداً لهم، ومهيمناً عليهم. وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا

٣٧٩

من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به، ونهى عنه، لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به: من الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة التي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي والرسالة، جعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة، التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه.

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل، وحقن الدماء، وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم، واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة.

فحق على من استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه، أن يجهد الله نفسه، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته، ويعتد لما الله مواقفه عليه، ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود:( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) .

وقال الله عز وجل:( فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: (لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات، لتخوفت أن يسألني الله عنها).

وأيم الله، إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة، وبالله الثقة. وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة..

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409