الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201566 / تحميل: 8426
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

هذا بالإضافة إلى أن صغر سنه لم يكن ليضره، بعد أن كان من أهل بيت زقوا العلم زقاً، وبعد أن شهد المأمون، واعترف له العباسيون بالعلم والفضل، بعد ذلك المجلس الذي أجاب فيه يحيى بن أكثم عن مسائله، حيث كان العباسيون قد بذلوا له الأموال الطائلة ليقطعه عن الحجة!(١) . راجع فصل: مع بعض خطط المأمون لتعرف أهداف المأمون من هذه المناظرة.

رأي الفريق السادس: الرأي الحق:

وأما ذلك الفريق الذي يرى: أنهعليه‌السلام مات مسموماً دون شك، والذين أشار إليهم ابن الجوزي بقوله: (وزعم قوم أن المأمون قد سمه) ـ أما هؤلاء، فكثيرون:

ويمكننا أن نقول: إن ذلك مما تسالم عليه الشيعة رضوان الله عليهم، ما عدا المرحوم الإربلي في كشف الغمة، ونسب ذلك أيضاً إلى السيد ابن طاووس، وإلى الشيخ المفيد (قدس سره)، لكن ربما يستظهر من المفيد أنه يذهب إلى مسموميته، حيث ذكر أنهما ـ أي المأمون والرضا ـ قد أكلا معاً عنباً، فمرض الرضا، وتمارض المأمون!

واتفاق الشيعة على ذلك لخير دليل على أنهعليه‌السلام قد قضى شهيداً، لأنهم هم أعرف وأخبر بأحوال أئمتهم من غيرهم، وليس لديهم ما يوجب كتم الحقائق، أو تشويهها. فإذا ما سنحت لهم فرصة لإظهارها أظهروها، دون تكتم على شيء، أو تشويه لشيء. ومن أهل السنة، وغيرهم. طائفة كبيرة من العلماء، والمؤرخين، يعتقدون بأنهعليه‌السلام لم يمت حتف أنفه، أو على الأقل يرجحون ذلك، وإن لم يعين كثير منهم من فعل ذلك، أو أمر به. ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:

ابن حجر في صواعقه ص ١٢٢.

____________

(١) راجع الصواعق المحرقة، والفصول المهمة، لابن الصباغ، وينابيع المودة للحنفي، وإثبات الوصية للمسعودي، والبحار، وأعيان الشيعة، وإحقاق الحق ج ٢ نقلاً عن: أخبار الدول للقرماني، ونور الأبصار، وأئمة الهدى للهاشمي، والإتحاف بحب الأشراف ومفتاح النجا في مناقب أهل العبا إلخ..

٣٦١

وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٥٠ والمسعودي في إثبات الوصية ص ٢٠٨، وفي التنبيه والإشراف ص ٢٠٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧، وإن كان في مكان آخر من مروجه قد حكى ذلك بلفظ: قيل.

والقلقشندي في مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ ص ٢١١.

والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص ٢٦٣، وغيرها.

وجرجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني جزء ٤ ص. ٤٤ قال: (وفكر في بيعته علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها، وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان، فيقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك، فدس إليه من أطعمه عنباً مسموماً، فمات).

وذكر ذلك أيضاً في آخر صفحة من كتابه: الأمين والمأمون. وأبو بكر الخوارزمي يقول في رسالته: (وسم علي بن موسى الرضا بيد المأمون) وقد تقدم شطر كبير من هذه الرسالة.. ويؤيد قوله هذا بعض ما تقدم بالإضافة إلى عدة روايات ليس هنا محل ذكرها.

وأحمد شلبي في: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٧ يقول: إن ثورة بغداد قد أرغمت المأمون على التخلص من الرضا، وخلع الخضرة إلخ.

وأبو الفرج الأصفهاني يقول في مقاتل الطالبيين: (وكان المأمون عقد له على العهد من بعده، ثم دس إليه ـ فيما ذكر ـ بعد ذلك سما فمات).

وذكر استشهاده أيضاً أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل ١٧١ / ٣٥٢.

وابن طباطبا في الآداب السلطانية ص ٢١٨.

والشبلنجي في نور الأبصار ص ١٧٦، ١٧٧ طبع سنة ١٩٤٨ يروي ذلك أيضاً.

ويروي ابن حجر عن الحاكم في تاريخ نيسابور أنه قال: (استشهد علي بن موسى الرضا بسنا آباد).

٣٦٢

وهو نفسه ينقل عن ابن حبان أنهعليه‌السلام مات مسموماً بماء الرمان(١) .

والسمعاني أيضاً في أنسابه ج ٦ ص ١٣٩، يذهب إلى استشهادهعليه‌السلام .

وينقل القندوزي ذلك عن محمد بارسا البخاري في كتاب فصل الخطاب.

كما وينقله عن اليافعي، فراجع ص ٣٨٥ من ينابيع المودة..

وفي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال ص ٢٧٨ ينقل ذلك عن سنن ابن ماجة القزويني.

وينقل ذلك أيضاً عن السلامي في كتابه الذي ألفه في تاريخ خراسان(٢) .

وعن البيهقي في تاريخ بيهق.

وعارف تامر في كتابه: الإمامة في الإسلام ص ١٢٥ يقول بذلك أيضاً.

ونقله في إحقاق الحق (الملحق) ج ١٢ ص ٣٤٦ فصاعداً عن: النبهاني في جامع كرامات الأولياء ج ٢ ص ٣١١.

وعن السيد عباس بن علي بن نور الدين في نزهة الجليس ج ٢ ص ٦٥.

وعن المناوي في الكواكب الدرية ج ١ ص ٢٥٦.

وعن ابن طلحة بن مطالب السؤول ص ٨٦.

وعن الهاشمي الأفغاني في كتابه: أئمة الهدى ص ١٢٧.

وعن البدخشي في: مفتاح النجا ص ١٨١ (مخطوط).

وعن الجوزجاني الحنفي في: طبقات ناصري ص ١١٣.

وذكر ذلك أيضاً صاحب كتاب عيون الحدائق ص ٣٥٧.

وأخيراً.. فقد قال الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٦: (.. ومات الرضا مسموماً، كما يرى أكثر المؤرخين).

وهذا غيض من فيض.. وحسبنا ما ذكرنا هنا، فإننا لو أردنا تتبع ما قيل حول وفاة الإمام، لاحتجنا إلى وقت طويل..

هذا كله.. بالنسبة إلى أقوال المؤرخين.

____________

(١) تهذيب التهذيب لابن حجر ج ٧ ص ٣٨٨، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٥٤.

(٢) راجع: البحار ج ٤٩ ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦.

٣٦٣

صدى قتل الرضا في نفس زمن المأمون:

وأما إذا راجعنا كتب التاريخ أنفسها، فإننا نستطيع أن نقول: إن استشهاد الإمامعليه‌السلام بالسم على يد المأمون كان شائعاً ومعروفاً بين الناس في ذلك الزمان، أعني: زمن المأمون نفسه، ومتسالما عليه فيما بينهم..

فلقد تقدم في الفصل السابق: أن المأمون قد اعترف بأن الناس يتهمونه: بأنه قد اغتاله وقتله بالسم!.

وورد أيضاً أن الخلق عند وفاة الرضاعليه‌السلام اجتمعوا وقالوا: إن هذا قتله واغتاله ـ يعنون المأمون ـ، وأكثروا من القول والجلبة، حتى أرسل إليهم المأمون محمد بن جعفر، عم أبي الحسن يخبرهم: أن أبا الحسن لا يخرج في ذلك اليوم، خوفاً من الفتنة(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٣٠، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٩، ٣٠٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤٢.

٣٦٤

كما وأن عبد الله بن موسى يصرح في رسالته التي أرسلها إلى المأمون بأنه قد بلغه ما فعله بالرضا من إطعامه العنب المسموم، وستأتي هذه الرسالة بتمامها في أواخر هذا الكتاب..

وسئل أبو الصلت الهروي: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إياه ومحبته له؟!) فجاء في آخر جوابه قوله: (فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسم..)(١) .

فإن هذا السؤال يكشف عن أن ذلك كان معروفاً آنذاك بين الناس لكن الناس كانوا في حيرة من ذلك، بسبب ما كانوا يرونه من إكرام المأمون للرضاعليه‌السلام في الظاهر.

وعن الطالقاني: (إنه كان متى ظهر للمأمون من الرضا علم وفضل، وحسن تدبير حسده على ذلك، وحقد عليه، حتى ضاق صدره منه، فغدر به فقتله).

بل لقد ذكر ابن خلدون: أن سبب خروج إبراهيم ابن الإمام موسىعليه‌السلام على المأمون هو أنه اتهم المأمون بقتل أخيه علي الرضاعليه‌السلام (٢) .

ويؤيد ذلك: أنه قد نقل الاتفاق من كل من ترجم لإبراهيم هذا على أنه مات مسموماً، وأن المأمون هو الذي دس إليه السم، وقد أنشد ابن السماك الفقيه، حينما ألحده:

مات الإمام المرتضى مسموماً

وطوى الزمان فضائلاً وعلوما

قد مات بالزوراء مظلوماً كما

أضـحى أبوه بكربلا مظلوما

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ١٢٨، ١٢٩.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١١٥.

٣٦٥

إلى آخر الأبيات(١) .. وإبراهيم هذا هو الذي كان قد خرج على المأمون في اليمن قبل ذلك أيضاً. كما أن المأمون قد دس السم إلى أخيه زيد ابن موسى(٢) ، الذي كان قد خرج عليه قبلاً بالبصرة، وإن كان اليعقوبي يذكر أن المأمون قد عفا عن زيد وإبراهيم(٣) .. لكن من الواضح أن عفوه عنهما في الظاهر بسبب خروجهما عليه في البصرة واليمن، لا ينافي أنه دس إليهما السم بعد ذلك بأعوام بسبب مطالبتهما بدم أخيهما الرضاعليه‌السلام .

كما أن بعض المصادر التاريخية تذكر: أن (أحمد بن موسى) أخا الإمام الرضا.. لما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا، وكان آنذاك في بغداد، خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه، وكان معه ثلاثة آلاف من العلوية. وقيل: اثنا عشر ألفاً.

وبعد وقائع جرت بينه وبين (قتلغ خان)، الذي أمره المأمون فيهم بأمره، والذي كان عاملاً للمأمون على شيراز.. استشهد أصحابه، واستشهد هو، وأخوه (محمد العابد) أيضاً(٤) .

____________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٤٠٨، والبحار ج ٤٨ ص ٢٧٨ باختصار. ولكن في وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٩١ وصفة الصفوة ج ٣ ص ١٧٧ والكنى والألقاب ج ١ ص ٣١٦، ومرآة الجنان ج ١ ص ٣٩٣، والطبري في أحداث سنة ١٨٣: أن تاريخ وفاة محمد بن السماك كانت سنة ١٨٣ ه‍. وأما وفاة إبراهيم فهي إما سنة ٢١٠، أو سنة ٢١٣، فلا يمكن أن يكون ابن السماك هو المتولي لحده، فضلاً عن أن ينشد الشعر المذكور.. اللهم إلا أن يكون ابن السماك اثنين، أحدهما الفقيه، والآخر: القصاص، أو لعل هناك تصحيف عمدي، أو عفوي من الراوي.

(٢) البحار ج ٤٨ ص ٣١٥، وكذا هامش ص ٣٨٦ منه وشرح ميمية أبي فراس ص ١٧٨، وعمدة الطالب ص ٢٢١، وأيضاً حياة الإمام موسى بن جعفر.

(٣) مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٩.

(٤) راجع: كتاب قيام سادات علوي ص ١٦٩ (فارسي)، وأعيان الشيعة ج ١٠ من المجلد ١١ ص ٢٨٦، ٢٨٧، نقلاً عن كتاب: الأنساب، لمحمد بن هارون الموسوي النيشابوري. وراجع أيضاً: مدينة الحسين (السلسلة الثانية) ص ٩١، والبحار ج ٨ ص ٣٠٨، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ٤١٣، وفرق الشيعة هامش ص ٩٧ عن بحر الأنساب ط بمبي وغير ذلك.

٣٦٦

وأيضاً.. فإن شرطة المأمون قد قتلوا (هارون بن موسى) أخا الرضا، حيث إن هارون هذا كان في القافلة التي كانت تقصد خراسان، وكانت تضم (٢٢) علوياً، وعلى رأسها السيدة فاطمة أخت الرضاعليه‌السلام (١) .

فأرسل المأمون إلى هذه القافلة، فقتل وشرد كل من فيها، وجرحوا هارون المذكور، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه(٢) . وأما زعيمة القافلة السيدة فاطمة بنت موسىعليه‌السلام فيقال إنها هي الأخرى قد دس إليها السم في ساوة، ولهذا لم تلبث إلا أياماً قليلة واستشهدت(٣) .

وآخر من يذكره المؤرخون من ضحايا المأمون: (حمزة بن موسى)، أخا الإمامعليه‌السلام ، حيث ذكروا أنه كان من جملة من قتلهم أتباع المأمون(٤) .

فيكون المأمون قد قتل ستة، بل سبعة من إخوة الإمامعليه‌السلام ، لأنهم طالبوه بدم أخيهم، أو كادوا. وألحق بهم ما شاء الله ممن تابعهم، أو خرج معهم.

ويقول الكاتب الفارسي، علي أكبر تشيد: (إن كثيراً من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان، أيام تولي الإمام العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمامعليه‌السلام ، وأمر المأمون الحكام، وأمراء البلاد بقتل، أو القبض على كل علوي)(٥) .

____________

(١) قيام سادات علوي ص ١٦١.

(٢) جامع الأنساب ص ٥٦، وقيام سادات علوي ص ١٦١، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢.

(٣) قيام سادات علوي ص ١٦٨.

(٤) حياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢.

(٥) قيام سادات علوي ص ١٦٠.

٣٦٧

وفي الشعر أيضاً نجد ما يدل على ذلك:

بل إن دعبلاً المعاصر للإمام والمأمون، يرثي الإمامعليه‌السلام فيقول:

شككت: فما أدري أمسقي شربة

فـأبكيك أم ريب الردى فيهون

أيا عجباً منهم: يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

فدعبل لم يكن شاكا في الأمر، بدليل البيت الثاني، أعني قوله: أيا عجباً منهم يسمونك إلخ.. وبدليل مرثيته الأخرى للإمام، التي يقول فيها:

لـم يبق حي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان ولا بكر ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمائهم

كـما تشارك أيسار على جزر

إلى آخر الأبيات.. ومهما شككت في شيء، فإنني لا أشك في أن أقوال دعبل هذه هي التي دعتهم لاتهامه بالزندقة، والمروق من الدين..

ويقول السوسي:

بأرض طوس نائي الأوطان

إذ غـره الـمأمون بالأمان

حين سقاه السم في الرمان(١) والقاضي التنوخي أيضاً يقول:

ومـأمونكم سم الرضا بعد بيعة

فآدت له شم الجبال الرواسب(٢)

وأبو فراس أيضاً يقول في شافيته:

بـاءوا بقتل الرضا من بعد بيعته

وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا

عصابة شقيت من بعدما سعدت

ومعشر هلكوا من بعدما سلموا

لا بـيعة ردعـتهم عن دمائهم

ولا يمين، ولا قربى، ولا ذمم

وهكذا.. يتضح بما لا مجال معه للشك: أن كون المأمون هو الذي اغتال الإمام قد كان معروفا لدى الناس، وشائعا بينهم منذ ذلك الحين..

ولا غرابة في ذلك فلقد كان وعد حاجبه، وجمعاً من العباسيين بأنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه!.

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٤.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٢٨، وفي الغدير ج ٣ ص ٣٨٠، هكذا: (تود ذرى شم الجبال إلخ).، ولعل الصواب فيه: (تهد ذرى الخ).

٣٦٨

الإمام وآباؤهعليهم‌السلام يخبرون بشهادته:

وبعد كل ما تقدم.. نرى أنه لا بد لنا قبل أن نأتي على آخر هذا الفصل من الإشارة إلى أن الإمام نفسه قد أخبر أكثر من مرة بأنه سوف يقضي شهيداً بالسم، بل لقد أخبر بذلك آباؤه الطاهرون، وغيرهم ممن عاشوا في ذلك الزمان. ونستطيع أن نقسم هذه الروايات الكثيرة جداً إلى ثلاث طوائف:

١ ـ طائفة وردت على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمةعليهم‌السلام : يخبرون فيها عن استشهاد الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس، وهذه على ما يبدو خمسة أحاديث.

٢ ـ طائفة وردت عن الإمام نفسه، يخبر فيها بهذا الأمر، وبأن المأمون نفسه هو الذي سوف يقدم على ذلك، وأنه سوف يدفن في طوس إلى جنب هارون.

وهذه الطائفة كثيرة جداً ـ وفي بعضها يصرح بذلك للمأمون نفسه، كما المحنا إليه ـ حتى إنه زاد في قصيدة دعبل، من أجل تتميم قصيدته قوله:

وقـبر بطوس يا لها من مصيبة

ألحت على الأحشاء بالزفرات(١)

٣ ـ تلك الطائفة التي تشرح لنا كيفية دس السم إليه. وأنه بالعنب، أو بإدخال الإبر المسمومة في، أو بالرمان، أو بهما معاً، أو بغير ذلك. وهذه الطائفة كثيرة أيضاً، وقد ورد بعضها عن الإمام نفسه. وقال بعض الكتاب: إنه تتبع هذه الروايات، فوجد انها تنتهي إلى ستة أشخاص، هم:

أبو الصلت عبد السلام الهروي، والريان بن شبيب، وهرثمة بن أعين(٢) ومحمد بن الجهم، وعلي بن الحسين الكاتب، و عبد الله بن بشير(٣) . ولكنني قد راجعت بدوري هذه الروايات، فوجدت: أن عدداً آخر غير هؤلاء قد رووا ذلك أيضاً.

____________

(١) ينابيع المودة ص ٤٥٤، ومناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ٢٣٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٣، ٢٦٤.

(٢) لم يكن هرثمة حيا حين وفاة الإمام، لأنه بعد مقتل أبي السرايا ذهب إلى مرو، فلم يمهله المأمون. وتخلص منه بعد أيام قلائل من وصوله، فروايته لكيفية وفاة الإمامعليه‌السلام لا تصح. إلا أن يكون هرثمة اثنين.. هذا ويلاحظ بعض التشابه بين رواية هرثمة، ورواية أبي الصلت.. فلعل الأمر قد اشتبه على الراوي، أو أنه قد ذكر اسم هرثمة لحاجة في نفسه قضاها..

(٣) القائل بذلك هو علي موحدي في كتابه: ولاية عهدي إمام رضا..

٣٦٩

وحتى الزيارة تؤكد على استشهادهعليه‌السلام :

وأخيراً.. فقد ورد في الزيارة الجوادية قول الإمام الجوادعليه‌السلام :

 ((السلام عليك من إمام عصيب، وإمام نجيب، وبعيد قريب، ومسموم غريب..)) (١) .

وفي كامل الزيارة لابن قولويه، وهو من الكتب المعتمدة، والموثوقة، وغيره: قد ورد قولهمعليهم‌السلام في زيارته:((قتل الله من قتلك بالأيدي والألسن)) (٢) . وفقرة أخرى في زيارته تقول:((السلام عليك أيها الشهيد السعيد، المظلوم المقتول .. إلى أن قال:لعن الله أمة قتلتك، لعن الله أمة ظلمتك)) (٣) .

وأما قولهمعليهم‌السلام :((أيها الصديق الشهيد)) ، فهي موجودة في غير مورد من زيارته، وفي مختلف الكتب الموردة لها.

القمة الشامخة الخالدة:

والآن.. وبعد أن أصبح الصبح واضحاً لكل ذي عينين، وبان وظهر ما جهد المأمون ومن يدور في فلكه في إخفائه وطمسه ـ الآن ـ قد آن لنا أن نقول:

فليكد المأمون كيده، وليسع سعيه، وليناصب جهده، فلقد بقي الإمامعليه‌السلام رغم كل مؤامراته ودسائسه: قمة شامخة، لم تدنسه الأهواء، ولم تنل منه العوادي.. ويبقى ـ وإلى الأبد ـ كعبة الزوار، ومهوى الأفئدة، من شرق الأرض وغربها.

أما المأمون.. فيبوء بعارها وشنارها، ويذهب إلى.... لعنة الله والتاريخ.

____________

(١) البحار ج ١٠٢ ص ٥٣.

(٢) كامل الزيارات ص ٣١٣. ومفاتيح الجنان ص ٥٠١، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٧٠ .

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٩.

٣٧٠

دعبل والمأمون!

الموقف الجريء

جاء في أمالي الشيخ ج ١ ص ٩٨، ٩٩، وأمالي المفيد ص ٢٠٠، ٢٠١، و ط الحيدرية في النجف ص ١٩٢ ـ ١٩٣ والأغاني ٨ ص ٥٧، والغدير ج ٢ ص ٣٧٥، ٣٧٦ عنه، وعن ابن عساكر في تاريخه ج ٥ ص ٢٣٣ وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ٩٤ ـ ٩٥ ما يلي:

عن يحيى بن أكثم، قال: إن المأمون أقدم دعبلرحمه‌الله ، وآمنه على نفسه، فلما مثل بين يديه، وكنت جالساً بين يدي المأمون، فقال له: أنشدني قصيدتك (الرائية) فجحدها دعبل، وأنكر معرفتها، فقال له: لك الأمان عليها كما آمنتك على نفسك، فأنشده:

تأسفت جارتي لما رأت زوري

وعـدت الـحلم ذنباً غير مغتفر

ترجو الصبا بعدما شابت ذوائبها

وقـد جرت طلقا في حلبة الكبر

أجارتي: إن شيب الدهر يعلمني

ذكر المعاد، وأرضاني عن القدر

لـو كـنت أركن للدنيا وزينتها

إذن بكيت على الماضين من نفر

أخـنى الزمان على أهلي فصدعهم

تـصدع الشعب لاقى صدمة الحجر

بـعض أقـام، وبعض قد أصار به

داعـي الـمنية والباقي على الأثر

أمـا الـمقيم: فـأخشى أن يفارقني

ولـست أوبـة مـن ولى بمنتظر

أصبحت أخبر عن أهلي وعن ولدي

كـحالم قـص رؤيـا بـعد مدكر

لـولا تـشاغل عيني بالأولى سلفوا

مـن أهـل بيت رسول الله لم أقر

وفـي مـواليك لـلحرين مـشغلة

مـن أن تـبيت لمشغول على أثر

كـم مـن ذراع لـهم بالطف بائنة

وعـارض بـصعيد الترب منعفر

أمـسى الـحسين ومسراهم لمقتله

وهـم يـقولون هـذا سـيد البشر

يـا أمة السوء ما جازيت أحمد في

حـسن البلاء على التنزيل والسور

خـلفتموه عـلى الأبناء حين مضى

خـلافة الـذئب فـي انفاد ذي بقر

٣٧١

قال يحيى: وأنفذني المأمون في حاجة، فقمت، فعدت إليه، وقد انتهى إلى قوله:

لـم يـبق حـي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمـائهم

كـما تـشارك أيـسار على جزر

قـتلاً، وأسـراً، وتـخويفاً ومنهبة

فـعل الـغزاة بأهل الروم والخزر

أرى أمـية مـعذورين إن قـتلوا

ولا أرى لـبني الـعباس من عذر

قـوم قـتلتم عـلى الإسلام أولهم

حتى إذا استمكنوا جازوا على الكفر

أبـناء حـرب، ومروان، وأسرتهم

بـنو مـعيط، ولاة الـحقد والوغر

إربـع بطوس على قبر الزكي بها

إن كـنت تربع من دين على وطر

قـبران في طوس: خير الناس كلهم

وقـبر شـرهم، هـذا مـن الـعبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

هـيهات كل امرئ رهن بما كسبت

لـه يـداه فـخذ مـن ذاك أو فذر

قال: فضرب المأمون بعمامته الأرض، وقال: (صدقت والله يا دعبل).

كلمة ختامية

وفي الختام:

فإنني أرجو أن أكون قد وفقت في هذه الدراسة، للكشف عن الحقائق التي أريد لها أن تبقى طي الكتمان.. وأن يكون القارئ قد وجد فيها ما يصح أن يكون جوابا على الأسئلة الكثيرة، التي قد يثيرها لديه هذا الحدث التاريخي الهام، الذي لم يكن طبيعياً، وعاديا كسائر ما يجري وما يحدث..

الإكثار من النصوص التاريخية في الكتاب:

ولعل المطلع على هذا الكتاب يكون قد لاحظ: أنني أكثرت فيه من النصوص التاريخية، ولم يكن هدفي إلا أن لا يجد القارئ كبير عناء في استخلاص الحقائق، بعيداً عن نزوات العاطفة، وعثرات الميول..

٣٧٢

ولا شك أنه يكون قد لاحظ أيضاً: أنني لم أحاول انتقاء ألفاظه، ولا صياغة جمله صياغة فنية أنيقة.. وإذا كنت مقتنعاً بأن ذلك من مميزاته وحسناته، لاعتقادي بأن ذلك هو ما تفرضه طبيعة البحث الموضوعي الهادئ. فلسوف لا أستغرب، ولا أتألم إذا كان هناك الكثيرون، ممن يعتقدون أنه عيب ونقص، كان بالإمكان تجنبه، والابتعاد عنه.

ومع ذلك: فلن أجد نفسي مغبوناً حين أقدم ـ بإخلاص ـ اعتذاري لهم، وطلب المسامحة، وغض النظر منهم.

رجاء واعتذار:

وإذا كان يجوز لي أخيراً: أن أطلب من إخواني الأعزاء شيئاً، فإن رجائي الأكيد من كل من يقرأ كتابي هذا: أن يتحفني بملاحظاته، وأن ينبهني لما يجده، أو يراه خطأ، أو نقصاً، فإن الإنسان ـ إلا من اصطفى الله ـ معرض للخطأ وللصواب.. وإذا كان كثيراً ما يكون له فضل فيما أصاب، فكثيراً ما يكون له العذر أيضاً فيما أخطأ.

شكر وتقدير:

هذا.. ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بجزيل شكري، وعميق تقديري لسماحة حجة الإسلام المحقق السيد مهدي الروحاني، ولأصحاب السماحة والفضيلة. من أساتذتي وإخواني، الذين تفضلوا بمطالعة هذا الكتاب، حيث كان لآرائهم الصائبة، وتوجيهاتهم السديدة، وملاحظاتهم الدقيقة أكبر الأثر على هذا الكتاب، إن في الشكل، وإن في المحتوى..

وأخيراً.. فإنني أتقدم أيضاً بخالص شكري، وفائق تقديري للقارئ الكريم. الذي جعلني مدينا له، بما منحني من وقته. وعقله، وفكره. وأرجو أن أكون قد وفقت للفوز بثقته أيضاً.

ولا أطيل عليك ـ قارئي الكريم ـ، فقد كان الفراغ من نقله إلى المبيضة ليلة الأحد السابع من صفر، الساعة التاسعة منها سنة ١٣٩٦ ه‍ ـ ق. الموافق ٨ شباط سنة ١٩٧٦ م ـ ش.

والحمد لله، وله المنة، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى..

نزيل قم المقدسة

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٣٧٣

رسالة نقد وجوابها

وبعد.. فإن سماحة الأخ الجليل، والفاضل النبيل، الشيخ عفيف النابلسي (حفظه الله)، قد تفضل مشكوراً برسالة.. أبدى فيها رضاه وإعجابه بالكتاب، ثم أشار فيها إلى المآخذ التالية:

١ ـ لقد ورد في ص١٣٣: أن زبيدة، زوجة الرشيد، كانت تتشيع.. مع أن سلوكها، وظروفها، وأجواءها، وأيضاً تاريخ أهلها وذويها.. كل ذلك يبعدها كل البعد عن نسبة التشيع لها؛ لا بمعناه الخاص، ولا العام، الذي يعني الوقوف مع الإمام الكاظمعليه‌السلام ، ضد خصومه. والتعاطف معه، والاستنكار للظلم..

وإرادة الرشيد طلاقها، لعله لمضايقتها له، في محاولاتها منعه من التمتع بحسناوات القصر.. وأما إحراق قبرها فهو لعدم تمييز العامة بين قبرها، وبين قبر آل بويه..

٢ ـ جاء في ص١٣٣ أيضاً: أن نكبة البرامكة يقال: إن سببها هو تشيعهم للعلويين، وهذا لا يتلاءم مع موقف يحيى حينما شكا إلى الرشيد أمر الكاظمعليه‌السلام ، وشحن صدره غيظاً على العلويين، وبالأخص على الإمام الرضاعليه‌السلام منهم.. مع أن هذا ينافي ما ذكر في ص٢٦٣ من أن البرامكة كانوا أعداء لأهل البيتعليهم‌السلام ..

٣ ـ ما جاء في هامش ص٣٥٥ من عدم الجزم بأن الأبيات، التي أولها: ذكروا بطلعتك النبي محمداً الخ..

هي للبحتري، وقد كان اللازم الجزم بذلك؛ لانسجام هذه الأبيات مع سائر أبيات قصيدة البحتري.. هذا بالإضافة إلى أن الشاعر يقول: (حتى انتهيت إلى المصلى لابساً) ومعلوم أن الإمامعليه‌السلام لم يصل إلى المصلى، بل رجع من وسط الطريق.. الأمر الذي يدل على أن الأبيات قد قيلت في غير الإمامعليه‌السلام ، وقضية صلاته..

أما نحن فنقول:

ونستميح سماحة الأخ العذر، إذا أشرنا إلى ما يلي:

١ ـ أما بالنسبة إلى النقطة الأولى، وهي تشيع زبيدة، فإننا نقول: إننا لربما نجدهم في كتب التاريخ يقولون عن مثل المغيرة بن شعبة، والأشعث بن قيس، وأمثالهما، ممن بايع علياًعليه‌السلام

٣٧٤

في خلافته، وكذلك كل من ناصر قضايا أهل البيت سياسياً، وبذل نفسه في سبيلها: إنه من شيعة الإمام عليعليه‌السلام وأهل البيت.. من دون نظر إلى سلوكه، وميوله، وعقائده، ومذهبه.. وهذا الإطلاق كان في الصدر الأول طبعاً.. والمقصود منه: أنه من أتباع علي وأهل البيت وأنصارهم..

وإذا تجاوزنا تلك المرحلة.. فإننا لا بد وأن نؤكد على الفرق بين كلمتي (شيعي)، و(تشيع).. فإن (الشيعي) في اصطلاحهم هو من كان من الإمامية، أو الزيدية، أو الكيسانية، أو غيرهم من فرق الشيعة.

وكلمة: (يتشيع)، أو (فيه تشيع) يقصد منها في كتب المتقدمين من أهل السنة ـ كما يرى العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني ـ كل من كان يحب علياًعليه‌السلام ، وأهل بيته الطاهرين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. ونشأت هذه الكلمة على شكل تهمة وطعن؛ بتأثير من الأجهزة الحاكمة، كمعاوية والمروانيين بعده، ثم كل الحكام المعادين لأهل البيتعليهم‌السلام ؛ فكانت المحبة لأهل البيت ـ مجرد المحبة ـ تعد عند الناس أتباع السلطة الحاكمة جريمة كبرى، وعظيمة لا تغفر.. قال الكميت (رحمه الله..):

بــأي كـتاب أم بـأية سـنة

تـرى حبهم عاراً علي وتحسب

وطـائفة قـد كـفرتني بـحبهم

وطـائفة قـالوا مـسيء ومذنب

يـعيبونني مـن حبهم وضلالهم

على حبكم، بل يسخرون وأعجب

فمحبة آل الرسول كانت في دولة بني أمية تعد تشيعاً، استبشاعاً لها، وتقبيحاً لأمرها، ثم زالت بشاعتها في عصر بني العباس لأمور تاريخية ذات طابع خاص، حتى كان يطلق على كل من كان من غير الشيعة كلمة (التشيع)..

ولأجل هذا قال ابن النديم في الفهرست: إن الإمام الشافعي كان شديد التشيع، وقالوا في محمد بن جرير الطبري: فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر.. مع أن من الواضح: أنهما ليسا من الشيعة.. وهذا الإطلاق يوجد كثيراً في كتب التراجم والرجال في مقام الجرح والتعديل..

وعلى كل حال.. فإن هذا الفرق بين (الشيعة) و(المتشيعة) قد خفي على سيدنا آية الله الإمام شرف الدين رحمه الله؛ حيث إنه.. قد ذكر عدداً ممن كان فيه (تشيع) فجعلهم من (الشيعة)..

ولعل الذي أوقعه في الاشتباه هو أن بعض (أهل الجرح والتعديل) ممن تغلب عليه نزعة النصب، قد عد جماعة من هؤلاء (المتشيعة) من الروافض، توهيناً لنزعتهم، وتسفيهاً لرأيهم في محبة عليعليه‌السلام ، وأهل بيته الطاهرين.

٣٧٥

وهارون الرشيد كان ناصبياً، وقد تقدم في فصل (موقف العباسيين من العلويين) وغيره بعض مواقفه وأفعاله.. فلعله لما رأى حب زوجته لأهل البيت أراد طلاقها..

وواضح.. أن (التشيع) على النحو الذي ذكرناه، لا يتنافى، ولا يتعارض مع الإعلان عن مواقف هي ضد الجهة التي يتعاطف معها، بوحي من مصالحه المعيشية والأمنية ونحوها.. كما أنه لا يتنافى، ولا يتعارض مع عدم الالتزام العملي بالتعاليم المذهبية، بل إنه قد يكون مستهتراً عملاً، وينتهج سلوكاً شاذاً، وبعيداً عن روح وتعاليم الدين الحنيف. ومع ذلك يدعي أنه ملتزم بدين، ومنتم إلى مذهب، شأن الكثيرين من السياسيين المعاصرين وغيرهم.. كما أنه لا ملازمة بين التشيع وبين وجوب القيام بثورة مسلحة ضد نظام الحكم القائم.. وعليه.. فتشيع زبيدة ربما يكون مقتصراً على هذا التعاطف والحب لأهل البيت، ولا يتنافى ذلك مع ما ذكره سماحة الأخ الكريم.

كما أن من البعيد جداً: أن لا يكون قبر زبيدة، أعظم عباسية في التاريخ متميزاً، ومعروفاً لدى الناس، حتى العامة منهم.. كما أن تعليل طلاقه لها بأنها: كانت تضايقه، وتمنعه من التمتع بحسناوات القصر، ما هو إلا اجتهاد في مقابل النص!!..

٢ ـ وأما البرامكة، فإن ما ذكره الأخ لم يغب عن بالي وقتها، وهو صحيح مئة بالمئة.. ولكنه لا يعني أن النص الآخر كذب محض؛ إذ ربما يكون القصد منه: ليس أنهم كانوا يتشيعون حقيقة، وإنما المراد أنه: حين رأى الرشيد نفوذهم وقوتهم، وخافهم على الملك، تعلل عليهم بذلك؛ ليقتلهم، ويتخلص منهم.. كما أنه ليس من البعيد.. أنهم كانوا يجارون التيار، فيتظاهرون بالتشيع للعلويين؛ ليحافظوا على مكانتهم في العامة.. في نفس الوقت الذي كانوا يتآمرون فيه على آل عليعليه‌السلام ، ويبغون لهم فيه الغوائل، تماماً، كما كان المتوكل يكرم الهاديعليه‌السلام في الظاهر، ويبغي له الغوائل في الباطن والشواهد التاريخية على مثل هذا كثيرة جداً..

٣ ـ وأما قضية الشعر.. فإننا لا نصر على أنه للبحري.. وإن كنا قد أشرنا إلى أن من الجائز أن يكون البحتري قد أخذه على سبيل الاستشهاد، والتضمين؛ فإن ذلك أمر شائع ومعروف بين الشعراء.. كما أنني قد بينت أن من الجائز أن يكون البحتري قد صُحف عمداً أو سهواً فصار: البحري.. كما أنه قد يكون العكس هو الصحيح. وأما أنه لم يصل إلى المصلى، فإن للشاعر أن يدعي ذلك إذا كان الإمامعليه‌السلام قد قرب منه على سبيل المبالغة..

وبعد.. فإننا نستميح الأخ الشيخ العذر، ونسأل الله له دوام التوفيق والتسديد.

٢٢/١/١٤٠٠ ه‍ ـ ق.

جعفر مرتضى الحسيني العاملي..

٣٧٦

وثائق هامة

١ ـ رسالة الفضل بن سهل إلى الإمامعليه‌السلام .

٢ ـ وثيقة ولاية العهد.

٣ ـ رسالة المأمون إلى العباسيين.

٤ ـ رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون.

٥ ـ رسالة سفيان إلى هارون.

قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني.

رسالة الفضل بن سهل إلى الإمامعليه‌السلام

هذه الرسالة:

هذه الرسالة هي التي أرسلها الفضل بن سهل إلى الإمامعليه‌السلام ، يطلب فيها منه القدوم، من أجل عقد ولاية العهد له..

وقد اطلعت عليها في وقت متأخر، وتحدثت عن بعض ما يمكن استخلاصه منها في بعض فصول الكتاب.

ونظراً لأهميتها.. فقد آثرت أن أجعلها مع الوثائق الهامة، ليطلع عليها القارئ بنفسه.

وقد أورد هذه الرسالة أبو القاسم عبد الكريم بن محمد، بن عبد الكريم الرافعي، الشافعي، القزويني المتوفى سنة ٦٢٣ ه‍. في كتابه: (التدوين).

والكتاب موجود منه نسختان خطيتان: إحداهما في مكتبة (ناصرية) القسم الثاني رقم ٧٨٢ في لكنهو. والأخرى: خطية أيضاً موجودة في الإسكندرية.. وهناك نسختان مصورتان عنهما:

إحداهما: في دفتر تبليغات إسلامي في قم مصورة عن نسخة لكنهو.

والأخرى: في مكتبة المرعشي النجفي العامة في قم مصورة في طهران عن نسخة الإسكندرية.

٣٧٧

وهي في النسخة المصورة عن لكنهو موجودة في المجلد الثاني. وفي المصورة عن مكتبة الإسكندرية موجودة في ج ٤ ص ٥١. ونقلها عن هذه النسخة السيد المرعشي النجفي في ج ١٢ من ملحقات الإحقاق ص ٣٨١، ٣٨٢:

نص الرسالة:

قال في التدوين: والنص لنسخة: لكنهو: ولما عزم المأمون على تفويض العهد إليه ـ أي إلى الرضا ـ، بسعي ذي الرياستين الفضل بن سهل.. كتب إليه ذو الرياستين:

بسم الله الرحمن الرحيم

لعلي بن موسى الرضا، وابن رسول الله المصطفى، المهتدى بهديه، المقتدى بفعله، الحافظ لدين الله، الخازن لوحي الله، من وليه الفضل ابن سهل، الذي بذل في رد حقه إليه مهجته، ووصل ليله فيه بنهاره.. سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته.

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله.

أما بعد:

فإني أرجو أن الله قد أدى لك، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك، وأن يعظم مننه عليك، وأن يجعلك الإمام الوارث. ويري أعداك، ومن رغب عنك، منك ما كانوا يحذرون..

وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الإمام المأمون ومني: على رد مظلمتك عليك، وإثبات حقوقك في يديك، والتخلي منها إليك، على ما أسأل الله الذي وقف عليه: أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين، وعند الله من الفائزين، ولحق رسول الله من المؤدين. ولك عليه من المعاونين، حتى أبلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين(١) .

فإذا أتاك كتابي ـ جعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك، حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين، الذي يراك شريكاً في أمره، وشفيعاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملايكته محفوظاً، وبكلاءته محروساً. وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك، وصلاح الأمة بك.

وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..

وكتبت بخطي.

____________

(١) الظاهر أنها: الحسنيين، لأنها اقتباس من الآية الكريمة..

٣٧٨

وثيقة ولاية العهد

مصادر الوثيقة:

نذكر من المصادر التي أوردت هذه الوثيقة، على سبيل المثال لا الحصر:

القلقشندي في صبح الأعشى ج ٩ من ص ٣٦٢، إلى ص ٣٦٦، وأكملها بذكر ما كتبه الرضاعليه‌السلام والشهود في نفس الجزء من ٣٩١ وحتى ٣٩٣، وأوردها أيضاً في مآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ٢ من ص ٣٢٥ حتى ص ٣٣٦، وهي أيضاً في شرح ميمية أبي فراس من ٢٩٩ إلى ٣٠٣، وفي نور الأبصار ١٤٢، ١٤٣، وفي البحار ج ٤٩ ص ١٤٨، إلى ١٥٣ ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ من ص ١٠٢ إلى ص ١٠٧، والفصول المهمة لابن الصباغ ابتداء من ص ٢٩٣.

ووسيلة النجاة لمحمد مبين الهندي ابتداء من ص ٣٨٧، طبع لكنهو، ورواها أيضاً الكاشاني في معادن الحكمة، والشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف مختصراً وابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، والإربلي في كشف الغمة، والسيد الأمين في المجالس السنية، وأعيان الشيعة، وابن الجوزي في التذكرة، وذكر الأخيران إنها قد ذكرها عامة المؤرخين، وعن التفتازاني إن الوثيقة كانت موجودة في عهده، والإربلي أيضاً يقول بأنها كانت موجودة في عهده، وأنه في سنة سبعين وستماية اطلع على وثيقة العهد الأصلية، ونقلها في كتابه حرفاً فحرفاً.. وأشار إليها أيضاً ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية.

وغير هؤلاء كثير. ونحن نذكر الوثيقة موافقة لما في صبح الأعشى، ومآثر الإنافة، فنقول:

نص الوثيقة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده.

أما بعد:

فإن الله عز وجل اصطفى الإسلام ديناً، واصطفى من عباده رسلاً دالين عليه، وهادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم. ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهداً لهم، ومهيمناً عليهم. وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا

٣٧٩

من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به، ونهى عنه، لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به: من الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة التي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي والرسالة، جعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة، التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه.

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل، وحقن الدماء، وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم، واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة.

فحق على من استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه، أن يجهد الله نفسه، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته، ويعتد لما الله مواقفه عليه، ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود:( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) .

وقال الله عز وجل:( فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: (لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات، لتخوفت أن يسألني الله عنها).

وأيم الله، إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة، وبالله الثقة. وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة..

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409