الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)0%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 191848
تحميل: 7342

توضيحات:

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191848 / تحميل: 7342
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأنظر الأمة لنفسه، وأنصحهم لله في دينه وعباده، من خلائقه في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه، وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مدة أيامه، وبعدها، وأجهد رأيه فيمن يوليه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علماً لهم. ومفزعا في جمع ألفتهم. ولم شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن بإذن الله من فرقتهم. وفساد ذات بينهم واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيد عنهم، فإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام الإسلام وكماله، وعزه، وصلاح أهله، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة، وشملت فيه العافية، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة، والسعي والفرقة، والتربص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدة مؤونتها، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله، ومراقبته فيما حمله منها. فأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه، وعباده، ومختاراً لولاية عهده. ورعاية الأمة من بعده: أفضل من يقدر عليه: في دينه وورعه، وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجياً بالاستخارة في ذلك. ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره. معملاً في طلبه والتماسه في أهل بيته: من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب فكره، ونظره. مقتصراً ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغاً في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته.. حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة، فكان خيرته بعد استخارته الله، وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين جميعاً:

علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد ابن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب

لما رأى من فضله البارع، وعلمه النافع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس..

٣٨١

وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعاً، وناشئاً، وحدثاً، ومكتهلاً، فعقد له بالعقد والخلافة من بعده(١) .

واثقاً بخيرة الله في ذلك. إذ علم الله أنه فعله إيثاراً له، وللدين، ونظراً للإسلام والمسلمين، وطلباً للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.

ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وخاصته، وقواده، وخدمه فبايعوا مسارعين مسرورين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم. ممن هو أشبك منه رحماً، وأقرب قرابة.

وسماه (الرضا)(٢) إذ كان رضا عند أمير المؤمنين فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة، من قواده وجنده، وعامة المسلمين، لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده علي ابن موسى على اسمه وبركته، وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدوركم. عالمين بما أراد أمير المؤمنين، بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين بها: من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائدة ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، ورغم عدوكم، واستقامة أموركم.

وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمن إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله.

وكتب بيده يوم الاثنين، لسبع خلون من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين.

قال القلقشندي: (ثم إنه تقدم إلى علي بن موسى، وقال له: اكتب خطك بقبول هذا العهد، وأشهد الله، والحاضرين عليك بما تعده في حق الله، ورعاية المسلمين، فكتب علي الرضا تحته إلخ).

____________

(١) في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش: أنهعليه‌السلام كتب بقلمه الشريف تحت قوله: ((والخلافة من بعده)) قوله: ((بل جعلت فداك)).

(٢) في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش: أنهعليه‌السلام كتب بقلمه الشريف تحت كلمة: ((الرضا)) قوله: ((رضي الله عنك وأرضاك، وأحسن في الدارين جزاك)) وفي أخرى: أنه كتب تحت ذكر اسمهعليه‌السلام بقلمه الشريف: ((وصلتك رحم، وجزيت خيراً))، وكتب بقلمه الشريف تحت الثناء عليه: ((أثنى الله عليك فأجمل، وأجزل لديك الثواب فأكمل)).

٣٨٢

صورة ما كان على ظهر العهد، بخط الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. وصلاته على نبيه محمد، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين.

أقول ـ وأنا علي بن موسى الرضا بن جعفر ـ: إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاماً قطعت، وأمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، مبتغياً رضا رب العالمين، لا يريد جزاء من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين..

وإنه جعل إلي عهده، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها، فقد أباح الله حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زارياً على الإمام، منتهكاً حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبايقة تبتدر..

وقد جعلت الله على نفسي، إن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافته: العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته، وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً. ولا مالاً، إلا ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهده مؤكداً، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً).

وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً. وأعوذ بالله من سخطه. وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين.

والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن الحكم إلا لله، يقضي بالحق(١) ، وهو خير الفاصلين..

____________

(١) الظاهر أن الصواب هو (يقص الحق) كما في معالم الإنافة.

٣٨٣

لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيداً..

وكتبت بخطي، بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والفضل ابن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين.

الشهود على الجانب الأيمن:

شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب، ظهره، وبطنه. وهو يسأل الله: أن يعرف أمير المؤمنين، وكافة المسلمين ببركة هذا العهد، والميثاق. وكتب بخطه في تاريخ المبين فيه..

عبد الله بن طاهر بن الحسين، أثبت شهادته فيه بتاريخه.

شهد حماد بن النعمان بمضمونه: ظهره وبطنه، وكتب بيده في تاريخه بشر بن المعتمر يشهد بمثل ذلك.

الشهود على الجانب الأيسر:

رسم أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة. التي هي صحيفة الميثاق. نرجو أن نجوز بها الصراط، ظهرها وبطنها، بحرم سيدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بين الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وساير الأولياء والأجناد، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع

المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين:( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) .

وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه(١) .

انتهى..

____________

(١) وفي هامش نسخة مصححة قال: مصححها: (قال العبد الفقير إلى الله تعالى، الفضل بن يحيى عفى الله عنه: قابلت المكتوب الذي كتبه الإمام علي بن موسى الرضا (صلوات الله عليه)، وعلى آبائه الطاهرين بأصله الذي كتبه الإمام المذكورعليه‌السلام بيده الشريفة، حرفاً فحرفاً. وألحقت ما فات منه، وذكرت أنه من خطه. وذلك يوم الثلاثاء، مستهل المحرم، من سنة تسع وتسعين وست مأة الهلالية بواسط، والحمد لله، وله المنة) انتهى أقول: والذي ألحقه هو ما قدمناه في هوامش الصفحات المتقدمة..

٣٨٤

رسالة المأمون إلى العباسيين

مصادر الكتاب:

هذا الكتاب مذكور في طرائف ابن طاووس، الترجمة الفارسية من ص ١٣١، إلى ص ١٣٥، نقلاً عن كتاب نديم الفريد، لابن مسكويه، صاحب كتاب حوادث الإسلام.. وفي البحار للعلامة المجلسي ج ٤٩ من ص ٢٠٨ إلى ص ٢١٤، وفي قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٥٦، إلى ٣٦٠، وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٤٨٤، ٤٨٥ مختصراً، ونقل في الغدير ج ١ ص ٢١٢ قسما منه عن عبقات الأنوار للهندي ج ١ ص ١٤٧، وأشار إليه غير واحد من المؤلفين.

نص الكتاب:

كتب العباسيون كتاباً إلى المأمون، وطلبوا منه الإجابة عليه، فأجابهم بما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

(والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد. على رغم أنف الراغمين..

أما بعد:

عرف المأمون كتابكم، وتدبير أمركم. ومخض زبدتكم. وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم. في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله والآثار، وكلما جاءكم به الصادق محمدعليه‌السلام ، حتى كأنكم من الأمم السالفة، التي هلكت بالخسفة، والغرق، والريح، والصيحة، والصواعق، والرجم..

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟. والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم، من سوء أخلاقكم، وقلة أخطاركم. وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائباً..

أما بعد:

فإن الله تعالى بعث محمداً على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها، وأموالها، لا يرون أحداً يساميهم، ولا يباريهم، فكان نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميناً من أوسطهم بيتاً، وأقلهم مالاً، فكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها. ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سبع

٣٨٥

سنين، لم يشرك بالله شيئاً طرفة عين، ولم يعبد وثناً، ولم يأكل رباً، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين، أو كافر معاند، إلا حمزة فإنه لم يمتنع من الإسلام، ولا يمتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربه.

وأما أبو طالب: فإنه كفله ورباه، ولم يزل مدافعاً عنه، ومانعاً منه، فلما قبض الله أبا طالب، فهم القوم، وأجمعوا عليه ليقتلوه، فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم. يحبون من هاجر إليهم. ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.

فلم يقم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالبعليه‌السلام : فإنه آزره ووقاه بنفسه، ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد مستمسكاً بأطراف الثغور، وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولي عن جيش، منيع القلب، يؤمر على الجميع، ولا يؤمر عليه أحد. أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهاداً في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله، وأعرفهم بالحلال والحرام.

وهو صاحب الولاية في حديث (غدير خم) وصاحب قوله:((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى، وإلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وصاحب الباب، فتح له، وسد أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خبير. وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة. وأخو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين آخى بين المسلمين.

وهو منيع جزيل. وهو صاحب آية:( وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى‏ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) . وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهو ختن خديجة عليه‌السلام . وهو ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رباه وكفله. وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده. وهو نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم المباهلة.

٣٨٦

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان أمراً حتى يسألانه عنه، فما رأى إنفاذه أنفذاه، وما لم يراه رداه. وهو دخل من بني هاشم في الشورى، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه(١) عنهعليه‌السلام ، كما دفع العباس رضوان الله عليه، ووجدوا إلى ذلك سبيلاً لدفعوه.

فأما تقديمكم العباس عليه، فإن الله تعالى يقول:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ ) .

والله، لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل، والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل من رجالكم. أو غيره، لكان مستأهلاً متأهلاً للخلافة، مقدماً على أصحاب رسول الله بتلك الخلة.

ثم لم يزل الأمور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس، تعظيماً لحقه، ووصلة لرحمه، وثقة به، فكان من أمره الذي يغفر الله له..

ثم.. نحن وهم يد واحدة ـ كما زعمتم ـ حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا، فأخفناهم. وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم.. ويحكم، إن بني أمية إنما قتلوا من سل منهم سيفاً، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملاً، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء، هيهات، إنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره..

وأما ما وصفتم في أمر المخلوع، وما كان فيه من لبس، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم، إذ هونتم عليه النكث، وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى أن يكون من أمر أخيك، وهو رجل مغرب، ومعك الأموال والرجال، نبعث إليه، فيؤتى به، فكذبتم، ودبرتم، ونسيتم قول الله تعالى:( ثُمّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ... ) .

____________

(١) في الترجمة الفارسية هكذا: (على دفع عليعليه‌السلام عنها إلخ).

٣٨٧

وأما ما ذكرتم: من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عز وجل. ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم.

ولعمري، لو كانت بيعتي بيعة محاباة، لكان العباس ابني، وسائر ولدي أحب إلى قلبي، وأجلى في عيني، ولكن أردت أمراً، وأراد الله أمراً، فلم يسبق أمري أمر الله وأما ما ذكرتم: مما مسكم من الجفاء في ولايتي: فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه، علي (خ د) وممايلتكم إياه، فلما قتلته وتفرقتم عباديد، فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد، وطوراً أتباعاً لأعرابي، وطوراً أتباعاً لابن شكلة، ثم لكل من سل سيفاً علي، ولولا أن شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً، فكلكم حلال الدم، محل بنفسه.

وأما ما سألتم: من البيعة للعباس ابني.. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ويلكم، إن العباس غلام حدث السن، ولم يؤنس رشده، ولم يمهل وحده، ولم تحكمه التجارب. تدبره النساء، وتكفله الإماء، ثم.. لم يتفقه في الدين، ولم يعرف حلال من حرام، إلا معرفة لا تأتي به رعية، ولا تقوم به حجة، ولو كان مستأهلاً، قد أحكمته التجارب، وتفقه في الدين، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا، وصرف النفس عنها.. ما كان له عندي في الخلافة، إلا ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا من هذا المقال، فإن لساني لم يزل مخزوناً عن أمور وأنباء، كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف، علماً بأن الله بالغ أمره، ومظهر قضاه يوماً.

فإذ أبيتم إلا كشف الغطاء، وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه، وعما وجده في كتاب الدولة، وغيرها: أن السابع من ولد العباس، ولا تقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعها، فإذا أودع فودعاها، وإذا فقدتم شخصي، فاطلبوا لأنفسكم معقلاً، وهيهات، ما لكم إلا السيف، يأتيكم الحسني الثائر البائر، فيحصدكم حصداً، أو السفياني المرغم، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلا بحقها.

وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه.

٣٨٨

وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم ولعقبكم، وأنبائكم من بعدكم.. وأنتم ساهون، لاهون، تائهون، في غمرة تعمهون، لا تعلمون ما يراد بكم، وما أظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي مركوباً، ويصبح مخموراً تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، وآلهتكم البرابط، مخنثون. مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامة نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، وأكببتم على اللذات، فسوف تلقون غياً. وأيم الله، لربما أفكر في أمركم. فلا أجد أمة من الأمم استحقوا العذاب، حتى نزل بهم لخلة من الخلال، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم، مع خلال كثيرة، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها، ولا أمر بالعمل بها. وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح: أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض، قد اتخذتموهم شعاراً، ودثاراً، استخفافاً بالمعاد، وقلة يقين بالحساب، وأيكم له رأي يتبع، أو روية تنفع، فشاهت الوجوه، وعفرت الخدود. وأما ما ذكرتم: من العثرة كانت في أبي الحسنعليه‌السلام نور الله وجهه، فلعمري، إنها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله، وأين لي بذلك، وأنى لكم بتلك السعادة. وأما قولكم: إني سفهت آراء آبائكم، وأحلام أسلافكم، فكذلك قال مشركوا قريش:( إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‏ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَى‏ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) . ويلكم، إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء، فافقهوا، وما أراكم تعقلون.

وأما تعييركم إياي: بسياسة المجوس إياكم، فما أذهبكم الانفة(١) من ذلك، ولو ساستكم القردة والخنازير، وما أردتم إلا أمير المؤمنين.

ولعمري، لقد كانوا مجوساً فأسلموا، كآبائنا، وأمهاتنا في القديم، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد، فهم يتناهون عن المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويتقربون من الخير، ويتباعدون من الشر، ويذبون عن حرم المسلمين، يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر، ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير.. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.

____________

(١) الظاهر أن الصواب: (فما أذهبكم عن الأنفة).

٣٨٩

وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره: إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً..

ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجبا، كأنه قد اكتسب حمدا، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه من زين له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة، وتربده المطمورة، فشتت الأحوال.. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح. وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم.. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد..

ولا قوة إلا بالله، وعليه توكلي، وهو حسبي).

رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون

النص الأول للرسالة:

قال أبو الفرج الأصفهاني، صاحب كتاب (الأغاني)، في كتابه: مقاتل الطالبيين ص ٦٣٠، ٦٣١، في معرض حديثه عن عبد الله بن موسى، بن عبد الله بن الحسن، بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الذي كان قد توارى في أيام المأمون:

(.. وأخبرني جعفر بن محمد الوراق الكوفي، قال: حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي الحسيني، عن أبيه، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى، وهو متوار منه، يعطيه الأمان، ويضمن له: أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول:

(.. ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعدما عملته بالرضا..).

وبعث الكتاب إليه. فكتب إليه عبد الله بن موسى:

(.. وصل كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي.

وعجبت من بذلك العهد، وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟!.

٣٩٠

أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟!. فو الله، لأن أقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إلي من أن ألي أمراً بين المسلمين، أو أشرب شربة من غير حلها، مع عطش شديد قاتل..

أم في العنب المسموم، الذي قتلت به الرضا؟!.

أم ظننت أن الاستتار قد أملني، وضاق به صدري؟!. فو الله، إني لذلك، ولقد مللت الحياة، وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك، حتى تبلغ من قبلي مرادك. لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر علي المخاطرة بدمي. وليتك قدرت علي، من غير أن أبذل نفسي لك. فتقتلني، ولقيت الله عز وجل بدمي، ولقيته قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.

واعلم: أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل عني، وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأيا يهدي إلى شيء من ذلك. فرجعت إلى القرآن. الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه، من الشهادة في طلب مرضاته.

ثم تتبعته ثانية، أتأمل الجهاد أيه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جل وعلا يقول:( قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام. وأقرب من موضعي، فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم. وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت مال الله من غير حله، فأنفقته في غير حله، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين، وأعطيته المغنين، ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام. وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك، خلافة المضاد المعاند، فإن يسعدني الدهر، ويعني الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك، بذلا يرضيه مني، وأن يمهلك ويؤخرك، ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تختر مني الأيام قبل ذلك. فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عز وجل من نيتي، والسلام).

٣٩١

وثمة نص آخر:

وكان أبو الفرج قد ذكر قبل ذلك أي في ص ٦٢٨، ٦٢٩ من نفس الكتاب نصاً آخر هو إما رسالة أخرى. أو نص آخر لهذه الرسالة نفسها.. والظاهر أنه رسالة أخرى.. وكيف كان فقد قال أبو الفرج:

(وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور، ليجعله مكانه، ويبايع له، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله، وما أشبه هذا من القول:

فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها:

فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته.

والله، ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت، ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.

ويقول فيها:

هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا، الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا، ولكنني كنت امرءاً حبب إلي الجهاد، كما حبب إلى كل امرئ بغيته، فشحذت سيفي، وركبت سناني على رمحي، واستفرهت فرسي، لم أدر أي العدو أشد ضرراً على الإسلام، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء، فقرأته، فإذا فيه:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) .

فما أدري من يلينا منهم، فأعدت النظر، فوجدته يقول:( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) فعلمت أن علي أن أبدأ بما قرب مني..

وتدبرت، فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم، لأن الكفار خرجوا منه، وخالفوه، فحذرهم الناس، وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهراً، فأمسك الناس. وطفقت تنقض عراه عروة عروة، فأنت أشد أعداء الإسلام ضرراً عليه..

ثم قال أبو الفرج: وهي رسالة طويلة أتينا بها في الكتاب الكبير..

٣٩٢

رسالة سفيان إلى هارون

مصادر الرسالة:

ذكر هذه الرسالة الدميري في حياة الحيوان ج ٢ ص ١٨٨، ١٨٩، نقلاً عن ابن بليان، والإمام الغزالي، ودحلان في الفتوحات الإسلامية ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٤٤٩ حتى ٤٥٣.

وأشار إليها ابن خلدون في مقدمته، ص ١٧ مستدلا بها على تدين الرشيد والتزامه.. وذكر جرجي زيدان شطراً منها في كتابه: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول، جزء ٢ ص ٣٨٥، ٣٨٦، والمجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٨٠، ونحن نذكرها هنا عن الدميري مع بعض تعديلات عن دحلان.

مناقشة لا بد منها:

ولكن الرسالة تذكر أن الذي كاتبه الرشيد، والمجيب له هو سفيان الثوري.. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، فإن سفيان قد توفي في خلافة المهدي متخفيا، في سنة ١٦١ ه‍، وهارون لم يتول الخلافة إلا في سنة ١٧٠ ه‍.

ولعل الصواب: هو أن مرسلها هو: إمام مكة سفيان بن عيينة، المتوفى سنة ١٩٨ ه‍. عن إحدى وتسعين سنة.

ولعل الراوي قد اشتبه عليه الأمر، عفوا، أو عمداً! لحاجة في نفسه قضاها. وأياً ما كانت الحقيقة، فإن هذه الرسالة تعتبر وثيقة تاريخية هامة، لأنها تصور لنا حقيقة الوضع في تلك الفترة من الزمن..

وتعطينا شأنها شأن رسالة الخوارزمي، ورسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون صورة واضحة عما كان يمارسه خلفاء ذلك الوقت من مآثم، وما يرتكبونه من موبقات..

نص الرسالة:

وملخص حكاية هذه الرسالة هي: أن الرشيد أرسل إلى سفيان الثوري! ـ وقد قلنا: إن الظاهر: أنه ابن عيينة ـ كتاباً يتودد إليه فيه، ويطلب منه أن يقدم عليه.

فلما وصل الكتاب إلى سفيان، رماه من يده، وقال لإخوانه: ليقرأه بعضكم، فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم.

٣٩٣

فلما قرأوه، أمرهم أن يكتبوا إلى الظالم في الجواب ما يلي:

(من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذة قراءة القرآن.

أما بعد:

فإني كتبت إليك أعلمك: أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وقليت موضعك، وأنك جعلتني شاهداً عليك، بإقرارك على نفسك في كتابك: بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه، وأنفذته بغير حكمه، ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا فإني قد شهدت عليك، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غداً بين يدي الله الحكم العدل..

يا هارون، هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم. هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم؟!

أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟!.

أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟!.

فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابا، وللبلاء جلباباً، واعلم أنك ستقف بين يدي الله الحكم العدل، فاتق الله في نفسك، إذا سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن. ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً.

يا هارون، قعدت على السرير، ولبست حرير، وأسبلت ستوراً دون بابك. وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون. ويشربون الخمر، ويحدون الشارب، ويزنون، ويحدون الزاني، ويسرقون، ويقطعون السارق. ويقتلون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك، وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس؟! فكيف بك يا هارون غداً، إذا نادى المنادي من قبل الله:

احشروا الظلمة. وأعوانهم أين الظلمة، وأعوان الظلمة، فتقدمت بين يدي الله، ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك، وأنت لهم إمام، أو سائق إلى النار.

٣٩٤

وكأني بك يا هارون.. وقد أخذت بضيق الخناق، ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك، بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك. واحفظ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمته. واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك. إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها، واحداً بعد واحد، فمنهم من تزود زاداً نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته.

وإياك، ثم إياك أن تكتب إلي بعد هذا، فإني لا أجيبك.. والسلام).

ثم بعث بالكتاب منشوراً، من غير طي، ولا ختم..

قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني

نقاط رئيسية:

كنت قد وعدت القارئ الكريم في فصل: سياسة العباسيين ضد العلويين، بأن أورد في أواخر هذا الكتاب قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني المعروفة ب‍: (الشافية).

وقد حان الآن موعد الوفاء بذلك الوعد. وقبل ذلك، لا بأس بالإشارة إلى:

أن أبا فراس قد ولد في سنة ٣٢٠ ه‍. وتوفي في سنة ٣٥٧ ه‍. عليه الرحمة والرضوان..

وفي زمانه: كان بنو العباس الخلفاء، وآل بويه السلاطين، وآل حمدان الأمراء.

٣٩٥

ولاء. وشجاعة:

وأما عن سبب نظم هذه القصيدة، فهو أن أبا فراس وقف على قصيدة ابن سكرة، التي يتحامل فيها على العلويين، والتي أولها:

بـني عـلي دعـوا مـقالتكم

لا ينقص الدر وضع من وضعه

فحمي أبو فراس، ونظم هذه القصيدة، التي سارت بها الركبان، ودخل بغداد، وأمر أن يشهر في المعسكر خمسمأة سيف، وقيل: أكثر من ذلك.. ثم أنشد هذه القصيدة، وخرج من الناحية الأخرى(١) وقد شرح هذه القصيدة عدد من الأدباء والعلماء منهم ابن خالويه، ومنهم محمد بن أمير الحاج حسيني.

والقصيدة هي:

الـدين مـخترم والـحق مهتضم

وفـيء آل رسـول الله مـقتسم

والـناس عندك لا ناس فيحفظهم

سـوم الـرعاة ولا شـاء ولا نعم

إنـي أبـيت قـليل النوم أرقني

قـلب تـصارع فـيه الهم والهمم

وعـزمة لا يـنام الدهر صاحبها

إلا عـلى ظـفر فـي طـيه كرم

يـصان مـهري لأمر لا أبوح به

والدرع والرمح والصمصامة الخذم

وكـل مـائرة الضبعين مسرحها

رمـث الجزيرة والحذراف والعنم

وفـتية قـلبهم قـلب إذا ركـبوا

يـوماً ورأيـهم رأي إذا عـزموا

يـا لـلرجال أمـا لـله مـنتصر

مـن الـطغاة، أمـا لـلدين منتقم

بـنو عـلي رعـايا فـي ديارهم

والأمـر تـملكه النسوان والخدم

____________

(١) راجع: شرح الشافية، لمحمد بن أمير حاج حسيني ص ٦، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٥٧، ورجال المامقاني ج ٣ ص ٣٠ من باب الكنى، ورجال أبي علي ص ٣٤٩، والغدير ج ٣ ص ٤٠٣، والكنى والألقاب ج ١ ص ١٣٧، والفتوني في كشكوله، وغير ذلك.

٣٩٦

مـحلأون فـأصفى وردهم وشل

عـند الـورود وأوفى شربهم لمم

فـالأرض إلا عـلى ملاكها سعة

والـمال إلا عـلى أربـابه ديـم

فـما الـسعيد بها إلا الذي ظلموا

ومـا الـشقي بها إلا الذي ظلموا

لـلمتقين مـن الـدنيا عـواقبها

وإن تـعجل فـيها الـظالم الإثـم

لا يـطغين بـني الـعباس ملكهم

بـنو عـلي مواليهم، وإن رغموا

أتـفخرون عـليهم لا أبـا لـكم

حـتى كـأن رسـول الله جـدكم

ومـا تـوازن يـوماً بينكم شرف

ولا تـساوت لـكم في موطن قدم

ولا لـكم مـثلهم في المجد متصل

ولا لـجـدكم مـسـعاة جـدهـم

ولا لـعرقكم مـن عـرقهم شـبه

ولا نـثـيلتكم مـن أمـهم أمـم

قـال الـنبي بها (يوم الغدير) لهم

والله يـشهد، والأمـلاك، والأمـم

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها

بـاتت تـنازعها الذؤبان والرخم

وصـيروا أمـرهم شورى كأنهم

لا يـعـلمون ولاة الـحق أيـهم

تالله مـا جـهل الأقـوام موضعها

لـكنهم سـتروا وجه الذي علموا

ثـم ادعـاها بـنو العباس ملكهم

ومـا لـهم قـدم فـيها، ولا قـدم

لا يـذكرون إذا مـا معشر ذكروا

ولا يـحكم فـي أمـر لـهم حكم

ولا رآهـم أبـو بـكر وصاحبه

أهـلاً لـما طلبوا منها وما زعموا

فـهل هـم يـدعوها غير واجبة

أم هـل أئـمتهم في أخذها ظلموا

٣٩٧

أمــا عـلي فـقد أدنـى قـرابتكم

عـند الـولاية إن لـم تـكفر النعم

أيـنـكر الـحبر عـبد الله نـعمته

أبـوكـم، أم عـبـيد الله، أم قـثم

بـئس الجزاء جزيتم في بني حسن

أبـاهـم الـعـلم الـهادي، وأمـهم

لا بـيـعة ردعـتكم عـن دمـائهم

ولا يـمـين، ولا قـربى ولا ذمـم

هـلا صفحتم عن الأسرى بلا سبب

لـلصافحين بـبدر عـن أسـيركم

هـلا كـففتم عـن الديباج سوطكم

وعـن بـنات رسـول الله شـتمكم

مـا نـزهت لـرسول الله مـهجته

عـن الـسياط فـهلا نـزه الـحرم

مـا نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تـلـك الـجـرائر إلا دون نـيلكم

كـم غـدرة لـكم في الدين واضحة

وكــم دم لـرسـول الله عـندكم

أأنـتـم آلـه ـرون وفـي

أظـفاركم مـن بـنيه الطاهرين دم

هـيهات لا قـربت قربى ولا رحم

يـوماً إذا أقـصت الأخلاق والشيم

كـانت مـودة سـلمان لـهم رحماً

ولـم تـكن بـين نـوح وابنه رحم

يـا جـاهداً فـي مـساويهم يكتمها

غـدر الـرشيد بـيحيى كيف ينكتم

ذاق الزبيري عبء الحنث وانكشفت

عـن ابـن فـاطمة الأقوال والتهم

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا

مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم(١)

بـاؤا بـقتل الـرضا من بعد بيعته

وأبـصروا بعض يوم رشدهم وعموا

يـا عصبة شقيت من بعد ما سعدت

ومـعشر هـلكوا مـن بعد ما سلموا

لـبئسما لـقيت مـنهم وإن بـليت

بـجانب الـطف تلك الأعظم الرمم

____________

(١) كان هذا البيت مقدما على الذي قبله في بعض مصادر هذه القصيدة. لكن الصواب تأخيره، ليتحد السياق، وينسجم المعنى..

٣٩٨

لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا

ولا الـهبيري نجى الحلف والقسم

ولا الأمان لأهل الموصل اعتمدوا

فـيه الـوفاء، ولا عن غيهم حلموا

أبـلغ لـديك بـني الـعباس مألكة

لا تـدعوا مـلكها مـلاكها العجم

أي الـمفاخر أمـست في منابركم

وغـيركم آمـر فـيها، ومـحتكم

أنـى يـفيدكم فـي مـفخر عـلم

وفـي الـخلاف عليكم يخفق العلم

يـا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم

لـمعشر بـيعهم يـوم الـهياج دم

خـلوا الـفخار لعلامين إن سئلوا

يـوم الـسؤال، وعمالين إن علموا

لا يـغضبون لغير الله إن غصبوا

ولا يـضيعون حكم الله إن حكموا

تـنشى الـتلاوة في أبياتهم سحراً

وفـي بـيوتكم الأوتـار والـنغم

إذا تـلـوا آيــة غـني إمـامكم

قـف بـالديار الـتي لم يعفها قدم

مـنكم عُـلّية أم مـنهم، وكان لكم

شـيخ الـمغنين إبـراهيم، أم لهم

مـا فـي بـيوتهم للخمر معتصر

ولا بـيـوتهم لـلـشر مـعتصم

ولا تـبيت لـهم خـنثى تـنادمهم

ولا يـرى لـهم قـرد لـه حـشم

الـركن والـبيت والأستار منزلهم

وزمـزم والـصفا والحجر والحرم

ولـيس مـن  ي الذكر نعرفه

إلا وهـم دون شـك ذلـك الـقسم

وبذلك ينتهي هذا الكتاب، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين..

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٣٩٩

الفهرست

الإهداء ٢

مقدمة الطبعة الثانية: ٣

الجديد في الكتاب: ٤

تقديم: ٥

تمهيد. ٦

صلة الماضي بالحاضر والمستقبل: ٦

لماذا كان تدوين التاريخ: ٧

ونحن. هل نملك تاريخاً!! ٧

تقسيم الكتاب.. باختصار.. ١٠

القسم الأول. ١٠

ممهدات.. ١٠

قيام الدولة العباسية ١١

العلويون في الماضي البعيد.. ١١

العرش الأموي في مهب الريح. ١١

دولة بني العباس في صحيفة ابن الحنفية: ١٧

مدى سرية الدعوة: ٢١

لا بد من ربط الثورة بأهل البيت.. ٢٣

المراحل التي مرت بها عملية الربط: ٢٤

مصدر الخطر على العباسيين. ٥٠

العلويون هم مصدر الخطر: ٥٠

عقدة الحقارة لدى العباسيين: ٥٨

سياسة العباسيين ضد العلويين. ٥٩

مما سبق: ٥٩

تطوير نظرية الإرث: ٦٠

تشجيع الخلفاء لهذا الاتجاه: ٦٤

٤٠٠