الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)9%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201353 / تحميل: 8420
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إليك يا أعز من في الوجود عليّ.. يا من تعيش لأجلي، وتشعر بآلامي، وتحس بمشاكلي.. دون أن أراك، ودون أن أعرف مكانك، بل وحتى دون أن أفطن في كثير من الأحيان لوجودك.

إليك يا أملي الحي، الذي يمدني بالقوة، ويجدد في العزيمة ويا قبس الهدى والنور، الذي لولاه لكنت أعيش في الظلام، ظلم الوحدة، والحيرة، والضياع.

إليك يا من تملأ الأرض قسطاً، وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً، وجوراً.

إليك يا سيدي، ومولاي، يا صاحب الزمان. أرفع كتابي هذا راجياً منك القبول.

جعفر

٢

مقدمة الطبعة الثانية:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

فهذه هي الطبعة الثانية لهذا الكتاب، نخرجها إلى القراء الكرام، بعد حوالي ثلاث سنوات من ظهور طبعته الأولى، التي نفدت نسخها بسرعة.

وإنني إذ أعتز بإقبال القراء على هذا الكتاب، لا يسعني إلاّ أن أقف موقف التقدير والإكبار لهذه الرغبة الصادقة منهم في الاطلاع والمعرفة، وهو أمر يبعث على الأمل، ويبشر بمستقبل مشرق إن شاء الله تعالى..

هذا الكتاب:

لقد جاء التفكير في هذا الكتاب في نفس الوقت الذي نشرت فيه مجلة لبنانية مقالاً لبعض السطحيين، من طالبي الشهرة والمال!! يتهجم فيه على ساحة قدس الإمامين العظيمين: الحسن المجتبىعليه‌السلام ؛ لصلحه مع معاوية.. والإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لقبوله بولاية العهد، من قبل المأمون العباسي..

٣

فأما قضية الصلح فقد كان قد بحثها الباحثون، واهتم بها العلماء والمؤرخون، وكشفوا عن جانب كبير من ظروفها وملابساتها، ومن هنا فقد انصب اهتمامي آنئذ على بحث قضية ولاية العهد، والتي كان البحث فيها شاقاً وصعباً للغاية، لأسباب لا يجهلها من له أدنى اطلاع على واقع الكتب التاريخية، ومؤلفيها، وظروف تأليفها..

ولعل ذلك المقال نفسه أيضاً، قد كان هو الحافز لسماحة العلامة البارع، السيد محمد جواد فضل اللهرحمه‌الله ، ليكتب كتابه الشيق، الذي أسماه: (حياة الإمام الرضاعليه‌السلام )، وعقد فيه فصلاً للحديث عن ولاية العهد أيضاً؛ فشكر الله سعيه، وتغمده برحمته، وجزاه خير جزاء المحسنين..

الجديد في الكتاب:

وأود أن أشير هنا، إلى أنه.. إما لسوء حظي، أو لحسن حظ القارئ!! لم تتهيأ لي الفرصة لإعادة النظر في الكتاب من جديد، بشكل يسمح لي بالتعديل والتطوير فيه؛ ولذا فقد اكتفيت بإصلاح كثير من الأخطاء المطبعية، مع زيادات طفيفة، لا تكاد تذكر.

تنبيه وختام:

وبعد هذا.. فإنني أود أن أنبه: على أن كلمة (التشيع) الواردة في هذا الكتاب لا يراد بها المعنى الخاص إلاّ نادراً.. كما أن المقصود من كلمة: (علوي) و(علويين) هو كل من يتصل نسبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبنائه الطيبين الطاهرين..

وفي الختام.. فإنني أعود فأكرر رجائي الأكيد من كل القراء الكرام أن يكتبوا إلي بملاحظاتهم، ووجهات نظرهم، وأنا لهم من الشاكرين.

والحمد لله، وله المنة، وبه الحول، وعليه التكلان.

٢٣/١/١٤٠٠ ه‍ ق

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٤

تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين:

وبعد:

فقد كان هذا الكتاب نتيجة دراسة استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر. وهو يبحث في ظروف وأسباب حدث تاريخي هام في التاريخ الإسلامي.. إلاّ وهو: (أخذ البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد للمأمون).

ورغم الأهمية البالغة لهذا الحدث، وكونه جديراً بالدراسة، والبحث، والتمحيص. فإننا رأينا المؤرخين الباحثين ـ ولأسباب مختلفة ـ يضربون عنه صفحا، ويحاولون تجاهله، والتقليل من أهميته.

وعلى كل حال.. ومهما كانت الحقائق التي أوردتها في هذا الكتاب موافقة لهوى قوم، ومثيرة لحنق آخرين.. فإن ما أريد أن أؤكد عليه هو:

إنني لثقتي من نفسي بأنني ما ادخرت وسعاً، ولم آل جهداً في تمحيص الحقائق، وإبراز المعالم الأصيلة للصورة، التي أريد ـ لسبب أو لآخر ـ طمسها، وتشويه معالمها، وأيضاً لحسن ظني بالقارئ، وثقتي بنزاهته، ونظرته الواعية.

من أجل ذلك أقول ـ وبكل رضاً، وارتياح، واطمئنان ـ: إنني لا أريد أن أفرض ما في هذا الكتاب من آراء، واستنتاجات على أحد.. بل سوف أترك الحكم في ذلك للقارئ نفسه، الذي يمتلك كامل الحرية في أن يقبل، أو أن يرفض، إذا اقتضى الأمر أياً من الرفض، أو القبول.

والله ولينا. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

جعفر مرتضى الحسيني

٥

تمهيد

صلة الماضي بالحاضر والمستقبل:

.. بديهي أن بعض الأحداث التاريخية، التي تمر بالأمة، تؤثر تأثيراً مباشراً، أو غير مباشر في واقعها، إن حاضراً، وإن مستقبلاً. بل وقد تؤثر في روح الأمة، وعقلها، وتفكيرها.. ومن ثم على مبادئها العامة، التي قامت عليها قوانينها ونظمها، التي تنظم لها مسيرتها، وتهيمن على سلوكها.. فقد تقوي من دعائمها، وتؤكد وجودها، واستمرارها، وقد تنسفها من أسسها، إن كانت تلك المبادئ على درجة كبيرة من الضعف والوهن في ضمير الأمة ووجدانها. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام. فمثلاً.. نلاحظ أن الاكتشافات الحديثة، والتقدم التقني قد أثر أثراً لا ينكر حتى في عاطفة الإنسان، التي يفرضها، واقع التعايش. وحتى في مواهبه وملكاته، فضلاً عن سلوكه، وأسلوب حياته. وحيث إن المبادئ الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الإنسان ووجد أنه، ولم تخرج عن المستوى الشكلي في حياته العملية ـ وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحياناً في دورات تاريخية قصيرة ـ نرى أنها بدورها قد تأثرت بذلك، ونسفت أو كادت من واقع هذه الأمة، وعدمت أو كادت من دائرة حياتها. وليكون البديل ـ من ثم ـ عنها لدى هذا الكائن هو (الذاتية) الكافرة بكل العواطف الاجتماعية، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة، التي لا ترحم ولا ترثي، ولا تلين، لا يجد لذة العاطفة، ولا حلاوة الرحمة، وليعود الإنسان ـ بعد لأي ـ متشائما حاقدا، لا يثق بمستقبله، ولا يأمن من يحيط به، ولا يطمئن إلى أقرب الناس إليه.وبطبيعة الحال، سوف يتأثر النشء الجديد بذلك، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه. وهكذا.. وهكذا.. فإن الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلاً، أو أكثر قد نجد له آثارا بارزة، حتى في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم وإذن.. فنستطيع أن نستخلص من هذا: أن الأحداث التاريخية مهما بعدت، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع الأمة، وفي تصرفاتها،وفي حياتها، وسلوكها على المدى الطويل. وتتحكم ـ إلى حد ما ـ في مستقبلها،

٦

وإن العالم التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه المجتمع بالفعل، سواء في ذلك الأدبي منه. أو العلمي، أو الديني، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو غير ذلك.وغني عن القول هنا. أن التأثر بالأحداث يختلف من أمة لأخرى، ومن عصر لآخر.

لماذا كان تدوين التاريخ:

ومن هنا تبرز أهمية التاريخ. ونعرف أنه يلعب دوراً كبيراً في حياة الأمم، مما يجعلنا لا نجد كثير عناء في الإجابة على سؤال: لماذا عنيت الأمم على اختلافها بالتاريخ. تدويناً. ودرساً، وبحثاً، وتمحيصاً؟! فإن ذلك لم يكن إلاّ لأنها تريد أن تستفيد منه، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه، لتستفيد من ذلك لمستقبلها الذي تقدم عليه.. ولتكتشف منه عوامل رقيها. وانحطاطها، ولتنطلق من ثم لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة.. فمهمة التاريخ إذن ـ تاريخ الأمة المدون ـ هي: أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الأمة من أحوال وأوضاع، وأزمات فكرية، واقتصادية، وظروف سياسية: واجتماعية، وغير ذلك.

ونحن. هل نملك تاريخاً!!

ونحن أمة.. لكننا لا نملك تاريخاً ـ وأقصد بذلك كتب التاريخ ـ نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا المضمار، لأن أكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، والهوى المذهبي، والتزلف للحكام، وأقصد بـ‍ (النظرة الضيقة) عملية ملاحظة الحدث منفصلاً عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف على حقيقته وواقعه.

نعم.. إننا بمرارة ـ لا نملك تاريخاً نستطيع أن نستفيد منه الكثير، لأن المسيرة قد انحرفت، والأهواء قد لعبت لعبتها(١) وأثرت أثرها المقيت

____________

(١) ومن أراد أن يعرف المزيد عن ذلك، فليراجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية من ص ٧٢ إلى ص ٧٩ والغدير ج ٥ ص ٢٠٨ إلى ص ٣٧٨، و ج ١١ من ص ٧١، إلى ص ١٠٣، و ج ٩ من ص ٢١٨ إلى آخر المجلد، وغير ذلك من مجلدات هذا الكتاب وصفحاته والاحتجاج للطبرسي، وخمسون ومئة صحابي مختلق للعسكري، وغير ذلك كثير..

٧

البغيض، حتى في تدوين التاريخ نفسه. وإنه لما يدمي قلوبنا، ويملأ نفوسنا أسى وألما، أن نكون قد فقدنا تاريخنا، ودفناه تحت ركام من الأنانيات. والعصبيات، والأطماع الرخيصة، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء، والذكريات الشجية.

ومرة أخرى أقول: إن كل ما لدينا هو ـ فقط ـ تاريخ الحكام والسلاطين، الذين تعاقبوا على كراسي الحكم، وحتى تاريخ الحكام هذا، رأيناه مشوهاً، وممسوخاً، حيث لم يستطع أن يعكس بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام، وأعمالهم وتصرفاتهم. وما ذلك إلاّ لأن المؤرخين لم يكونوا أحراراً في كتابتهم للتاريخ، بل كانوا يؤرخون ويكتبون حسب ما يريده الحكام أنفسهم، ويخدم مصالحهم.

إما رهبة من هؤلاء الحكام، أو رغبة، أو تعصباً لمذهب، أو لغيره. ومن هنا.. فليس من الغريب جداً أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة، حتى لا يفوته شيء منه، أو يختلق ويفتعل أحداثاً لم يكن لها وجود إلاّ في عالم الخيالات والأوهام، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر، بل قد لا يكون لهم وجود أصلاً.. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها مكانتها، وخطرها في التاريخ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه.. ويهمل أو يشوه أحداثاً ذات أهمية كبرى.

صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره. ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الأمة، ومستقبلها، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان، والإبهام.

ومن تلك الأحداث..

وفي طليعة تلك الأحداث التي كان نصيبها ذلك: (البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد) من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون!.

هذا الحدث الذي لم يكن عاديا، وطبيعيا، كسائر ما يجري وما يحدث، والذي كان نصيبه من المؤرخين أن يتجاهلوه، ويقللوا ما أمكنهم من أهميته، وخطره، وأن يحيطوا أسبابه ودوافعه، وظروفه بستائر من الكتمان. وعندما كانت تواجههم الأسئلة حوله تراهم يرددون تلك التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس، دون أن يكون من بينها ما يقنع، أو ما يجدي..

إلا أننا مع ذلك، لم نعدم في هذا الذي يسمى، ب‍ـ (التاريخ) بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا وهناك، التي تلقي لنا ضوءاً ، وتبعث فينا الرجاء والأمل بالوصول إلى الحقائق التي خشيها الحكام، فقضوا عليها ـ بكل قسوة وشراسة ـ بالعدم، والاندثار..

٨

ولو فرض: أنه كان للمؤرخين القدامى العذر ـ إلى حد ما ـ في تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، لظروف سياسية، واجتماعية، ومذهبية معينة.. فإن من الغريب حقاً أن نرى الباحثين اليوم ـ مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع. ـ يحاولون بدورهم تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، عن قصد أحياناً، وعن غير قصد أخرى، وإن كنا نستبعد هذا الشق الأخير، إذ أننا نشك كثيراً في أن لا يسترعي حدث غريب كهذا انتباههم، ويلفت أنظارهم.

وأياً ما كان السبب في ذلك، فإن النتيجة لا تختلف، ولا تتفاوت، إذ أنها كانت في الواقع الخارجي سلبية على كل حال.

وبدافع من الشعور بالواجب

ومن هنا.. وبدافع من الشعور بالمسؤولية، رأيت أن أقوم بدراسة لهذا الحدث بالذات، للتعرف على حقيقة دوافعه وأسبابه، وواقع ظروفه وملابساته.

وكانت نتيجة تلك الدراسة، التي استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر هي: هذا الكتاب الذي بين يديك..

ولا أدعي: أن كل ما في هذا الكتاب من آراء واستنتاجات، لا تعدو الحقيقة، ولا تشذ عن الصواب.

ولا أدعي أيضاً: أنني استطعت أن أضع يدي على كل خيوط القضية، وأن أنفذ إلى جميع جذورها العميقة والرئيسة، فإن ذلك ليس من الأمور السهلة بالنسبة لأي حدث تاريخي مضى عليه العشرات والمئات من السنين، فكيف إذا كان إلى جانب ذلك مما قد أريد له ـ كما قلنا ـ أن تبقى دوافعه وأسبابه طي السرية والكتمان، وظروفه وملابساته رهن الإبهام والغموض..

لا.. لا أدعي هذا، ولا ذاك. وإنما أقول: إن هذا الكتاب قادر ـ ولا شك ـ على أن يرسم علامة استفهام كبيرة حول (طبيعية) هذا الحدث، وحول المأمون، ونواياه، وتصرفاته المشبوهة. وإنه ـ على الأقل يمكن أن يعتبر خطوة على طريق الكشف الكامل عن جميع الحقائق، والتعرف على كافة العوامل والظروف، التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام.

٩

تقسيم الكتاب.. باختصار..

ومن أجل استيفاء البحث من جميع جوانبه، كما لا بد لنا من تقسيم الكتاب إلى أقسام أربعة:

الأول:

يتناول قيام الدولة العباسية، وأساليب دعوتها، ويعطي لمحة عن موقف العلويين، والعباسيين، كل منهما من الآخر، وردود الفعل لذلك، وغير ذلك من أمور..

الثاني:

يبحث حول ظروف البيعة، وأسبابها، ونتائجها.

الثالث:

يتكفل بإلقاء أضواء كاشفة عن المواقف، سواء بالنسبة إلى المأمون، أو بالنسبة إلى الإمامعليه‌السلام ..

الرابع:

نعرض فيه لبعض الأحداث التي تلقي لنا ضوءاً على حقيقة نوايا المأمون، وتكشف لنا عن بعض مخططاته.. وغير ذلك مما يتصل بذلك، ويرتبط به، بنحو من الارتباط والاتصال..

هذا:

وقد وضعنا في آخر الكتاب بعض الوثائق التاريخية الهامة، التي آثرنا أن يطلع القارئ بنفسه على نصها الكامل..

ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً. ويهدينا سبيل الرشاد..

القسم الأول

ممهدات..

١ ـ قيام الدولة العباسية.

٢ ـ مصدر الخطر على العباسيين.

٣ ـ سياسة العباسيين ضد العلويين.

٤ ـ سياسة العباسيين مع الرعية..

٥ ـ فشل سياسة العباسيين ضد العلويين.

١٠

قيام الدولة العباسية

العلويون في الماضي البعيد..

بعد أن أمعن الأمويون في الانحراف عن الخط الإسلامي القويم، وأصبح واضحاً لدى كل أحد، أن هدفهم ليس إلاّ الحكم والسيطرة، والتحكم بمقدرات الأمة وإمكاناتها.. وأن كل همهم كان مصروفا إلى الملذات والشهوات، أينما كانت، وحيثما وجدت.. وليس لمصلحة الأمة، وسعادتهما، ورفاهها عندهم أي اعتبار..

وبعد أن لجوا في عدائهم لأهل البيتعليهم‌السلام ، وبلغوا الغاية فيهم، قتلاً، وعسفاً، وتشريداً، وخصوصاً ما كان منهم في وقعة كربلاء التي لم يعرف التاريخ أبشع، ولا أفظع منها.. وجعلهم لعن عليعليه‌السلام سنة لهم. يشب عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.. ثم ملاحقتهم لولده، ولكل من يتشيع لهم. تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، ليعفوا منهم الآثار، ويخلو منهم الديار.

بعد كل هذا.. وبفضل جهاد أهل البيت المتواصل، في سبيل توعية الأمة، وتعريفها بأحقيتهم، وبحقيقة، وواقع تلك الطغمة الفاسدة.. كان من الطبيعي أن ينمو تعاطف الناس مع أهل البيت

ويزيد، كلما ازداد نفورهم من الأمويين، ونقمتهم عليهم، وذلك تبعاً لتزايد وعيهم. وتكشف الحقائق لهم، ولأنهم أدركوا من واقع الأحداث التي مرت بهم: أن أهل البيتعليهم‌السلام هم: الركن الوثيق، الذي لا نجاة لهم إلاّ بالالتجاء إليه، وذلك الأمل الحي، الذي تحيا به الأمة، وتحلو معه الحياة..

العرش الأموي في مهب الريح

ولهذا نجد: أن الثورات والفتن ضد الحكم الأموي كانت تظهر من كل جانب ومكان. طيلة فترة حكمهم، حتى أنهكت قواهم، وأضعفتهم إلى حد كبير، وفنوا وأفنوا، حتى لم يعد باستطاعتهم ضبط البلاد، ولا السيطرة على العباد..

١١

وكانت تلك الثورات تتخذ الطابع الديني على العموم، مثل: ثورة أهل المدينة المعروفة بـ‍ (وقعة الحرة) وثورة قراء الكوفة والعراق، المعروفة بـ‍ (دير الجماجم) سنة ٨٣ ه‍.. وقبلها ثورة المختار والتوابين سنة ٦٧ ه‍. وأيضاً ثورة يزيد بن الوليد مع المعتزلة على الوليد بن يزيد، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنة ١٢٦ ه‍. وكذلك ثورة عبد الله بن الزبير، الذي تغلب على البلاد ما عدا دمشق، وما والاها مدة من الزمن.. ثم الثورة التي قامت ضد هشام في إفريقيا.

وثورة الخوارج بقيادة المتسمي بـ‍ (طالب الحق) سنة ١٢٨ ه‍. وأيضاً ثورة الحارث بن سريح في خراسان، داعياً إلى كتاب الله، وسنة رسوله سنة ١١٦ ه‍. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه..

وأما ما كان منها بدافع غير ديني، بل من أجل الحكم، والسلطان، فنذكر منها على سبيل المثال: ثورة آل المهلب سنة ١٠٢ ه‍. وثورة مطرف بن المغيرة..

وأما في زمن مروان

وفي زمن مروان بن محمد الجعدي، المعروف بمروان الحمار، كان الوضع في السوء والتدهور قد بلغ الغاية، وأوفى على النهاية، حيث بلغ من انشغال مروان بالثورات والفتن، التي كانت قد شملت أكثر الأقطار: أنه لم يستطع أن يصغي إلى شكوى عامله في خراسان نصر بن سيار، الذي كان بدوره يواجه الثورات والفتن، ومن جملتها دعوة بني العباس، التي كانت تزداد قوة يوماً بعد يوم. بقيادة أبي مسلم الخراساني.

١٢

من خلال الأحداث.

كل ذلك يكشف عن مدى تبرم الناس بحكم بني أمية، وبسلطانهم، الذي كان قائماً على أساس من الظلم والجور، والابتزاز، والتحكم بمقدرات الأمة، وإمكاناتها.. ويتضح لنا ذلك جليا إذا لاحظنا: أن ما كان يتقاضاه الولاة لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، ويكفي مثالاً على ذلك أن نشير إلى أن خالداً القسري، كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره (٢٠ ) مليون درهم، بينما ما كان يختلسه كان يتجاوز الـ (‍١٠٠) مليون(١) ، وإذا كان هذا حال الولاة، فكيف ترى كان حال الخلفاء، الذين كانوا يحقدون على كل القيم، والمثل، والكمالات الإنسانية،.. والذين وصف الكميت رأيهم في الناس، فقال:

رأيــه فـيهم كـرأي ذوي

الثلة في الثائجات جنح الظلام

جز ذي الصوف وانتقاء لذي

المخة، نعقاً ودعدعاً بالبهام(٢)

نعم.. لقد كانت الأمة قد اقتنعت اقتناعاً كاملاً ونهائياً: بأن بني أمية ليس لهم بعد حق في أن يفرضوا أنفسهم قادة للأمة، ولا روادا لمسيرتها، لأن نتيجة ذلك ستكون ـ حتما ـ هي جر الأمة إلى الهاوية. حيث الدمار والفناء، فلفظتهم، وانقلبت عليهم، تأخذ منهم بعض الحقوق التي لها عندهم، إلى أن تمكنت أخيراً من أن تخلي منهم الديار، وتعفي منهم الآثار..

وكان نجاح العباسيين طبيعياً..

ومن هنا نعرف: أن نجاح العباسيين في الاستيلاء على مقاليد الحكم ـ

____________

(١) السيادة العربية ص ٣٢، ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم. وفي البداية والنهاية ج ٩ ص ٣٢٥: أن دخل خالد القسري كان في كل سنة ( ١٣) مليون دينار، ودخل ولده يزيد بن خالد كان (١٠) ملايين دينار سنويا، ولا بأس بمطالعة كتاب السيادة العربية، ليعرف ما أصاب، وخصوصاً العراقيين والخراسانيين في عهد الأمويين.

(٢) الهاشميات ص ٢٦، ٢٧. والثلة: القطعة الكثيرة من الضان. والثائجات: الصائحات. وانتقاء: اختيار، وأراد بذي المخة: السمينة، ونعقاً: أي صياحاً. والدغدغة: زجر البهائم.

يقول: رأي الواحد من هؤلاء الخلفاء في رعيته، ومعاملته لها كرأي أصحاب الغنم في غنمهم، فلا يراعون العدل، ولا الإنصاف فيهم..

١٣

في ذلك الحين ـ لم يكن ذلك الأمر المعجزة، والخارق للعادة. بل كان أمراً طبيعياً للغاية، إذا ما أخذت الحالة الاجتماعية، والظروف والملابسات آنئذٍ بنظر الاعتبار، فإن الأمة كانت مهيأة نفسيا لقبول التغيير، أي تغيير. بل كانت تراه أمراً ضرورياً، لا بد منه، ولا غنى عنه، إذا كانت تريد لنفسها الحياة الفاضلة، والعيش الكريم.

ولهذا.. فليس من الغريب أن نقول: إنه كان بإمكان أية ثورة أن تنجح، لو أنها تهيأت لها نفس الظروف، وسارت على نفس الخط، واتبعت نفس الأساليب، التي اتبعها العباسيون في دعوتهم، وثورتهم. ونستطيع أن نتبين أساليب العباسيين تلك في ثلاثة خطوط عريضة وواضحة.

الخط الأول:

(كانوا يصورون أنفسهم على أنهم ما جاءوا إلاّ لينقذوا الأمة من شرور بني أمية، وظلمهم، وعسفهم، الذي لم يكن يقف عند حدود. وكانت دعوتهم تتخذ اتجاه التبشير بالخلاص، وأنهم سوف يقيمون حكماً مبدؤه العدل، والمساواة، والأمن والسلام. وقد كانت وعودهم هذه كسائر الوعود الانتخابية، التي ألفناها من ساسة العصر الحديث.. بل لقد كانت الأماني التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهير مسئولة إلى حد كبير عن ردود الفعل العنيفة، التي حدثت ضد الحكم العباسي بعد ذلك، حيث كان حكمهم قائماً على الطغيان المتعطش إلى سفك الدماء)(١) .

____________

(١) راجع: إمبراطورية العرب، للجنرال جلوب، ترجمة: خيري حماد.

١٤

الخط الثاني:

إنهم لم يعتمدوا كثيراً على العرب، الذين كانوا يعانون من الانقسامات الداخلية الحادة، وإنما استعانوا بغير العرب، الذين كانوا في عهد بني أمية محتقرين، ومنبوذين، ومضطهدين، ومحرومين من أبسط الحقوق المشروعة، التي منحهم إياها الإسلام. حتى لقد أمر الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلاّ عربي.. وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلاّ عربي(١) .. كما طرد غير العرب من البصرة، والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وا محمدا وا أحمدا. ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن نرى أهل البصرة يلحقون بهم، ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم(٢) بل لقد قالوا: (لا يقطع الصلاة إلا: حمار، أو كلب، أو مولى..)(٣) وقد أراد معاوية أن يقتل شطراً من الموالي، عندما رآهم كثروا، فنهاه الأحنف عن ذلك(٤) . وتزوج رجل من الموالي بنتا من أعراب بني سليم، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل،

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٤، والعقد الفريد ج ١ ص ٢٠٧، ومجلة الهادي، السنة الثانية العدد الأول ص ٨٩، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد ٢ جزء ٤ ص ٣٤٣.

(٢) السيادة العربية ص ٥٦، ٥٧، ولا بأس بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول ج ٢ ص ٢٧٤.

(٣) العقد الفريد طبع مصر سنة ١٩٣٥ ج ٢ ص ٢٧٠، وتاريخ التمدن الإسلامي جزء ٤ ص ٣٤١.

(٤) المصدران السابقان...

١٥

فشكا إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بينه وبين زوجته، وضربه مأتي سوط، وحلق رأسه، وحاجبه، ولحيته. فقال محمد ابن بشير في جملة أبيات له:

قضيت بسنة وحكمت عدلاً

ولم ترث الخلافة من بعيد(١)

ولم تفشل ثورة المختار، إلاّ لأنه استعان فيها بغير العرب، فتفرق العرب عنه لذلك(٢) ويقول أبو الفرج الأصفهاني: (.. كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية، إذا جاء العربي من السوق، ومعه شيء، ورأى مولى، دفعه إليه، فلا يمتنع)(٣) .

بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولدين، الذين ولدوا من أمهات أعجميات(٤) .

وأخيراً.. فإن البعض يقول: إن قتل الحسين كان: (الكبيرة، التي هونت على الأمويين أن يقاوموا اندفاع الإيرانيين؟ إلى الدخول في الإسلام)(٥) .

وبعد هذا.. فإن من الطبيعي أن يبذل الموالي أرواحهم، ودماءهم وكل غال ونفيس في سبيل التخلص من حكم يعاملهم هذه المعاملة، وله فيهم هذه النظرة، فاعتماد الدعوة العباسية على هؤلاء كان منتظراً

____________

(١) الأغاني ج ١٤ ص ١٥٠، وضحى الإسلام ج ١ ص ٢٣، ٢٤.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٤٠، ولا بأس أيضاً بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي، والمجلد الأول، الجزء الثاني ص ٢٨٢، ٢٨٣.

(٣) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥.

(٤) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥، والعقد الفريد ج ٦ ص ١٣٠، ١٣١، طبعة ثالثة، ومجلة الهادي، السنة الثانية، العدد الأول ص ٨٩.

(٥) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٩٥.

١٦

ومتوقعاً، كما أن اندفاع هؤلاء في نصرة الدعوة العباسية كان متوقعاً، ومنتظراً أيضاً.

الخط الثالث:

إنهم ـ أعني العباسيين ـ قد حاولوا في بادئ الأمر أن يربطوا دعوتهم وثورتهم بأهل البيتعليهم‌السلام . وطبيعة البحث تفرض علينا أن نتوسع في بيان هذه النقطة بالذات وذلك لما لها من الأهمية البالغة، بالنظر لما تركته من آثار بارزة على مدى التاريخ، ولأنها كانت الناحية التي اعتمد العباسيون عليها اعتماداً كلياً، وتعتبر السبب الرئيس في وصول العباسيين إلى السلطة، وحصولهم على مقاليد الحكم.. ولهذا. فنحن نقول:

دولة بني العباس في صحيفة ابن الحنفية:

قد نقل ابن أبي الحديد(١) عن أبي جعفر الإسكافي: أنه قد صحت الرواية عندهم عن أسلافهم، وعن غيرهم من أرباب الحديث، أنه: لما مات علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، طلب محمد بن الحنفية من أخويه: الحسن، والحسين ميراثه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو أطلعاه على غيرها لهلك، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس. فصرح ابن الحنفية لعبد الله بن العباس بالأمر، وفصله له.

والظاهر أن تلك الصحيفة انتقلت منه لولده أبي هاشم، وعن طريقه وصلت إلى بني العباس. ويقال: إنها قد ضاعت منهم أثناء

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩، ١٥٠.

١٧

حربهم مع مروان بن محمد الجعدي(١) ، آخر خلفاء الأمويين. وقد ذكرت هذه الصحيفة في كلام بني العباس، وخلفائهم كثيراً، وسيأتي لها ذكر في رسالة المأمون للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

متى بدأ العباسيون دعوتهم، وكيف؟

وبعد هذا.. فإن الشيء المهم هنا هو تحديد الزمن الذي بدأ به العباسيون دعوتهم، وكيف؟

ونستطيع أن نبادر هنا إلى القول:

إن الذين بدءوا بالدعوة أولاً هم العلويون، وبالتحديد من قبل أبي هاشم، عبد الله بن محمد الحنفية، وهو الذي نظم الدعاة، ورتبهم، وقد انضم تحت لوائه: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومعاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و عبد الله بن الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعهم على أمر دعاته.

وقد قرأ محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله تلك الصحيفة، المشار إليها آنفاً، ووجد كل منهما ذكراً للجهة التي هو فيها.

ولهذا نلاحظ: أن كلاً من محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله، قد ادعى الوصاية من أبي هاشم، مما يدل دلالة واضحة على أنه لم يخصص أياً منهما بالوصية، وإنما عرفهما دعاته فقط.

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩.

١٨

هذا. وبعد موت معاوية بن عبد الله، قام ابنه عبد الله يدعي الوصاية من أبيه. من أبي هاشم.. وكان له في ذلك شيعة، يقولون بإمامته سراً حتى قتل. وأما محمد بن علي فقد كان بمنتهى الحنكة والدهاء، وقد تعرف ـ كما قلنا ـ من أبي هاشم على الدعاة، واستطاع بما لديه من قوة الشخصية، وحسن الدهاء أن يسيطر عليهم، ويستقل بهم(١) ، ويبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، و يبعدهما عنهم. واستمر محمد بن علي يعمل بمنتهى الحذر والسرية. وكان عليه أن:

١ ـ يحذر العلويين، الذين كانوا أقوى منه حجة، وأبعد صيتاً. بل عليه أن يستغل نفوذهم ـ إن استطاع ـ لصالحه، وصالح دعوته. ولقد فعل ذلك هو وولده كما سيتضح.

٢ ـ وكان عليه أيضاً أن يتحاشى مختلف الفئات السياسية، التي لن يكون تعامله معها في صالحه، وفي صالح دعوته.

٣ ـ والأهم من ذلك أن يصرف أنظار الحكام الأمويين عنه، وعن نشاطاته، ويضللهم، ويعمي عليهم السبل.

ولذا فقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها. وأوصاهم بوصيته

____________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٠.

١٩

المشهورة، التي يقسم فيها البلاد والأمصار: هذا علوي، وذاك عثماني، وذلك غلب عليه أبو بكر وعمر، والآخر سفياني. إلى آخر ما سيأتي(١) .

وأمرهم ـ أعني الدعاة بالتحاشي عن الفاطميين، لكنه ظل هو شخصياً، ومن معه من العباسيين، الذين استنوا بسنته، وساروا من بعده بسيرته ـ ظلوا ـ يتظاهرون للعلويين بأنهم معهم، وأن دعوتهم لهم، ولم يكن إلا القليلون يعرفون بأنه: كان يدبر الأمر للعباسيين. وقد أعطى دعاته شعارات مبهمة، لا تعين أحداً، وصالحة للانطباق على كل فريق، كشعار: (الرضا من آل محمد) و(أهل البيت). ونحو ذلك.

____________

(١) ولقد بذل محمد بن علي جهداً جباراً في إنجاح الدعوة، وكانت أكثر نشاطاته في حياة والده، علي بن عبد الله، الذي يبدو أنه لم يكن له في هذا الأمر دور يذكر. وتوفي والده على ما يظهر في سنة ١١٨ ه‍. وكان قد بدأ نشاطاته، حسب ما بأيدينا من الدلائل التاريخية من سنة ١٠٠ ه‍. أي بعد وفاة أبي هاشم بسنتين. إذ في: سنة ١٠٠ ه‍. وجه محمد بن علي بن أرض الشراة ميسرة إلى العراق ووجه محمد بن خنيس، وأباً عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار إلى خراسان. وفيها أيضاً جعل اثني عشر نقيباً، وأمر دعاته بالدعوة إليه، وإلى أهل بيته.

وفي سنة ١٠٢ ه‍. وجه ميسرة رسله إلى خراسان، وظهر أمر الدعوة بها وبلغ ذلك سعيد خذينة، عامل خراسان، فأرسل، وأتى بهم، واستنطقهم، ثم أخذ منهم ضمناء وأطلقهم.

وفي سنة ١٠٤ ه‍. دخل أبو محمد الصادق، وعدة من أصحابه، من أهل خراسان إلى محمد بن علي، فأراهم السفاح في خرقة، وكان قد ولد قبل خمسة عشر يوما، وقال لهم (والله، ليتمن هذا الأمر، حتى تدركوا ثأركم من عدوكم).

وفي سنة ١٠٥ ه‍. دخل بكير بن ماهان في دعوة بني هاشم. وفيها مات ميسرة، فجعل محمد بن علي بكيراً هذا مكانه في العراق..

وفي سنة ١٠٧، أو ١٠٨ ه‍ وجه بكير بن ماهان عدة من الدعاة إلى خراسان، فظفر بهم عامل خراسان، فقتلهم، ونجا منهم عمارة، فكان هو الذي أخبر محمد ابن علي بذلك. وفي سنة ١١٣ ه‍. صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمان رجلاً منهم، فقتله، وقال: (من أصيب منهم فدمه هدر).

وفي سنة ١١٧ ه‍. أخذ عامل خراسان أسد بن عبد الله وجوه دعاة بني العباس، وفيهم النقباء، ومنهم سليمان بن كثير، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس آخرين. وفي سنة ١١٨ وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد ـ وهو خداش ـ والياً على شيعة بني العباس، فنزل مروا، ودعا إلى محمد بن علي ؛ ثم غلا..

وفي سنة ١٢٠ ه‍. وجهت شيعة بني العباس سليمان بن كثير إلى محمد بن علي في أمر خداش. وفي سنة ١٢٤ ه‍. قدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة. وفيها أيضاً اشترى بكير بن ماهان أبا مسلم. راجع في ذلك كله: تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج ٥ ص: ٣١٦، ٣٥٨، ٣٦٨، ٣٨٧، ٣٨٩، ٤٢٥، ٤٣٩، ٤٤٠، ٤٦٧، ٥١٢، وغير ذلك من كتب التاريخ.

٢٠

مدى سرية الدعوة:

والظاهر.. أن عبد الله بن معاوية كان من جملة أولئك المخدوعين بهذه الشعارات، إذ قد ذكر المؤرخون، ومنهم أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص ١٦٨، وغيره: أنه بعد أن استظهر ابن ضبارة على عبد الله ابن معاوية توجه عبد الله إلى خراسان، وكان أبو مسلم قد ظهر بها، فخرج إلى أبي مسلم طمعاً في نصرته! فأخذه أبو مسلم، فحبسه، ثم قتله..

وهذا يدل دلالة واضحة على أن عبد الله بن معاوية كان يظن أن أبا مسلم سوف ينصره، وأنه ـ يعني أبا مسلم ـ كان يدعو إلى أهل البيت، والرضا من آل محمد على الحقيقة، ولم يخطر في باله: أن الدعوة كانت للعباسيين، وبتدبير من أعظم داهية فيهم!!..

بل لعلنا نستطيع أن نقول: إن محمد بن علي قد استطاع أن يخفي هذا الأمر حتى عن ولديه: السفاح، والمنصور، ولذا نراهما قد التحقا مع جميع بني هاشم العباسيين والعلويين على حد سواء، وبعض الأمويين(١) ووجوه قريش بعبد الله بن معاوية الخارج سنة ١٢٧ ه‍. في الكوفة، ثم في شيراز، حيث تغلب على: فارس، وكورها، وعلى حلوان، وقومس، وأصبهان، والري وعلى مياه الكوفة، وعلى مياه البصرة، وعلى همدان، وقم، وإصطخر، وعظم أمره جداً(٢) .

وقد تولى المنصور من قبل عبد الله بن معاوية هذا على (إيذج)(٣) كما تولى غيره غير ذلك من الأمصار. فقبول المنصور لولاية (إيذج) من قبله، باعتباره من الهاشميين يكشف عن أنه لم يكن يعلم: أن والده كان ابتداءاً من سنة مئة، أي قبل خروج عبد الله بن معاوية بـ (٢٨) سنة يسعى جاهداً، ويشقى ويتعب في تدبير الأمر للعباسيين، وتركيز الدعوة لهم.. وإنما كان يعلم أن الدعوة كانت لأهل البيت، والرضا من

____________

(١) الأغاني ج ١١ ص ٧٤، ومقاتل الطالبيين ص ١٦٧، والوزراء والكتاب ص ٩٨.

(٢) راجع أنساب الأشراف ص ٦٣، والأغاني ج ١١ ص ٧٤، ومقاتل الطالبيين ص ١٦٧، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٥، ٢٦، و ص ٣، وعمدة الطالب، وزاد في تاريخ الجنس العربي: المدائن، ونيسابور.

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري ص ٦٣، وعمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب طبع بمبئي ص ٢٢، والوزراء والكتاب ص ٩٨ و ٩٩، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، وفيه: أن سليمان بن حبيب بن المهلب أخذه، فحبسه، وأراد قتله، فسلم المنصور منه بعد أن أشرف على القتل.. وليراجع الجهشياري أيضاً.

٢١

آل محمد المنطبق ـ بالطبع ـ على العلويين أكثر من غيرهم على الإطلاق.

وإلا فلو كان لمحمد بن علي دعوة واضحة، ومشهورة، ومتميزة، وكان المنصور يعلم بها لكان توليه لايذج من قبل عبد الله بن معاوية مضراً جداً في دعوة أبيه، وضربة قاضية لها..

اللهم إلا أن يكون ثمة غرض آخر أهم، فيكون ذلك منهم حنكة ودهاء ـ كأن يكون نظرهم إلى أنه: لو نجحت دعوتهم، فبها. وإلا.. فلو نجحت دعوة عبد الله بن معاوية، فباستطاعتهم أن يحتفظوا فيها بمراكزهم، ونفوذهم، إذ لهم أن يقولوا: إننا كنا من المعاونين والمساهمين في هذه الدعوة.. كما أن بذلك تنصرف أنظار الحكام عنهم، ويأمن العلويون جانبهم، فلا يناهضون دعوتهم ولا يقفون في وجهها. وبهذه الأسباب نستطيع أن نفسر بيعة العباسيين جميعاً، أكثر من مرة لمحمد بن عبد الله العلوي، وبه أيضاً نفسر جواب المنصور لسائله عن محمد بن عبد الله هذا، حيث قال: (هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن، مهدينا أهل البيت) ويأخذ بركابه. ويسوي عليه ثيابه(١) . وأيضاً قوله في مجلس البيعة لمحمد هذا: (ما الناس أصور أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم لهذا الفتى) كما سيأتي.

ومما يوضح أيضاً مدى تكتم العباسيين بأمر دعوتهم، أن: إبراهيم الإمام قد بشر بأنه قد أخذت له البيعة بخراسان ـ وهو في نفس الاجتماع الذي كان قد عقد ليجددوا فيه البيعة لمحمد بن عبد الله بن الحسن. وسيأتي المزيد من الشواهد لهذا أيضاً إن شاء الله تعالى. وهكذا. فإن النتيجة تكون هي: أن العباسيين ظلوا يتسترون بالعلويين، ويخدعونهم، على اعتبار أنهم لو نجحوا في دعوتهم السرية، فإن بيعتهم للعلويين، ودعوتهم، لهم لا تضرهم، وإذ ما فشلوا فإنهم سوف يحتفظون بنفوذهم ومراكزهم في دولة أبناء عمهم. هذا مجمل الكلام بالنسبة للدعوة العباسية، ولكن طبيعة البحث تفرض علينا التوسع في بيان المراحل التي مرت بها هذه الدعوة، ولاسيما فيما يتعلق بربطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، والعلويين، ومدى اعتمادهم على هذا الربط. فنقول:

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٢٣٩، ٢٤٠.

٢٢

لا بد من ربط الثورة بأهل البيت..

إن كان لا بد للعباسيين من ربط الثورة والدعوة بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث إنهم كانوا بحاجة إلى:

أولاً: صرف أنظار الحكام عنهم.

ثانياً: كسب ثقة الناس بهم، والحصول على تأييدهم لهم.

ثالثاً: أن لا تقابل دعوتهم بالاستغراب، والإستهجان، حيث إنهم لم يكونوا معروفين في أقطار، وأنحاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، ولا كان يعرف أحد لهم حقاً في الدعوة لأنفسهم، كما هو الحال بالنسبة إلى العلويين، مما يجعل الدعوة لهم مع وجود العلويين مستغربة ومستهجنة إلى حد ما.

رابعاً: ـ وهو أهم ما في الأمر ـ أن يطمئن إليهم العلويون، ويثقوا بهم. حتى لا تكون لهم دعوة في مقابل دعوتهم، لأن ذلك بلا شك سوف يضعفهم، ويوهن قوتهم، لما يتمتع به العلويون من نفوذ ومكانة في نفوس الناس بشكل عام.

ولهذا نرى أبا سلمة الخلال، يعتذر لأبي العباس السفاح، عن كتابته

للإمام الصادقعليه‌السلام ، بأن يجعل الدعوة باسمه، ويبايعه ـ يعتذر ـ بأنه: (كان يدبر استقامة الأمر(١) ).

نعم.. لقد كان لربطهم الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام أثر كبير في نجاح ثورتهم، وظهور دعوتهم. وقد أكسبها ذلك قوة ومنعة، وجعلها في منأى ومأمن من طمع الطامعين، وتطلع المتطلعين، الذين كانوا يرجون لأنفسهم حظا من الحياة الدنيا، وما أكثرهم. كما وأن ذلك قد أثر أثراً بالغاً في اكتسابهم عطف الأمة، وتأييدها، وخصوصاً الخراسانيين، الذين كانوا لا يزالون يعيشون الإسلام بعيداً عن أهواء المبتدعين، وتلاعب المتلاعبين، والذين: (وإن كانوا أقل غلواً -أي من أهل الكوفة- فقد كانوا أكثر حماسة للدعوة لأهل البيت)(٢) ، وذلك لأنهم لم يعاملوا معاملة حسنة في الواقع، ولم يسر فيهم بسيرة محمد والقرآن إلا علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧.

(٢) السيادة العربية، والشيعة، والإسرائيليات ص ١٠٦.

(٣) نفس المصدر ص ٣٩.

٢٣

كما أنهم لم ينسوا بعد ما لاقوه في الدولة الأموية من العسف والتنكيل، ولذا فمن الطبيعي أن نراهم مستعدين لتقبل أية دعوة لأهل البيتعليهم‌السلام ، والتفاعل معها، بل والتفاني في سبيلها. كما أن بلدهم كان بعيداً من مركز الخلافة بالشام ولم يكن فيه فرق وأحزاب متناحرة كالعراق الذي كان فيه شيعة وخوارج ومرجئة وغير ذلك، وكانت وطأة الحكم العباسي على العراق ومراقبتهم لكل حركة فيه أشد منها في خراسان.

وبالفعل لقد شيد الخراسانيون، الذين كانوا يحبون أهل البيتعليهم‌السلام أركان دولة بني العباس، وقامت خلافتهم على أكتافهم، واستقامت لهم الأمور بفضل سواعدهم، وأسيافهم، وسيأتي إن شاء الله المزيد من الكلام عن الإيرانيين، وعن سر تشيعهم، وخاصة الخراسانيين منهم في فصل: ظروف المأمون الخ. وغيره من الفصول..

المراحل التي مرت بها عملية الربط:

ولقد مرت عملية الربط هذه بثلاث مراحل أو أربع، طبقاً للظروف التي كانت قائمة آنذاك. وإن كانت هذه المراحل قد تبدو متداخلة. وغير مميزة في أحيان كثيرة(١) . إلا أن ذلك كان تبعاً للظروف المكانية، والزمانية، والاجتماعية، التي كانت تتفاوت وتختلف باستمرار إلى حد كبير.. وهذه المراحل هي:

الأولى: دعوتهم في بادئ الأمر (للعلويين) الثانية: دعوتهم إلى: (أهل البيت)، و(العترة).

الثالثة: دعوتهم إلى (الرضا من آل محمد).

الرابعة: ادعاؤهم الخلافة بالإرث، مع حرصهم على ربط الثورة بأهل البيت، بدعوى: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين. وليرفعوا عنهم الظلم الذي حاق بهم.

____________

(١) قال في العيون والحدائق ص ١٨٠: (وكان قد انتشر في خراسان دعاة من الشيعة، قد انقسموا قسمين: قسم منهم يدعو إلى آل محمد على الإطلاق، والقسم الثاني يدعو إلى أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وكان المتولي لهذه الدعوة إلى آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن كثير، وكان الدعاة يرجعون في الرأي والفقه إلى أبي سلمة الخ..).

٢٤

المرحلة الأولى:

وإذ قد عرفنا أن الدعوة كانت في بدء أمرها للعلويين، فلا يجب أن نستغرب كثيراً، إذا قيل لنا: إن جلة العباسيين، حتى إبراهيم الإمام، والسفاح، والمنصور كانوا قد بايعوا للعلويين أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، فإن ذلك ما كان إلا ضمن خطة مرسومة، وضعت بعناية فائقة، بعد دراسة معمقة لظروفهم مع العلويين خاصة، ومع الناس بشكل عام..

ويمكن أن نعتبر بيعتهم هذه هي المرحلة الأولى من تلك المراحل المشار إليها آنفاً..

فنراهم عدا تعاونهم الواضح مع عبد الله بن معاوية، قد بايعوا محمد بن عبد الله بن الحسن أكثر من مرة أيضاً، فقد:

(اجتمع آل عباس، وآل عليعليه‌السلام بالأبواء، على طريق مكة، وهناك قال صالح بن علي): إنكم القوم الذين تمتد إليهم أعين الناس، فقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاجتمعوا على بيعة أحدكم، فتفرقوا في الآفاق، فادعوا الله، لعل أن يفتح عليكم، وينصركم ، فقال أبو جعفر، أي المنصور: (لأي شيء تخدعون أنفسكم؟ والله، لقد علمتم: ما الناس أصور- أي أميل - أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى)، يريد محمد بن عبد الله العلوي. قالوا: (قد والله صدقت، إنا لنعلم هذا)، فبايعوا جميعاً محمداً، وبايعه إبراهيم الإمام، والسفاح، والمنصور، وصالح بن علي، وسائر من حضر (طبعاً ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ..).

وخرج دعاة بني هاشم عند مقتل الوليد بن يزيد، فكان أول ما يظهرونه فضل علي بن أبي طالب وولده، وما لحقهم من القتل، والخوف، والتشريد، فإذا استتب لهم الأمر ادعى كل فريق الوصية إلى من يدعو إليه..

ولم يجتمعوا (أي المتبايعون الآنف ذكرهم) إلى أيام مروان بن محمد، ثم اجتمعوا يتشاورون، إذ جاء رجل إلى إبراهيم الإمام، فشاوره بشيء، فقام وتبعه العباسيون، فسأل العلويون عن ذلك، فإذا الرجل قد قال لإبراهيم: (قد أخذت لك البيعة بخراسان، واجتمعت لك الجيوش..).

بل لقد بايع المنصور محمد بن عبد الله العلوي مرتين:

إحداهما: بالأبواء على طريق مكة.

والأخرى: بالمدينة.

٢٥

وبايعه مرة ثالثة أيضاً: في نفس مكة، وفي المسجد الحرام بالذات.

ومن هنا نعرف السبب في حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد ابن عبد الله العلوي، فإن ذلك لم يكن إلا بسبب ما كان له في أعناقهما من البيعة(١) .

____________

(١) قد اقتبسنا هذه النصوص كلها من كثير من المراجع، وخصوصاً: مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني، صاحب الأغاني ص ٢٣٣، ٢٣٤. ٢٥٦، ٢٥٧، ٢٩٥، وغيرها. وعلى كل فإن كون الدعوة العباسية كانت في بدء أمرها باسم العلويين، يبدو مما لا شك فيه، ومما اتفقت عليه كلمات المؤرخين، والنصوص التاريخية، التي سوف نشير إلى شطر منها في هذا الفصل..

ولا بأس أن يراجع بالإضافة إلى مقاتل الطالبيين في الصفحات المشار إليها: النصوص التي وردت في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٠، وتاريخ ابن خلدون ج ٤ ص ٣، و ج ٣، ص ١٨٧، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٦٤، ١٦٥، وتاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٣٩٧، ٣٩٨، والبحار ج ٤٧ ص ١٢٠ و ص ٢٧٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ٨٤، والخرائج والجرائح ص ٢٤٤، وجعفر ابن محمد، لعبد العزيز سيد الأهل ص ١١٥، فما بعدها، وغاية الاختصار ص ٢٢، وإعلام الورى ص ٢٧١، ٢٧٢، وإرشاد المفيد ص ٢٩٤، ٢٩٦، وكشف الغمة ج ٢ ص ٣٨٣، ٣٨٤، وابن أعثم الكوفي في كتابه: الفتوح على ما نقله في طبيعة الدعوة العباسية،. وأشار الطبري إلى ذلك في تاريخه ج ١٠ ص ١٤٣، فقال: قد ذكروا أن محمداً كان يذكر أبا جعفر ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة، حين اضطرب أمر بني مروان.. وأشار إلى ذلك أيضاً ابن الأثير ج ٤ ص ٢٧٠، ويراجع أيضاً شرح ميمية أبي فراس ص ١١٤، و ص ١٠٤. ١٠٥، وغير هؤلاء كثير.

٢٦

وقد ذكر أبو فراس الحمداني هذه البيعة في قصيدته المشهورة، المعروفة بـ (الشافية) فقال:

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن

أبـاهم الـعلم الـهادي وأمـهم

لا بـيعة ردعـتكم عـن دمائهم

ولا يـمين، ولا قـربى، ولا ذمم

وذكر ابن الأثير: أن عثمان بن محمد، بن خالد بن الزبير، هرب بعد مقتل محمد إلى البصرة، فأخذ وأتي به إلى المنصور، فقال له المنصور: يا عثمان، أنت الخارج علي مع محمد؟!. قال له عثمان: بايعته أنا وأنت بمكة، فوفيت ببيعتي، وغدرت ببيعتك. فشتمه المنصور، فأجابه، فأمر به فقتل(١) .

وذكر البيهقي: أنه لما حمل رأس محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور، من مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال لمطير بن عبد الله: (أما تشهد أن محمداً بايعني؟) قال: (أشهد بالله، لقد أخبرتني أن محمداً خير بني هاشم، وأنك بايعت له) قال: يا ابن الزانية الخ: وكانت النتيجة: أن المنصور أمر به، فوتد في عينيه، فما نطق!.(٢) إلى آخر ما هنالك من النصوص الكثيرة، التي يتضح معها بما لا مجال معه للشك: أن الدعوة كانت في بدء أمرها لخصوص العلويين، وباسمهم، ثم استغلت بعد ذلك لمصلحة العباسيين.

المرحلة الثانية:

ثم رأينا بعد ذلك: كيف أن الدعوة العباسية تستبعد العلويين.

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٢.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٤٨٢.

٢٧

وتتحاشى التصريح باسمهم، بطريقة فيها الكثير من الدهاء، والسياسة، حيث اقتصروا في دعوتهم ـ بعد ذلك ـ على أنها لـ‍ (أهل البيت)، و (العترة) وهذه هي المرحلة الثانية من المراحل الأربع التي أشرنا إليها.

وكان الناس لا يفهمون من كلمة:(أهل البيت) إلا العلويين، لانصراف الأذهان إليهم عند إطلاق هذه العبارة، وذلك بسبب الآيات والروايات الكثيرة، التي استخدمت هذا التعبير للدلالة عليهم، دون غيرهم.

فهذا أبو داود يقول للنقباء: (.. أفتظنونه ـ أي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خلفه ـ أي العلم ـ عند غير عترته، وأهل بيته، الأقرب، فالأقرب؟!. إلى أن قال: أفتشكون أنهم معدن العلم، وأصحاب ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!..)(١) .

وهذا أبو مسلم الخراساني القائم بالدولة العباسية، يكتب إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويقول: (إني دعوت الناس إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فيه، فأنا أبايعك؟).

فأجابه الإمامعليه‌السلام :((.. ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني)) ، ثم جاء أبو مسلم، وبايع السفاح، وقلده الخلافة(٢) .

وقال السيد أمير علي بعد أن ذكر ادعاء العباسيين للوصاية من أبي هاشم: (.. وقد لاقت هذه القصة بعض القبول في بعض المناطق الإسلامية. أما عند عامة المسلمين، الذين كانوا يتعلقون بأحفاد محمد،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ٩ ص ١٩٦١.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني، طبع مؤسسة الحلبي في القاهرة ج ١ ص ١٥٤، وطبع العنانية ص ٨٧، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨١، نقلاً عن: فصل الخطاب، لمحمد بارسا البخاري.

٢٨

فقد ظل دعاة العباسيين يؤكدون لهم أنهم يعملون لحساب: أهل البيت، وحتى ذلك الوقت كان العباسيون يظهرون الولاء التام لبني فاطمة، ويخلعون على حركتهم، وعلى سياساتهم مظهر الوصول إلى هدف ضمان العدالة، والحق لأحفاد محمد. وكان ممثلوا أهل البيت، ومحبوهم، ولا يخامرهم الشك في الغدر، الذي تبطنه هذه الاعترافات من العباسيين، فشملوا محمد بن علي، وجماعته بعطفهم وحمايتهم، الذين كانوا في حاجة إليهما)(١) .

ويقول: (.. وكانت كلمة: (أهل البيت) هي السحر الذي يؤلف بين قلوب مختلف طبقات الشعب، ويجمعهم حول الراية السوداء)(٢) .

المرحلة الثالثة:

ثم تأتي المرحلة الثالثة، ويتقلص ظل العلويين، وأهل البيت عن هذه الدعوة، أكثر فأكثر، كلما ازدادت قوتها، واتسع نفوذها، حيث رأينا أخيراً إنها اتسعت بحيث تستطيع أن تشمل العباسيين أيضاً مع العلويين. حيث أصبحت إلى: (الرضا من آل محمد)، وإن كانوا لا يزالون يذكرون فضل علي، وما لحق ولده من القتل والتشريد، كما يتضح بأدنى مراجعة لكتب التاريخ.

وهذه العبارة، وإن كانت لا تختلف كثيراً عن عبارة: (العترة، وأهل البيت)، ونحوها. (إلا أنها كانت في أذهان العامة أبعد من أن يراد بها العلويون على الخصوص. ولكن مع ذلك بقيت الجماهير

____________

(١) و(٢) روح الإسلام ص ٣٠٦ و ٣٠٨. ولا بأس بمراجعة ما ورد في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ جزء ٢ ص ٥٣٢. والسيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٩٤. وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وطبيعة الدعوة العباسية، وغير ذلك.

٢٩

تعتقد أن الخليفة سيكون علوياً، كما كان العلويون يعتقدون ذلك..)(١) على حد تعبير أحمد شلبي. وإذا صح هذا، وفرض ـ ولو بعيداً ـ أن شعار: الرضا من آل محمد لا يختلف عن شعار: العترة، وأهل البيت في أذهان عامة الناس، فلسنا نصر على جعل هذا مرحلة مستقلة، بل يكون داخلاً فيما سبقه، وتكون المراحل حينئذٍ ثلاثة، لا أربعة..

ملاحظات لا بد منها في المرحلة الثالثة:

وقبل الانتقال إلى الكلام على المرحلة الرابعة، والأخيرة، لا بد من ملاحظة أمور:

أ: إنهم في نفس الوقت الذي نراهم فيه يبعدون الدعوة عن أهل البيت، كما يدلنا عليه قول محمد بن علي العباسي لبكير بن ماهان: (وحذر شيعتنا التحرك في شيء مما تتحرك فيه بنو عمنا آل أبي طالب، فإن خارجهم مقتول، وقايمهم مخذول، وليس لهم من الأمر نصيب (وسنأخذ بثأرهم..)(٢) .

وكما يدلنا عليه ما رواه الطبري من أن محمد بن علي نهى دعاته عن رجل اسمه: غالب، لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة(٣) .

نراهم من جهة ثانية: وحتى لا يصطدموا بالعلويين وجهاً لوجه. كانوا في جميع مراحل دعوتهم يتكتمون جداً باسم الخليفة، الذي يدعون الناس إليه، وإلى بيعته، بل إن الشخص الذي كانوا يدعون

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية لأحمد شلبي ج ٣ ص ٢٠.

(٢) طبيعة الدعوة العباسية ١٥٢، نقلاً عن: مخطوطة العباسي ص ٩٣ أ، ٩٣ ب.

(٣) راجع: تاريخ الجنس العربي ج ٨ ص ٤١١.

٣٠

الناس إليه، وإلى بيعته.. بل وكان الناس يبايعونه ما كانوا يعرفونه، بل يعرفه الدعاة فقط، وعلى الناس أن يبايعوا إلى (الرضا من آل محمد) ولا بأس بمراجعة نص البيعة في تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، الجزء الأول ص ١٢٥.

ولعل هدفهم من ذلك كان أيضاً: هو أن لا يربطوا الدعوة بفرد معين، حتى لا تضعف إذا ما مات، أو اغتيل..

وعلى كل فقد نص ابن الأثير في الكامل ج ٤ ص ٣١٠، حوادث سنة ١٣٠ على أن أبا مسلم كان يأخذ البيعة إلى (الرضا من آل محمد). ومثل ذلك كثير في كلمات المؤرخين، وإليك بعض النصوص التاريخية، التي تدل على ذلك:

ففي الكامل، ج ٤ ص ٣٢٣ نص على أن محمد بن علي بعث داعياً إلى خراسان يدعو إلى (الرضا من آل محمد) ولا يسمي أحداً، ولعل الذي أرسله هو أبو عكرمة الآتي ذكره.

وقد قال محمد بن علي العباسي لأبي عكرمة: فلتكن دعوتك إلى: (الرضا من آل محمد)، فإذا وثقت بالرجل، في عقله، وبصيرته، فاشرح له أمركم.

وليكن اسمي مستوراً من كل أحد، إلا عن رجل عدلك في نفسك، وتوثقت منه، وأخذت بيعته.

ثم أمره بالتحاشي عن الفاطميين(١) .

ويقول أحمد شلبي: (.. كانوا - أي العباسيون - يوهمون العلويين بأنهم يعملون لهم. ولكنهم في الواقع كانوا يعملون لأنفسهم)(٢) .

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ١٥٥، نقلاً عن: CID. OP ص ٩٥ أ / ٩٥ ب.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٠.

٣١

ويقول أحمد أمين: (.. ومع هذا فكان من إحكام أمرهم أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الإمام، ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض)(١) .

ولو كان الخليفة معينا ومعروفاً عند الناس، لما استطاع أبو مسلم، وأبو سلمة، وسليمان الخزاعي، أن يكاتبوا الإمام الصادقعليه‌السلام ، وغيره من العلويين، أنهم يبايعونهم، ويجعلون الدعوة لهم. وباسمهم.

وقد تقدمت رسالة أبي مسلم للإمام الصادقعليه‌السلام ، التي يصرح فيها بأنه، إنما دعا الناس إلى موالاة أهل البيت فقط، أي من دون تصريح باسم أحد.

وقد قال أحدهم: كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ( ليس لكتابك جواب. أخرج عنا)(٢) .

وقال السيد أمير علي عن أبي مسلم: (وقد ظل إلى هذا الوقت موالياً، بل مخلصاً، بل متحمسا لأبناء علي)(٣) .

وقال صاحب قاموس الأعلام: (وعرض أبو مسلم الخراساني الخلافة ابتداءاً على الإمام الصادق، فلم يقبلها)(٤) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٣٨٠، ٣٨١.

(٢) روضة الكافي ص ٢٧٤، والبحار ج ٤٧ ص ٢٩٧.

(٣) روح الإسلام ص ٣٠٦.

(٤) راجع المجلد الأول، الجزء الأول من كتاب: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ص ٥٧، نقلاً عن: قاموس الأعلام ج ٣ ص ١٨٢١ طبع استانبول تأليف: ش. سامي.

ورغم أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات قامت باسم العلويين، على ما في كتاب: طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٥١، ٢٥٣، فإننا نعتقد أن رسائله هذه، ورسائله التي أرسلها إلى المنصور يظهر فيها الندم على أنه زوى الأمر عن أهله، ووضعه في غير محله. هي السر، والسبب الحقيقي الكامن وراء قتله، مع أنه مؤسس الدولة العباسية (ومن سل سيف البغي قتل به)، ومشيد أركانها. وقد استظهر ذلك أيضاً المستشرق العلامة (بلوشيه) على ما في كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٥١، وأشار إليه أيضاً السيد أمير علي في كتابه: روح الإسلام ص ٣١١.

٣٢

وأما أبو سلمة: فإنه عندما خاف من انتقاض الأمر عليه، بسبب موت إبراهيم الإمام، أرسل ـ والسفاح في بيته ـ إلى الإمام الصادقعليه‌السلام يطلب منه القدوم عليه ليبايعه، وتكون الدعوة باسمه، كما أنه كتب بمثل ذلك إلى عبد الله بن الحسن. لكن الإمامعليه‌السلام ، الذي كان في منتهى اليقظة والحزم. رفض الطلب، وأحرق الكتاب، وطرد الرسول(١) .

وقد نظم أبو هريرة الآبار، صاحب الإمام الصادقعليه‌السلام هذه الحادثة شعراً، فقال:

ولما دعا الداعون مولاي لم يكن

لـيثني إلـيه عـزمه بصواب

ولـما دعـوه بـالكتاب أجابهم

بـحرق الكتاب دون رد جواب

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٣، ٢٥٤، وينابيع المودة ص ٣٨١، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٦، والوزراء والكتاب ص ٨٦، وهامش ص ٤٢١ من إمبراطورية العرب، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٤، ١٥٥ وروح الإسلام ص ٣٠٨، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ٨٢، ٨٣، والكامل لابن الأثير.

ونقله في المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٢٢٩، والبحار ج ٤٧، ص ١٣٢ عن ابن كادش العكبري في: مقاتل العصابة. لكنهما (أعني المناقب والبحار) ذكرا أن الذي كتب للإمام هو أبو مسلم.. وفي المناقب ج ٤ آخر ص ٢٢٩، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣ نقلاً عن رامش الأفزاري أن الذي كتب إلى الإمام هو أبو مسلم الخلال!!.

وواضح أن هذا هو السبب الحقيقي لقتل أبي سلمة، وقد صرح بذلك جمع من المؤرخين والباحثين.

٣٣

وما كان مولاي كمشري ضلالة

ولا مـلبساً منها الردى بثواب

ولـكنه لـله في الأرض حجة

دليل إلى خير، وحسن مآب(١)

وكتب إليه أبو سلمة أيضاً مرة ثانية، عندما أقبلت الرايات: (إن سبعين ألف مقاتل وصل إلينا، فانظر أمرك). فأجابه الإمام بالرفض أيضاً(٢) .

وأما سليمان الخزاعي: المدبر الحقيقي للثورة في خراسان، فإنه اتصل بعبد الله بن الحسين الأعرج، وهما يسايران أبا جعفر المنصور في خراسان، عندما أرسله السفاح إليها، قال سليمان لعبد الله: (إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون!!)، فعلم أبو مسلم بالأمر، فقتل سليمان هذا(٣) .

بل إن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن كثيراً من الدعاة ما كانوا يعرفون: أن الخليفة سيكون عباسياً، فضلاً عن أن يكونوا يعرفونه باسمه الصريح.

قال الدكتور فاروق عمر: (على أننا نستطيع القول: إن اسم الإمام كان معروفا لدى الحلقات الخاصة من الشيعة الهاشمية، أو العباسية، وأن الكثير من الأنصار، الذين ساندوا الثورة، ومنهم ابن الكرماني نفسه، لم يكن يعرف أن (الرضا من آل البيت) سيكون عباسياً، مع أن ابن الكرماني كان قائداً كبيراً، وكان يطمع إلى الاستيلاء على

____________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٢٣٠، والبحار ج ٤٧، ص ١٣٣.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٤ ص ٢٢٩، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ ص ٤٧.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ١٣٢، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٢٥.

٣٤

خراسان..)(١) .

ب: يلاحظ أن العباسيين قد موهوا على الناس، واستطاعوا أن يخدعوهم. حيث خيلوا لهم في بادئ الأمر أن الثورة كانت للعلويين. ثم بدءوا يعدون العدة لما سوف يقولون للناس عند اكتشافهم لحقيقة الأمر، فصنعوا سلسلة الوصاية المعروفة عنهم من علي بن أبي طالب، إلى محمد ابن الحنفية، وإلى أبي هاشم، فإلى علي بن عبد الله بن العباس.

وهكذا.. وهي في الحقيقة نفس عقيدة الكيسانية، كما سنشير إليها في بعض الهوامش الآتية. وقد جازت حيلتهم هذه على الناس، الذين كانوا يظنون أنهم يعملون للعلويين(٢) ، حتى لقد خفي أمرهم عن عبد الله بن معاوية حسبما قدمنا، بل لقد كان من جملة المخدوعين، الذين اكتشفوا الحقيقة بعد فوات الأوان، سليمان الخزاعي، الذي تقدم أنه ـ باعترافه ـ كان يرجو هذا الأمر للعلويين، وأبو مسلم الخراساني الذي صارح المنصور بأن السفاح كان قد خدعه. وأنه خدع أيضاً من قبل إبراهيم الإمام، حيث ادعيا الوصاية والإمامة، وحرفا الآيات الواردة في أهل البيت لتنطبق عليهم، مما كان من نتيجته أن زوى الأمر عن أهله، ووضعه

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٠٩. ولقد اشتبه الأمر على الدكتور فاروق عمر، فإن ابن الكرماني كان من عمال الأمويين، ولم يكن من الشيعة في أي وقت من الأوقات، وإنما استماله أبو مسلم توطئة للغدر به.. ولم يكن أبو مسلم ولا غيره من الدعاة والنقباء ليصرحوا لعدوهم بمثل هذا الأمر الذي يخفونه عن أخص الناس بهم، بل حتى عمن هم مثل المنصور.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٢٠٦، وغير ذلك كثير.

٣٥

في غير محله(١) .

أما انخداع ابن الكرماني فهو من الأمور الواضحة والمعروفة. بل لقد رأينا البعض يذكر أن أبا سلمة الخلال كان أيضاً من جملة المخدوعين، حيث كان يتوهم: أن الخليفة سيكون علوياً لا عباسياً(٢) .

ج: ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو ما تقدم: من رفض الإمام القاطع لعرض كل من أبي سلمة، وأبي مسلم في جعل الدعوة له، وباسمه.

وما ذلك إلا لعلمهعليه‌السلام : بأن هؤلاء ليس لهم من هدف، إلا الوصول إلى مآربهم من الحكم والسلطان، ثم يتخلصون من كل من لا يعودون بحاجة إليه، إذا اعتبروه عقبة في طريقهم. كما كان الحال في قتلهم أبا مسلم، وسليمان بن كثير، وأبا سلمة. وغيرهم. شاهدنا على ذلك جواب الإمامعليه‌السلام لأبي مسلم:((ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني)) . وكذلك المحاورة التي جرت بينه عليه‌السلام ، وبين عبد الله بن الحسن، عندما جاءه كتاب من أبي سلمة مثل كتابه.

وأيضاً قولهعليه‌السلام : ما لي ولأبي سلمة، وهو شيعة لغيري. بل ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة. ما قدمناه من اعتذار أبي سلمة للسفاح، عن مراسلته للصادق، وغيره من العلويين، بأنه: (كان يدبر استقامة الأمر) بل يذكر الطبري ج ٦ ص ١٠٢ وابن الأثير ج ٥

____________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الأول، جزء ٢ ص ٥٣٣، وسنشير إلى مصادر أخرى لذلك فيما يأتي إن شاء الله.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٥٤، وفي كتاب: السيادة العربية لفان فلوتن ص ٩٧: أن النقباء أمروا بعض الدعاة بستر اسم المدعو له، وأخفوا اسم المدعو له عن البعض الآخر..

٣٦

ص ٤٣٧: أنه عندما جمع السفاح خاصته ليستشيرهم بقتل أبي سلمة وأخبرهم بمكاتبته للعلويين. نجد أن بعض خاصته انبرى ليقول: ما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان من رأي أبي مسلم(١) . وعليه فلا يصح قول صاحب العيون والحدائق ص ١٨١: (ولم يكن هوى أبي سلمة معهم، وإنما كان هواه مع الصادق جعفر الخ) فإن لجوءه إلى الصادق إنما كان لأجل استقامة الأمر. بل إن بعض المحققين لا يستبعد أن يكون من جملة أهدافهم من رسائلهم تلك، إلى الصادق، و عبد الله ابن الحسن، وغيرهما من العلويين. هو معرفة إن كان هؤلاء يطمحون إلى الحكم، ويرغبون فيه أولاً. وذلك ليستعد العباسيون ـ من ثم ـ لمواجهة دعوتهم، ورصد كل حركاتهم، وسكناتهم، ومن ثم شل حركتهم، والقضاء عليهم. وهذا أسلوب استعمله المنصور من بعد، لكن الإمام الصادقعليه‌السلام تنبه للمكيدة، وعمل على إحباطها..

د: وتصريح أبي سلمة هذا وموقف الإمام منه، وقوله: إنه شيعة لغيره يلقي لنا ضوءاً على الروايات التي تتهمه، وتتهم أبا مسلم بميول علوية. وأن أبا مسلم أراد أن يعلن خلافة علوية، بمجرد وصوله إلى خراسان، كما عن الذهبي، وشارح شافية أبي فراس، وتاريخ الخميس. فإن ذلك لا شاهد له إلا رسائلهما التي أشرنا إليها. مع أنها لم يكن الهدف منها إلا استقامة الأمر للعباسيين. خصوصاً إذا لاحظنا أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات للعلويين، وباسمهم ـ كما أشرنا إليه ـ

____________

(١) وأما كتابه للصادق فهو لا يدل على إخلاصه له، بل هو فقط ـ كان يدبر استقامة الأمر، وقتله من قبل العباسيين بهذا الجرم ليس إلا تغاضيا عن حقيقة الأمر بهدف الوصول إلى أهدافهم في التخلص بطريقة مشروعة.

٣٧

وأنه كان يلاحقهم تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، على حد تعبير الخوارزمي(١) .

المرحلة الرابعة:

ثم تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي: ادعاؤهم الخلافة بالإرث، كما أشرنا إليه. ولكنهم استمروا يربطون الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام من ناحيتين:

الأولى: ادعاؤهم الخلافة بالإرث عن طريق علي بن أبي طالب، ومحمد بن الحنفية، كما سيأتي بيانه.

الثانية: ادعاؤهم أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين. فأما ادعاؤهم استحقاقهم الخلافة بالإرث، عن طريق علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، واحتجاجهم بقرباهم النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإننا نلمحها في كثير من مواقفهم، حيث كانوا يستطيلون على الناس بهذه القربى، ويحتجون بها في مختلف المناسبات(٢) .

____________

(١) ولكننا لا نجد فيما بأيدينا من الشواهد التاريخية، ما يؤيد دعوى الخوارزمي هذه عدا ما ذكروه من أنه: قتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين.

(٢) حيث قد ظلوا بحاجة لأن يصلوا حقهم الذي كانوا يدعونه. بحق علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ووصايتهم بالوصاية التي له، والتي لا يجهلها أحد، وليصححوا بهذه الوسيلة خلافتهم، ويتقبلها الناس. فكانت السلسلة التي سيأتي بيانها هي معتمدهم، مضيفين إليها تبرأهم من أبي بكر وعمر وعثمان.

وفي الحقيقة أن تلك هي عقيدة الكيسانية انتحلوها لأنفسهم بوحي من مصالحهم الخاصة. حتى إذا ما وصلوا إلى الحكم نراهم قد قطعوا حبل صلتهم بعلي، وولده، وجعلوا الخلافة حقاً للعباس وولده.. ثم تخلوا عن ذلك كله فيما بعد، ورجعوا إلى العقيدة التي أسسها معاوية، ولكنهم اختلفوا عنه بأنهم أدخلوا علياً، وجعلوه في المرتبة الرابعة، وكان ذلك بداية وجود أهل السنة بخصائصهم، ومميزاتهم المذهبية، ولهذا البحث مجال آخر، والله هو الموفق والمستعان.

٣٨

فقد قال داوود بن علي، أول خطيب لهم على منبر الكوفة، في أول كلام له أمام السفاح: (.. وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)(١) .

ونرى السفاح في خطبته الأولى أيضاً في مسجد الكوفة، بعد أن ذكر عظمة الرب تبارك وتعالى، وفضل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قد قاد الولاية والوراثة، حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيراً..)(٢) .

ويقال: إن من جملة ما قاله السفاح في خطبته الأولى: (.. فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء، والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلاً علينا.

وزعمت السبائية الضلال: أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة. إلى أن قال: ورد علينا حقنا..)(٣) .

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٣١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤١، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٤، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٧، طبع ليدن.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٩، ٤٠، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٧، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤١، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٤، ٣٢٥.

لكن الظاهر أن لعن السبائية (وهم الشيعة الإمامية حسب مصطلحهم) مفتعل على لسان السفاح. لأن كلمة داوود بن علي المتقدمة تدل على إنكار العباسيين ـ في بدء أمرهم ـ خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وتمسكهم بخلافة عليعليه‌السلام ، حيث يصلون حبل وصايتهم بها.. وإن كانوا قد رجعوا عن هذه العقيدة بعد ذلك حسبما أشرنا إليه إلى العقيدة التي كان قد روجها معاوية.. ولكن من المؤكد أنهم استمروا على عقيدتهم تلك، أعني إنكار خلافة الثلاثة، ووصلهم حبل وصايتهم بعليعليه‌السلام ، إلى زمن المنصور، الذي كان أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين كما سيأتي..

٣٩

ويقول داوود بن علي في خطبته الأولى في مسجد الكوفة أيضاً: (.. وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا)(١) .

____________

(١) الطبري ج ١٠ ص ٣٢، طبع ليدن، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٥.

أمر هام لا بد من التنبيه عليه إننا إذا تتبعنا الأحداث التاريخية، نجد: أن كل مطالب بالخلافة كان يدعي أول ما يدعي الرحمية والقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وأول من بدأ ذلك أبو بكر في يوم السقيفة، وتبعه على ذلك عمر، حيث قررا أن ليس لأحد الحق في أن ينازعهم سلطان محمد، إذ أنهم أمس برسول الله رحماً (على ما في نهاية الإرب ج ٨ ص ١٦٨، وعيون أخبار ابن قتيبة ج ٢ ص ٢٣٣، والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٥٨، طبع دار الكتاب العربي، والأدب في ظل التشيع ص ٢٤، نقلاً عن البيان والتبيين للجاحظ)، ولأنهم هم أولياؤه وعشيرته، على ما ذكره الطبري ج ٣ ص ٢٢٠، طبع دار المعارف بمصر، والإمامة والسياسة ص ١٤، ١٥ طبع الحلبي بمصر، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٧، ٨، ٩، ١١، والإمام الحسين للعلا يلي ص ١٨٦، و ص ١٩٠، وغيرهم. أو لأنهم عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصله والبيضة التي تفقأت عنه كما في العثمانية للجاحظ ص ٢٠٠. فأسقطا بذلك دعوى الأنصار عن الاعتبار.

كما أن أبا بكر قد استدل على الأنصار بالحديث الذي صرح باستفاضته جهابذة أهل السنة (على ما في ينابيع المودة للحنفي)، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيراً إلى خلفائه الاثني عشر: (يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، كلهم من قريش). ـ استدل به ـ بعد أن تصرف فيه، بأن حذف صدره، واكتفى بذكر: أن الأئمة من قريش على ما في صواعق ابن حجر ص ٦، وغيره..

وأصبح كون الأئمة من قريش تقليداً متبعاً، بل ومن عقائد أهل السنة المعترف بها، وقد استدل ابن خلدون على ذلك بالإجماع.

ولكن قول عمر: لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته، قد أوقع ابن خلدون. كما أوقع غيره من جهابذة أهل السنة في حيص بيص، لعدم كون سالم قرشيا، فضلاً عن أن يكون أمس رحما برسول الله من غيره، فراجع مقدمة ابن خلدون ص ١٩٤، وغيره من كتبهم.

أما ابن كثير فإنه قد استشكل بالأمر من ناحية أخرى، حيث قال ـ وهو يتحدث عن فتنة محمد بن الأشعث الكندي ـ: (.. والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة، وليس هو من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى أن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين، فأبى الصديق عليهم ذلك.. ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة، الذي دعا إلى ذلك أولاً، ثم رجع عنه).. انتهى. راجع البداية والنهاية ج ٩ ص ٥٤.=

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409