الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)14%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201358 / تحميل: 8420
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

إليك يا أعز من في الوجود عليّ.. يا من تعيش لأجلي، وتشعر بآلامي، وتحس بمشاكلي.. دون أن أراك، ودون أن أعرف مكانك، بل وحتى دون أن أفطن في كثير من الأحيان لوجودك.

إليك يا أملي الحي، الذي يمدني بالقوة، ويجدد في العزيمة ويا قبس الهدى والنور، الذي لولاه لكنت أعيش في الظلام، ظلم الوحدة، والحيرة، والضياع.

إليك يا من تملأ الأرض قسطاً، وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً، وجوراً.

إليك يا سيدي، ومولاي، يا صاحب الزمان. أرفع كتابي هذا راجياً منك القبول.

جعفر

٢

مقدمة الطبعة الثانية:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

فهذه هي الطبعة الثانية لهذا الكتاب، نخرجها إلى القراء الكرام، بعد حوالي ثلاث سنوات من ظهور طبعته الأولى، التي نفدت نسخها بسرعة.

وإنني إذ أعتز بإقبال القراء على هذا الكتاب، لا يسعني إلاّ أن أقف موقف التقدير والإكبار لهذه الرغبة الصادقة منهم في الاطلاع والمعرفة، وهو أمر يبعث على الأمل، ويبشر بمستقبل مشرق إن شاء الله تعالى..

هذا الكتاب:

لقد جاء التفكير في هذا الكتاب في نفس الوقت الذي نشرت فيه مجلة لبنانية مقالاً لبعض السطحيين، من طالبي الشهرة والمال!! يتهجم فيه على ساحة قدس الإمامين العظيمين: الحسن المجتبىعليه‌السلام ؛ لصلحه مع معاوية.. والإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لقبوله بولاية العهد، من قبل المأمون العباسي..

٣

فأما قضية الصلح فقد كان قد بحثها الباحثون، واهتم بها العلماء والمؤرخون، وكشفوا عن جانب كبير من ظروفها وملابساتها، ومن هنا فقد انصب اهتمامي آنئذ على بحث قضية ولاية العهد، والتي كان البحث فيها شاقاً وصعباً للغاية، لأسباب لا يجهلها من له أدنى اطلاع على واقع الكتب التاريخية، ومؤلفيها، وظروف تأليفها..

ولعل ذلك المقال نفسه أيضاً، قد كان هو الحافز لسماحة العلامة البارع، السيد محمد جواد فضل اللهرحمه‌الله ، ليكتب كتابه الشيق، الذي أسماه: (حياة الإمام الرضاعليه‌السلام )، وعقد فيه فصلاً للحديث عن ولاية العهد أيضاً؛ فشكر الله سعيه، وتغمده برحمته، وجزاه خير جزاء المحسنين..

الجديد في الكتاب:

وأود أن أشير هنا، إلى أنه.. إما لسوء حظي، أو لحسن حظ القارئ!! لم تتهيأ لي الفرصة لإعادة النظر في الكتاب من جديد، بشكل يسمح لي بالتعديل والتطوير فيه؛ ولذا فقد اكتفيت بإصلاح كثير من الأخطاء المطبعية، مع زيادات طفيفة، لا تكاد تذكر.

تنبيه وختام:

وبعد هذا.. فإنني أود أن أنبه: على أن كلمة (التشيع) الواردة في هذا الكتاب لا يراد بها المعنى الخاص إلاّ نادراً.. كما أن المقصود من كلمة: (علوي) و(علويين) هو كل من يتصل نسبه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبنائه الطيبين الطاهرين..

وفي الختام.. فإنني أعود فأكرر رجائي الأكيد من كل القراء الكرام أن يكتبوا إلي بملاحظاتهم، ووجهات نظرهم، وأنا لهم من الشاكرين.

والحمد لله، وله المنة، وبه الحول، وعليه التكلان.

٢٣/١/١٤٠٠ ه‍ ق

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٤

تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين:

وبعد:

فقد كان هذا الكتاب نتيجة دراسة استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر. وهو يبحث في ظروف وأسباب حدث تاريخي هام في التاريخ الإسلامي.. إلاّ وهو: (أخذ البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد للمأمون).

ورغم الأهمية البالغة لهذا الحدث، وكونه جديراً بالدراسة، والبحث، والتمحيص. فإننا رأينا المؤرخين الباحثين ـ ولأسباب مختلفة ـ يضربون عنه صفحا، ويحاولون تجاهله، والتقليل من أهميته.

وعلى كل حال.. ومهما كانت الحقائق التي أوردتها في هذا الكتاب موافقة لهوى قوم، ومثيرة لحنق آخرين.. فإن ما أريد أن أؤكد عليه هو:

إنني لثقتي من نفسي بأنني ما ادخرت وسعاً، ولم آل جهداً في تمحيص الحقائق، وإبراز المعالم الأصيلة للصورة، التي أريد ـ لسبب أو لآخر ـ طمسها، وتشويه معالمها، وأيضاً لحسن ظني بالقارئ، وثقتي بنزاهته، ونظرته الواعية.

من أجل ذلك أقول ـ وبكل رضاً، وارتياح، واطمئنان ـ: إنني لا أريد أن أفرض ما في هذا الكتاب من آراء، واستنتاجات على أحد.. بل سوف أترك الحكم في ذلك للقارئ نفسه، الذي يمتلك كامل الحرية في أن يقبل، أو أن يرفض، إذا اقتضى الأمر أياً من الرفض، أو القبول.

والله ولينا. وهو الهادي إلى سواء السبيل.

جعفر مرتضى الحسيني

٥

تمهيد

صلة الماضي بالحاضر والمستقبل:

.. بديهي أن بعض الأحداث التاريخية، التي تمر بالأمة، تؤثر تأثيراً مباشراً، أو غير مباشر في واقعها، إن حاضراً، وإن مستقبلاً. بل وقد تؤثر في روح الأمة، وعقلها، وتفكيرها.. ومن ثم على مبادئها العامة، التي قامت عليها قوانينها ونظمها، التي تنظم لها مسيرتها، وتهيمن على سلوكها.. فقد تقوي من دعائمها، وتؤكد وجودها، واستمرارها، وقد تنسفها من أسسها، إن كانت تلك المبادئ على درجة كبيرة من الضعف والوهن في ضمير الأمة ووجدانها. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام. فمثلاً.. نلاحظ أن الاكتشافات الحديثة، والتقدم التقني قد أثر أثراً لا ينكر حتى في عاطفة الإنسان، التي يفرضها، واقع التعايش. وحتى في مواهبه وملكاته، فضلاً عن سلوكه، وأسلوب حياته. وحيث إن المبادئ الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الإنسان ووجد أنه، ولم تخرج عن المستوى الشكلي في حياته العملية ـ وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحياناً في دورات تاريخية قصيرة ـ نرى أنها بدورها قد تأثرت بذلك، ونسفت أو كادت من واقع هذه الأمة، وعدمت أو كادت من دائرة حياتها. وليكون البديل ـ من ثم ـ عنها لدى هذا الكائن هو (الذاتية) الكافرة بكل العواطف الاجتماعية، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة، التي لا ترحم ولا ترثي، ولا تلين، لا يجد لذة العاطفة، ولا حلاوة الرحمة، وليعود الإنسان ـ بعد لأي ـ متشائما حاقدا، لا يثق بمستقبله، ولا يأمن من يحيط به، ولا يطمئن إلى أقرب الناس إليه.وبطبيعة الحال، سوف يتأثر النشء الجديد بذلك، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه. وهكذا.. وهكذا.. فإن الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلاً، أو أكثر قد نجد له آثارا بارزة، حتى في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم وإذن.. فنستطيع أن نستخلص من هذا: أن الأحداث التاريخية مهما بعدت، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع الأمة، وفي تصرفاتها،وفي حياتها، وسلوكها على المدى الطويل. وتتحكم ـ إلى حد ما ـ في مستقبلها،

٦

وإن العالم التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه المجتمع بالفعل، سواء في ذلك الأدبي منه. أو العلمي، أو الديني، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو غير ذلك.وغني عن القول هنا. أن التأثر بالأحداث يختلف من أمة لأخرى، ومن عصر لآخر.

لماذا كان تدوين التاريخ:

ومن هنا تبرز أهمية التاريخ. ونعرف أنه يلعب دوراً كبيراً في حياة الأمم، مما يجعلنا لا نجد كثير عناء في الإجابة على سؤال: لماذا عنيت الأمم على اختلافها بالتاريخ. تدويناً. ودرساً، وبحثاً، وتمحيصاً؟! فإن ذلك لم يكن إلاّ لأنها تريد أن تستفيد منه، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه، لتستفيد من ذلك لمستقبلها الذي تقدم عليه.. ولتكتشف منه عوامل رقيها. وانحطاطها، ولتنطلق من ثم لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة.. فمهمة التاريخ إذن ـ تاريخ الأمة المدون ـ هي: أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الأمة من أحوال وأوضاع، وأزمات فكرية، واقتصادية، وظروف سياسية: واجتماعية، وغير ذلك.

ونحن. هل نملك تاريخاً!!

ونحن أمة.. لكننا لا نملك تاريخاً ـ وأقصد بذلك كتب التاريخ ـ نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا المضمار، لأن أكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، والهوى المذهبي، والتزلف للحكام، وأقصد بـ‍ (النظرة الضيقة) عملية ملاحظة الحدث منفصلاً عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف على حقيقته وواقعه.

نعم.. إننا بمرارة ـ لا نملك تاريخاً نستطيع أن نستفيد منه الكثير، لأن المسيرة قد انحرفت، والأهواء قد لعبت لعبتها(١) وأثرت أثرها المقيت

____________

(١) ومن أراد أن يعرف المزيد عن ذلك، فليراجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية من ص ٧٢ إلى ص ٧٩ والغدير ج ٥ ص ٢٠٨ إلى ص ٣٧٨، و ج ١١ من ص ٧١، إلى ص ١٠٣، و ج ٩ من ص ٢١٨ إلى آخر المجلد، وغير ذلك من مجلدات هذا الكتاب وصفحاته والاحتجاج للطبرسي، وخمسون ومئة صحابي مختلق للعسكري، وغير ذلك كثير..

٧

البغيض، حتى في تدوين التاريخ نفسه. وإنه لما يدمي قلوبنا، ويملأ نفوسنا أسى وألما، أن نكون قد فقدنا تاريخنا، ودفناه تحت ركام من الأنانيات. والعصبيات، والأطماع الرخيصة، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء، والذكريات الشجية.

ومرة أخرى أقول: إن كل ما لدينا هو ـ فقط ـ تاريخ الحكام والسلاطين، الذين تعاقبوا على كراسي الحكم، وحتى تاريخ الحكام هذا، رأيناه مشوهاً، وممسوخاً، حيث لم يستطع أن يعكس بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام، وأعمالهم وتصرفاتهم. وما ذلك إلاّ لأن المؤرخين لم يكونوا أحراراً في كتابتهم للتاريخ، بل كانوا يؤرخون ويكتبون حسب ما يريده الحكام أنفسهم، ويخدم مصالحهم.

إما رهبة من هؤلاء الحكام، أو رغبة، أو تعصباً لمذهب، أو لغيره. ومن هنا.. فليس من الغريب جداً أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة، حتى لا يفوته شيء منه، أو يختلق ويفتعل أحداثاً لم يكن لها وجود إلاّ في عالم الخيالات والأوهام، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر، بل قد لا يكون لهم وجود أصلاً.. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها مكانتها، وخطرها في التاريخ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه.. ويهمل أو يشوه أحداثاً ذات أهمية كبرى.

صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره. ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الأمة، ومستقبلها، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ، أو يحيطها ـ لسبب أو لآخر ـ بستار من الكتمان، والإبهام.

ومن تلك الأحداث..

وفي طليعة تلك الأحداث التي كان نصيبها ذلك: (البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد) من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون!.

هذا الحدث الذي لم يكن عاديا، وطبيعيا، كسائر ما يجري وما يحدث، والذي كان نصيبه من المؤرخين أن يتجاهلوه، ويقللوا ما أمكنهم من أهميته، وخطره، وأن يحيطوا أسبابه ودوافعه، وظروفه بستائر من الكتمان. وعندما كانت تواجههم الأسئلة حوله تراهم يرددون تلك التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس، دون أن يكون من بينها ما يقنع، أو ما يجدي..

إلا أننا مع ذلك، لم نعدم في هذا الذي يسمى، ب‍ـ (التاريخ) بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا وهناك، التي تلقي لنا ضوءاً ، وتبعث فينا الرجاء والأمل بالوصول إلى الحقائق التي خشيها الحكام، فقضوا عليها ـ بكل قسوة وشراسة ـ بالعدم، والاندثار..

٨

ولو فرض: أنه كان للمؤرخين القدامى العذر ـ إلى حد ما ـ في تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، لظروف سياسية، واجتماعية، ومذهبية معينة.. فإن من الغريب حقاً أن نرى الباحثين اليوم ـ مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع. ـ يحاولون بدورهم تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، عن قصد أحياناً، وعن غير قصد أخرى، وإن كنا نستبعد هذا الشق الأخير، إذ أننا نشك كثيراً في أن لا يسترعي حدث غريب كهذا انتباههم، ويلفت أنظارهم.

وأياً ما كان السبب في ذلك، فإن النتيجة لا تختلف، ولا تتفاوت، إذ أنها كانت في الواقع الخارجي سلبية على كل حال.

وبدافع من الشعور بالواجب

ومن هنا.. وبدافع من الشعور بالمسؤولية، رأيت أن أقوم بدراسة لهذا الحدث بالذات، للتعرف على حقيقة دوافعه وأسبابه، وواقع ظروفه وملابساته.

وكانت نتيجة تلك الدراسة، التي استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر هي: هذا الكتاب الذي بين يديك..

ولا أدعي: أن كل ما في هذا الكتاب من آراء واستنتاجات، لا تعدو الحقيقة، ولا تشذ عن الصواب.

ولا أدعي أيضاً: أنني استطعت أن أضع يدي على كل خيوط القضية، وأن أنفذ إلى جميع جذورها العميقة والرئيسة، فإن ذلك ليس من الأمور السهلة بالنسبة لأي حدث تاريخي مضى عليه العشرات والمئات من السنين، فكيف إذا كان إلى جانب ذلك مما قد أريد له ـ كما قلنا ـ أن تبقى دوافعه وأسبابه طي السرية والكتمان، وظروفه وملابساته رهن الإبهام والغموض..

لا.. لا أدعي هذا، ولا ذاك. وإنما أقول: إن هذا الكتاب قادر ـ ولا شك ـ على أن يرسم علامة استفهام كبيرة حول (طبيعية) هذا الحدث، وحول المأمون، ونواياه، وتصرفاته المشبوهة. وإنه ـ على الأقل يمكن أن يعتبر خطوة على طريق الكشف الكامل عن جميع الحقائق، والتعرف على كافة العوامل والظروف، التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام.

٩

تقسيم الكتاب.. باختصار..

ومن أجل استيفاء البحث من جميع جوانبه، كما لا بد لنا من تقسيم الكتاب إلى أقسام أربعة:

الأول:

يتناول قيام الدولة العباسية، وأساليب دعوتها، ويعطي لمحة عن موقف العلويين، والعباسيين، كل منهما من الآخر، وردود الفعل لذلك، وغير ذلك من أمور..

الثاني:

يبحث حول ظروف البيعة، وأسبابها، ونتائجها.

الثالث:

يتكفل بإلقاء أضواء كاشفة عن المواقف، سواء بالنسبة إلى المأمون، أو بالنسبة إلى الإمامعليه‌السلام ..

الرابع:

نعرض فيه لبعض الأحداث التي تلقي لنا ضوءاً على حقيقة نوايا المأمون، وتكشف لنا عن بعض مخططاته.. وغير ذلك مما يتصل بذلك، ويرتبط به، بنحو من الارتباط والاتصال..

هذا:

وقد وضعنا في آخر الكتاب بعض الوثائق التاريخية الهامة، التي آثرنا أن يطلع القارئ بنفسه على نصها الكامل..

ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً. ويهدينا سبيل الرشاد..

القسم الأول

ممهدات..

١ ـ قيام الدولة العباسية.

٢ ـ مصدر الخطر على العباسيين.

٣ ـ سياسة العباسيين ضد العلويين.

٤ ـ سياسة العباسيين مع الرعية..

٥ ـ فشل سياسة العباسيين ضد العلويين.

١٠

قيام الدولة العباسية

العلويون في الماضي البعيد..

بعد أن أمعن الأمويون في الانحراف عن الخط الإسلامي القويم، وأصبح واضحاً لدى كل أحد، أن هدفهم ليس إلاّ الحكم والسيطرة، والتحكم بمقدرات الأمة وإمكاناتها.. وأن كل همهم كان مصروفا إلى الملذات والشهوات، أينما كانت، وحيثما وجدت.. وليس لمصلحة الأمة، وسعادتهما، ورفاهها عندهم أي اعتبار..

وبعد أن لجوا في عدائهم لأهل البيتعليهم‌السلام ، وبلغوا الغاية فيهم، قتلاً، وعسفاً، وتشريداً، وخصوصاً ما كان منهم في وقعة كربلاء التي لم يعرف التاريخ أبشع، ولا أفظع منها.. وجعلهم لعن عليعليه‌السلام سنة لهم. يشب عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.. ثم ملاحقتهم لولده، ولكل من يتشيع لهم. تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، ليعفوا منهم الآثار، ويخلو منهم الديار.

بعد كل هذا.. وبفضل جهاد أهل البيت المتواصل، في سبيل توعية الأمة، وتعريفها بأحقيتهم، وبحقيقة، وواقع تلك الطغمة الفاسدة.. كان من الطبيعي أن ينمو تعاطف الناس مع أهل البيت

ويزيد، كلما ازداد نفورهم من الأمويين، ونقمتهم عليهم، وذلك تبعاً لتزايد وعيهم. وتكشف الحقائق لهم، ولأنهم أدركوا من واقع الأحداث التي مرت بهم: أن أهل البيتعليهم‌السلام هم: الركن الوثيق، الذي لا نجاة لهم إلاّ بالالتجاء إليه، وذلك الأمل الحي، الذي تحيا به الأمة، وتحلو معه الحياة..

العرش الأموي في مهب الريح

ولهذا نجد: أن الثورات والفتن ضد الحكم الأموي كانت تظهر من كل جانب ومكان. طيلة فترة حكمهم، حتى أنهكت قواهم، وأضعفتهم إلى حد كبير، وفنوا وأفنوا، حتى لم يعد باستطاعتهم ضبط البلاد، ولا السيطرة على العباد..

١١

وكانت تلك الثورات تتخذ الطابع الديني على العموم، مثل: ثورة أهل المدينة المعروفة بـ‍ (وقعة الحرة) وثورة قراء الكوفة والعراق، المعروفة بـ‍ (دير الجماجم) سنة ٨٣ ه‍.. وقبلها ثورة المختار والتوابين سنة ٦٧ ه‍. وأيضاً ثورة يزيد بن الوليد مع المعتزلة على الوليد بن يزيد، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنة ١٢٦ ه‍. وكذلك ثورة عبد الله بن الزبير، الذي تغلب على البلاد ما عدا دمشق، وما والاها مدة من الزمن.. ثم الثورة التي قامت ضد هشام في إفريقيا.

وثورة الخوارج بقيادة المتسمي بـ‍ (طالب الحق) سنة ١٢٨ ه‍. وأيضاً ثورة الحارث بن سريح في خراسان، داعياً إلى كتاب الله، وسنة رسوله سنة ١١٦ ه‍. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه..

وأما ما كان منها بدافع غير ديني، بل من أجل الحكم، والسلطان، فنذكر منها على سبيل المثال: ثورة آل المهلب سنة ١٠٢ ه‍. وثورة مطرف بن المغيرة..

وأما في زمن مروان

وفي زمن مروان بن محمد الجعدي، المعروف بمروان الحمار، كان الوضع في السوء والتدهور قد بلغ الغاية، وأوفى على النهاية، حيث بلغ من انشغال مروان بالثورات والفتن، التي كانت قد شملت أكثر الأقطار: أنه لم يستطع أن يصغي إلى شكوى عامله في خراسان نصر بن سيار، الذي كان بدوره يواجه الثورات والفتن، ومن جملتها دعوة بني العباس، التي كانت تزداد قوة يوماً بعد يوم. بقيادة أبي مسلم الخراساني.

١٢

من خلال الأحداث.

كل ذلك يكشف عن مدى تبرم الناس بحكم بني أمية، وبسلطانهم، الذي كان قائماً على أساس من الظلم والجور، والابتزاز، والتحكم بمقدرات الأمة، وإمكاناتها.. ويتضح لنا ذلك جليا إذا لاحظنا: أن ما كان يتقاضاه الولاة لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، ويكفي مثالاً على ذلك أن نشير إلى أن خالداً القسري، كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره (٢٠ ) مليون درهم، بينما ما كان يختلسه كان يتجاوز الـ (‍١٠٠) مليون(١) ، وإذا كان هذا حال الولاة، فكيف ترى كان حال الخلفاء، الذين كانوا يحقدون على كل القيم، والمثل، والكمالات الإنسانية،.. والذين وصف الكميت رأيهم في الناس، فقال:

رأيــه فـيهم كـرأي ذوي

الثلة في الثائجات جنح الظلام

جز ذي الصوف وانتقاء لذي

المخة، نعقاً ودعدعاً بالبهام(٢)

نعم.. لقد كانت الأمة قد اقتنعت اقتناعاً كاملاً ونهائياً: بأن بني أمية ليس لهم بعد حق في أن يفرضوا أنفسهم قادة للأمة، ولا روادا لمسيرتها، لأن نتيجة ذلك ستكون ـ حتما ـ هي جر الأمة إلى الهاوية. حيث الدمار والفناء، فلفظتهم، وانقلبت عليهم، تأخذ منهم بعض الحقوق التي لها عندهم، إلى أن تمكنت أخيراً من أن تخلي منهم الديار، وتعفي منهم الآثار..

وكان نجاح العباسيين طبيعياً..

ومن هنا نعرف: أن نجاح العباسيين في الاستيلاء على مقاليد الحكم ـ

____________

(١) السيادة العربية ص ٣٢، ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم. وفي البداية والنهاية ج ٩ ص ٣٢٥: أن دخل خالد القسري كان في كل سنة ( ١٣) مليون دينار، ودخل ولده يزيد بن خالد كان (١٠) ملايين دينار سنويا، ولا بأس بمطالعة كتاب السيادة العربية، ليعرف ما أصاب، وخصوصاً العراقيين والخراسانيين في عهد الأمويين.

(٢) الهاشميات ص ٢٦، ٢٧. والثلة: القطعة الكثيرة من الضان. والثائجات: الصائحات. وانتقاء: اختيار، وأراد بذي المخة: السمينة، ونعقاً: أي صياحاً. والدغدغة: زجر البهائم.

يقول: رأي الواحد من هؤلاء الخلفاء في رعيته، ومعاملته لها كرأي أصحاب الغنم في غنمهم، فلا يراعون العدل، ولا الإنصاف فيهم..

١٣

في ذلك الحين ـ لم يكن ذلك الأمر المعجزة، والخارق للعادة. بل كان أمراً طبيعياً للغاية، إذا ما أخذت الحالة الاجتماعية، والظروف والملابسات آنئذٍ بنظر الاعتبار، فإن الأمة كانت مهيأة نفسيا لقبول التغيير، أي تغيير. بل كانت تراه أمراً ضرورياً، لا بد منه، ولا غنى عنه، إذا كانت تريد لنفسها الحياة الفاضلة، والعيش الكريم.

ولهذا.. فليس من الغريب أن نقول: إنه كان بإمكان أية ثورة أن تنجح، لو أنها تهيأت لها نفس الظروف، وسارت على نفس الخط، واتبعت نفس الأساليب، التي اتبعها العباسيون في دعوتهم، وثورتهم. ونستطيع أن نتبين أساليب العباسيين تلك في ثلاثة خطوط عريضة وواضحة.

الخط الأول:

(كانوا يصورون أنفسهم على أنهم ما جاءوا إلاّ لينقذوا الأمة من شرور بني أمية، وظلمهم، وعسفهم، الذي لم يكن يقف عند حدود. وكانت دعوتهم تتخذ اتجاه التبشير بالخلاص، وأنهم سوف يقيمون حكماً مبدؤه العدل، والمساواة، والأمن والسلام. وقد كانت وعودهم هذه كسائر الوعود الانتخابية، التي ألفناها من ساسة العصر الحديث.. بل لقد كانت الأماني التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهير مسئولة إلى حد كبير عن ردود الفعل العنيفة، التي حدثت ضد الحكم العباسي بعد ذلك، حيث كان حكمهم قائماً على الطغيان المتعطش إلى سفك الدماء)(١) .

____________

(١) راجع: إمبراطورية العرب، للجنرال جلوب، ترجمة: خيري حماد.

١٤

الخط الثاني:

إنهم لم يعتمدوا كثيراً على العرب، الذين كانوا يعانون من الانقسامات الداخلية الحادة، وإنما استعانوا بغير العرب، الذين كانوا في عهد بني أمية محتقرين، ومنبوذين، ومضطهدين، ومحرومين من أبسط الحقوق المشروعة، التي منحهم إياها الإسلام. حتى لقد أمر الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلاّ عربي.. وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلاّ عربي(١) .. كما طرد غير العرب من البصرة، والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وا محمدا وا أحمدا. ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن نرى أهل البصرة يلحقون بهم، ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم(٢) بل لقد قالوا: (لا يقطع الصلاة إلا: حمار، أو كلب، أو مولى..)(٣) وقد أراد معاوية أن يقتل شطراً من الموالي، عندما رآهم كثروا، فنهاه الأحنف عن ذلك(٤) . وتزوج رجل من الموالي بنتا من أعراب بني سليم، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل،

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٤، والعقد الفريد ج ١ ص ٢٠٧، ومجلة الهادي، السنة الثانية العدد الأول ص ٨٩، وتاريخ التمدن الإسلامي المجلد ٢ جزء ٤ ص ٣٤٣.

(٢) السيادة العربية ص ٥٦، ٥٧، ولا بأس بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الأول ج ٢ ص ٢٧٤.

(٣) العقد الفريد طبع مصر سنة ١٩٣٥ ج ٢ ص ٢٧٠، وتاريخ التمدن الإسلامي جزء ٤ ص ٣٤١.

(٤) المصدران السابقان...

١٥

فشكا إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بينه وبين زوجته، وضربه مأتي سوط، وحلق رأسه، وحاجبه، ولحيته. فقال محمد ابن بشير في جملة أبيات له:

قضيت بسنة وحكمت عدلاً

ولم ترث الخلافة من بعيد(١)

ولم تفشل ثورة المختار، إلاّ لأنه استعان فيها بغير العرب، فتفرق العرب عنه لذلك(٢) ويقول أبو الفرج الأصفهاني: (.. كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية، إذا جاء العربي من السوق، ومعه شيء، ورأى مولى، دفعه إليه، فلا يمتنع)(٣) .

بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولدين، الذين ولدوا من أمهات أعجميات(٤) .

وأخيراً.. فإن البعض يقول: إن قتل الحسين كان: (الكبيرة، التي هونت على الأمويين أن يقاوموا اندفاع الإيرانيين؟ إلى الدخول في الإسلام)(٥) .

وبعد هذا.. فإن من الطبيعي أن يبذل الموالي أرواحهم، ودماءهم وكل غال ونفيس في سبيل التخلص من حكم يعاملهم هذه المعاملة، وله فيهم هذه النظرة، فاعتماد الدعوة العباسية على هؤلاء كان منتظراً

____________

(١) الأغاني ج ١٤ ص ١٥٠، وضحى الإسلام ج ١ ص ٢٣، ٢٤.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٤٠، ولا بأس أيضاً بمراجعة: تاريخ التمدن الإسلامي، والمجلد الأول، الجزء الثاني ص ٢٨٢، ٢٨٣.

(٣) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥.

(٤) ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٥، والعقد الفريد ج ٦ ص ١٣٠، ١٣١، طبعة ثالثة، ومجلة الهادي، السنة الثانية، العدد الأول ص ٨٩.

(٥) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٩٥.

١٦

ومتوقعاً، كما أن اندفاع هؤلاء في نصرة الدعوة العباسية كان متوقعاً، ومنتظراً أيضاً.

الخط الثالث:

إنهم ـ أعني العباسيين ـ قد حاولوا في بادئ الأمر أن يربطوا دعوتهم وثورتهم بأهل البيتعليهم‌السلام . وطبيعة البحث تفرض علينا أن نتوسع في بيان هذه النقطة بالذات وذلك لما لها من الأهمية البالغة، بالنظر لما تركته من آثار بارزة على مدى التاريخ، ولأنها كانت الناحية التي اعتمد العباسيون عليها اعتماداً كلياً، وتعتبر السبب الرئيس في وصول العباسيين إلى السلطة، وحصولهم على مقاليد الحكم.. ولهذا. فنحن نقول:

دولة بني العباس في صحيفة ابن الحنفية:

قد نقل ابن أبي الحديد(١) عن أبي جعفر الإسكافي: أنه قد صحت الرواية عندهم عن أسلافهم، وعن غيرهم من أرباب الحديث، أنه: لما مات علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، طلب محمد بن الحنفية من أخويه: الحسن، والحسين ميراثه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو أطلعاه على غيرها لهلك، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس. فصرح ابن الحنفية لعبد الله بن العباس بالأمر، وفصله له.

والظاهر أن تلك الصحيفة انتقلت منه لولده أبي هاشم، وعن طريقه وصلت إلى بني العباس. ويقال: إنها قد ضاعت منهم أثناء

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩، ١٥٠.

١٧

حربهم مع مروان بن محمد الجعدي(١) ، آخر خلفاء الأمويين. وقد ذكرت هذه الصحيفة في كلام بني العباس، وخلفائهم كثيراً، وسيأتي لها ذكر في رسالة المأمون للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

متى بدأ العباسيون دعوتهم، وكيف؟

وبعد هذا.. فإن الشيء المهم هنا هو تحديد الزمن الذي بدأ به العباسيون دعوتهم، وكيف؟

ونستطيع أن نبادر هنا إلى القول:

إن الذين بدءوا بالدعوة أولاً هم العلويون، وبالتحديد من قبل أبي هاشم، عبد الله بن محمد الحنفية، وهو الذي نظم الدعاة، ورتبهم، وقد انضم تحت لوائه: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومعاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و عبد الله بن الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعهم على أمر دعاته.

وقد قرأ محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله تلك الصحيفة، المشار إليها آنفاً، ووجد كل منهما ذكراً للجهة التي هو فيها.

ولهذا نلاحظ: أن كلاً من محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله، قد ادعى الوصاية من أبي هاشم، مما يدل دلالة واضحة على أنه لم يخصص أياً منهما بالوصية، وإنما عرفهما دعاته فقط.

____________

(١) شرح نهج البلاغة ج ٧ ص ١٤٩.

١٨

هذا. وبعد موت معاوية بن عبد الله، قام ابنه عبد الله يدعي الوصاية من أبيه. من أبي هاشم.. وكان له في ذلك شيعة، يقولون بإمامته سراً حتى قتل. وأما محمد بن علي فقد كان بمنتهى الحنكة والدهاء، وقد تعرف ـ كما قلنا ـ من أبي هاشم على الدعاة، واستطاع بما لديه من قوة الشخصية، وحسن الدهاء أن يسيطر عليهم، ويستقل بهم(١) ، ويبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، و يبعدهما عنهم. واستمر محمد بن علي يعمل بمنتهى الحذر والسرية. وكان عليه أن:

١ ـ يحذر العلويين، الذين كانوا أقوى منه حجة، وأبعد صيتاً. بل عليه أن يستغل نفوذهم ـ إن استطاع ـ لصالحه، وصالح دعوته. ولقد فعل ذلك هو وولده كما سيتضح.

٢ ـ وكان عليه أيضاً أن يتحاشى مختلف الفئات السياسية، التي لن يكون تعامله معها في صالحه، وفي صالح دعوته.

٣ ـ والأهم من ذلك أن يصرف أنظار الحكام الأمويين عنه، وعن نشاطاته، ويضللهم، ويعمي عليهم السبل.

ولذا فقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها. وأوصاهم بوصيته

____________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٠.

١٩

المشهورة، التي يقسم فيها البلاد والأمصار: هذا علوي، وذاك عثماني، وذلك غلب عليه أبو بكر وعمر، والآخر سفياني. إلى آخر ما سيأتي(١) .

وأمرهم ـ أعني الدعاة بالتحاشي عن الفاطميين، لكنه ظل هو شخصياً، ومن معه من العباسيين، الذين استنوا بسنته، وساروا من بعده بسيرته ـ ظلوا ـ يتظاهرون للعلويين بأنهم معهم، وأن دعوتهم لهم، ولم يكن إلا القليلون يعرفون بأنه: كان يدبر الأمر للعباسيين. وقد أعطى دعاته شعارات مبهمة، لا تعين أحداً، وصالحة للانطباق على كل فريق، كشعار: (الرضا من آل محمد) و(أهل البيت). ونحو ذلك.

____________

(١) ولقد بذل محمد بن علي جهداً جباراً في إنجاح الدعوة، وكانت أكثر نشاطاته في حياة والده، علي بن عبد الله، الذي يبدو أنه لم يكن له في هذا الأمر دور يذكر. وتوفي والده على ما يظهر في سنة ١١٨ ه‍. وكان قد بدأ نشاطاته، حسب ما بأيدينا من الدلائل التاريخية من سنة ١٠٠ ه‍. أي بعد وفاة أبي هاشم بسنتين. إذ في: سنة ١٠٠ ه‍. وجه محمد بن علي بن أرض الشراة ميسرة إلى العراق ووجه محمد بن خنيس، وأباً عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار إلى خراسان. وفيها أيضاً جعل اثني عشر نقيباً، وأمر دعاته بالدعوة إليه، وإلى أهل بيته.

وفي سنة ١٠٢ ه‍. وجه ميسرة رسله إلى خراسان، وظهر أمر الدعوة بها وبلغ ذلك سعيد خذينة، عامل خراسان، فأرسل، وأتى بهم، واستنطقهم، ثم أخذ منهم ضمناء وأطلقهم.

وفي سنة ١٠٤ ه‍. دخل أبو محمد الصادق، وعدة من أصحابه، من أهل خراسان إلى محمد بن علي، فأراهم السفاح في خرقة، وكان قد ولد قبل خمسة عشر يوما، وقال لهم (والله، ليتمن هذا الأمر، حتى تدركوا ثأركم من عدوكم).

وفي سنة ١٠٥ ه‍. دخل بكير بن ماهان في دعوة بني هاشم. وفيها مات ميسرة، فجعل محمد بن علي بكيراً هذا مكانه في العراق..

وفي سنة ١٠٧، أو ١٠٨ ه‍ وجه بكير بن ماهان عدة من الدعاة إلى خراسان، فظفر بهم عامل خراسان، فقتلهم، ونجا منهم عمارة، فكان هو الذي أخبر محمد ابن علي بذلك. وفي سنة ١١٣ ه‍. صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمان رجلاً منهم، فقتله، وقال: (من أصيب منهم فدمه هدر).

وفي سنة ١١٧ ه‍. أخذ عامل خراسان أسد بن عبد الله وجوه دعاة بني العباس، وفيهم النقباء، ومنهم سليمان بن كثير، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس آخرين. وفي سنة ١١٨ وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد ـ وهو خداش ـ والياً على شيعة بني العباس، فنزل مروا، ودعا إلى محمد بن علي ؛ ثم غلا..

وفي سنة ١٢٠ ه‍. وجهت شيعة بني العباس سليمان بن كثير إلى محمد بن علي في أمر خداش. وفي سنة ١٢٤ ه‍. قدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة. وفيها أيضاً اشترى بكير بن ماهان أبا مسلم. راجع في ذلك كله: تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج ٥ ص: ٣١٦، ٣٥٨، ٣٦٨، ٣٨٧، ٣٨٩، ٤٢٥، ٤٣٩، ٤٤٠، ٤٦٧، ٥١٢، وغير ذلك من كتب التاريخ.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفترى عليه وهو مثل قوله( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ) وروى ابن عيينة عن أبى نجيح عن إبراهيم بن أبى بكر عن مجاهد في قوله( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه* قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يجب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه* وقوله تعالى( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل الله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) وقوله( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه* قوله تعالى( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ) روى عن قتادة أن لكن هاهنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) روى عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت

٢٨١

في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروى عن ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف(1) فجعل يقلبهن بيده ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي * قوله تعالى( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روى عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله( كُنْ فَيَكُونُ ) لا على سبيل ما أجرى العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه* وأما قوله تعالى( وَرُوحٌ مِنْهُ ) فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة :

فقلت له أرفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

أى بنفختك وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمى القرآن روحا في قوله( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله* قوله( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أى لا أبرح قال الشاعر :

تالله يبقى على الأيام ذوحيد(2)

معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) يعنى أهل القرية.

سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) روى عن ابن عباس ومجاهد ومطرف

__________________

(1) قوله الخذف بالخاء والذال المعجمتين هو أن تجعل حصاة أو نواة بين السبابتين وترمى بها كما ذكره في النهاية.

(2) قوله ذوحيد هو الثور الوحشي والحيد بكسر وفتح جمع حيد بفتح وسكون وهو ما النوى من القرن.

٢٨٢

والربيع والضحاك والسدى وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال حالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) إلى أن جعل الله ذوى الأرحام أولى من الحليف بقوله( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف على الوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمى دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوى ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوى عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه(1) مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام

__________________

(1) قوله فلا ينداه مضارع ندب من باب تعب يقال ما ندينى من فلان مكروه أي ما أصابني.

٢٨٣

لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعنى به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبد المطلب قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإنى أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسى في المعاش فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعى إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شيء مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) والحلف يسمى عقدا قال الله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) وقال أبو عبيدة في قوله( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال هي العهود والأيمان وروى عن

٢٨٤

جابر في قوله( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد وزاد زيد ابن أسلم من قبله وعقد الشركة وعقد اليمين وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال العقود ستة عقد الأيمان وعقد النكاح وعقدة العهد وعقدة الشرى والبيع وعقدة الحلف قال أبو بكر العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به وسمى اليمين على المستقبل عقدا لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك وما لا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق كان ذلك عقدا ليمين ولو قال والله لقد دخلت الدار أمس لم يكن عاقدا لشيء ولو قال لأدخلنها غدا كان عاقدا ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال على أن أدخل الدار أمس كان لغوا من الكلام مستحيلا ولو قال على أن أدخلها غدا كان إيجابا مفعولا فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك وذلك معدوم في الماضي ألا ترى أن من قال والله لأكلمن زيدا فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه وكذلك لو قال والله لا كلمت زيدا كان مؤكدا به نفى كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفى أو إثبات فسمى من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه

٢٨٥

ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام. ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي أن ضد العقد هو الحل ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس بعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل* فإن قيل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وأنت إذا جاء غد* هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ* قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر وليس في الكوز ماء أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا لأنه ليس له نقيض من الحل ولو قال إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه لأن لهذا العقد نقيضا من الحل وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا وكذلك تركه معقول جائز وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا* وقد اشتمل قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها ) وقوله تعالى( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه وقد روى عن ابن عباس في قوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) أى بعقود الله فيما حرم وحلل* وعن الحسن قال يعنى عقود الدين واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود فمتى اختلفنا في جواز عقده أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجارات والبيوع وغيرها ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار لأن الآية لم تفرق بين شيء منها وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون عند شروطهم في معنى قول الله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة

٢٨٦

تخصصه* فإن قيل هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه قيل له أما النذور فهي عل ثلاثة أنحاء منها نذر قربة فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير واجب لقوله تعالى( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقوله تعالى( أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) وقوله تعالى( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) وقوله تعالى( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب أوف بنذرك حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء بعينه وقسم آخر وهو ما كان مباحا غير قربة فمتى نذره لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله مثل قوله لله على أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشى إلى السوق فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث والقسم الثالث ما نذر المعصية نحو أن يقول لله على أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليها لأجل النذور وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر وهذا يدل على ما ذكرناه في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات أنها لا تصير واجبة بالنذور كما أن ما كان محظورا لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعبد الله بن عمر بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر فقال نعم قال فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال إنى أطيق أكثر من ذلك إلى أن ورده إلى أن يصوم يوما ويفطر

٢٨٧

يوما فلم يلزمه صوم الدهر باليمين فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ولذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لأصومن غدا ثم لم يصمه فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين والقسم الآخر من الأيمان هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك حنث لزمته الكفارة والقسم الثالث أن يحلف على معصية فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقال أنى لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني وقال الله تعالى( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) روى أنها نزلت في أبى بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضى الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الإنفاق عليه قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) قيل في الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وقال بعضهم الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ولا تتناولهما منفردة عن الإبل وقد روى عن الحسن القول الأول وقيل إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه أخذ من نعومة الوطء ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) ثم عطف عليه قوله تعالى( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها ) فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها وقد روى عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة أنها بهيمة الأنعام وهو كذلك لأن البقرة من الأنعام وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم لأنه بمنزلة قوله أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي كما تقول نفس الإنسان* ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية وليس كذلك لأنه لم يجعل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الأيمان في قوله

٢٨٨

تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم بل الإباحة عامة لجميع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين كما قال تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ) وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وكذلك قلنا إن الكفار مستحقون العقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان* فإن قيل إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به فمن لم يعتقد نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا وزعم هذا القول أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبحه ذكاة وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا وأما قوله إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه فليس كذلك لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته قوله عز وجل( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) يعنى قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) وسائر ما حرم في القرآن وقال آخرون إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فكأنه قال على هذا التأويل إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب قال أبو بكر يحتمل قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) مما قد حصل تحريمه ما روى عن ابن عباس فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم فيكون قوله( أُحِلَّتْ

«19 ـ أحكام لث»

٢٨٩

لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الإباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) ويحتمل أن يريد بقوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها* فإن قيل قوله تعالى( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) يقتضى تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني* قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها* قوله تعالى( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) قال أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدى إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) ويجعله بمنزلة قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلا محلى الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من

٢٩٠

المحظور إذ كان مثل قوله( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني أو أن يكون معناه أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) روى عن السلف فيه وجوه فروى عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج وقال مجاهد الصفا والمروة والهدى والبدن كل ذلك من الشعائر وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) أى دين الله وقيل إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية والأصل في الشعائر أنها مأخوذة من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ومنه مشاعر البدن وهي الحواس والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات وتقول قد شعرت به أى علمته وقال تعالى( لا يَشْعُرُونَ ) يعنى لا يعلمون ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة وهي العلامة التي يشعر بها الشيء ويعلم فقوله تعالى( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعى بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روى عن مجاهد لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما فثبت أنهما من شعائر الله وقوله عز وجل( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) روى عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه قال الله تعالى في سورة البقرة( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) وقد بينا أنه منسوخ وذكرنا قول من روى عنه ذلك وأن قوله( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) نسخه وقال عطاء حكمه ثابت والقتال في الشهر الحرم محظور وقد اختلف في المراد بقوله( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) فقال قتادة معناه الأشهر الحرم وقال عكرمة هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وجائز أن يكون المراد بقوله( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) هذه الأشهر كلها وجائز أن يكون جميعها في حكم واحد منها وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ

٢٩١

كان جميعها في حكم واحد منها فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع قوله تعالى( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) أما الهدى فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المبتكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة والبيضة هديا وأراد به الصدقة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال ثوبي هذا هدى أن عليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه قال الله تعالى( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة وقال تعالى( مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) وقال( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وأقله شاة عند جميع الفقهاء فاسم الهدى إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم وقوله( وَلَا الْهَدْيَ ) أراد به النهى عن إحلال الهدى الذي قد جعل للذبح في الحرم وإحلاله استباحة لغير ما سيق إليه من القربة وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدى إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو أجزاء صيد وظاهره يمنع جواز الأكل من هدى المتعة والقران لشمول الاسم له إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه وأما قوله عز وجل( وَلَا الْقَلائِدَ ) فإن معناه لا تحلوا القلائد وقد روى في تأويل القلائد وجوه عن السلف فقال ابن عباس أراد الهدى المقلد قال أبو بكر هذا يدل على أن من الهدى ما يقلد ومنه ما لا يقلد والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم فحظر تعالى إحلال الهدى مقلدا وغير مقلد وقال مجاهد كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم فكان ذلك أمنا لهم فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا وروى نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم وقال بعض أهل العلم أراد به قلائد الهدى بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها وروى عن الحسن أنه قال يقلد الهدى بالنعال فإذا لم توجد فالجفاف(1) تقور ثم تجعل في أعناقها ثم يتصدق بها وقيل هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدى قال أبو

__________________

(1) قوله فالجفاف جمع جف بضم الجيم وتشديد الفاء وهو وعاء الطلع ويقال للوطب الخلق جف أيضا.

٢٩٢

بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدى قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدى يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بحلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدى ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) قد تضمن ذلك كله وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) فلو لا ما تعلق بالهدى والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) نسختها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ـ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) الآية نسختها( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدى لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى( وَلَا الْقَلائِدَ ) قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدى ثابتا وقد حدثنا عبد الله بن

٢٩٣

محمد بن إسحاق المروزى قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع الجرجانى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسين بن أبى الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) الآية قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسختها قوله تعالى( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية وكان الرجل إذا لقى قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا لقى الهدى مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرام فمنعت الناس عنه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قال كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) وقال تعالى( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء فقال لا وهذا يدل على أن قوله تعالى( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) إنما أريد به المؤمنون عند الحسن لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) وقوله أيضا( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روى عن عطاء قوله تعالى

٢٩٤

( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) روى عن ابن عمر أنه قال أريد به الريح في التجارة وهو نحو قوله تعالى( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن التجارة في الحج فأنزل الله تعالى ذلك وقد ذكرناه فيما تقدم وقال مجاهد في قوله تعالى( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ) الأجرة والتجارة قوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قال مجاهد وعطاء في آخرين هو تعليم إن شاء صاد وإن شاء لم يصد قال أبو بكر هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) لما حظر البيع بقوله( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد تضمن إحراما متقدما لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام وهذا يدل على أن قوله( وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما فيدل على أن سوق الهدى وتقليده يوجب الإحرام ويبدل قوله( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام إذ كان قوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد يضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده وقوله( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله ولا ينفر صيدها ولا خلاف بين السلف والخلف فيه فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق وإن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع لقوله تعالى( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) وهذا قد حل إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال وقوله تعالى( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) قال ابن عباس وقتادة لا يجر منكم لا يحملنكم وقال أهل اللغة يقال جرمنى زيد على بغضك أو حملني عليه وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرمت على أهلى أى كسبت لهم وفلان جريمة أهله أى كاسبهم قال الشاعر :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا(1)

__________________

(1) قوله جريمة إلى آخره البيت لأبى خراش الهذلي يصف عقابا تكسب لفرخها الناهض وتزقه ما تأكله من لحم طيرا كلته وتبقى العظاء يسيل منها الصليب وهو الودك كما في التهذيب للأزهرى.

٢٩٥

ويقال جرم يجرم جرما إذا قطع وقوله تعالى( شَنَآنُ قَوْمٍ ) قرئ بفتح النون وسكونها فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك شنئته أشنأه شنآنا والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجر منكم بغض قوم وكذلك روى عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي لأجل تعدى الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام ومثله قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك * وقوله تعالى( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) يقتضى ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان تعالى لأن البر هو طاعات الله وقوله تعالى( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) نهى عن معاونة غيرنا على معاصى الله تعالى قوله تعالى( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) الآية الميتة ما فارقته الروح بغير تزكية مما شرط علينا الزكاة في إباحته وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) وقد بينا ذلك في سورة البقرة* والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت لي ميتتان ودمان يعنى بالدمين الكبد والطحال فأباحهما وهما دمان إذ ليسا بمسفوح فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء فإن قيل لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه قيل هذا غلط لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في حلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء وأيضا فإنه لما قال( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) ثم قال( وَالدَّمَ ) كانت الألف واللام للمعهود وهو الدم المخصوص بالصفة وهو أن يكون مسفوحا وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت لي ميتتان ودمان إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز وجل( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) إذ ليسا بمسفوحين ولو لم يره لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين وقوله تعالى( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) فإنه قد تناول شجمه وعظمه وسائر أجزائه ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم

٢٩٦

اللحم يتناوله ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان منهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم وأما قوله( وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) فإن ظاهره يقتضى تحريم ما سمى عليه غير الله لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية وأصله استهلال الصبى إذا صاح حين يولد ومنه إهلال المحرم فينتظم ذلك تحريم ما سمى عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله وينتظم أيضا تحريم ما سمى عليه اسم غير الله أى اسم كان فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح باسم زيد أو عمرو أن يكون غير مذكى وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة ترك التسمية رأسا* قوله تعالى( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) فإنه روى عن الحسن وقتادة والسدى والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذكوا بكل شيء إلا السن والظفر وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين لأنه يصير في معنى المخنوق وأما قوله تعالى( وَالْمَوْقُوذَةُ ) فإنه روى عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدى أنها المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت يقال فيه وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الزكاة وقد روى أبو عامر العقدى عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن المغفل أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الخذف وقال أنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرمى بالمعراض فأصيب أفآكل قال إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل * حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما عن الشعبي عن عدى بن حاتم قال سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن

٢٩٧

مقدورا على ذكاته وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه وعموم قوله [والموقوذة] عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا زائدة قال حدثنا عاصم بن أبى النجود عن زر بن حبيش قال سمعت عمر بن الخطاب يقول يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل وأما قوله تعالى [والمتردية] فإنه روى عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإنى أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإنى أخشى أن يكون الغرق قتله* قال أبو بكر لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله وكذلك الوقوع في الماء وقد روى نحو ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا ابن عرفة قال حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدى بن حاتم أنه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا ترى أيهما قتله ونظيره ما روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صيد الكلب أنه قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل وإن خالطه كلب آخر فلا تأكل فحظرصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه وكذلك قول عبد الله في الذي يرمى الصيد وهو على الجبل فيتردى أنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه فجعل الحكم للحظر دون الإباحة وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة* وأما قوله تعالى( وَالنَّطِيحَةُ ) فإنه روى عن الحسن والضحاك وقتادة والسدى أنها المنطوحة حتى تموت وقال بعضهم هي الناطحة حتى تموت قال أبو بكر هو عليهما جميعا فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها* وأما قوله( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) فإن معناه

٢٩٨

ما أكل منه السبع حتى يموت فحذف والعرب تسمى ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع قال أبو عبيدة( ما أَكَلَ السَّبُعُ ) مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهى عنه قد أريد به الموت من ذلك وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ودل بذلك عل أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظورا أكلها بعد أن لا يكون من فعل أدمى على وجه التذكية* وأما قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه لأن قوله( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الزكاة وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائد إلى المذكور من عند قوله( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) لما روى ذلك عن على وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز وحكى عن بعضهم أنه قال الاستثناء عائدا إلى قوله( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) دون ما تقدم لأنه يليه وليس هذا بشيء لاتفاق السلف على خلافه ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل وكذلك النطيحة وما ذكر معها فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) وإنما قوله( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله لكن ما ذكيتم كقوله( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ) ومعناه لكن قوم يونس وقوله( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ) ومعناه لكن تذكرة لمن يخشى ونظائره في القرآن كثيرة* وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها فذكر محمد في الأصل في المتردية إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وعن أبى يوسف في الإملاء أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكى قبل الموت وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده

٢٩٩

وأوامره ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود وقال مالك إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت وقال الحسن بن صالح إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت وقال الأوزاعى إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل وقال الليث إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها وقال الشافعى في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها* قال أبو بكر قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) يقتضى ذكاتها مادامت حية فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أولا تعيش وأن تبقى قصير المدة أو طويلها وكذلك روى عن على وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة إن ذكاتها بالذبح فكذلك المتردية ونحوها والله أعلم.

باب في شرط الذكاة قال أبو بكر قوله تعالى( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) اسم شرعي يعتوره معان منها موضع الذكاة وما يقطع منه ومنها الآلة ومنها الدين ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج وما مات حتف أنفه فغير مذكى وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في الطافي في سورة البقرة* فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج وهي أربعة الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فإذا فرى المذكى ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبى يوسف أن أبا حنيفة قال إذا قطع أكثر الأوداج أكل وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أى جانب كان وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ثم قال أبو يوسف بعد ذلك لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين وقال مالك بن أنس والليث يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه ولم يذكر المريء وقال الثوري لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الشافعى أقل ما يجزى من الذكاة قطع الحلقوم

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409