الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)9%

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 409

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201391 / تحميل: 8422
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

خوفهم ـ على العلويين يوسعونهم قتلا، وعسفاً وتشريداً، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجو، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم. أو بالأحرى حتى لا يبقى من من شأنه ذلك. حتى لقد نسي الناس فعال بني أمية معهم، عندما رأوا فعال بني العباس بهم. وحتى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول:

تالله مـا فـعلت أمـية فـيهم

معشار ما فعلت بنو العباس(١)

وقال آخر ـ وهو أبو عطاء، أفلح بن يسار الندي، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍. وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية: قال في زمن السفاح.

يـا لـيت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

وقال منصور بن الزبرقان النمري، المتوفى في خلافة الرشيد:

آل الـنبي ومـن يـحبها

يـتطامنون مـخافة القتل

أمـن النصارى واليهود هم

من أمة التوحيد في أزل(٣)

وقد أنشد الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور هذا، فقال الرشيد، بعد أن أرسل إليه من يقتله، فوجده قد مات: (لقد هممت أن أنبش

____________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ١١٩.

(٢) المحاسن والمساوي ص ٢٤٦، والشعر والشعراء ص ٤٨٤، ونظرية الإمامة ص ٣٨٢، والمهدية في الإسلام ص ٥٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢.

(٣) الأزل: الضيق والشدة.

٨١

عظامه فأحرقها)(١) .. بل في رسالة الخوارزمي، الآتي شطر منها: أن قبره قد نبش بالفعل.

ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي على اختلاف النسبة في جملة أبيات له:

ومتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالإلحاد

ويقول إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، يذكر العلويين، الذين قتلهم المنصور، ويقال: إن القائل هو غالب الهمداني.

أصبح آل الرسول أحمد في

الناس كذي عرة به جرب

ويقول دعبل بن علي الخزاعي في رثاء الرضا، وهو شعر معروف، ومشهور، وقد أنشده للمأمون نفسه:

ولـيس حـي من الأحياء نعلمه

من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر

إلا وهـم شـركاء فـي دمـائهم

كـما تـشارك أيسار على جزر

قـتلاً وأسـراً وتـحريقاً ومنهبة

فـعل الغزاة بأهل الروم والخزر

أرى أمـية مـعذورين إن فعلوا

ولا أرى لـبني العباس من عذر

أما أبو فراس الحمداني فيقول:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تـلك الـجرائر إلا دون نيلكم(١)

____________

(١) زهر الآداب هامش ج ٢ من المستطرف ص ٢٤٦ والشعر والشعراء ص ٥٤٧، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول جزء ١ ص ٢٥٤، وطبقات الشعراء ص ٢٤٦، وفيه في ص ٢٤٤: أن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت، أمر أبا عصمة الشيعي بأن يخرج من ساعته إلى الرقة، ليسل لسان منصور من قفاه، ويقطع يده. ورجله. ثم يضرب عنقه، ويحمل إليه رأسه، بعد أن يصلب بدنه، فخرج أبو عصمة لذلك، فلما صار بباب الرقة استقبلته جنازة النمري، فرجع إلى الرشيد فأعلمه، فقال له الرشيد (ويلي عليك يا بن الفاعلة، فألا إذا صادفته ميتا فأحرقته بالنار)!.

٨٢

ويقول علي بن العباس. الشاعر المعروف بابن الرومي، مولى المعتصم من قصيدة له:

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لـبـلواكم عـمـا قـليل مـفرح

أكـــل أوان لـلـنبي مـحـمد

قـتـيل زكـي بـالدماء مـضرج

إلى أن قال:

أفي الحق أن يمسوا خماصاً وأنتم

يـكـاد أخـوكم بـطنة يـتبعج

وتـمشون مختالين في حجراتكم

ثـقال الـخطى اكفالكم تترجرج

ولـيدهم بـادي الطوى ووليدكم

مـن الـريف ريان العظام خدلج

ولم تقنعوا حتى استثارت قبورهم

كـلابكم فـيها بـهيم وديـزج

والقصيدة طويلة جداً، من أرادها فليراجعها.

نصوص أخرى:

يقول فان فلوتن: (.. ولا غرو، فإن العلويين لم يلقوا من الاضطهاد مثل ما لقوا في عهد الأولين من خلفاء بني العباس..)(٢) .

ويقول الخضري: (.. فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم، أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من بني أمية، فقتلوا، وشردوا كل مشرد، وخصوصاً في زمن المنصور، والرشيد، والمتوكل من بني العباس. وكان اتهام شخص في هذه الدولة بالميل إلى واحد من بني

____________

(١) سوف نورد قصيدة أبي فراس، وهي المعروفة بـ‍ (الشافية) وكذلك شطراً من قصيدة دعبل، في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ١٣٣.

٨٣

علي كافيا لإتلاف نفسه، ومصادرة ماله. وقد حصل فعلاً لبعض الوزراء، وغيرهم الخ)(١) .

ولما دخل إبراهيم بن هرمة، المعاصر للمنصور المدينة، أتاه رجل من العلويين، فسلم عليه، فقال له إبراهيم: (تنح عني، لا تشط بدمي)(٢) .

بل يظهر من قضية أخرى لابن هرمة أن العباسيين كانوا يعاقبون حتى على حب أهل البيتعليهم‌السلام في زمن الأمويين، فإنه ـ أعني ابن هرمة ـ عندما سئل في عهد المنصور عن قوله في عهد الأمويين:

ومهما ألام على حبهم

فإني أحب بني فاطمة

أجاب: (من عض ببظر أمه).

فقال له ابنه: ألست قائلها؟!

قال: بلى.

قال: فلم تشتم نفسك؟!

قال: (أليس يعض الرجل ببظر أمه خير له من أن يأخذه ابن قحطبة؟)(٣) بل إن الجلودي الذي أمره الرشيد بالإغارة على دور آل أبي طالب ـ كما قدمنا ـ قد قال للمأمون، عندما جعل ولاية العهد للرضا:

____________

(١) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ج ١ ص ١٦١.

(٢) تاريخ بغداد ج ٦ ص ١٢٩، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٨٤.

(٣) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢٠، ٢١، والأغاني ج ٤ ص ١١٠، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٢٦٩، نقلاً عن تنبيه البكري، وملحقات إحقاق الحق ج ٩ ص ٦٩٠ نقلاً عن الحضرمي في رشفة الصادي ص ٥٦ طبع القاهرة.

٨٤

(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد..)(١) .

وأمر الرشيد عامله على المدينة: (بأن يضمن العلويين بعضهم بعضاً)(٢) وكانوا يعرضون على السلطات، فمن غاب منهم عوقب!

والمأمون أيضاً يعترف:

وجاء في كتاب المأمون، الذي أرسله إلى العباسيين، بعد ما ذكر حسن سياسة الإمام عليعليه‌السلام مع ولد العباس ما يلي:

(.. حتى قضى الله بالأمر إلينا، فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم، ويحكم، إن بني أمية قتلوا من سل سيفاً، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملاً.. فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد، والكوفة أحياء الخ). وسنورد الرواية، ونذكر مصادرها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

جانب من رسالة الخوارزمي لأهل نيشابور:

وحسب القارئ أن يرجع إلى مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، مع أنه لم يستوف كل شيء، وإنما اكتفى بذكر بعض منهم، وكذلك إلى ما ذكره ابن الساعي في مختصر أخبار الخلفاء ص ٢٦، وغيرها. وغير ذلك من كتب التاريخ والرواية، ليعلم مقدار الظلم والعسف الذي حاق بأبناء علي، وشيعتهم في تلك الحقبة من الزمن..

____________

(١) بحار الأنوار ج ٤٩ ص ١٦٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) لقد كان ذلك قبل الرشيد أيضاً فراجع تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢١٥، فإنه قال: (.. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضاً، ويعرضون، فغاب إلخ).

ثم يسوق واقعة فخ المشهورة، وبعض أسبابها.. ولا بأس بمراجعة الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٧٥ وغيره..

٨٥

وحسبنا هنا بعد كل الذي قدمناه، أن نذكر فقرات من رسالة أبي بكر الخوارزمي، التي أرسلها إلى أهل نيشابور، يقول أبو بكر، بعد أن ذكر كثيراً من الطالبيين، الذين قتلهم الأمويون، والعباسيون ـ ومنهم الرضا الذي تسمم بيد المأمون ـ:

(فلما انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الإثم العظيم، غضب الله عليهم، وانتزع الملك منهم، فبعث عليهم (أبا مجرم) لا أبا مسلم، فنظر لا نظر الله إليه إلى صلابة العلوية، وإلى لين العباسية، فترك تقاه، واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، بقتله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلط طواغيت خراسان، وأكراد أصفهان. وخوارج سجستان على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل، حتى سلط عليه أحب الناس إليه، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه: أن أسخط الله برضاه، وأن ركب ما لا يهواه، وخلت من الدوانيقي(١) الدنيا، فخبط فيها عسفا، وتقضى فيها جوراً وحيفاً. وقد امتلأت سجونه بأهل بيت الرسالة، ومعدن الطيب والطهارة، قد تتبع غائبهم، وتلقط حاضرهم، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند، على يد عمر بن هشام الثعلبي، فما ظنك بمن قرب متناوله عليه، ولأن مسه على يديه.

____________

(١) في مجمع الفوائد: (وخلت إلى الدوانيقي) ولعله هو الصواب.

٨٦

وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجه على الحسن(١) بن علي بفخ من موسى، وما اتفق على علي بن الأفطس الحسيني من هارون، وما جرى على أحمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسيني من حبسه، وعلى غسان بن حاضر الخزاعي، حين أخذ من قبله، والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة، واقتلع غرس الإمامة. وأنتم أصلحكم الله، أعظم نصيباً في الدين من الأعمش، فقد شتموه، ومن شريك، فقد عزلوه، ومن هشام بن الحكم، فقد أخافوه، ومن علي بن يقطين، فقد اتهموه).

إلى أن يقول: بعد كلام له عن بني أمية: (.. وقل في بني العباس، فإنك ستجد بحمد الله مقالاً، وجل في عجائبهم، فإنك ترى ما شئت مجالاً.

يجبى فيؤهم، فيفرق على الديلمي، والتركي، ويحتمل إلى المغربي، والفرغاني. ويموت إمام من أئمة الهدى، وسيد من سادات بيت المصطفى، فلا تتبع جنازته، ولا تجصص مقبرته، ويموت (ضراط) لهم، أو لاعب أو مسخرة، أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة..

ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا، أو سوفسطائيا، ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً ومانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمى ابنه علياً..

ولو لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس، قتيل داوود ابن علي، ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحاً لا يبرأ، وثائرة لا تطفأ، وصدعاً لا يلتئم، وجرحا لا يلتحم.

____________

(١) الظاهر أن الصحيح هو: (الحسين) كما في مجمع الفوائد.

٨٧

وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعاراً يهجون بها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم. ودونت أخبارهم، ورواها الرواة، مثل: الواقدي، ووهب بن منبه التميمي، ومثل الكلبي، والشرقي ابن القطامي، والهيثم بن عدي، ودأب بن الكناني، وأن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب الوصي، بل ذكر معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم، فيقطع لسانه، ويمزق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي، وكما أريد بالكميت بن زيد الأسدي، وكما نبش قبر منصور بن الزبرقان النمري، وكما دمر على دعبل بن علي الخزاعي. مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي. ليس إلا لغلوهما في النصب، واستيجابهما مقت الرب، حتى إن هارون بن الخيزران، وجعفرا المتوكل على الشيطان، لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالاً. ولا يبذلان نوالاً، إلا لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل: عبد الله ابن مصعب الزبيري، ووهب بن وهب البختري، ومن الشعراء مثل: مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الأدباء مثل: عبد الملك بن قريب الأصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل: بكار بن عبد الله الزبيري، وأبي السمط ابن أبي الجون الأموي، وابن أبي الشوارب العبشمي) وبعد كلام له عن بني أمية أيضاً قال:

(وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على رؤوسهم بالحق، وإن كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون:

آل الـنبي ومـن يـحبهم

يـتطامنون مـخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

مـن أمة التوحيد في أزل

وقال دعبل، وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم:

ألـم تر أني مذ ثمانين حجة

أروح، وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

وأيـديهم من فيئهم صفرات

٨٨

وقال علي بن العباس الرومي، وهو مولى المعتصم:

تـأليت أن لا يبرح المرء منكم

يـشل عـلى حر الجبين فيعفج

كـذاك بني العباس تصبر منكم

ويصبر للسيف الكمي المدجج(١)

لـكـل أوان لـلـنبي مـحمد

قـتيل زكي بالدماء مضرج(٢)

وقال إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا لما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

وكيف لا يتنقصون قوماً يقتلون بني عمهم جوعاً وسغباً ويملأون ديار الترك والديلم فضة وذهبا، يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولون أنباط السواد وزارتهم، وتلف العجم والطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم، وفيء جدهم. يشتهي العلوي الأكلة، فيحرمها، ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، وأقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وجاري بغا التركي، والافشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد..

____________

(١) في مقاتل الطالبيين: (لذاك بني العباس يصبر مثلكم ويصبر للموت).

(٢) في مقاتل الطالبيين: (أكل أوان).

٨٩

والمتوكل زعموا يتسرى باثني عشر ألف سرية، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية، أو سندية. وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة، وعلى موائد المخاتنة، وعلى طعمة الكلابين، ورسوم القرادين، وعلى مخارق وعلوية المغني، زرزر، وعمر بن بانة المهلبي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر. والقوم الذين أحل لهم الخمس، وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضراً، ويهلكون فقراً، ويرهن أحدهم سيفه، ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئة بعين مريضة، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلا أن جده النبي، وأبوه الوصي، وأمه فاطمة، وجدته خديجة، ومذهبه الإيمان، وإمامه القرآن. وحقوقه مصروفة إلى القهرمانة والمضرطة وإلى المغمزة، إلى المزررة، وخمسه مقسوم على نقار الديكة الدمية، والقردة، وعلى رؤوس اللعبة واللعبة، وعلى مرية الرحلة..

وماذا أقول في قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات، وحرثوا تربة الحسينعليه‌السلام بالفدان، ونفوا زواره إلى البلدان، وما أصف من قوم هم: نطف السكارى في أرحام القيان؟ وماذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا، وفيهم راح التخنيث وغداً، وبهم عرف اللواط؟!. كان إبراهيم بن المهدي مغنياً، وكان المتوكل مؤنثاً موضعاً، وكان المعتز مخنثاً، وكان ابن زبيدة معتوهاً مفركاً، وقتل المأمون أخاه، وقتل المنتصر أباه، وسم موسى بن المهدي أمه، وسم المعتضد عمه. ولقد كان في بني أمية مخازي تذكر، ومعائب تؤثر).

٩٠

وبعد أن عدد بعض مخازي بني أمية، ومعائبهم قال:

(.. وهذه المثالب مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشنعتها، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس، الذين بنوا مدينة الجبارين، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين.. إلى آخر ما قال..)(١) .

هذا جانب من رسالة الخوارزمي، وقد كنت أود أن أثبتها بتمامها، لكنني رأيت أن المجال لا يتسع لذلك. وعلى كل فإن:

ذلك كله غيض من فيض. ولعل فيما ذكرناه كفاية..

سياسة العباسيين مع الرعية

نظرة عامة:

لا نريد في هذا الفصل أن نعرض لأنواع القبائح، التي كان العباسييون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به واستقصاؤه في هذه العجالة.

____________

(١) راجع: رسائل الخوارزمي طبع القسطنطينية سنة ١٢٩٧ من ص ١٣٠، إلى ص ١٤٠، ونقل شطراً كبيراً منها: سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ابتداء من ص ٥٨ وذكر شطراً منها أيضاً الدكتور أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٧ فما بعدها، فراجع. وهي موجودة بتمامها في مجموعة خطية من تأليف سيدي الوالد أيده الله، سماها: (مجمع الفوائد، ومجمل العوائد) ابتداء من ص ٤٥..

٩١

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاما كبيراً في كشف حقيقتهم، وبيان واقعهم أمام الملأ.. حتى لقد قال الشعراء في وصف الحالة العامة في زمن خلفائهم الشيء الكثير، فمن ذلك قول سليم العدوي في الثورة على الوضع القائم:

حتى متى لا نرى عدلاً نسر به

ولا نـرى لـولاة الحق أعوانا

مـستمسكين بـحق قائمين به

إذا تـلون أهـل الجور ألوانا

يـا لـلرجال لداء لا دواء له

وقائد ذي عمي يقتاد عميانا(١)

وقال سديف:

____________

(١) المستطرف ج ١ ص ٩٧، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٢، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٧.

٩٢

إنـا لـنأمل أن تـرتد ألفتنا

بعد التباعد والشحناء والإحن

وتـنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن: يدفنه حيا، ففعل(١) .

وقد ذكر أبو الفرج أبياتاً كثيرة بالإضافة إلى هذين البيتين، ونسبها يحيى بن عبد الله بن الحسن، بحضرة الرشيد، إلى عبد الله بن مصعب الزبيري، ومن جملتها قوله:

فـطالما قد بروا في الجور أعظمنا

بري الصناع قداح النبع بالسفن(٢)

وقال آخر، وهو أحمد بن أبي نعيم، الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت إلى السند:

ما أحسب الجور ينقضي وعلى

الـناس أمير من آل عباس(٣)

وقد تقدم قول أبي عطاء السندي، المتوفى سنة ١٨٠ ه‍:

وقال الدكتور أحمد محمود صبحي: (.. لكن ذلك المثل الأعلى للعدالة، والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهما من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد، وجشعهم، وجور أولاد علي بن

____________

(١) راجع: العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٧٥، ٧٦، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٨٧، وهامش طبقات الشعراء ص ٤١.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٤٧٦، ٤٧٧.

(٣) راجع: وفيات الأعيان: ترجمة يحيى بن أكثم، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٥، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٨، ونهاية الإرب ج ٨ ص ١٧٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣، وطبقات الشعراء ص ٣٧٨، لكنه نسبه لابن أبي خالد، لكن في العقد الفريد ج ٦ ص ٤١٨، قد نسب يحيى بن أكثم هذا البيت إلى دعبل.

وفيه: أنه هو الذي نفي إلى السند.

٩٣

عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين، يذكرنا بالحجاج، وهشام، ويوسف ابن عمرو الثقفي، وعم الاستياء أفراد الشعب، بعد أن استفتح أبو عبد الله، المعروف بـ‍ (السفاح) وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل)(١) .

ويقول صاحب إمبراطورية العرب: (.. إنه بالرغم من أن جيش خراسان هو الذي أوصل العباسيين إلى الملك، فإن الفتن في خراسان ظلت قائمة في عهد العباسيين، كما كانت في عهد الأمويين. وكان الشعار الذي رفعه الخراسانيون الآن: أنهم هم الذين أوصلوا (آل البيت) إلى الحكم، لإقامة عهد من الرحمة والعدل، لا لإقامة عهد آخر من الطغيان، المتعطش إلى سفك الدماء.. إلى أن يقول:

لكن الشيء الذي لا ريب فيه: هو أن الأحلام بإقامة عهد السلام والعدل، التي كانت السبب في الثورة العامة ضد الأمويين قد تبخرت الآن، ولو لم يكن العباسيون أسوأ حالاً من الأمويين، فإنهم لم يكونوا ـ على أي حال ـ خيراً منهم)(٢) . وقريب منه كلام غيره(٣) وستأتي في فصل: آمال المأمون إلخ. عبارة فان فلوتن الهامة، والقيمة عن الحكم العباسي، وسياساته مع الرعية. فانتظر.

ولعل قصيدة أبي العتاهية، التي مطلعها:

من مبلغ عني الإمام

نـصائحاً مـتوالية

____________

(١) نظرية الإمامة ص ٣٨١، لكن كنية السفاح هي: (أبو العباس) لا أبو عبد الله و عبد الله هو: اسمه، واسم المنصور أيضاً، الذي كان أكبر من السفاح.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٤٥٢.

(٣) راجع: حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ ص ١٦٢ عن كتاب: (النكبات) للريحاني، وضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٧ حتى ١٣١.

٩٤

تعبر تعبيراً صادقاً عن الحالة العامة، التي كانت سائدة آنذاك، وهي معروفة ومشهورة ومذكورة في ديوانه ص ٣٠٤. وهي بحق من الوثائق الهامة. المعبرة عن واقع الحياة في تلك الفترة من الزمن.

تفصيل مواقف الخلفاء مع الرعية:

وبعد هذا. وإذا ما أردنا أن نقف عند بعض جنايات وجرائم كل واحد منهم فإننا نقول:

أما السفاح:

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي(١) .

فهو الذي يقول عنه المؤرخون: إنه: (كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عماله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم)(٢) . حتى لقد خرج عليه شريك بن شيخ المهري، الذي كان ـ على ما يظهر ـ من دعاة العباسيين ـ خرج عليه ـ ببخارا، في أكثر من ثلاثين ألفاً، فقال: (ما على هذا بايعنا آل محمد، تسفك الدماء،

____________

(١) البداية والنهاية ج ١ ص ٦٩ والتنبيه والإشراف ص ٢٩٢.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٢٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩. ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢، وليراجع إمبراطورية العرب ص ٤٣٥.

٩٥

ويعمل بغير الحق..)(١) فوجه إليه السفاح أبا مسلم، فقتله، ومن معه.. وقضية عامل السفاح ـ وهو أخوه، وقيل: ابن أخيه، يحيى ـ مع أهل الموصل، حيث ذبح الآلاف الكثيرة منهم في المسجد. هذه القضية معروفة ومشهورة.

وينص المؤرخون، على أنه: لم يبق من أهل الموصل على كثرتهم إلا أربع مئة إنسان، صدموا الجند، فأفرجوا لهم. كما أنه أمر جنده، فبقوا ثلاثة أيام يقتلون النساء، لأنه سمع أنهن يبكين رجالهن. وينص المؤرخون أيضاً: على أن نفوس أهل الموصل قد ذلت بعد تلك المذبحة، ولم يسمع لهم بعدها صوت، ولا قامت لهم قائمة(٢) .

وعندما سألت السفاح زوجته أم سلمة، بنت يعقوب بن سلمة: (لأي شيء استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف؟!. قال لها: وحياتك ما أدري..)(٣) !!.

وقد تقدمت عبارة الدكتور أحمد محمود صبحي عن السفاح والمنصور معاً عن قريب.

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٤٢، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٩، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥٤ طبع صادر، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٦، وتاريخ التمدن الإسلامي ج ٢ ص ٤٠٢، وغيرهم.. وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٣٠ قال: إنه (لذلك نقل ولاءه للعلويين، وثار ببخارا، وانضم إليه أنصار العلويين في خراسان، وكذلك ولاة العباسيين على بخارا، وبرزم، وكانت حركته شعبية. وجابه أبو مسلم صعوبات كبيرة في القضاء عليها..) انتهى.

(٢) راجع تفاصيل هذه القضية في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٨، ٤٩، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، حوادث سنة ١٣٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٧، وغاية المرام للموصلي ص ١١٥، وتاريخ اليعقوبي، طبع صادر ج ٢ ص ٣٥٧، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٦.

(٣) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٩، وغير ذلك.

٩٦

وأما المنصور:

الذي أظهر نفسه في صورة مهدي كما يظهر من قول أبي دلامة مخاطباً أبا مسلم الذي قتله المنصور:

أبـا مـجرم مـا غير الله نعمة

عـلى عـبده حتى يغيرها العبد

أفـي دولة المهدي حاولت غدرة

ألا إن أهل الغدر آباءك الكرد(١)

والذي قتل خلقاً كثيراً حتى استقام له الأمر(٢) .

فأمره في الظلم والجور وانتهاك الحرمات أشهر من أن يذكر، حتى لقد أنكر عليه ذلك: (.. رجل من أعظم الدعاة قدراً، وأعظمهم غناء، وهو أبو الجهم بن عطية، مولى باهلة. وهو الذي أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذي أخفاه فيه أبو سلمة، حفص بن سليمان الخلال، وحرسه، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة، فكان أبو العباس يعرف له ذلك. وكان أبو مسلم يثق به، ويكاتبه.

فلما استخلف أبو جعفر المنصور، وجار في أحكامه، قال أبو الجهم: ما على هذا بايعناهم، إنما بايعناهم على العدل، فأسرها أبو جعفر في نفسه، ودعاه ذات يوم. فتغدى عنده، ثم سقاه شربة من سويق اللوز، فلما وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهم: أنه قد سم، فوثب، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم؟! فقال: إلى حيث أرسلتني، ومات بعد يوم أو يومين فقال:

____________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٦ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٥٨. ويحتمل أن يقصد بالمهدي هنا: السفاح.

(٢) فوات الوفيات ج ١ ص ٢٣٢، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢٤.

٩٧

إحـذر سـويق الـلوز لا تشربنه

فإن سويق اللوز أردى أبا الجهم(١)

وأنكر عليه ذلك أيضاً ـ بالإضافة إلى عمه كما تقدم ـ جماعة من قواده، فقاموا عليه، ودعوا الناس إلى موالاة أهل البيت، فحاربهم عبد الرحمان الأزدي سنة ١٤٠ ه‍. فقتل طائفة منهم، وحبس آخرين(٢) .

وقال الطبري في حوادث سنة ١٤٠ ه‍. أيضاً: (.. وفيها ولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان، فقدمها، فأخذ بها ناساً من القواد، وذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب، منهم: مجاشع بن حريث الأنصاري، وأبو المغيرة، مولى لبني تميم، واسمه خالد ابن كثير، وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عم داوود، فقتلهم وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلبي، ومعبد بن الخليل المزني، بعد ما ضربهما ضرباً مبرحاً، وحبس عدة من وجوه قواد أهل خراسان..)(٣) .

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المنصور كان يعاشر الراوندية القائلين بألوهيته، ولا ينهاهم ولا يردعهم عن مقالتهم تلك، وعندما سأله أحد المسلمين عن ذلك قال له ـ على ما في تاريخ الطبري ـ: (لأن يكونوا في معصية الله وطاعتنا، أحب إلي من أن يكونوا في طاعة الله ومعصيتنا..).

ولكنه عندما ثاروا عليه في الهاشمية، وضع فيهم السيف وقتلهم، ولكن لا لأجل مقالتهم الشنيعة تلك، وإنما لأجل عدم طاعتهم له!.

____________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٣٦ ـ ١٣٧ وفيه: أن أبا الجهم كان وزيرا للسفاح.

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٧٥.

(٣) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ١٢٨.

٩٨

هذا.. وعندما قال لعبد الرحمان الإفريقي، رفيق صباه: (كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية؟).

أجابه عبد الرحمان: (ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور إلا رأيته في سلطانك..)(١) .

وعندما قدم عليه عبد الرحمان هذا من إفريقيا، ودخل عليه، بعد أن بقي ببابه شهراً، لا يستطيع الوصول إليه، قال له عبد الرحمان: (ظهر الجور ببلادنا، فجئت لأعلمك، فإذا الجور يخرج من دارك. ورأيت أعمالاً سيئة، وظلماً فاشياً، ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم). فغضب المنصور. وأمر بإخراجه(٢) .

وقال لابن أبي ذؤيب: (أي الرجال أنا؟).

فأجابه: (أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله، ورسوله، وسهم ذوي القربى، واليتامى. والمساكين، وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم(٣) . وحج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب، فقال: نشدتك الله، ألست أعمل بالحق؟ أليس تراني أعدل؟ فقال ابن أبي ذئب: أما إذ نشدتني بالله فأقول: اللهم لا، ما أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة، وتترك أهل الخير(٤) .

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٨، وغيره.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٢١٥، والإمام الصادق، والمذاهب الأربعة المجلد الأول جزء ٢ ص ٤٧٩.

(٣) الإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٤٥.

(٤) صفة الصفوة ج ٢ ص ١٧٥.

٩٩

وعندما كان يطوف بالبيت سمع أعرابيا يقول: (اللهم إني أشكو إليك ظهور الفساد، وما يحول بين الحق وأهله، من الطمع)، فطلبه المنصور، فأتي به، فاستمع المنصور منه إلى شرح واف عن الظلم، والجور، والفساد، الذي كان فاشيا آنذاك، وهي قصة طويلة لا مجال لذكرها، وعلى مريدها المراجعة إلى مظانها(١) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله له عمرو بن عبيد، في موعظته الطويلة له، ومن جملتها: (.. إن وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور، والله، ما يحكم وراء بابك بكتاب الله، ولا بسنة نبيه إلخ..)(٢) .

وقد لقي أعرابياً بالشام، فقال له المنصور: (إحمد الله يا أعرابي، الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت).

فأجابه الأعرابي: (إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون). فسكت، ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله(٣) .

____________

(١) المحاسن والمساوي من ص ٣٣٩، إلى ص ٣٤١ والعقد الفريد للملك السعيد ص ١١٦، ١١٧، ١١٨، وحياة الحيوان للدميري ج ٢ ص ١٩٠، ١٩١، طبع سنة ١٣١٩، وعيون الأخبار، لابن قتيبة ج ٢ من ص ٣٣٣، إلى ص ٣٣٦، والعقد الفريد ج ٢ ص ١٠٤، ١٠٥، طبع سنة ١٣٤٦، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٤٠، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ ص ٤٨٠، نقلاً عن: تاريخ ابن الساعي ص ١٩، والفتوحات الإسلامية لدحلان ج ٢ ص ٤٤٥، حتى ٤٤٨ مطبعة مصطفى محمد. والموفقيات ص ٣٩٢، ٣٩٣ (٢) مرآة الجنان لليافعي ج ١ ص ٣٣٦، ٣٣٧، والمحاسن والمساوي، طبع صادر ص ٣٣٨، ٣٣٩، وعيون الأخبار، لابن قتيبة باختصار ج ٢ ص ٣٣٧، ونور القبس ص ٤٤.

(٣) روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٨٦ وأساس الاقتباس، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ١٢٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٥، وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٣، نقلاً عن تاريخ دمشق لابن عساكر I ص ٣٩١: أن الذي قال للمنصور ذلك هو منصور بن جعونة الكلابي: وأن قوله له هو: (إن الله أعدل من أن يسلط علينا الطاعون والعباسيين معاً).

١٠٠

وقد كتب له سديف، الذي كان من المتحمسين للدولة العباسية:

أسرفت في قتل الرعية ظالماً

فاكفف يديك أظلها (مهديها)(١)

ويريد ب‍ـ (مهديها) محمد بن عبد الله بن الحسن على ما يظهر. وقضية الرجل الهمداني، الذي أراد عامل المنصور أن يسلبه ضيعته، فأبي عليه ذلك، فكبله بالحديد، وسيره إلى المنصور، فأودعه السجن أربعة أعوام، لا يسأل عنه أحد، هذه القضية معروفة، ومشهورة(٢) .

وعندما بنى مدينة: (المصيصية) قد أخذ أموال الناس، حتى ما ترك عند أحد فضلاً(٣) وعندما أراد أن يبني مدينة أخرى ثار الناس عليه ووقع القتال، لأنهم علموا أنه سوف لا يبقى عندهم فضلاً أيضاً.

وأما ما فعله عبد الوهاب ابن أخي المنصور في أهل فلسطين، فذلك يفوق كل وصف ويتجاوز كل بيان(٤) .

بعض ما يقال عن المنصور:

وأخيراً.. فقد قال عنه البيهقي إنه: (كان يعلق الناس من أرجلهم، حتى يؤدوا ما عليهم)(٥) .

____________

(١) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ / ٨٨. ويقال: إن هذا هو سبب قتل سديف.

(٢) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢٨١، ٢٨٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٨٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٢١.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٣٧.

(٥) المحاسن والمساوي ص ٣٣٩.

١٠١

هذا.. وقد وصف اليافعي والذهبي المنصور بأنه كان: (فيه جبروت وظلم)(١) .

ووصفه السيد أمير علي بأنه: (كان غادراً خداعاً، لا يتردد البتة في سفك الدماء.. إلى أن قال: وعلى الجملة: كان أبو جعفر سادراً في بطشه، مستهتراً في فتكه. وتعتبر معاملته لأولاد علي من أسوأ صفحات التاريخ العباسي)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله الريان، مولى المنصور لجعفر بن أبي جعفر، حيث ينص على أنه قتل أهل الدنيا، ممن لا يعد ولا يحصى، وإن فرعون لا يقاس به(٣) .

وأما المهدي:

الذي اتخذ الزندقة ذريعة للفتك بالأبرياء.. فقد كفانا الجهشياري مؤونة الحديث عنه، حيث قال: إنه في زمن المهدي هذا:

(كان أهل الخراج يعذبون بصنوف من العذاب، من السباع، والزنابير والسنانير)(٤) . وقد خرج عليه يوسف البرم بخراسان، منكرا عليه أحواله، وسيرته، وما يتعاطاه(٥) .

____________

(١) العبر للذهبي ج ١ / ٢٣٠، ومرآة الجنان لليافعي ج ١ / ٣٣٤.

(٢) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي ص ١٨٤، وليراجع تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ / ٣٩٩. والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ٦١.

(٣) الوزراء والكتاب ص ١٣٠.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٤٢.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٣١.

١٠٢

وأما الهادي:

فقد كان: (يتناول المسكر، ويحب اللهو والطرب، وكان ذا ظلم وجبروت)(١) .

وكان: (سيّء الأخلاق، قاسي القلب، جباراً، يتناول المسكر، ويلعب)(٢) .

وقد قال عنه الجاحظ: (كان الهادي شكس الأخلاق، صعب المرام، سيء الظن. قل من توقاه، وعرف أخلاقه إلا أغناه، وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل)(٣) .

وقال الجهشياري: (كان فظاً قاسياً، غير مأمون على وفاء بوعد)(٤) .

نعم.. لقد كان يأمر للمغني بالمال الجزيل الخطير ـ من بيت مال المسلمين ـ كما يقول الجاحظ.. وقد بلغ من إسرافه في إجازة الخلعاء والمغنين، أن دفع إسحاق الموصلي لأن يقول: (لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة)(٥) وأخيراً.. فقد قال عنه الذهبي: (قد كان جباراً ظالم النفس) (٦) إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه.

____________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ / ٣٣١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٧٩، وغيره.

(٣) التاج للجاحظ ص ٨١.

(٤) الوزراء والكتاب ص ١٧٤.

(٥) الأغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج ٥ / ١٦٣.

(٦) العبر للذهبي ج ١ / ٢٥٨. ولا بأس بمراجعة: مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٤.

١٠٣

وأما الرشيد:

فسيرته تكفي عن كل بيان.. ويكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلا في بذل المال(١) ، حيث يقولون إن المنصور كان بخيلاً.

وقد تسلط ـ كالمنصور ـ بعد مدة من خلافته على الأمور، فأفسد الصنايع، وأحب جمع الأموال(٢) .

(وكان جباراً سفاكاً للدماء، على نمط من ملوك الشرق المستبدين)(٣) . وقد عسف عامله أهل خراسان، وقتل ملوكها، ووجوه أهلها وأشرافها وصناديدها، وأخذ أموالهم. فأرسلها إلى الرشيد، الأمر الذي كان سبباً في انتقاضها عليه(٤) .

وكان يعذب الناس في الخراج، حيث: (أخذ العمال، والتناء، والدهاقين، وأصحاب الصنايع، والمبتاعين للغلات، والمقبلين. وكان عليهم أموال مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام. فطالبهم بصنوف من العذاب. إلى أن دخل عليه ابن عياض، فرأى الناس يعذبون في الخراج، فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:((من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة)) ، فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس، فرفع..) (٥) .

____________

(١) ولكن لا في سبيل الله، وإنما على ملذاته وشهواته، وعلى المغنين والمضرطين كما في رسالة الخوارزمي المتقدمة، وكما ينص عليه أي كتاب تاريخي يتحدث عن سيرته وأفعاله.

(٢) التنبيه والإشراف ص ٢٩٩.

(٣) هذا قول الأمير شكيب أرسلان، في تعليقته على: حاضر العالم الإسلامي، نقلها عنه: محمد بن عقيل هامش ص ٢٠ من كتابه: العتب الجميل.. وهو من منشورات هيئة البحوث الإسلامية في إندونيسيا.

(٤) الوزراء والكتاب ص ٢٢٨.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٤٦.

١٠٤

وكان قد ولى رجلاً يضرب الناس، ويحبسهم، ليؤدوا ما عليهم من الخراج(١) .

وقال أبو يوسف، في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج: (بلغني أنه: قد يكون في حاشية العامل، أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة، ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعين بهم. ويوجههم في أعماله، يقتضي بذلك الذمامات. فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه، ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء، من الخراج كان، أو من أموال الرعية. ثم إنهم يأخذون ذلك كله ـ فيما بلغني ـ بالعسف، والظلم، والتعدي(٢) ..

وقال: وبلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس، ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله، شنيع في الإسلام)(٣) .

وبعد.. فقد كان في قصره أربعة آلاف امرأة: من الجواري والحظايا(٤) وكان على حد تعبير بعضهم: (حريصاً على اللذات المحرمة، وسفك الدماء، وغصب حقوق الناس، وكان ظالماً لأهل البيتعليهم‌السلام وكانت جوائزه خاصة لأهل اللهو، واللعب، والمغنين، والراقصات).

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٨٤.

(٢) الخراج لأبي يوسف ص ١١٦ ط سنة ١٣٩٢ ه‍.

(٣) المصدر نفسه ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٢٠، نقلاً عن الطبري. وفي نفس الجزء من البداية والنهاية ص ٢٢٢ قال: (قال بعضهم: إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان).

وجاء في ضحى الإسلام ج ١ / ٩. أنه: (كان للرشيد زهاء ألفي جارية: من المغنيات، والخدمة في الشراب في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر)، وإذن فكيف بالسراري الذين هم أربعة آلاف، وبقية الجواري، اللواتي يحتاج إليهن في كثير من الشؤون. فالرقم الحقيقي أكثر من أربعة آلاف بكثير، بل لعله يزيد عما كان عند المتوكل، الذي كان يتسرى باثني عشر ألف سرية، كما نص عليه الخوارزمي فيما تقدم، وجبور عبد النور في كتاب الجواري ٣٦ من سلسلة اقرأ.

١٠٥

وستأتي عبارة فان فلوتن عنه في فصل: آمال المأمون الخ.. فانتظر..

وحسب الرشيد. رسالة سفيان، التي أرسلها إليه من غير طي، ولا ختم، والتي تلقي لنا ضوءاً على جانب من سيرته وسلوكه. ولسوف نثبتها ـ نظرا لأهميتها ـ مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وأما الأمين.

(.. الذي رفض النساء، واشتغل بالخصيان، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين، واستخف حتى بوزرائه، وأهل بيته)(١) .

فقد كان: (قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الأمور على غيره الخ..)(٢) .

ويضيف هنا القلقشندي قوله: (منهمكا في اللذات واللهو..)(٣) .

ويكفيه أن كلاً من العبري، وابن الأثير الجزري يقول عنه: إنه: (لم يجد للأمين شيئاً من سيرته يستحسنه، فيذكره..)(٤) .

ولقد كانت أيامه على الناس، أيام حروب، وويلات، وسلب ونهب، وما إلى ذلك، مما لا تقره شريعة، ولا يرضى به خلق كريم.

____________

(١) مآثر الإنافة ج ١ / ٢٠٥، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٠١، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤، والكامل لابن الأثير، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ / ١٧٠، والطبري، وغير ذلك.

(٢) التنبيه والإشراف ص ٣٠٢.

(٣) مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج ١ / ٢٠٤.

(٤) مختصر أخبار الدول ص ١٣٤، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٢.

١٠٦

وأما المأمون:

فإنه لم يكن في كل ما ذكرناه أفضل من أسلافه، ولا كانت أيامه بدعاً من تلك الأيام. كما سنوضح ذلك في أواخر فصل: آمال المأمون، وظروفه في الحكم، حيث سيتضح أن حال الرعية في أيامه كان قد تناهى في السوء، وبلغ الغاية في التدهور.

وصية إبراهيم الإمام:

وبعد كل الذي قدمناه، لم يعد يخفي على أحد، كم سفك العباسيون من الدماء البريئة ـ عدا عما سفكوه من دماء بني عمهم العلويين ـ ونزيد هنا: أن إبراهيم الإمام أرسل إلى أبي مسلم يأمره: (بقتل كل من شك فيه، أو وقع في نفسه شيء منه، وإن استطاع أن لا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية إلا قتله فليفعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله، وأن لا يخلي من مضر دياراً)(١) .

ولعل سر أمره له بقتل كل عربي يرجع إلى أنه كان يعلم أن ذلك يرضي الخراسانيين، الذين كانوا مضطهدين على أيدي العرب. كما أنه كان يعلم أن العرب ين يستجيبوا له استجابة واسعة ضد الأمويين، لأن الدولة الأموية كانت ترضي غرور العربي، وتؤكد اعتزازه بجنسه ومحتده.

يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه العرب من الانقسامات الداخلية، التي كانت تمزق صفوفهم وتوهن قوتهم.

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ٩ / ص ١٩٧٤، و ج ١٠ / ٢٥، والكامل لابن الأثير، ج ٤ / ٢٩٥، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٨، و ص ٦٤، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١١٤، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٥، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ / ٤٧٩، وشرح النهج للمعتزلي ج ٣ / ٢٦٧، وضحى الإسلام ج ١ ص ٣٢.

١٠٧

وأما المضرية فقد كانوا جماعة نصر بن سيار الموالي للأمويين، واليمانية كانوا جماعة ابن الكرماني المناهض لنصر(١) .

أبو مسلم ينفذ الوصية:

وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ وصية إبراهيم الإمام كل الحرص.. حتى لقد قتل ـ كما يقول الذهبي واليافعي ـ: (خلقاً لا يحصون محاربة وصبراً، وكان حجاج زمانه..)(٢) .

ويقول المؤرخون: إن من قتلهم أبو مسلم صبراً قد بلغ (ست مئة ألف نفس) من المسلمين، من المعروفين، سوى من لم يعرف، ومن قتل في الحروب، وتحت سنابك الخيل(٣) .

وقد اعترف المنصور نفسه بذلك، عندما عاتب أبا مسلم، ثم قتله، فكان من جملة ما عاتبه به قوله: (فأخبرني عن ست مئة ألف من المسلمين، قتلتهم صبراً؟!). ولم ينكر أبو مسلم ذلك، وإنما أجابه بقوله:

____________

(١) راجع: تاريخ الجنس العربي ج ٨ / ٤١٧.

(٢) العبر للذهبي ج ١ / ١٨٦، ومرآة الجنان ج ١ / ٢٨٥.

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ / ٧٢، ووفيات الأعيان ج ١ / ٢٨١، طبع سنة ١٣١٠ ه‍. ومختصر تاريخ الدول ص ١٢١، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٥٤، وشرح شافية أبي فراس ص ٢١١، وغاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص ١١٦ وتاريخ ابن الوردي ج ١ / ٢٦١، ومآثر الإنافة في معالم الخلافة ج ١ / ١٧٨، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٤٦.

١٠٨

(لتستقيم دولتكم)(١) !!.

واعترف جعفر البرمكي بذلك أيضاً(٢) .

وأبو مسلم نفسه نراه قد اعترف بمئة ألف منها أيضاً في مناسبة أخرى(٣) .

وأما من قتلهم في حروبه مع بني أمية وقوادهم، فقد أحصوا فوجدوا: ألف ألف وستمائة ألف(٤) .

وكل ذلك غير بعيد. إذا ما عرفنا أن ثورة أبي السرايا قد كلفت جيش المأمون فقط (٢٠٠) ألف جندي، كما سيأتي. وكذلك إذا ما لاحظنا ما يذكره المؤرخون عن عدد القتلى في الوقائع المختلفة، التي خاضها أبو مسلم..

وبعد هذا. فإننا نرى أبا مسلم نفسه يقول في رسالة منه للمنصور: (فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم)(٥) وفي رسالة أخرى منه له أيضاً يقول: (.. إن أخاك أمرني أن أجرد السيف، وآخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكت دماء فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته في غير محله)(٦) .

يقصد بـ‍ (أهله): أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أوضح ذلك في رسالته الأخرى للمنصور التي يقول فيها: أن أخاه قد استخف بالقرآن وحرفه، وأنه أوطأه في غيرهم من أهل بيتهم العشوة، بالإفك والعدوان، وأنه ظهر له بصورة مهدي.

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٤٥، نقلاً عن العيني في: دولة بني العباس والطولونيين والإخشيديين ص ٣٠، فما بعدها.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٢ / ٤٣٥، نقلاً عن: زينة المجالس (فارسي).

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ / ١٠٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ / ١٠٣.

(٤) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص ٢١٤، وليراجع صبح الأعشى ج ١ / ٤٤٥ أيضاً.

(٥) البداية والنهاية ج ١٠ / ٦٩.

(٦) تاريخ بغداد ج ١ / ٢٠٨، والبداية والنهاية ج ١٠ / ١٤، ولا بأس بمراجعة ص ٦٩. والنزاع والتخاصم ص ٥٣، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد ١ ج ٢ / ٥٣٣.

١٠٩

أي أن أخا المنصور قد حرف الآيات الواردة في أهل البيتعليهم‌السلام لتنطبق على العباسيين، وأنه بذلك تمكن من إغراء أبي مسلم بالعلويين، ففعل بهم ما فعل بالإفك والعدوان.. ويصرح بذلك في رسالة أخرى للمنصور، فيقول: (وأوطأت غيركم من كان فوقكم من آل رسول الله بالذل والهوان، والإثم والعدوان) ويشير بذلك إلى العلويين(١) .

وعلى كل فإننا سوف لا نستغرب إذا رأينا أنه قد بلغ من ظلم أبي مسلم أنه عندما حج: (هربت الأعراب عن المناهل، التي يمر بها ذهاباً وإياباً، فلم يبق منهم أحد، لما كانوا يسمعونه من سفكه للدماء)(٢) .

وقال المقريزي: (وقتل - يعني أبو مسلم - زياد بن صالح، من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول: إنما بايعنا على إقامة العدل، وإحياء السنن، وهذا جائر ظالم، يسير بسيرة الجبابرة، وإنه مخالف وكان لزياد بلاء في إقامة الدولة، فلم يرع له، فغضب عيسى ابن ماهان، مولى خزاعة لقتل زياد، ودعا لحرب أبي مسلم سراً، فاحتال عليه بأن دس إلى بعض ثقاته إلخ) ثم ذكر كيفية احتيال أبي مسلم وقتله إياه(٣) .

____________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٣٣، نقلاً عن كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي.. ولا بأس بمراجعة الرسائل المختلفة المعبرة عن ذلك فيما تقدم من المراجع، وفي النزاع والتخاصم ص ٥٢، ٥٣، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة جلد ١ ج ٢ / ٥٣٣، ٥٣٤، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ / ١٣٢، ١٣٣، وغير ذلك.

(٢) النزاع والتخاصم ص ٤٦.

(٣) نفس المصدر والصفحة.

١١٠

وقد قال أبو مسلم ليونس بن عاصم عندما قال له: هذا جزائي؟! (ومن جازيناه بجزائه، وضعت سيفي فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته)(١) .

وقال أبو مسلم أيضاً: (إن أطفيت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيرانا، فإن أفرح بالإطفاء، فواحزنا من الإلهاب)(٢) .

وقال أبو مسلم أيضاً: (إني نسجت ثوباً من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من خارج الخ)(٣) .

ولا مجال ثمة للشك:

كل ذلك يدل دلالة قاطعة على مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون مع الناس بصورة عامة، ومع العلويين، بشكل خاص.. والمتتبع للأحداث التاريخية يرى أن الأمة كانت تعيش في رعب دائم ومستمر، خصوصاً وأن كل أحد كان يرى ويعلم: كيف أن الآلاف من الناس، كانوا يذبحون لأتفه الأسباب وأحقرها..

وأعود فأذكر القارئ ببعض ما أوردناه من رسالة الخوارزمي، التي تعتبر بحق الوثاق الهامة. كما اعترف به غير واحد من الباحثين.

وبعد فلا بد لنا من كلمة أخرى:

كانت تلك ـ كما قلنا ـ لمحة خاطفة عن حالة العباسيين من الناس عامة، ومع العلويين خاصة.. ولعل من الظلم للحقيقة وللتاريخ هنا، أن نمضي ولا نعطي للقارئ لمحة عن حياتهم الخاصة، وسلوكهم الخلقي.

ولذا نرى لزاماً علينا: أن نلم إلمامة سريعة ببعض ما يحدثنا به التاريخ في هذا الموضوع، فنقول

____________

(١) النزاع والتخاصم ص ٤٧.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢٩٨، طبع صادر وشرح ميمية أبي فراس ص ٢١٤.

(٣) المحاسن والمساوي طبع مصر ج ١ / ٤٨٢، والكنى والألقاب ج ١ / ١٥٧ / ١٥٨ نقلاً عن ربيع الأبرار للزمخشري.

١١١

العباسيون في حياتهم الخاصة:

أما حياتهم الخاصة، وما كان يمر بها من رذائل وقبائح، يندى لها جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، ويقطر قلبه لها دماً وألماً، فتلك حدث عنها ولا حرج. وقد تقدم في رسالة الخوارزمي بعض ما يشير إلى ذلك. وحيث أن الاستقصاء في هذا الموضوع مما تنوء به العصبة أولو القوة، فإننا لن نحاول التصدي لذلك، سيما وأن هذا الكتاب غير معد لبحث هذا الموضوع فعلاً.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقية هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والتي قلنا إننا سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب مع الوثائق الهامة، إن شاء الله تعالى..

والمأمون: هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه، لأنهم عاشوا في خضم الأحداث، وشاهدوا كل شيء، وكل القضايا عن كثب. يقول المأمون في تلك الرسالة: (.. وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله، وتدبيره، إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً، ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً، كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة الخ). فهذه القطعة تبين لنا بجلاء ـ كما يتبين من كثير أمثالها ـ كيف كان خلفاء العباسيين منغمرين في الملذات والشهوات.. وتبين لنا نظرتهم للحياة وأهدافهم منها. ولولا أن المقام يطول لأوردنا سيلاً من الشواهد والدلائل على مدى استهتارهم، وانتهاكهم، للحرمات، وارتكابهم للموبقات، ليعلم أن أقوال المأمون هذه، وكذلك أقوال الخوارزمي، وغيرهما مما تقدم غير مبالغ فيها، وأن الحقيقة هي أعظم من ذلك بكثير وأن ذلك ليس إلا غيضاً من فيض. وكتب التاريخ والأدب خير شاهد على ذلك، وإن حاولت بعض الأيدي الأثيمة تشويه الحقيقة، والتستر على واقعهم ذاك المزري والمهين.

١١٢

وفي نهاية المطاف:

وإذا كانت تلك هي سيرة العباسيين في حياتهم الخاصة، وتلك هي سياساتهم مع الناس ومع خصومهم، فماذا يمكن أن تكون حالة وزرائهم وقوادهم، وسائر رجال دولتهم؟!

التاريخ وحده هو الذي يتولى الإجابة على هذا السؤال..

أما نحن.. فنكتفي بهذا القدر، وننتقل إلى الحديث عن بعض نتائج سياسات العباسيين تلك.. وخصوصاً ما كان منها يتعلق بالعلويين.

فشل سياسة العباسيين ضد العلويين

سؤال لا بد منه:

والآن.. وبعد أن عرفنا موقف العلويين من العباسيين، وقدمنا لمحة من معاملتهم للرعية، التي لم تكن أحسن حالاً، ولا أهدأ بالاً من العلويين، سيما وأنهم من أول يوم من حكمهم سلطوا على الناس فئة لا تفقه للرحمة معنى، ولا تجد الشفقة إلى قلوبها أي سبيل، همها الدنيا، وغايتها الاستئثار بكل شيء، وتتمتع بحماية مطلقة من قبل الخلفاء، حتى عندما كانت تعبث بأموال الناس، وحتى في دمائهم وأعراضهم..

وكيف لا!! والخلفاء أنفسهم ما كانوا أحسن حالاً من تلك الفئة، ولا أقل انحرافا، وبعداً عن تعاليم السماء، والخلق الإنساني منها..

بعد أن عرفنا ذلك. وغيره مما تقدم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو:

ما هي نتائج وآثار سياسات العباسيين تلك؟. وهل استطاعوا أن يجعلوا الناس راضين عن تلك السياسات؟ وعما كانوا يرونه منهم من تميعهم، واستهتارهم بكل القيم، والفضائل الأخلاقية؟.

وهل استطاعوا أن يكتسبوا عطف الأمة، بعد أن فعلوا بها، وبأهل بيت نبيها ما فعلوا؟!.

١١٣

أما الجواب:

الواقع.. أن نتيجة ذلك كانت وبالاً على العباسيين:( وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلّا بِأَهْلِهِ.. ) . فقد كان الناس مستائين جداً من سيرتهم السيئة وسيرة ولاتهم مع الرعية، وكان من الطبيعي جداً أيضاً: أن يثير الناس ويسؤهم ما كانوا يرونه من تميعهم الشديد في حياتهم الخاصة، وإيثارهم اللذات المحرمة على كل شيء، حتى قد يبلغ الأمر بالخليفة منهم أن يحتجب عن الناس منهمكا بلذاته وشهواته. وقد كان الرشيد يحمد الله على أن أراحه البرامكة من أعباء الحكم(١) ، وتركوه ينصرف إلى ما يندى له جبين الإنسان الحر ألماً وخجلاً، وكذلك كانت حال والده المهدي من قبل، وعلى ذلك جرى ولده الأمين من بعد.. وغيرهم وغيرهم ممن لا نرى ضرورة لتعداد أسمائهم. وحسبنا تلك الشواهد الكثيرة في التاريخ، الذي قد لا تمر بصفحة منه، فيها حديث عن الخلفاء، إلا وتجد فيها ما لا يسر، وما لا يغبط عليه أحد..

وكان مما ساعد على إدراك الناس لحقيقة نوايا العباسيين، وواقعهم، الذي طالما جهدوا في التستر عليه، وإخفائه، بحيث لم يعد ثمة شك في أنهم ليسوا بأفضل من الأمويين، إن لم يكونوا أكثر منهم سوءا. هو ما كانوا يرونه من معاملتهم لبني عمهم آل أبي طالب، الذين ضحوا بكل شيء في سبيل هذا الدين، وأعطوا وبذلوا حتى أرواحهم في سبيل هذه الأمة. والذين كانوا هم الأمل الحي لهذه الأمة المضطهدة، والمغلوبة على أمرها، التي كانت ترى فيهم كل الفضائل، والكمالات الإنسانية..

والذين كان من الواضح لدى كل أحد أن وجود العباسيين في الحكم مدين لهم، أكثر من غيرهم على الإطلاق.

لقد رأوهم جميعاً متفقين ـ حتى المأمون كما سيتضح ـ على العداء لهم، ووجوب التخلص منهم، لكن الفرق هو أن الخلفاء الذين سبقوا المأمون كانت أساليبهم تجاههم، تتميز ـ عموماً ـ بالعنف والقسوة، بخلافه هو، فإنه اتبع أسلوباً جديداً، وفريدا في القضاء عليهم، والتخلص منهم..

ولقد كان هذا الموقف مفاجأة للأمة، وصدمة لها، ولذا فمن الطبيعي أن يتسبب في ردود فعل عنيفة في ضمير الأمة ووجدانها، وبخيبة أمل قاسية لها في العباسيين.

____________

(١) الوزراء والكتاب ص ٢٢٥.

١١٤

بل لقد كان ذلك سبباً في زيادة تعاطفها معهم، ومضاعفة احترامهم لهم ـ ولو بدافع إنساني بحت ـ ومن هنا نلاحظ أنهم كثيراً ما يذكرون في سبب نكبات الوزراء، والعمال، بل والعلماء أيضاً ـ صدقاً كان ذلك أو كذباً ـ أنه أجار علوياً، أو أطلقه من السجن، ودله على طريق النجاة، وقد ذكرت هذه المنقبة للإمام أحمد بن حنبل أيضاً(١) ، وأما موقف أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم من العلماء، فهو أشهر من أن يذكر.

ولعل الأهم من ذلك كله:

ولعل الأهم من ذلك كله أن الناس الذين كانوا يرون سلوك العباسيين مع العلويين، ومع الناس عامة، وأيضاً سلوكهم اللاأخلاقي في حياتهم الخاصة.. كانوا يرون في مقابل ذلك: زهد العلويين، وورعهم، وترفعهم عن كل الموبقات والمشينات، وخصوصاً الأئمة منهمعليهم‌السلام . وقد جعلهم ذلك ينساقون معهم لا إرادياً، حيث رأوا أنهم هم الذين يمتلكون كل المؤهلات، ويتمتعون بكافة الفضائل والمزايا، التي تجعلهم جديرين بخلافة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهلا لقيادة الأمة، قيادة صالحة وسليمة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها من قبل..

وواضح أن تلك الخصائص، وهاتيك المؤهلات والمميزات لأئمة أهل البيتعليهم‌السلام وذلك السلوك المثالي لهم ـ كل ذلك ـ كان يغري العباسيين بمضايقتهم، وملاحقتهم أشد الإغراء، وكان أيضاً يدفع الحساد للوشاية بهم. وتحريض الخلفاء على الإيقاع والتنكيل فيهم.

ولهذا نرى أن الخلفاء! لم يكونوا يألون جهداً، أو يدخرون وسعاً في ملاحقتهم، واضطهادهم، وسجنهم. حتى إذا تمكنوا منهم قضوا عليهم، بالوسائل التي تضمن ـ بنظرهم ـ عدم إثارة شكوك الناس وظنونهم.

____________

(١) راجع كتاب: شيخ الأمة، الإمام أحمد بن حنبل، لعبد العزيز سيد الأهل.

١١٥

التشيع للعلويين:

وبعد كل الذي قدمناه، فإن من الطبيعي أن نرى العلويين يتمتعون بالاحترام والتقدير من مختلف الفئات والطبقات، وأن نرى ازدياد احترام الناس، وتقديرهم لهم باستمرار.. حتى لقد كان لهم في نفوسهم من عميق الحب، وصادق المودة، ما أرهب العباسيين، وأرعبهم. وحتى لقد رأينا الرشيد نفسه ـ وهو طاغية بني العباس بلا منازع ـ يشكو لعظيم البرامكة، يحيى بن خالد غمه وحيرته في أمر الإمام موسىعليه‌السلام ، رغم أنهعليه‌السلام كان في السجن. ونرى يحيى بن خالد يعترف بدوره بأن: الإمام (المسجون) قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم!!(١) ولا يجب أن نستغرب شكوى الرشيد تلك. ولا اعتراف يحيى هذا بعد أن التشيع يجد سبيله إلى كل قلب، وكل فؤاد، حتى وزراء العباسيين، وقوادهم، بل وحتى نساء الخلفاء أنفسهم.

____________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي ص ٢٠، والبحار.

١١٦

فهذه أم الخليفة المهدي تقيم خادما لقبر الحسينعليه‌السلام ، وتجري عليه كل شهر ثلاثين درهما، دون أن يعلم بها أحد(١) .

وهذه بنت عم المأمون، التي كان لها نفوذ قوي عنده، يذكر المؤرخون أنها كانت تميل إلى الإمام الرضاعليه‌السلام .

بل وحتى (زبيدة)، زوجة الرشيد، وحفيدة المنصور، وأعظم عباسية على الإطلاق، يقال: إنها كانت تتشيع، وعندما علم الرشيد بذلك حلف أن يطلقها(٢) .. ولعل لهذا السبب أحرق أهل السنة قبرها مع ما أحرقوا من قبور بني بويه وقبر الكاظمعليه‌السلام وذلك عندما وقعت الفتنة العظيمة بين السنة والشيعة سنة ٤٤٣ ه‍(٣) .

وأما وزراء العباسيين، فأمرهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان، فإن التاريخ يحدثنا: أن العباسيين، ابتداء من السفاح، كانوا غالباً يبطشون بوزرائهم، بسبب اطلاعهم على تشيعهم، وممالاتهم للعلويين، ابتداء بأبي سلمة، فأبي مسلم، فيعقوب بن داوود. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر بالفضل بن سهل، وغيره من بعده، بل وحتى نكبة البرامكة يقال: إن سببها هو تشيعهم للعلويين!. وإن كان يقال: أن الرضاعليه‌السلام دعا عليهم، لأنهم كانوا سبب قتل أبيه..

إلا إذا كان تظاهرهم بمحبة العلويين مجاراة للرأي العام، وسياسة منهم؛ فاستغل ذلك الرشيد ضدهم.(٤)

نعم لقد بلغ الأمر حداً أصبح معه التسمي بـ‍ (الوزير). يعتبر شؤماً: وينفر الناس منه كل النفور، كما سنشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

____________

(١) كلمة (التشيع) التي ترد في هذا الكتاب، لا أقصد بها غالباً ـ التشيع بمفهومه الأخص، والمذهب المعروف، وإنما أقصد بها مجرد الولاء والحب للعلويين، وتأييدهم ضد خصومهم، سواء أكان ذلك من الشيعة بالمعنى المعروف، أو من غيرهم من أهل الفرق الإسلامية الأخرى.

(٢) الطبري ج ١١ / ٧٥٢، طبع ليدن.

(٣) ذكر ذلك الصدوق في المجالس، فراجع: رجال المامقاني، مادة: (زبيدة).

(٤) الكنى والألقاب ج ٢ / ٢٨٩ نقلاً عن ابن شحنة في روضة المناظر.

١١٧

وأما عن أمرائهم وقوادهم، فالأمر فيهم أوضح وأجلى، حيث إنهم ما كانوا يرون إلا والياً أو قائداً يخرج عليهم داعياً للعلويين، أو آخر قد خلع طاعتهم، واستجاب لدعوة خصومهم آل علي، أو ثالث يخشى أن يميل إليهم، ويتعاطف معهم.. وقد بدأ قوادهم بالخروج عليهم من زمن السفاح، الذي خرج عليه ابن شيخ المهري، داعياً لآل علي، وبعد ذلك كانت ثورة القواد على المنصور داعين إلى موالاة أهل البيت، وقامت ثورة ضد المنصور، وداعية للعلويين في نفس خراسان، وذلك في سنة ١٤٠ ه‍. وبعد ذلك وفي زمن المهدي العباسي قامت ثورة أخرى في خراسان تدعو إلى آل أبي طالب بقيادة صالح بن أبي حبال. وعظم شأنه جداً، ولم يمكنهم القضاء عليه إلا بإعمال الحيلة(١) وأما في زمن الرشيد، فقد ثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة، على حد تعبير النجوم الزاهرة.

الخطر الحقيقي:

وأما الذي كان يكمن فيه الخطر الحقيقي، وكان يهز الدولة، ويزعزع من أركانها. فهو ثورات العلويين أنفسهم، حتى ليقال:

إنه قد بويع لمحمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم في أكثر الأمصار، وذلك في سنة ١٤٥ ه‍. وبعد ذلك كانت واقعة فخ المشهورة، ثم استمر الحال على ذلك، فلم يكن العباسيون يرون، إلا علوياً ثائراً، أو أنه يدبر للثورة، حتى أوائل زمن المأمون، حيث بلغت الحالة فيه في السوء والتدهور الغاية، وأوفت على النهاية. حتى ليقال: إن الثورات العلوية، التي قامت فيما بين عهد السفاح، وأوائل عهد المأمون، وبالتحديد إلى حوالي سنة ٢٠٠ ه‍ أي فيما يقل عن سبعين عاما، قد قاربت الثلاثين ثورة، هذا بغض النظر عن الثورات الأخرى التي كانت تدعو لهم. وإلى موالاتهم..

____________

(١) راجع: لطف التدبير ص ١٠٥.

١١٨

وستأتي الإشارة إلى بعض الثورات العلوية التي قامت ضد المأمون بالخصوص، وإلى أنه حتى قائده العظيم، طاهر بن الحسين، ـ بل وجميع آل طاهر(١) ـ وكذلك وزيره الفضل بن سهل، وهرثمة بن أعين، وغيرهم، وغيرهم، كانوا يتهمون بالتشيع للعلويين..

ولسوف يتضح أن الوضع في عهده قد أصبح إلى حد كبير شبيهاً بالوضع الذي كان سائداً في أواخر عهد الأمويين، بفارق واحد بسيط، لو استمر الحال لتسارع لذلك الفارق الضعف والوهن، وذلك الفارق هو: أنه لا يزال كثير من الناس المخدوعين بدعايات العباسيين يعتبرون تلك المنازعات طبيعية بين من يستحقون الخلافة!!!.

ويبقى هنا سؤال:

لماذا لم تكن ثورات العلويين، أو الثورات الداعية لهم. تصادف النجاح، مع أنها كانت تحظى بالتأييد الواسع، في مختلف فئات الشعب، وطبقاته؟!..

وجوابنا عن هذا السؤال هو: أن الذي يراجع التاريخ يرى ـ بما لا مجال معه للشك ـ: أن تلك الثورات لم يكن يسبقها التخطيط، والإعداد الكافيان، وما كان العباسيون ليعطوها الفرصة لتخطيط وإعداد يمكن أن يصل إلى درجة تمكنه من أن يذهب بدولة الجبارين.

هذا بالإضافة إلى فساد القيادة القبلية آنذاك، والتي كانت السبب الأول والأخير لنجاح أية ثورة أو فشلها.. وسيأتي تفصيل ذلك على النحو الكافي والشافي، في فصل: مدى جدية العرض، إن شاء الله.

ونتيجة كل ذلك:

وهكذا.. يتضح: أن سياسات العباسيين، لم تستطع أن تحقق لهم الأهداف التي كانوا يتوخون تحقيقها، وإنما كانت نتائجها عكسية بالنسبة إليهم، ودماراً ووبالاً عليهم، قبل أن تكون وبالاً على أي من خصومهم. وبالأخص أبناء عمهم العلويين..

____________

(١) راجع: الكامل لابن الأثير، حوادث سنة ٢٥٠ ه‍.

١١٩

القسم الثاني

ظروف البيعة وأسبابها

١ ـ شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام .

٢ ـ من هو المأمون؟.

٣ ـ آمال المأمون، وآلامه..

٤ ـ ظروف البيعة وأسبابها.

٥ ـ أسباب البيعة لدى الآخرين.

شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام

لمحات:

الإمام الرضاعليه‌السلام ، هو ثامن الأئمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، ابن الحسين، ابن علي، بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين..

سـتـة آبــاؤه مــن هـم

أفضل من يشرب صوب الغمام

كنيته: أبو الحسن.

ومن ألقابه: الرضا، والصابر، والزكي، والولي.

نقش خاتمه: حسبي الله.

وقيل: بل نقشه: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله(١) .

ولد في المدينة سنة ١٤٨ ه‍. أي: في نفس السنة التي توفي فيها

____________

(١) لنا رأي بالنسبة للقب، ونقش الخاتم: وهو أنه كثيراً ما يعبر عن ظاهرة من نوع معين، وظروف اجتماعية، وسياسية، ونفسية، وغير ذلك. وكذلك عن مميزات، وملكات شخصية خاصة. ونأمل أن نوفق لبحث هذا الموضوع مستوفى في فرصة أخرى إن شاء الله.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409