القرآن في الاسلام

القرآن في الاسلام33%

القرآن في الاسلام مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 228

القرآن في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72044 / تحميل: 5924
الحجم الحجم الحجم
القرآن في الاسلام

القرآن في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

والرياضية والفلسفية والادبية وسائر العلوم التي يمكن ان يصل اليها الفكر الإنساني ، يحث على تعلمها لنفع الإنسانية واسعاد القوافل البشرية.

نعم ، يدعو القرآن الى هذه العلوم شريطة ان تكون سبيلاً لمعرفة الحق والحقيقة ومرآة لمعرفة الكون التي في مقدمتها معرفة الله تعالى.

واما العلم الذي يشغل الإنسان عن الحق والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل ، قال تعالى :( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا هم عن الاخرة هم غافلون ) (١) .

وقال :( افرأيت من اتخذ الهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ) (٢) .

القرآن الكريم بترغيبه الى تعلم مختلف العلوم ، يعلم دورة كاملة من المعارف الالهية وكليات الاخلاق والفقه الإسلامي.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الروم : ٧.

(٢) سورة الجاثية : ٢٣.

١٤١

العلوم الخاصة بالقرآن :

يتدارس المسلمون علوما موضوعها القرآن الكريم نفسه. ويرجع تاريخ ظهور هذه العلوم الى اوائل عصر النزول ، وقد نضجت مسائلها وبلغت المرحلة المطلوبة لطول البحث فيها واصبحت بحيث وضع لها المحققون الرسائل والكتب الكثيرة(١) .

وهذه العلوم بصورة عامة تنقسم الى فئتين : ما يبحث فيه عن الالفاظ ، وما يبحث فيه عن المعاني.

العلوم الباحثة في الفاظ القرآن هي فنون التجويد والقراءة : وهي :

فن في كيفية تلفظ الحروف والعوارض التي تطرأها عند الافراد والتركيب ، كالادغام والابدال واحكام الوقف والابتداء ونظائرها.

ــــــــــــــــــ

(١) وضعنا فهرساً عاماً باسم « معجم المؤلفات القرآنية » للكتب والرسائل التي دونت حول القرآن وعلومه على ترتيب العلوم ، يعرف من خلاله الجهد الكبير المبذول حول هذا الكتاب السماوي الذي عني به من شتى الجهات عناية فائقة لم تنلها سائر كتب الاديان ، المترجم.

١٤٢

وفن في ضبط وتوجيه القراءات السبع والقراءات الثلاث الاخرى وقراءات الصحابة وشواذ القراءات الاخرى.

وفن في عدد السور والآيات والكلمات والحروف ، وضبط اعداد جميع السور والآيات والكلمات والحروف.

وفن في خصوص ضبط رسم القرآن وما فيه من الاختلاف مع رسم الخط المعروف المعمول به.

واما العلوم التي تبحث في معاني القرآن فهي :

فن يبحث عن كليات المعاني كالتنزيل والتأويل والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

وفن يبحث في آيات الاحكام ، وهو في الحقيقة فرع من الابحاث الفقهية.

وفن يبحث عن معاني القرآن ، وهو المعروف بـ « التفسير ».

وقد الف علماء الإسلام والمحققين في كل هاتيك العلوم كتبا ورسائل كثيرة.

العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها :

لا شك ان العلوم الدينية التي يتداولها المسلمون اليوم

١٤٣

انما يرجع تاريخ نشأتها الى عصر البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم.

لقد تداول الصحابة والتابعون هذه العلوم في القرن الاول الهجري بصورة غير منظمة بسبب المنع الذي واجه تدوين العلم بكل فروعه ، وكانت طريقة التلقي والمدارسة هي الحفظ والاخذ الشفوي ، الا مدونات قليلة جداً في الفقه والتفسير والحديث.

وفي اوائل القرن الثاني الهجري عندما ارتفع المنع(١) بدأ المسلمون بتدوين الحديث اولا ، ثم وضعوا المؤلفات في بقية فروع العلم واوجدوا الانظمة الخاصة للتأليف والتصنيف ، فكانت نتيجة المساعي : فن الحديث ، وعلم الرجال والدراية ، وفن اصول الفقه ، وعلم الحديث ، وعلم الكلام ، وغيرها.

وحتى الفلسفة المنقولة من اليونانية الى العربية في بداية امرها والتي بقيت على شكلها اليوناني لفترة غير قصيرة ، فان البيئة اثرت فيها مادة وصورة ، وتحولت من شكلها البدائي الى شكل يغايره كل المغايرة. واحسن شاهد لذلك المسائل الفلسفية المتداولة بين المسلمين اليوم ، فانك لا ترى مسألة فلسفية في المعارف الالهية الا ويمكن ان تجد متنها وبراهينها

ــــــــــــــــــ

(١) ارتفع المنع باجماع المؤرخين على يد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز بين سنتي ٩٩ ـ ١٠١.

١٤٤

وادلتها المقامة لها في طيات الآيات القرآنية والاحاديث المروية.

ويمكن اعادة هذا القول في العلوم الادبية ايضا ، فان امثال الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع واللغة وفقهها والاشتقاق بالرغم من انها تشمل اللغة العربية بصورة عامة ، الا ان الذي دفع الناس الى مدارستها والبحث فيها والفحص عنها انما هو كلام الله المجيد الذي له الحلاوة التامة وحسن الاسلوب في التعبير والاعجاز في الفصاحة والبلاغة ، فانجذبت اليه القلوب وكان السبب في السير وراء معرفة خصائصه والفحص عن الشواهد والنظائر له ومعرفة وجوه الفصاحة والبلاغة فيه والاسرار الكامنة تحت جمله والفاظه ، وبالتالي لهذه العوامل وجدت العلوم اللسانية التي ذكرناها.

كان ابن عباس من كبار مفسري الصحابة ، وكان يستشهد في التفسير بالشعر العربي ، وكان يأمر بجمع الشعر وحفظه ويقول : الشعر ديوان العرب.

بمثل هذه العناية والاهتمام ضبط النثر العربي وشعره ، وبلغت الحالة الى ان العالم الشيعي خليل بن احمد الفراهيدي البصري(١) الف في اللغة كتاب العين ووضع علم العروض

ــــــــــــــــــ

(١) الخليل بن احمد ، ابو عبد الرحمن الفراهيدي ، من ائمة اللغة والادب ، وهو واضع علم العروض واستاذ سيبويه النحوي ،

١٤٥

لمعرفة الاوزان الشعرية. وهكذا وضع العلماء الاخرون في هذين العلمين ايضا المؤلفات القيمة.

وعلم التاريخ ايضا من مشتقات علم الحديث ، ففي اوله كان مجموعة من قصص الانبياء والامم ، وبدأ من سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم اضيف اليه تاريخ صدر الإسلام ، وفيما بعد اصبح بصورة تاريخ عام للعالم ، وكتب المؤرخون امثال الطبري والمسعودي واليعقوبي والواقدي ، مؤلفاتهم التاريخية.

ويمكن القول بصراحة بأن القرآن هو الدافع الاول لاشتغال المسلمين بالعلوم العقلية من طبيعية ورياضية بشكل النقل والترجمة من اللغات الاخرى في البداية ، ثم استقلوا في الاشتغال بها والابتكار في موضوعاتها والتفريغ في مسائلها والتحقيق في مباحثها الهامة.

ترجمت العلوم بتشجيع من الخلافة في ذلك اليوم من اليونانية والسريانية والهندية الى العربية ، ثم وضعت تلك العلوم المترجمة في متناول ايدي المسلمين بمختلف جالياتهم ، واخذت دائرة التحقيق العلمي تتسع حتى اصبحت بشكل عميق ودقيق جداً.

ــــــــــــــــــ

وكتابه « العين » مشهور في اللغة ، مات بالبصرة سنة ١٧٠ ( الاعلام للزركلي ).

١٤٦

ان مدنية الإسلام التي شملت قطعة عظيمة من المعمورة بعد رحلة الرسول ، وكان لها الحكم المطلق ، والتي امتدت حتى هذا اليوم الذي يعيش فيه اكثر من ستمائة مليون مسلم ، هذه المدنية هي اثر واحد من آثار القرآن الكريم ( مع العلم اننا نحن الشيعة نعارض دائماً سياسة الخلفاء والملوك حيث تساهلوا في نشر التعاليم الدينية وتطبيق قوانين الإسلام تطبيقا كاملا ، مع هذا نعتقد ان ضوء الإسلام المنتشر بهذا المقدار في ارجاء المعمورة انما هو اشراقة من اشراقات القرآن العظيم ).

من الواضح البديهي ان هذا التحول العظيم الذي هو حلقة مهمة من حلقات حوادث العالم ، سيؤثر تأثيراً مباشراً في الحلقات المستقبلة. ومن هنا يأتي الاعتقاد بأن احدى علل التحول العلمي الهائل الذي نشاهده اليوم هي من تأثير القرآن الكريم.

ان تجلية هذا الموضوع بشكل اوضح واعمق يحتاج الى دراسة واسعة ، ولكن طريقة الاختصار التي التزمنا بها في هذا الكتاب لا تعطينا الفرصة الكاملة لهذه الدراسة فإلى الكتب المعنية بذلك ...

١٤٧
١٤٨

( الفصل الخامس )

نزول القرآن وانتشاره

* كيف نزلت الآيات؟

* حول اسباب النزول

* ترتيب نزول السور

* جمع القرآن في مصحف

* اهتمام المسلمين بالقرآن

* القرآن مصون من التحريف

* قراءة القرآن وحفظه وروايته

* طبقات القراء

* عدد الآيات

* اسماء السور

* خط القرآن واعرابه

١٤٩
١٥٠

كيف نزلت الآيات؟

لم تنزل سور القرآن واياته دفعة واحدة. وبالاضافة الى اتضاح الموضوع من التاريخ الذي يشهد بالنزول طيلة ثلاث وعشرين سنة ، فان الآيات نفسها شاهدة على ذلك ، قال تعالى :( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً ) (١) .

وفي القرآن الناسخ والمنسوخ بلا شك ، وفيه ايضا ايات تدل على قصص واحداث لا يمكن جمعها في زمن واحد لنذهب الى وحدة زمن النزول.

والآيات والسور القرآنية لم تنزل قطعاً على الترتيب الذي نقرآه في القرآن اليوم ، بأن تكون اولاً سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ثم سورة النساء وهكذا لانه بالاضافة الى الشواهد التاريخية على ذلك فان مضامين الآيات نفسها تشهد عليه ، لان بعض السور والآيات لها مضامين تناسب اوائل زمن البعثة وهي واقعة في اواخر القرآن كسورة العلق والنون ، وبعضها تناسب ما بعد الهجرة واواخر عصر الرسول وهي واقعة في اواخر القرآن كسورة البقرة وآل عمران والنساء والانفال والتوبة.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : ١٠٦.

١٥١

ان اختلاف مضامين السور والآيات وارتباطها الكامل بالاحداث والحوادث التي وقعت طيلة ايام الدعوة ، يفرض علينا القول بأن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة عصر الدعوة النبوية.

فمثلاً الآيات التي تدعو المشركين الى الإسلام ونبذ عبادة الاوثان تناسب مع عصر قبل هجرة الرسول من مكة حيث ابتلي الرسول بالوثنيين ، واما ايات القتال وآيات الاحكام فقد نزلت في المدينة المنورة حيث اخذ الإسلام ينتشر واصبحت المدينة تشكل حكومة اسلامية كبرى.

بعد البحث السابق :

بناءً على البحث السابق تنقسم الآيات والسور القرآنية الى اقسام حسب اختلاف محل النزول وزمانه واسبابه وشروطه ، وهي :

١ ـ بعض السور والآيات مكية وبعضها مدنية ، فان ما نزل قبل هجرة الرسول من مكة يعتبر مكياً ، وهو القسم الاكبر من السور وعلى الاخص السور القصيرة ، وما نزل بعد هجرة الرسول يسمى مدنياً ولو كان نزولها خارج المدينة وحتى لو كان في مكة نفسها.

٢ ـ بعض السور والآيات نزلت في السفر وبعضها في

١٥٢

الحضر ، وهكذا تنقسم الى ما نزل بالليل او النهار ، او ما نزل في الحرب او في السلم ، او ما نزل في الارض او في السماء ، او ما نزل بين الناس او في حال الانفراد. وسنبحث عن فائدة معرفة هذه الاقسام في فصل « اسباب النزول ».

٣ ـ نزلت بعض السور مكرراً كما يقال في سورة الفاتحة حيث نزلت في مكة والمدينة ، كما ان بعض الآيات نزلت مكرراً كآية( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) حيث تكررت في سورة الرحمن ثلاثون مرة ، وآية( ان في ذلك لاية وما كان اكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم ) حيث كررت في سورة الشعراء ثمان مرات. وقد تكررت بعض الآيات في اكثر من سورة واحدة كآية( ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين ) حيث كررت في ست سور مختلفة.

وهكذا نجد جملة خاصة هي آية كاملة في مكان وجزء آية في مكان آخر ، نحو( الله لا اله الا هو الحي القيوم ) فجعلت في اول سورة آل عمران آية كاملة ، وفي سورة البقرة جزء من آية الكرسي.

ولكن مع هذا كله اكثر السور والآيات نزلت مرة واحدة فقط.

وعلة هذا الاختلاف هي اختلاف ما يقتضيه البيان ، ففي موضع يقتضي تكرار الجملة للتنبيه مثلا ، وفي موضع لا يقتضي ذلك.

١٥٣

ويشبه هذا الاختلاف الاختلاف الموجود بين السور والآيات في الطول والقصر ، فإلى جانب سورة الكوثر اقصر السور نجد سورة البقرة اطولها ، كما نرى آية( مدهامتان ) اقصر آية الى جانب آية الدين ـ وهي الآية ٢٨٢ من سورة البقرة ـ اطول آية في القرآن.

كل هذه الاختلافات لمقتضيات بيانية ، وربما نجدها في آيتين متصلتين ايضا ، كالايتين ٢٠ و ٢١ من سورة المدثر مثلا ، فان الاولى جملة واحدة والثانية اكثر من خمس عشرة جملة.

ومن وجوه الاختلاف ايضا ما نجده عند المقارنة بين السور والآيات في الايجاز والاطناب ، كما يتبين ذلك عند مقابلة امثال سورة الفجر وسورة الليل بأمثال سورة البقرة والمائدة ، والغالب في السور المكية الايجاز كما ان الغالب في السور المدنية الاطناب.

ومن هذا القبيل ما يقال بأن اول ما نزل على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو سورة العلق او خمس ايات الاولى منها بالقياس الى آخر ما نزل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قوله تعالى :( واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) (١) .

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٨١.

١٥٤

أسباب النزول :

لقد قلنا ان كثيراً من السور والآيات ترتبط بالحوادث والاحداث التي وقعت ايام الدعوة كسورة البقرة والحشر والعاديات(١) ، او نزلت لحاجات ضرورية من الاحكام والقوانين الإسلامية كسورة النساء والانفال والطلاق واشباهها(٢) .

هذه القضايا التي سببت نزول السور او الآية هي المسماة بــ « اسباب النزول » ، ومعرفتها تساعد الى حد كبير في معرفة الآية المباركة وما في معرفة الآية المباركة وما فيها من المعاني والاسرار.

ومن هنا اهتم جماعة من محدثي الصحابة والتابعين

ــــــــــــــــــ

(١) نزلت سورة البقرة في السنة الاولى من الهجرة ، وكثير من آياتها في تقريع اليهود الذين كانوا يقفون دون التقدم الإسلامي ، وبقية آياتها في تشريع بعض الاحكام كتغير القبلة وتشريع الصوم والحج وغيرها. وسورة الحشر نزلت في خصوص جلاء يهود بني النضير ، وسورة العاديات نزلت في خصوص اعراب وادي يابس او غيرهم.

(٢) سورة النساء تتحدث عن احكام الزواج وارث المرأة ، وسورة الانفال تتحدث عن غنائم الحرب والاسراء ، وسورة الطلاق تتحدث عن خصوص احكام الطلاق.

١٥٥

بأحاديث اسباب النزول ، فنقلوا احاديث كثيرة من هذا القبيل.

هذه الاحاديث من طرق اهل السنة كثيرة جدا ربما تبلغ عدة الاف حديثا ، واما من طريق الشيعة فهي قليلة وربما لا تبلغ الا عدة مئات. ويلاحظ ان كل هذه الاحاديث ليست مسندة وصحيحة ، بل فيها المرسل الضعيف ايضا ، والنظر والتأمل فيها يدعو الإنسان الى الشك فيها ، لانها :

اولاً ـ سياق كثير منها يدل على ان الراوي لا ينقل السبب من طريق المشافهة والتحمل والحفظ ، بل ينقل قصة ما ثم يحمل الآيات عليها حملاً ويربطها ربطاً ، وفي الحقيقة سبب النزول الذي يذكره انما هو سبب اجتهادي نظري وليس بسبب شاهده بالعيان وضبطه بحدوده الدقيقة.

والشاهد على ما نقول التناقض الكثير في هذه الاحاديث ، ونعني به ان الآية الواحدة يذكر فيها عدة احاديث في اسباب النزول يناقض بعضها بعضا ولا يمكن جمعها بشكل من الاشكال ، حتى في بعض الآيات يذكر عن شخص واحد ـ كابن عباس مثلاً ـ اسباباً للنزول لا يمكن الجمع بينها.

ان ورود هذه الاحاديث المتناقضة المتهافتة لا يمكن حمله الا على احد محملين : اما ان نقول ان اسباب النزول هذه نظرية اجتهادية وليست بنقلية وكان كل محدث يحاول ان

١٥٦

يربط بين قصة ما والآية ربطاً لا حقيقة له في الخارج ، او نقول بأن هذه الاحاديث كلها او جلها مدسوسة ليس لها نصيب من الواقع.

مع ورود هذه الاحتمالات تسقط احاديث أسباب النزول عن الاعتبار ، ولهذا لا يمكن الاطمئنان حتى على الاحاديث التي اسانيدها صحيحة ، لان صحة السند يرفع الكذب عن رجال السند او عدم تضعيفهم ، ولكن احتمال الدس او اعمال النظر الخاص يبقى بحاله.

وثانياً ـ ثبت تاريخياً ان الخلافة كانت تمنع عن كتابة الحديث ، وكلما كانوا يعثرون على ورقة او لوحة كتب فيها الحديث كانت تحرق ، وبقي هذا المنع الى اخر القرن الاول الهجري ، اي لمدة تسعين سنة تقريباً.

هذا المنع فتح للرواة طريق النقل بالمعنى ، وكان نصيب الحديث تغييرات كلما حدث راو الى راو اخر حتى اصبحت الاحاديث تروى على غير وجوهها. وهذا واضح بين لمن راجع قصة ورد فيها احاديث بطرق مختلفة ، فان الإنسان ربما يشاهد حديثين في قصة واحدة لا يمكن اجتماعها في نقطة من النقاط. وشيوع النقل بالمعنى بهذا الشكل المريب هو احد الاشياء التي تسبب عدم الوزن لاحاديث اسباب النزول وقلة اعتبارها.

١٥٧

ان شيوع الدس في الحديث والكذب على الرسول ودخول الاسرائيليات في الروايات وما صنعه المنافقون وذوو الاغراض بالاضافة الى النقل بالمعنى وما قيل في الوجه الاول كل هذه العوامل قللت من قيمة احاديث اسباب النزول واسقطها عن الاعتبار.

المنهج الذي لا بد ان يتخذ في اسباب النزول :

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ان الحديث يحتاج الى التأييد القرآني ، وعلى هذا يجب عرض الحديث على القرآن كما ورد في احاديث عن الرسول واهل بيتهعليهم‌السلام .

وعليه سبب النزول الوارد حول آية من الآيات لو لم يكن متواتراً او قطعي الصدور يجب عرضه على القرآن ، فما وافق مضمونه مضمون الآية يؤخذ به ويعمل عليه وما خالف يطرح. ومعنى هذا ان الحديث هو الذي يعرض دائما على القرآن لا القرآن يعرض على الحديث.

وهذه الطريقة تسقط اكثر احاديث اسباب النزول عن الاعتبار ، الا ان الباقي منها يكسب كل الاعتبار والوثوق.

وليعلم ان الاهداف القرآنية العالية التي هي المعارف

١٥٨

العالمية الدائمة ( كما سنفصل ذلك فيما سيأتي ) لا تحتاج كثيراً او لا تحتاج ابدا الى اسباب النزول.

ترتيب نزول السور :

لا شك ان السور والآيات القرآنية لم تثبت في القرآن على ترتيب نزولها على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وعلماء الإسلام الماضون وخاصة اهل السنة منهم ـ كانوا يعتمدون في ترتيب السور والآيات على ما جاء في الاثر ، ومن جملة الاثار المذكورة بهذا الشأن حديث مروى عن ابن عباس انه قال :(١) .

كانت اذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء ، وكان او ما نزل من القرآن :

١ ـ اقرأ باسم ربك

٢ ـ ثم « ن »

٣ ـ ثم ايها المزمل

٤ ـ ثم يا أيها المدثر

٥ ـ ثم تبت يدا ابي لهب

٦ ـ ثم اذا الشمس كورت

ــــــــــــــــــ

(١) الاتقان ١ / ١٠ ، نقلاً عن فضائل القرآن لابن ضريس

١٥٩

٧ ـ ثم سبح اسم ربك الاعلى

٨ ـ ثم والليل اذا يغشى

٩ ـ ثم والفجر

١٠ ـ ثم والضحى

١١ ـ ثم الم نشرح

١٢ ـ ثم والعصر

١٣ ـ ثم والعاديات

١٤ ـ ثم انا اعطيناك

١٥ ـ ثم الهاكم التكاثر

١٦ ـ ثم أرأيت الذي يكذب

١٧ ـ ثم قل يا أيها الكافرون

١٨ ـ ثم الم تر كيف فعل ربك

١٩ ـ ثم قل اعوذ برب الفلق

٢٠ ـ ثم قل اعوذ برب الناس

٢١ ـ ثم قل هو الله أحد

٢٢ ـ ثم والنجم

٢٣ ـ ثم عبس

٢٤ ـ ثم انا انزلناه في ليلة القدر

٢٥ ـ ثم والشمس وضحاها

٢٦ ـ ثم والسماء ذات البروج

٢٧ ـ ثم والتين

٢٨ ـ ثم لايلاف قريش

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

2 - حواره مع أصحاب الأديان

قال الحسن بن محمد النوفليّ: لمّا قدم علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت وقسطاس الرّومي والمتكلّمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم عليّ، ففعل، فرحّب بهم المأمون.

ثم قال لهم: إني إنّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلّف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكّرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولّى أمر أبي الحسنعليه‌السلام فقال: يا سيدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك

١٨١

بكرة إن شاء الله. قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحبّ أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس - والله - ما بنى.

فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحّح وحدانيّته وإن قلت: إن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته، ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك.

قال: فتبسّمعليه‌السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي؟

قلت: لا والله ما خفت عليك قطّ وإنّي لأرجو أن يظفرك الله لهم إن شاء الله.

فقال لي: يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم.

قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزّبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الرّوم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم فإذا قطعت كلّ صنف ودحضت حجّته وترك مقالته ورجع إلي قولي علم المأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟

فقال الرضاعليه‌السلام : تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم، توضأعليه‌السلام

١٨٢

وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثمّ خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله ومحمّد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور.

فلما دخل الرضاعليه‌السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم فما زالوا وقوفاً والرضاعليه‌السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه.

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ونبيّ لا أؤمن به؟

فقال له الإمام الرضاعليه‌السلام : يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟!

قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك وافهم الجواب.

قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسىعليه‌السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضاعليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّ به الحواريون وكافر بنبوّة كل عيسي لم يقرَّ بنبوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكتابه ولم يبشّر به أمته.

قال الجاثليق: أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال: بلى.

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوّة محمد ممّن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضاعليه‌السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند

١٨٣

المسيح عيسى بن مريم؟

قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمه لي؟

قال: ما تقول في يوحنا الدّيلمي.

قال: بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به إنه يكون من بعده، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به؟!

قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضاعليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟

قال: شديداً.

قال الرضاعليه‌السلام لقسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال: ما أحفظني له.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل؟!

قال: بلى لعمري.

قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.

ثم قرأعليه‌السلام السّفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني، إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأمته ثم قال: ما تقول يا نصرانيّ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسىعليهما‌السلام ومتى أنكرت هذا الذّكر وجب عليك القتل لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك.

١٨٤

قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به.

قال الرضاعليه‌السلام : اشهدوا على إقراره. ثم قال: يا جاثليق، سل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا.

قال الرضاعليه‌السلام : على الخبير سقطت، أمّا الحواريون فكانوا اثنى عشر رجلاً وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنّا الأكبر بأج، ويوحنّا بقرقيسيا، ويوحنّا الدّيلمي بزجان، وعنده كان ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته وأُمته وهو الذي بشر أُمة عيسى وبني إسرائيل به، ثم قالعليه‌السلام : يا نصراني، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضاعليه‌السلام : وكيف ذلك؟

قال الجاثليق: من قولك: إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليل قطّ، ومازال صائم الدّهر، قائم الليل.

قال الرضاعليه‌السلام : فلمن كان يصوم ويصلي؟

قال: فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني! إني أسألك عن مسألة.

قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضاعليه‌السلام : ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ؟

قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، إنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه

١٨٥

والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يعبد.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم يتّخذه أُمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عَزَّ وجَلَّ، ولقد صنع حزقيل النبيعليه‌السلام مثل ما صنع عيسى بن مريمعليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة أختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدّس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عَزَّ وجَلَّ إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال: صدقت. ثم قالعليه‌السلام : يا يهوديّ، خذ على هذا السفر من التوراة فتلاعليه‌السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل يهودي يترجّح لقراءته ويتعجّب.

ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

قال الرضاعليه‌السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجّه معهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان و يا فلان و يا فلان، يقول لكم محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوموا بإذن الله عَزَّ وجَلَّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم.

ثم أخبروهم أنّ محمّداً قد بعث نبيّاً، وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد ابرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمه البهائم، والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربّاً من دون

١٨٦

الله عَزَّ وجَلَّ ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتّخذتم عيسى رباً جاء لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّاً لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، أنّ قوماً من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت.

فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله إليه: أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا ربّ، فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه أن نادهم.

فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عَزَّ وجَلَّ فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم إبراهيمعليه‌السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهنّ قطعاً ثمّ وضع على كل جبل منهنّ جزءً، ثم ناديهن فأقبلن سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته.

فقال لهم: إني لم أره. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً، فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وارجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا، فأحياهم الله عَزَّ وجَلَّ من بعد موتهم.

وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟

قال الجاثليق: القول قولك ولا إله إلاّ الله.

ثم التفتعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهوديّ أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمرانعليه‌السلام ، هل تجد في التوراة مكتوباً نبأ محمّد وأُمته

١٨٧

إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبّحون الربّ جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئنّ قلوبهم فإنّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض. هكذا هو في التوراة مكتوب؟!

قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.

ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً.

قال الرضاعليه‌السلام لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر.

فقالا: قد قال ذلك شعيا.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني ذاهب إلى ربّي وربّكم والفار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟

فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به.

فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟!

قال: نعم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟

قال له ك ما افتقدنا الإنجيل إلاّ يوماً واحداً حتى وجدناه غضّاً طريّاً فأخرجه إلينا يوحنّا ومتي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : ما أقلّ معرفتك بسرّ الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم أنّه لمّا افتقد الإنجيل الأوّل

١٨٨

اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريمعليه‌السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم لوقا ومرقابوس: إنّ الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلّوا الكنائس، فإنّا سنتلوه عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً حتّى نجمعه لكم كلّه، فقعد لوقاء ومرقابوس ويوحنّا ومتي ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأوّل وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأوّلين، أعلمت ذلك؟

قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته، شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً من الفهم.

فقال له الرضاعليه‌السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك؟

قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكلّ ما شهدوا به فهو حقّ.

فقال الرضاعليه‌السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا.

ثم قال للجاثليق: بحقّ الابن وأمه هل تعلم أنّ متي قال: إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن خضرون، وقال مرقابوس: في نسبة عيسى بن مريم: إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً، وقال الوقا: إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس.

ثم إنّك تقول من شهادة عيسى على نفسه، حقّاً أقول لكم يا معشر الحواريين إنّه لا يصعد إلى السماء إلاّ ما نزل منها إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنّه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في هذا القول؟

قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.

١٨٩

قال الرضاعليه‌السلام : فما تقول في شهادة الوقا، ومرقابوس ومتي على عيسى وما نسبوه إليه؟

قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.

قال الرضاعليه‌السلام : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حقّ؟

فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنا قد فعلنا، سل يا نصراني، عمّا بدالك؟

قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضاعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟

قال: بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلاّ من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو ممّا في صحف إبراهيم وموسى.

فقال الرضاعليه‌السلام : لا تقبل منّي حجة إلاّ بما تنطق به التوراة، على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوّة محمد؟

قال الرضاعليه‌السلام : شهد بنبوّته (صلّى الله عليه وآله) موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض.

فقال له: أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرضاعليه‌السلام : هل تعلم يا يهوديّ أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنّه سيأتيكم نبيّ هو من إخوتكم فيه فصدّقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيمعليه‌السلام ؟

فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.

١٩٠

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (صلّى الله عليه وآله).

قال: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : أوليس قد صحّ هذا عندكم؟!

قال: نعم ولكنّي أحب أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران؟

قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضاعليه‌السلام : أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النّور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسىعليه‌السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الذي أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى عيسى بن مريمعليه‌السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكّة بينه وبينها يوم.

وقال شعيا النبيعليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما راكب على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟!

قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبّرني بهما.

قالعليه‌السلام : أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما راكب الجمل، فمحمد (صلّى الله عليه وآله) أتنكر؟ هذا من التوراة، قال لا، ما أنكره.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : هل تعرف حيقوق النبي؟ قال: نعم إنّي به لعارف، قالعليه‌السلام فإنّه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البرّ يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدّس - يعني بالكتاب القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به؟

١٩١

قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوقعليه‌السلام ولا ننكر قوله.

قال الرضاعليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأ: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد (صلّى الله عليه وآله)؟

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك عيسى، وأيّامه هي الفترة.

قال الرضاعليه‌السلام : جهلت أنّ عيسى لم يخالف السنّة وقد كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرّة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده وهو الذي يخفّف الآصار، ويفسّر لكم كلّ شيء، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل أتؤمن بهذا في الإنجيل؟

قال: نعم لا أنكره.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيّك موسى بن عمران؟

فقال: سل.

قال: ما الحجّة على أنّ موسى ثبتت نبوّته؟

قال اليهوديّ: إنّه جاء بما لم يجيء به أحد من الأنبياء قبله.

قال له: مثل ماذا؟

قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضاعليه‌السلام : صدقت إذا كانت حجة على نبوّته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال: لا؛ لأن موسى لم يكن له نظير لمكانته من ربّه، وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

١٩٢

قال الرضاعليه‌السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسىعليه‌السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلب العصا حيّة تسعى؟!

قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على دعوى نبوّتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بما لم يجيء به موسى، أركان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم، وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؟

قال رأس الجالوت: يقال إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال له الرضاعليه‌السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟! أليس إنّما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك.

قال: بلى.

قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى.

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : وكذلك أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به وأمر كلّ نبي بعثه الله ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة.

ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى.

قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ.

١٩٣

قال الرضاعليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد (صلّى الله عليه وآله) شاهد زور.

فلم يحر جواباً.

ثم دعاعليه‌السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضاعليه‌السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجّتك على نبوّته؟

قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده، ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه.

قالعليه‌السلام : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟!

قال: بلى.

قال: فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الإقرار لهم، إذ كنتم أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة، بأنّه جاء بما لم يجيء به غيره؟!

فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا قوم إن كان فيكم أحدٌ يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم.

فقام إليه عمران الصابي وكان واحداً في المتكلمين فقال: يا عالم الناس لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن لي أن أسألك؟

قال الرضاعليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!

فقال: أنا هو.

فقالعليه‌السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور!

قال: والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه.

١٩٤

قالعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض.

فقال عمران الصابي: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : سألت فافهم أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حدّه ولا على شيء حذاه ولا مثّله له.

فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافاً وائتلافاً وألواناً وذوقاً وطمعاً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً، تعقل هذا يا عمران؟

قال: نعم والله يا سيدي.

قالعليه‌السلام : واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل ولا نقمةٍ منه على من أذلّ، فلهذا خلق.

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نفي عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها، أفهمت ياعمران؟

قال: نعم والله يا سيدي فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً ينتهى إليه المعرفة؟!

١٩٥

قال عمران: لابدّ من ذلك.

قال الرضاعليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟

فانقطع ولم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، إن سألتك عن الضّمير نفسه تُعرّفُه بضمير آخر؟!

ثم قال الرضاعليه‌السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً.

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه؟ كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يتكوّن؟

قالعليه‌السلام : قد سألت فافهم إنّ حدود خلقه على ستّة أنواع: ملموس وموزون ومنظور إليه، وما لا وزن له، وهو الروح ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حسّ ولا ذوق والتقدير، والأعراض، والصور والعرض والطول، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها وتغييرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.

وأما الأعمال والحركات فإنّها تنطلق لأنّها لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرق من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق.

قال الرضاعليه‌السلام : يتغير عَزَّ وجَلَّ بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره.

قال عمران: فبأي شيء عرفناه.

قالعليه‌السلام : بغيره.

قال: فأي شيء غيره؟

١٩٦

قال الرضاعليه‌السلام : مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك، وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر.

قال عمران: يا سيدي فأيّ شيء هو؟

قالعليه‌السلام : هو نور بمعنى أنه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض، وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إيّاه.

قال عمران: يا سيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق؟

قال الرضاعليه‌السلام : لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ولا يقال إنّ السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا، لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون وإنّما هو ليس شيء غيره، فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك.

قال عمران: يا سيدي فإنّ الذي كان عندي أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل تجد النار تغير نفسها؟ أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى بصره؟

قال عمران: لم أرَ هذا، ألا تخبرني أهو في الخلق أم الخلق فيه.

قال الرضاعليه‌السلام : جلّ يا عمران عن ذلك ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلّمك وتعرفه به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟! فان كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك؟

قال عمران: بضوء بيني وبينها.

فقال الرضاعليه‌السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر ممّا تراه في عينك؟

قال نعم.

١٩٧

قال الرضاعليه‌السلام : فأرناه؟ فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ المرّاة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى.

ثم التفتعليه‌السلام إلى المأمون قال: الصلاة قد حضرت.

فقال عمران: يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.

قال الرضاعليه‌السلام : نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون، فصلّى الرضاعليه‌السلام داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر، ثم خرجاً، فعاد الرضاعليه‌السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران.

قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عَزَّ وجَلَّ هل يوحد بحقيقة أم يوحد بوصف؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأوّل، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه لا معلوماً ولا مجهولاً، ولا محكماً ولا متشابهاً، ولا مذكوراً ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم، ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل الخلق إذ لا شيء وما أوقعت عليه من الكلّ فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم.

واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته الحروف التي جعلها أصلاً لكل شيء ودليلاً على كلّ مدرك وفاصلاً لكلّ مشكل. وتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهي ولا وجود لأنها مبدعة بالإبداع، والنّور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض.

١٩٨

والحروف هي المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلّها من الله عَزَّ وجَلَّ، علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على اللغات السريانيّة، والعبرانيّة، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً.

فأمّا الخمسة المختلفة فتحجج لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثمّ جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عَزَّ وجَلَّ:( كُنْ فَيَكُونُ ) وكن منه صنع وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عَزَّ وجَلَّ الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ.

والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنّه ليس قبله عَزَّ وجَلَّ شيء، ولا كان معه شيء والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: وكيف لا تدلّ على غير أنفسها؟ قال الرضاعليه‌السلام : لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أمّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فرداً فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟ قال: نعم.

١٩٩

قال الرضاعليه‌السلام : واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حدّ لغير محدود، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال والوجود ولا تدلّ على الإحاطة كما تدلّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس، لأنّ الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحلّ بالله جلّ وتقدّس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا.

ولكن يدلّ على الله عَزَّ وجَلَّ بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدلّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلو لا أنّ ذلك كذلك لمكان المعبود الوحد غير الله تعالى، لأنّ صفاته وأسماءه غيره، أفهمت؟ قال: نعم يا سيدي زدني.

قال الرضاعليه‌السلام : إياك وقول الجهّال أهل العمى والضلال الذي يزعمون أن الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عَزَّ وجَلَّ نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عَزَّ وجَلَّ:( وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً ) يعنى أعمى عن الحقائق الموجودة.

وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا يكون إلاّ بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً، لأنّ

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228