كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

كتاب شرح نهج البلاغة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف: الصفحات: 350
المشاهدات: 90589
تحميل: 7663


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90589 / تحميل: 7663
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اثنان. فقال: له أو يطمع يا عم فيها طامع غيري؟ قال: ستعلم فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه و أن عمر جاء بأبي بكر فبايعه و سبق الأنصار بالبيعة، فندم علي (عليه‌السلام ) على تفريطه في أمر البيعة و تقاعده عنها، و أنشده العباس قول دريد:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد(1)

و تزعم الشيعة أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) كان يعلم موته و أنه سير أبابكر و عمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما، فيصفو الأمر لعلي (عليه‌السلام ) و يبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون و طمأنينة، فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و بيعة الناس لعلي (عليه‌السلام ) بعده كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد؛ لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة و يحتاج في نقضها إلى حروب شديدة، فلم يتم له ما قدر و تثاقل أسامة بالجيش أياما مع شدة حث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) على نفوذه و خروجه بالجيش حتى مات (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و هما بالمدينة فسبقا عليا إلى البيعة و جرى ما جرى. و هذا عندي غير منقدح؛ لأنه إن كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يعلم موته، فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة و ما يعلمه لا يحترس منه، و إنما يتم هذا و يصح إذا فرضنا أنه (عليه‌السلام ) كان يظن موته و لا يعلمه حقيقة و يظن أن أبابكر و عمر يتمالآن على ابن عمه، و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة، فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم، و يتطرق هذا الظن كالواحد منا له ولدان يخاف من أحدهما

____________________

(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 814، وروايته: " فلم يستبينوا الرشد ".

١٦١

أن يتغلب بعد موته على جميع ماله، و لا يوصل أخاه إلى شي‏ء من حقه، فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر: (حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ اِبْنِ اَلْخَطَّابِ بَعْدَهُ(1) ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى إِلَى اِبْنِ اَلْخَطَّابِ

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا

وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا [ كَلاَمُهَا ] وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ)، مضى لسبيله مات و السبيل الطريق و تقديره مضى على سبيله و تجي‏ء اللام بمعنى على، كقوله(2) : فخر صريعا لليدين و للفم. و قوله: فأدلى بها من قوله تعالى:( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ

____________________

(1) في مخطوطة النهج: " ثم تمثل بقول الأعشى ". وكذلك في حواشي ب

(2) لجابر بن حنى التغلبي، وصدره: * تناوله بالرمح ثم اتنى له * من قصيدة له مفضلية 208-212، وهو أيضا من شواهد المغني1: 212، على وضع اللام موضع " على ".

١٦٢

وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكَّامِ ) (1) ، أي: تدفعوها إليهم رشوة و أصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها. فإن قلت فإن أبابكر إنما دفعها إلى عمر حين مات و لا معنى للرشوة عند الموت. قلت لما كان (عليه‌السلام ) يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم، فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة.

عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب

و ابن الخطاب، هو أبو حفص عمر الفاروق و أبوه الخطاب بن نفيل، بن عبد العزى، بن رياح، بن عبد الله، بن قرط، بن رزاح، بن عدي، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، و أم عمر حنتمة بنت هاشم، بن المغيرة، بن عبد الله، بن عمر بن مخزوم. لما احتضر أبوبكر قال للكاتب: اكتب هذا ما عهد عبد الله بن عثمان(1) ،آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة في الساعة التي يبر فيها الفاجر، و يسلم فيها الكافر، ثم أغمي عليه، فكتب الكاتب عمر بن الخطاب، ثم أفاق أبوبكر، فقال اقرأ ما كتبت فقرأ، و ذكر اسم عمر. فقال: أنى لك هذا؟ قال: ما كنت لتعدوه. فقال: أصبت. ثم قال: أتم كتابك. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب و ذلك حيث أجال رأيه و أعمل فكره فرأى أن هذا الأمر(3 لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله3) ، و لا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة و أملكهم لنفسه، و أشدهم في حال الشدة و أسلسهم في حال اللين و أعلمهم برأي ذوي الرأي لا يتشاغل بما لا يعنيه و لا يحزن لما لم ينزل به،

____________________

(1) سورة البقرة 188

(2) عثمان اسم أبى قحافة

(3 - 3)كذا فى ب، ج، فى ا: " لا يصلح آخره إلا بما أوله به صلح".

١٦٣

و لا يستحي من التعلم و لا يتحير عند البديهة قوي على الأمور لا يجوز بشي‏ء منها حده عدوانا، و لا تقصيرا يرصد لما هو آت عتاده من الحذر. فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة، منهم طلحة، فقال له(1) : ما أنت قائل لربك غدا و قد وليت علينا فظا غليظا تفرق منه النفوس، و تنفض عنه القلوب. فقال: أبوبكر أسندوني و كان مستلقيا فأسندوه، فقال لطلحة: أبالله تخوفني إذا قال لي ذلك غدا قلت له وليت عليهم خير أهلك. و يقال(2) : أصدق الناس فراسة ثلاثة: العزيز في قوله لامرأته. عن يوسف (عليه‌السلام( وَ قالَ اَلَّذِي اِشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) (3) ، و ابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى:( يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ ) (4) و أبوبكر في عمر. و روى كثير من الناس أن أبابكر لما نزل به الموت(5) دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرني عن عمر. فقال: إنه أفضل من رأيك فيه(6) إلا أن فيه غلظة. فقال أبو بكر ذاك؛ لأنه يراني رقيقا و لو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه، و إذا لنت له أراني الشدة عليه، ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر. فقال: سريرته خير من علانيته(7) و ليس فينا مثله. فقال لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئا و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان، و الخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا و لوددت أني كنت من أموركم خلوا، و كنت فيمن مضى من سلفكم و دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: إنه بلغني أنك يا خليفة

____________________

(1) كلمة " له " ساقطة من ب

(2) ا: " ويقال إنه "

(3) سورة يوسف 21

(4) سورة القصص 26

(5) ساقطة من ب

(6) تسكلمتة من تاريخ الطبري 428:3، وفى ج:"أفضل من رأيت".

(7) ا: " تقصر عن علانيته"

١٦٤

رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) استخلفت على الناس عمر، و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه، فكيف به إذا خلا بهم و أنت غدا لاق ربك، فيسألك عن رعيتك. فقال أبوبكر: أجلسوني، ثم قال: أبالله تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت عليهم خير أهلك. فقال طلحة: أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله؟ فاشتد غضبه، و قال: إي و الله، هو خيرهم و أنت شرهم، أما و الله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك و لرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني و قد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني و تزيلني عن رأيي، قم لا أقام الله رجليك، أما و الله لئن عشت فواق ناقة و بلغني أنك غمصته فيها أو ذكرته بسوء لألحقنك بمحمضات قنة(1) ، حيث كنتم تسقون و لا تروون، و ترعون و لا تشبعون، و أنتم بذلك بجحون(2) راضون، فقام طلحة فخرج. أحضر أبوبكر عثمان، و هو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهدا، و قال: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما عهد عبد الله بن عثمان(3) إلى المسلمين، أما بعد ثم أغمي عليه و كتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و أفاق أبوبكر. فقال: اقرأ، فقرأه فكبر أبوبكر و سر و قال: أراك خفت أن يختلف الناس أن مت في غشيتي، قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام و أهله، ثم أتم العهد و أمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم، ثم أوصى عمر، فقال له إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار و حقا في النهار لا يقبله بالليل، و إنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة، و إنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه، و إنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته عليه، إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له و لئلا

____________________

(1) الوضع الذي ترعي فيه الإبل الحمض.وقنة:موضوع بعينه.

(2) البجح:الفرح والسرور.

(3) الطبري429:3: " أبو بكر بن أبي قحافة "

١٦٥

يرهب رهبة يلقى فيها بيده، فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت و لست معجزة، ثم توفي أبوبكر. دعا أبوبكر عمر يوم موته بعد عهده إليه، فقال: إني لأرجو أن أموت في يومي هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة، و إن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه، و لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم، و قد رأيتني متوفى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) كيف صنعت. و توفي أبوبكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة. و أما البيت الذي تمثل به (عليه‌السلام )، فإنه للأعشى الكبير أعشى قيس، و هو أبو بصير، ميمون بن قيس، بن جندل من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة و عامر بن الطفيل و أولها:

علقم ما أنت إلى عامر

الناقض الأوتار و الواتر(1)

يقول فيها:

و قد أسلي الهم إذ يعتري

بجسرة دوسرة عاقر(2)

زيافة بالرحل خطارة

تلوي بشرخي ميسة قاتر(3)

شرخا الرحل مقدمه و مؤخره و الميس شجر يتخذ منه الرحال و رحل قاتر جيد الوقوع على ظهر البعير

____________________

(1) ديوانه 401-108، ويقع هذا البيت الخامس عشر منها، وأولها:

شاقتك من قتلة أطلاها

بالشط فالوتر إلى حاجر

(2) الجسرة: الناقة السريعة، والدوسرة: الضخمة. والعاقر: التي لم تحمل، وفى الديوان: " حين اعترى ".

(3) الزيافة: المختالة في سيرها. والخطارة: التي تخطر بذنبها نشاطا.

١٦٦

شتان ما يومي على كورها

و يوم حيان أخي جابر

أرمي بها البيداء إذ هجرت

و أنت بين القرو و العاصر(1)

في مجدل شيد بنيانه

يزل عنه ظفر الطائر

تقول شتان ما هما و شتان هما، و لا يجوز شتان ما بينهما إلا على قول ضعيف. و شتان، أصله شتت كوشكان ذا خروجا من وشك و حيان و جابر ابنا السمين الحنفيان، و كان حيان صاحب شراب، و معاقرة خمر، و كان نديم الأعشى، و كان أخوه جابر أصغر سنا منه، فيقال: إن حيان قال للأعشى: نسبتني إلى أخي، و هو أصغر سنا مني؟ فقال: إن الروي اضطرني إلى ذلك، فقال: و الله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت، يقول: شتان يومي و أنا في الهاجرة و الرمضاء أسير على كور هذه الناقة، و يوم حيان، و هو في سكرة الشراب ناعم البال مرفه من الأكدار، و المشاق و القرو شبه حوض يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه، و العاصر الذي يعتصر العنب و المجدل الحصن المنيع. و شبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الأمين يذكر حاله و حال أخيه المأمون، إنما نحن(2) شعب من أصل إن قوي قوينا، و إن ضعف ضعفنا، و إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء، و يقدم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام، و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، ينام نوم الظربان و ينتبه انتباه الذئب، همه بطنه و فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروى في إمضاء رأي و لا مكيدة، قد شمر له عبد الله

____________________

(1) لم يرد هذا البيت في ديوانه، وهو في اللسان 34:20، وروايته: * أرمى بها البيداء إذ أعرضت *

(2) الخبر بالتفصيل في تاريخ الطبري (حوادث سنة 196).

١٦٧

عن ساقه و فوق إليه أسد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبا له المنايا على متون الخيل، و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف، فهو كما قال الشاعر(1) :

لشتان ما بيني و بين ابن خالد

أمية في الرزق الذي الله يقسم(2)

يقارع أتراك ابن خاقان ليله(3)

إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم

و آخذها حمراء كالمسك ريحها

لها أرج من دنها يتنسم(4)

فيصبح من طول الطراد و جسمه

نحيل و أضحي في النعيم أصمم

و أمية المذكور في هذا الشعر، هو أمية بن عبد الله، بن خالد، بن أسيد، بن أبي العيص، بن أمية، بن عبد شمس، كان والي خراسان و حارب الترك و الشعر للبعيث. يقول أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علي من الأمر، و منيت به من انتشار الحبل و اضطراب أركان الخلافة، و بين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة و أركان ثابتة و سكون شامل، فانتظم أمره و اطرد حاله و سكنت أيامه. قوله (عليه‌السلام ) : فيا عجبا أصله فيا عجبي، كقولك: يا غلامي، ثم قلبوا الياء ألفا، فقالوا: يا عجبا، كقولهم: يا غلاما، فإن وقفت وقفت على هاء السكت، فقلت: يا عجباه، و يا غلاماه، قال ا: لعجب منه، و هو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته، فيقول أقيلوني، ثم يعقدها عند وفاته لآخر، و هذا يناقض الزهد فيها و الاستقالة منها و قال شاعر من شعراء الشيعة:

حملوها يوم السقيفة

أوزارا تخف الجبال و هي ثقال

____________________

(1) الطبري: "وتمثل بشعر البعيث".

(2) الشعر والخبر في تاريخ الطبري وابن الأثير (حوادث سنة 196) مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات وترتيبها.

(3) كذا فى الأصول والطبري، والوجه ما أئبته من ابن الأثير.

(4) ابن الأثير:"لها أرج فى دنها حين برسم "وهنا البيت سقط من تاريخ الطبري.

١٦٨

ثم جاءوا من بعدها

يستقيلون و هيهات عثرة لا تقال

و قد اختلف الرواة في هذه اللفظة، فكثير من الناس رواها أقيلوني فلست بخيركم، و من الناس من أنكر هذه اللفظة و لم يروها، و إنما روى قوله: وليتكم و لست بخيركم، و احتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة و من رواها اعتذر لأبي بكر، فقال: إنما قال: أقيلوني ليثور(1) ما في نفوس(2) الناس من بيعته، و يخبر ما عندهم من ولايته، فيعلم مريدهم و كارههم و محبهم و مبغضهم، فلما رأى النفوس إليه ساكنة و القلوب لبيعته مذعنة، استمر على إمارته و حكم حكم الخلفاء في رعيته، و لم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته. قالوا و قد جرى مثل ذلك لعلي (عليه‌السلام ) فإنه قال: للناس بعد قتل عثمان دعوني و التمسوا غيري، فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا، و قال لهم: اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم، فأبوا عليه و بايعوه فكرهها أولا، ثم عهد بها إلى الحسن (عليه‌السلام ) عند موته. قالت الإمامية: هذا غير لازم و الفرق بين الموضعين ظاهر؛ لأن عليا (عليه‌السلام ) لم يقل إني لا أصلح و لكنه كره الفتنة، و أبوبكر قال كلاما معناه أني لا أصلح لها، لقوله لست بخيركم، و من نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره. و اعلم أن الكلام في هذا الموضع مبني على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا؟ و قد تكلمنا في شرح الغرر لشيخنا أبي الحسين(3) رحمه‌الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب.

____________________

(1) يثور: يبحث

(2) ا: " قلوب ".

(3) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب المتكلم المعتزلي، توفى سنة 436، وكتابه " غرر الأدلة "، ذكره ابن خلكان 1: 482.

١٦٩

و قوله (عليه‌السلام ) لشد ما تشطرا ضرعيها، شد: أصله شدد، كقولك: حب في حبذا، أصله حبب، و معنى شد صار شديدا جدا، و معنى حب صار حبيبا، قال البحتري:

شد ما أغريت ظلوم بهجري

بعد وجدي بها و غلة صدري(1)

و للناقة أربعة أخلاف خلفان قادمان و خلفان آخران، و كل اثنين منهما شطر و تشطرا ضرعيها اقتسما فائدتهما، و نفعهما، و الضمير للخلافة و سمى القادمين معا ضرعا، و سمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما و لكونهما لا يحلبان إلا معا كشي‏ء واحد. قوله (عليه‌السلام ) : فجعلها في حوزة خشناء، أي: في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة و الكلم الجرح. و قوله: يغلظ من الناس من قال كيف قال يغلظ كلمها و الكلم لا يوصف بالغلظ، و هذا قلة فهم بالفصاحة، ألا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ فقال:( وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ) (2) ، أي: متضاعف؛ لأن الغليظ من الأجسام هو ما كثف، و جسم فكان أجزاؤه و جواهره متضاعفة، فلما كان العذاب أعاذنا الله منه متضاعفا سمي غليظا، و كذلك الجرح إذا أمعن و عمق فكأنه قد تضاعف و صار جروحا فسمي غليظا. إن قيل قد قال (عليه‌السلام ) في حوزة خشناء فوصفها بالخشونة فكيف أعاد ذكر الخشونة ثانية، فقال يخشن مسها. قيل ا: لاعتبار مختلف؛ لأن مراده بقوله في حوزة خشناء، أي: لا ينال ما عندها و لا يرام. يقال: إن فلانا لخشن الجانب و وعر الجانب و مراده بقوله يخشن

____________________

(1) ديوانه970:2) طبعة المعارف (.

(2) سورة هود 58

١٧٠

مسها، أي: تؤذي و تضر و تنكئ من يمسها يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور و نفور طبعه و شدة بادرته. قوله (عليه‌السلام ) و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها. يقول ليست هذه الجهة جددا مهيعا بل هي كطريق كثير الحجارة لا يزال الماشي فيه عاثرا. و أما منها في قوله (عليه‌السلام ) و الاعتذار منها فيمكن أن تكون من على أصلها، يعني: أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالأمر، ثم ينقضه و يفتي بالفتيا، ثم يرجع عنها و يعتذر مما أفتى به أولا، و يمكن أن تكون من هاهنا للتعليل و السببية، أي: و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم و حركاتهم لأجلها قال:

أمن رسم دار مربع و مصيف

لعينيك من ماء الشئون و كيف(1)

أي: لأجل أن رسم المربع و المصيف هذه الدار و كف دمع عينيك. و الصعبة من النوق ما لم تركب، و لم ترض إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها، و إن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار، أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك. و أشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام، و هو راكبها و اللغة المشهورة شنق ثلاثية، و في الحديث أن طلحة أنشد قصيدة، فما زال شانقا راحلته حتى كتبت له(2) و أشنق البعير نفسه إذا رفع رأسه يتعدى، و لا يتعدى و أصله من الشناق، و هو خيط يشد به فم القربة. و قال الرضي أبو الحسنرحمه‌الله تعالى إنما قال (عليه‌السلام ) أشنق لها و لم يقل أشنقها؛ لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله أسلس لها و هذا حسن فإنهم إذا

____________________

(1) وكيف الدمع: سيلانه.

(2) الخبر في الفائق 1: 677، وقال في شرحه: " هو أن يجذب رأسها بزمامها، حتى يداني قفاها قامة الرحل. وقد شنقها وأشنقها "

١٧١

قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا قالوا الغدايا و العشايا و الأصل الغدوات جمع غدوة و قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : ارجعن مأزورات غير مأجورات، و أصله موزورات بالواو؛ لأنه من الوزر. و قال الرضيرحمه‌الله تعالى و مما يشهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي:

ساءها ما لها تبين في الأيدي

و إشناقها إلى الأعناق

قلت تبين في هذا البيت فعل ماض تبين يتبين تبينا و اللام في لها تتعلق بتبين يقول ظهر لها ما في أيدينا فساءها، و هذا البيت من قصيدة أولها:

ليس شي‏ء على المنون بباق

غير وجه المسبح الخلاق(1)

و قد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند، و هو في الحبس حبس النعمان، و يداه مغلولتان إلى عنقه، فأنكرت ذلك و قالت ما هذا الذي في يدك و عنقك يا أبت، و بكت، فقال هذا الشعر و قبل هذا البيت:

و لقد غمني زيارة ذي قربى

صغير لقربنا مشتاق

ساءها ما لها تبين في الأيدي

و إشناقها إلى الأعناق(2)

أي: ساءها ما ظهر لها من ذلك، و يروى ساءها ما بنا تبين، أي: ما بان و ظهر و يروى ما بنا تبين بالرفع على أنه مضارع. و يروى إشناقها بالرفع عطفا على ما التي هي بمعنى الذي، و هي فاعلة و يروى بالجر عطفا على الأيدي.

____________________

(1) الأغاني 2: 116، اللسان (شنق).

(2) بعده في رواية الأغاني:

فاذهبي يا أميم غير بعيد

لا يؤاتى من في الوثاق

واذهبي يا أميم إن يشأ الله ينفس من أزم هذا الخناق

١٧٢

و قال الرضيرحمه‌الله تعالى أيضا و يروى أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) خطب الناس، و هو على ناقة قد شنق لها، و هي تقصع بجرتها. قلت الجرة ما يعلو من الجوف، و تجتره الإبل و الدرة ما يسفل و تقصع بها تدفع، و قد كان للرضيرحمه‌الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز أشنق لها، فإن الفعل في الخبر قد عدي باللام لا بنفسه قوله (عليه‌السلام ) فمني الناس، أي: بلي الناس قال:

منيت بزمردة كالعصا(1)

و الخبط السير على غير جادة و الشماس النفار و التلون التبدل و، الاعتراض السير لا على خط مستقيم، كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا، و إنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط و بعير عرضي يعترض في مسيره؛ لأنه لم يتم رياضته و في فلان عرضية، أي: عجرفة و صعوبة

طرف من أخبار عمر بن الخطاب

و كان عمر بن الخطاب صعبا عظيم الهيبة، شديد السياسة لا يحابي أحدا، و لا يراقب شريفا و لا مشروفا، و كان أكابر الصحابة يتحامون و يتفادون من لقائه، كان أبو سفيان بن حرب في مجلس عمر و هناك زياد ابن سمية و كثير من الصحابة، فتكلم زياد فأحسن، و هو يومئذ غلام فقال علي (عليه‌السلام ) و كان حاضرا لأبي سفيان و هو إلى جانبه لله هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه. فقال له أبو سفيان: أما و الله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك. قال: و من أبوه. قال: أنا وضعته و الله في رحم أمه. فقال علي (عليه‌السلام ) : فما يمنعك من استلحاقه قال أخاف هذا العير(2) الجالس أن يخرق علي إهابي

____________________

(1) لأبي الغطمش الحنفي، ذكره أبو تمام الحماسة 1881 بشرح المرزوقي، ورواه: *ألص وأخبث من كندش *

(2) عير القوم: سيدهم.

١٧٣

و قيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول(1) بعد موت عمر و لم يكن قبل يظهره هلا قلت هذا و عمر حي قال هبته و كان امرأ مهابا(2) . و استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر و كانت حاملا، فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها، فأجهضت به جنينا ميتا فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك، فقالوا: لا شي‏ء عليك إنما أنت مؤدب. فقال له علي (عليه‌السلام ) : (إن كانوا راقبوك فقد غشوك و إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة) يعني عتق رقبة فرجع عمر و الصحابة إلى قوله. و عمر هو الذي شد بيعة أبي بكر و وقم(3) المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده، و دفع في صدر المقداد، و وطئ في السقيفة سعد بن عبادة. و قال اقتلوا سعدا قتل الله سعدا و حطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة أنا جذيلها(4) المحكك، و عذيقها المرجب و توعد من لجأ إلى دار فاطمة (سلام الله عليها) من الهاشميين، و أخرجهم منها و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة. و هو الذي ساس العمال، و أخذ أموالهم في خلافته، و ذلك من أحسن السياسات. و روى الزبير بن بكار. قال: لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق، و صامت(5) فكتب إليه أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك و لا كان لك مال قبل أن أستعملك، فأنى لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي و انتثر أمري، و لقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك و لكني قلدتك رجاء غنائك فاكتب إلي من أين لك هذا المال و عجل.

____________________

(1) عول الفريضة، وهو أن تزيدسهامها فيدخل النقصان علي أهل الفرائض.

(2) كذا في ا، وفى ب: " وكان أمرا مهيبا "

(3) وقوم البعير:كواه والمراد أذله.

(4) الفائق: 180، وبقية الخبر فيه: " منا أمير ومنكم أمير ". الجذيل: تصغير الجذل، بالكسر، وهو في الأصل عود ينصب للجربى تحتك به فتستشفي. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مملسا. به كثير في مثل هذه الحادثة، وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفى أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل ".

(5) قولهم: ماله صامت ولا ناطق فالناطق: الحيوان والصامت:ماسواه.

١٧٤

فكتب إليه عمرو أما بعد فقد فهمت كتاب أميرالمؤمنين، فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأميرالمؤمنين نبؤها، و والله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك و قد ائتمنتني، فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك و، ذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا، و لا فتحت لك قفلا، فكتب إليه عمر أما بعد، فإني لست من تسطيرك الكتاب و تشقيقك الكلام في شي‏ء، و لكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال و لن تعدموا عذرا و إنما تأكلون النار، و تتعجلون العار و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك. فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما و دعاه فلم يأكل، و قال هذه تقدمة الشر و لو جئتني بطعام الضيف لأكلت فنح عني طعامك و أحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره، فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر، و الله لقد رأيت عمر و أباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية(1) لا تجاوز مأبض(2) ركبتيه، و على عنقه حزمة حطب و العاص بن وائل في مزررات الديباج، فقال محمد: إيها عنك يا عمرو، فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه فإنهما في النار، و لولا الإسلام لألفيت معتلقا شاة يسرك غزرها و يسوؤك بكوؤها(3) . قال: صدقت فاكتم علي. قال: أفعل. قال الربيع بن زياد الحارثي: كنت(4) عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين

____________________

(1) قطوانية: منسوبة إلى قطوان، موضع بالكوفة، تنسب إليه الأكسية.

(2) المأبض: باطن الركبة.

(3) يقال: بكأت الناقة بكوءا، إذا قل لبنها.

(4) الخبر في الكامل153:152:1.

١٧٥

فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو و عماله، و أن يستخلفوا جميعا، فلما قدمنا المدينة أتيت يرفأ حاجب عمر. فقلت: يا يرفأ مسترشد و ابن سبيل، أي: الهيئات أحب إلى أميرالمؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلي بالخشونة، فاتخذت خفين مطارقين(1) ، و لبست جبة صوف، و لثت عمامتي على رأسي، ثم دخلنا على عمر، فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا و صوب فلم تأخذ عينه أحدا غيري، فدعاني، فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي. قال: و ما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: كم ترزق؟ قلت: ألفا. قال: كثير، فما تصنع به؟ قلت: أتقوت منه شيئا و أعود بباقيه على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين. قال: لا بأس، ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا و صوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني، فقال: كم سنك؟ قلت: خمس و أربعون. فقال: الآن حيث استحكمت، ثم دعا بالطعام و أصحابي حديث عهدهم بلين العيش و قد تجوعت له فأتى بخبز يابس و أكسار(2) بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك و جعلت آكل فأجيد و أنا أنظر إليه و هو يلحظني من بينهم، ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أني سخت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني، ثم قال: كيف قلت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم و يطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا و باللحم غريضا فسكن من غربه، و قال: أهاهنا غرت(3) ! قلت: نعم. فقال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق(4) وسبائك(5) ، و صناب(6) ، و لكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال:( أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ

____________________

(1) لبس خفين مطارقين، أي مطبقين، واحدا فوق الآخر.

(2) أكيار الإبل، أي أعضاؤها، واحدها كسر، بالفتح والكسر.

(3) غرت: ذهبت، وفى الأصول: " غرب " تحريف.

(4) الصلائق:ما عمل بالنار طبخا وشياً.

(5) السبائك: ما سبك من الدقيق ونخل فأخذ خالصه، يعنى الحوارى، وكانوا يسمون الرقاق السبائك.

(6) الصناب: صباغ يؤتدم به.

١٧٦

فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا ) (1) ، ثم أمر أبا موسى بإقراري و أن يستبدل بأصحابي. أسلم عمر بعد جماعة من الناس، و كان سبب إسلامه أن أخته و بعلها أسلما سرا من عمر، فدخل إليهما خباب بن الأرت يعلمهما الدين خفية فوشى بهم واش إلى عمر فجاء دار أخته فتوارى خباب منه داخل البيت، فقال عمر: ما هذه الهينمة عندكم؟ قالت أخته: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: أراكما قد صبوتما. قال ختنه: أرأيت إن كان هو الحق فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عنه فنفحها بيده فدمي وجهها، ثم ندم و رق و جلس واجما، فخرج إليه خباب فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لك الليلة فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام. قال: فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التي فيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يومئذ، و هي الدار التي في أصل الصفا و على الباب حمزة، و طلحة، و ناس من المسلمين، فوجل القوم من عمر إلا حمزة، فإنه قال: قد جاءنا عمر فإن يرد الله به خيرا يهده و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا، و النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) داخل الدار يوحى إليه، فسمع كلامهم فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه، و قال ما أنت بمنته يا عمر، حتى ينزل الله بك من الخزي و النكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر. فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، و أشهد أن محمدا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة فناداه إنسان ما أراك إلا تستعمل عمالك و تعهد إليهم العهود، و ترى أن ذلك قد أجزأك كلا و الله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم،

____________________

(1) سورة الأحقاف 20

١٧٧

قال: ما ذاك قال عياض بن غنم يلبس اللين، و يأكل الطيب و يفعل كذا و كذا قال: أساع(1) ؟، قال: بل مؤد ما عليه، فقال لمحمد بن مسلمة: الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده، فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض، و هو أمير على حمص و إذا عليه بواب، فقال له: قل لعياض على بابك رجل يريد أن يلقاك. قال: ما تقول؟ قال: قل له ما أقول لك، فقام كالمعجب، فأخبره فعرف عياض أنه أمر حدث فخرج، فإذا محمد بن مسلمة فأدخله فرأى على عياض قميصا رقيقا و رداء لينا، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك فأقدمه على عمر و أخبره أنه وجده في عيش ناعم، فأمر له بعصا و كساء، و قال: اذهب بهذه الغنم فأحسن رعيها، فقال: الموت أهون من ذلك، فقال: كذبت و لقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك، فساق الغنم بعصاه و الكساء في عنقه، فلما بعد رده و قال: أرأيت إن رددتك إلى عملك أتصنع خيرا؟ قال: نعم و الله يا أمير المؤمنين، لا يبلغك مني بعدها ما تكره فرده إلى عمله فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه. كان الناس بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها، فقال عمر: أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد، ثم أمر بها فقطعت. لما مات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و شاع بين الناس موته، طاف عمر على الناس قائلا إنه لم يمت و لكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه، و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنه مات، فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا و يخبطه و يتوعده، حتى جاء أبوبكر فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات

____________________

(1) الساعي هنا: الواشي.

١٧٨

و من كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت، ثم تلا قوله تعالى:( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ ) (1) ، قالوا: فو الله لكان الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبوبكر، و قال عمر: لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض و علمت أن رسول الله قد مات. لما قتل خالد مالك بن نويرة و نكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري فركب فرسه و التحق بأبي بكر، و حلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا فقص على أبي بكر القصة، فقال أبوبكر: لقد فتنت الغنائم العرب و ترك خالد ما أمر به. فقال عمر: إن عليك أن تقيده بمالك، فسكت أبوبكر و قدم خالد فدخل المسجد و عليه ثياب قد صدئت من الحديد، و في عمامته ثلاثة أسهم، فلما رآه عمر قال: أرياء يا عدو الله، عدوت على رجل من المسلمين فقتلته و نكحت امرأته، أما و الله إن أمكنني الله منك لأرجمنك، ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها، و خالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر و رأيه، فلما دخل إلى أبي بكر و حدثه صدقه فيما حكاه و قبل عذره، فكان عمر يحرض أبابكر على خالد و يشير عليه أن يقتص منه بدم مالك، فقال أبوبكر: إيها يا عمر، ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه، ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين. لما صالح خالد أهل اليمامة و كتب بينه و بينهم كتاب الصلح، تزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي، وصل إليه كتاب أبي بكر لعمري: يا ابن أم خالد، إنك لفارغ حتى تزوج النساء و حول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد في كلام أغلظ له فيه، فقال خالد هذا الكتاب ليس من عمل أبي بكر هذا عمل الأعيسر يعني عمر

____________________

(1) سورة آل عمران 144

١٧٩

عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة و إقامة للناس، و عقله بعمامته، و نزع قلنسوته عن رأسه، و قال أعلمني من أين لك هذا المال، و ذلك أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم، فقال: من الأنفال و السهمان، فقال: لا و الله لا تعمل لي عملا بعد اليوم و شاطره ماله و كتب إلى الأمصار بعزله، و قال: إن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه و أحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع. لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة و معه رجال من المسلمين منهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك، فأدخلوه المدينة في هيئته و تاجه و كسوته، فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان و أين عمر؟ قالوا: ها هو ذا قال أين حرسه قالوا لا حاجب له و لا حارس، قال: فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل بعمل الأنبياء، و استيقظ عمر فقال الهرمزان، فقالوا: نعم. قال: لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شي‏ء فرموا ما عليه و ألبسوه ثوبا صفيقا، فلما كلمه عمر أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه و يقوم على رأسه ففعل، ثم قال له ما عذرك في نقض الصلح و نكث العهد، و قد كان الهرمزان صالح أولا، ثم نقض و غدر، فقال: أخبرك؟، قال: قل. قال: و أنا شديد العطش فاسقني، ثم أخبرك فأحضر له ماء فلما تناوله جعلت يده ترعد، قال: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أمد عنقي و أنا أشرب، فيقتلني سيفك. قال: لا بأس عليك حتى تشرب، فألقى الإناء عن يده. فقال: ما بالك أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش، قال: إنك قد أمنتني. قال: كذبت. قال: لم أكذب. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قال ويحك يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك. قال: أنت يا أمير المؤمنين، قلت: لا بأس عليك حتى تشرب، و قال له ناس من المسلمين

١٨٠