كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

كتاب شرح نهج البلاغة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف: الصفحات: 350
المشاهدات: 90578
تحميل: 7663


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90578 / تحميل: 7663
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

21. و من خطبة له (عليه‌السلام )

(فَإِنَّ اَلْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ اَلسَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ) قال الرضيرحمه‌الله أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه، و بعد كلام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بكل كلام لمال به راجحا و برز عليه سابقا. فأما قوله (عليه‌السلام ) : تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة، و أنقع نطفتها من حكمة، و قد نبهنا في كتاب الخصائص(1) و على عظم قدرها و شرف جوهرها غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك، و يحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت و إنما جعل ذلك أمامنا؛ لأن الإنسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء فهما أمامه، أي: بين يديه.

____________________

(1) كتاب خصائص الأئمة للشريف الرضى. انظر الذريعة في مصنفات الشيعة 7: 164

٣٠١

ثم قال: و إن وراءكم الساعة تحدوكم، أي: تسوقكم، و إنما جعلها وراءنا؛ لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل، فلما كانت سائقة لنا كانت كالشي‏ء يحفز الإنسان من خلفه و يحركه من ورائه إلى جهة ما بين يديه. و لا يجوز أن يقال إنما سماها وراءنا؛ لأنها تكون بعد موتنا و خروجنا من الدنيا، و ذلك أن الثواب و العقاب هذا شأنهما و قد جعلهما أمامنا. و أما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله: فإن الغاية أمامكم، يعني: أن الجنة و النار خلفكم، و معنى قوله: وراءكم الساعة، أي: قدامكم. و لقائل أن يقول أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد و لكن ما ورد أمام بمعنى خلف و لا سمعنا ذلك. و أما قوله: تخففوا تلحقوا فأصله الرجل يسعى، و هو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه، و مثله قوله نجا المخففون. و قوله (عليه‌السلام ) : فإنما ينتظر بأولكم آخركم يريد إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر مجي‏ء من(1) يخلقون و يموتون في آخره، كأمير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم إنما يعطي الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير. و هذا كلام فصيح جدا. و الغور العمق و النطفة ما صفا من الماء و ما أنقع هذا الماء، أي: ما أرواه للعطش

____________________

(1) ج:«مجىءالذين مخيلقون»

٣٠٢

22. و من خطبة له (عليه‌السلام )

) أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ ذَمَّرَ حِزْبَهُ وَ اِسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ لِيَعُودَ اَلْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ(1) وَ يَرْجِعَ اَلْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ لَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا اَلتَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ اَلدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلاَمَ أُجِيبَ وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ اَلْعَجَبِ بَعْثُهُمْ بَعْثَتُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلاَدِ هَبِلَتْهُمُ اَلْهَبُولُ لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي)

____________________

(1) ا: " قطابه ".

٣٠٣

يروى ذمر بالتخفيف و ذمر بالتشديد و أصله الحض و الحث و التشديد دليل على التكثير. و استجلب جلبه الجلب بفتح اللام ما يجلب كما يقال جمع جمعه و يروى جلبه و جلبه، و هما بمعنى، و هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه، أي: جمع قوما كالجهام الذي لا نفع فيه و روي ليعود الجور إلى قطابه و القطاب مزاج الخمر بالماء، أي: ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان، و يجوز أن يعني بالقطاب قطاب الجيب، و هو مدخل الرأس فيه، أي: ليعود الجور إلى لباسه و ثوبه. و قال الراوندي قطابه أصله و ليس ذلك بمعروف في اللغة. و روي الباطل بالنصب على أن يكون يرجع متعديا تقول رجعت زيدا إلى كذا و المعنى و يرد الجور الباطل إلى أوطانه. و قال الراوندي: يعود أيضا مثل يرجع، يكون لازما و متعديا، و أجاز نصب الجور به و هذا غير صحيح؛ لأن عاد لم يأت متعديا و إنما يعدى بالهمزة. و النصف الذي ينصف. و قال الراوندي: النصف النصفة(1) ، و المعنى لا يحتمله؛ لأنه لا معنى لقوله: و لا جعلوا بيني و بينهم إنصافا بل المعنى لم يجعلوا ذا انصاف بيني و بينهم. يرتضعون أما قد فطمت يقول يطلبون الشي‏ء بعد فواته؛ لأن الأم إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها. و قوله: يا خيبة الداعي هاهنا كالنداء في قوله تعالى:( يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ ) (2) و قوله:( يا حَسْرَتَنا عَلى‏ ما فَرَّطْنا فِيها ) (3) ، أي: يا خيبة احضري فهذا أوانك.

____________________

(1) كذا في ا، وفى ب: " النصف "، والنصفة: العدل

(2) سورة يس 30

(3) سورة الأنعام 31

٣٠٤

و كلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل و الداعي هو أحد الثلاثة الرجلان و المرأة. ثم قال على سبيل الاستصغار لهم، و الاستحقار من دعا و إلى ما ذا أجيب، أي: أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي، و أقبح بالأمر الذي أجابوه إليه فما أفحشه و أرذله. و قال الراوندي: يا خيبة الداعي، تقديره يا هؤلاء، فحذف المنادى، ثم قال: خيبة الداعي، أي: خاب الداعي خيبة و هذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها، و إنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف كقوله: يا فانظر أيمن الوادي على إضم، و أيضا فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله، و تقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه. و هبلته أمه بكسر الباء ثكلته. و قوله: لقد كنت و ما أهدد بالحرب، معناه ما زلت لا أهدد بالحرب، و الواو زائدة، و هذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب، و قد ورد في القرآن العزيز كان بمعنى ما زال في قوله:( وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (1) و نحو ذلك من الآي معنى ذلك لم يزل الله عليما حكيما، و الذي تأوله المرتضىرحمه‌الله تعالى في تكملة الغرر و الدرر(2) كلام متكلف و الوجه الصحيح ما ذكرناه. و هذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي، بل من خطب الجمل و قد ذكر كثيرا منها أبو مخنفرحمه‌الله تعالى، قال: حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس.

____________________

(1) سورة النساء 170.

(2) تكملة الغرر والدرر 2: 300 - 302

٣٠٥

قال لما رجعت رسل علي (عليه‌السلام ) من عند طلحة و الزبير و عائشة يؤذنونه بالحرب قام، فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، ثم قال أيها الناس إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا و وبختهم بنكثهم، و عرفتهم بغيهم فلم يستحيوا و قد بعثوا إلي أن أبرز للطعان و أصبر للجلاد، و إنما تمنيك نفسك أماني الباطل و تعدك الغرور ألا هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدد بالحرب، و لا أرهب بالضرب، و لقد أنصف القارة من راماها(1) فليرعدوا و ليبرقوا، فقد رأوني قديما و عرفوا نكايتي فكيف رأوني أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين، و فرقت جماعتهم و بذلك القلب ألقى عدوي اليوم، و إني لعلى ما وعدني ربي من النصر و التأييد و على يقين من أمري و في غير شبهة من ديني، أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيد و لا محيص من لم يقتل مات إن أفضل الموت القتل و الذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش، اللهم إن طلحة نكث بيعتي و ألب على عثمان حتى قتله، ثم عضهني(2) به و رماني، اللهم فلا تمهله اللهم إن الزبير قطع رحمي و نكث بيعتي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت، ثم نزل

____________________

(1) قد أنصف القاره من راماها مثل ،والقاره قوم رماة من العرب .و فى اللسان (436:6) عن التهذيب :"كانو رماة الحدق فى الحاهلية ؛وهم اليوم فى المين ينسبون إلى أسد ،والنسبة إليهم قارى،وزعموا أن رجلين التقيا ؛أحىهما قارى والآخر أسدى ،فقال القارى :إن شئت صارعتك وإن شئت راميتك ،فقال :اخترت المرماة ،فقال القارى :لقد أنصفتنى ،رأنشد:

قدأنصف القارة من راماها

إنا اذا مافئةٌ نلقاها

نرد أًولاها على أً خراها

ثم انتزع له سهما فشك فؤاده

(2) عضهه ،أى قال فيه مالم يكن.

٣٠٦

خطبة علي بالمدينة في أول إمارته

و اعلم أن كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) و كلام أصحابه و عماله في واقعة الجمل كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل، فمن ذلك الخطبة التي رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي (عليه‌السلام ) فمررت بمكة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) إذ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس و خرج علي (عليه‌السلام ) متقلدا سيفه فشخصت الأبصار نحوه فحمد الله و صلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، ثم قال: (أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، قلنا: نحن أهله و ورثته، و عترته، و أولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد و لا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة(1) لغيرنا و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك، و خشنت(2) الصدور و جزعت النفوس و ايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين و أن يعود الكفر و يبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه، فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا، ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي فبايعتموني على شين مني لأمركم و فراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم، و بايعني هذان الرجلان في أول من بايع تعلمون ذلك، و قد نكثا و غدرا و نهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم و يلقيا بأسكم بينكم، اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية(3)

____________________

(1) ا: " الامارة ".

(2) ك ذ ا في ج، وحشنت أى أوغرات، ومنه قول عنترة:*وَخشنتَ صَ د رًا جيبُه لك ناصحُ*

(3) ب: " أخذة واحدة رابية "، وما أثبته عن ا. وأخذة رابية، أي أخذة تزيد على الأخذات، وقال الجوهري: أي زائدة، كقولك: أربيت، إذا أخذت أكثر مما أعطيت، قال تعالى:( فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) .

٣٠٧

و لا تنعش(1) لهما صرعة و لا تقل لهما عثرة و لا تمهلهما فواقا(2) ، فإنهما يطلبان حقا تركاه و دما سفكاه، اللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت و قولك الحق( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ ) (3) ، اللهم فأنجز لي موعدك و لا تكلني إلى نفسي إنك على كل شي‏ء قدير) ثم نزل.

خطبته عند مسيره للبصرة

و روى الكلبي قال لما أراد علي (عليه‌السلام ) المسير إلى البصرة قام فخطب الناس، فقال: (بعد أن حمد الله و صلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم و الناس حديثو عهد بالإسلام و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن و يعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيئاتهم و العفو عن هفواتهم، فما بال طلحة و الزبير و ليسا من هذا الأمر بسبيل لم يصبرا علي حولا و لا شهرا، حتى وثبا و مرقا و نازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين يرتضعان أما قد فطمت و يحييان بدعة قد أميتت أدم عثمان زعما و الله ما التبعة إلا عندهم، و فيهم، و إن أعظم حجتهم لعلى

____________________

(1) النعش: الرافع؛ نعشت فلانا، إذا جبرته بعد فقر، ورفعته بعد عثرة.

(2) الفواق، بفتح الفاء وضمها: ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عندنا إلا فواقا، أي قدر فواق.

(3) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الحج 60:( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ) .

٣٠٨

أنفسهم و أنا راض بحجة الله عليهم و عمله فيهم، فإن فاءا و أنابا فحظهما أحرزا و أنفسهما غنما، و أعظم بها غنيمة و إن أبيا أعطيتهما حد السيف و كفى به ناصرا لحق و شافيا لباطل)، ثم نزل.

خطبته بذي قار

و روى أبو مخنف عن زيد بن صوحان قال شهدت عليا (عليه‌السلام ) بذي قار(1) ، و هو معتم بعمامة سوداء ملتف بساج يخطب. فقال في خطبة: (الحمد لله على كل أمر و حال في الغدو و الآصال، و أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا عبده و رسوله، ابتعثه رحمة للعباد و حياة للبلاد حين امتلأت الأرض فتنة، و اضطرب حبلها، و عبد الشيطان في أكنافها و اشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها، فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها و أخمد به شرارها، و نزع به أوتادها، و أقام به ميلها إمام الهدى و النبي المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فلقد صدع بما أمر به، و بلغ رسالات ربه فأصلح الله به ذات البين، و آمن به السبل، و حقن به الدماء، و ألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور حتى أتاه اليقين، ثم قبضه الله إليه حميدا، ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم و نلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني لا حاجة لي في ذلك و دخلت منزلي فاستخرجتموني فقبضت يدي فبسطتموها و تداككتم(2) علي حتى ظننت أنكم قاتلي و أن بعضكم قاتل بعض فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك و لا جذل

____________________

(1) ذو قار: موضع قريب من البصرة، وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس.

(2) ت د اكسكتم:تزاحمتم

٣٠٩

و قد علم الله سبحانه أني كنت كارها للحكومة بين أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و لقد سمعته يقول: ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق، ثم ينشر كتابه فإن كان عادلا نجا و إن كان جائرا هوى حتى اجتمع علي ملؤكم و بايعني طلحة و الزبير، و أنا أعرف الغدر في أوجههما و النكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة، و استخفا عائشة، و خدعاها و شخص معهما أبناء الطلقاء(1) فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين، و فعلوا المنكر، و يا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما علي، و هما يعلمان أني لست دون أحدهما و لو شئت أن أقول لقلت و لقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عني و خرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، و الله ما أنكرا علي منكرا، و لا جعلا بيني و بينهم نصفا و إن دم عثمان لمعصوب بهما و مطلوب منهما، يا خيبة الداعي، إلام دعا و بما ذا أجيب و الله إنهما لعلى ضلالة صماء و جهالة عمياء و إن الشيطان قد ذمر لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله ليعيد الجور إلى أوطانه، و يرد الباطل إلى نصابه)، ثم رفع يديه فقال: (اللهم إن طلحة و الزبير قطعاني و ظلماني، و ألبا علي و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا و انكث ما أبرما، و لا تغفر لهما أبدا و أرهما المساءة فيما عملا و أملا). قال أبو مخنف فقام إليه الأشتر فقال: الحمد لله الذي من علينا فأفضل و أحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، و لقد أصبت و وفقت و أنت ابن عم نبينا و صهره و وصيه، و أول مصدق به و مصل معه شهدتَ

____________________

(1) الطلقاء: هم الذين خلى عليهم الرسول عليه السلام يوم فتح مكة، وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق، فعيل بمعنى مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله.

٣١٠

مشاهده كلها، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة، فمن اتبعك أصاب حظه و استبشر بفلجه، و من عصاك و رغب عنك فإلى أمه الهاوية، لعمري يا أمير المؤمنين، ما أمر طلحة و الزبير و عائشة علينا بمخيل، و لقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه، و فارقا على غير حدث أحدثت و لا جور صنعت، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه و أغرى الناس بدمه، و أشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان، فإن سيوفنا في عواتقنا و قلوبنا في صدورنا و نحن اليوم كما كنا أمس ثم قعد:

٣١١

23. و من خطبة له (عليه‌السلام )

) أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ كَقَطْرِ كَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنْ(1) رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ [ تَطْهُرُ ] فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ يُغْرَى بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ اَلْيَاسِرِ اَلَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ بِهَا اَلْمَغْرَمُ وَ كَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِي‏ءُ مِنَ اَلْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ وَ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِينَ حَرْثُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلآْخِرَةِ وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ [ شَخْصِهِ ] وَ اِخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَ اِعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لاَ سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اَللَّهِ يَكِلْهُ اَللَّهُ إِلَى مَنْ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِيَاءِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي اَلرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ عِتْرَتِهِ [ عَشِيرَتِهِ ] وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ وَ هُمْ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ

____________________

(1) ب: " فإذا ".

٣١٢

عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا إِنْ(1) نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ اَلصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ يَرِثُهُ غَيْرُهُ

وَ مِنْهَا:

أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ اَلْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا اَلْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لاَ يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ اَلْمَوَدَّةَ [ اَلْمَحَبَّةَ ])

قال الرضيرحمه‌الله (2) :

أقول الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير، و الجماء الغفير، و يروى عفوة من(3) أهل أو مال و العفوة الخيار من الشي‏ء، يقال أكلت عفوة الطعام، أي: خياره. و ما أحسن المعنى الذي أراده (عليه‌السلام ) بقوله و من يقبض يده عن عشيرته... إلى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم، و اضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و تناهض الأقدام الجمة

____________________

(1) ب: " إذا ".

(2) ساقطة من ا

(3) ا " في ".

٣١٣

الفالج الظافر الفائز، فلج يفلج بالضم، و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج، و الياسر الذي يلعب بالقداح، و اليسر مثله و الجمع أيسار، و في الكلام تقديم و تأخير تقديره كالياسر الفالج، أي: كاللاعب بالقداح المحظوظ منها، و هو من باب تقديم الصفة على الموصوف كقوله تعالى:( وَ غَرابِيبُ سُودٌ ) (1) و حسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان، و إن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى. و قوله: ليست بتعذير، أي: ليست بذات تعذير أي: تقصير فحذف المضاف، كقوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنَّارِ ) (2) أي: ذي النار. و قوله: هم أعظم الناس حيطة كبيعة، أي: رعاية و كلاءة و يروى حيطة كغيبة، و هي مصدر حاط، أي: تحننا و تعطفا. و الخصاصة الفقر يقول القضاء و القدر ينزلان من السماء إلى الأرض كقطر المطر، أي: مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان في المال، و العمر، و الجاه، و الولد، و غير ذلك، فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد و غير ذلك، فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد، فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة و قبيح يستحيي من ذكره بين الناس و يخشع إذا قرع به و يغرى لئام الناس بهتك ستره به كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ينتظر أول فوزة و غلبة من قداحه تجلب له نفعا، و تدفع عنه ضرا كذلك من وصفنا حاله يصبر و ينتظر إحدى الحسنيين إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه و يستأثر به، فالذي عند الله خير له و إما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا و مالا فيصبح، و قد اجتمع له ذلك مع حسبه و دينه و مروءته المحفوظة عليه. ثم قال: المال و البنون حرث الدنيا، و هو من قوله سبحانه:( اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ

____________________

(1) سورة فاطر 27

(2) سورة البروج4، 5

٣١٤

زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ) (1) و من قوله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (2) . قال: و قد يجمعهما الله لأقوام فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا و بنين فتجمع له الدنيا و الآخرة. ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه و ذلك لأنه تعالى قال:( فَاتَّقُونِ ) (3) و قال:( فَارْهَبُونِ ) (4) و قال:( فَلا تَخْشَوُا اَلنَّاسَ وَ اِخْشَوْنِ ) (5) و غير ذلك من آيات التحذير. ثم قال و لتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم لا ذات تقصيركم فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة

فصل في ذم الحاسد و الحسد

و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد، و هو من أقبح الأخلاق المذمومة و روى ابن مسعود عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ألا لا تعادوا نعم الله. قيل: يا رسول الله، و من الذي يعادي نعم الله؟ قال: (الذين يحسدون الناس). و كان ابن عمر يقول تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود.

____________________

(1) السورة الكهف 46.

(2) سورة الشورى20

(3) سورة البقرة 41:( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون )

(4 (سورة البقرة 40( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم )

(5) سورة المائدة 44

٣١٥

قيل: لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب؟ قال: لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا و يضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس. و قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود). و قال منصور الفقيه(1) :

منافسة الفتى فيما يزول

على نقصان همته دليل

و مختار القليل أقل منه

و كل فوائد الدنيا قليل

و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله و من كلام عثمان بن عفان يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. و قال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شي‏ء إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر. و قال أبو تمام:

و إذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود(2)

لو لا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

لو لا محاذرة العواقب لم تزل

للحاسد النعمى على المحسود(3)

و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد، فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب فأنكروا ذلك، ثم جاءهم بعد ذلك بأيام، فقال إن الخليفة قد أمر بصلب

____________________

(1) هو منصور بن إسماعيل بن عيسى التميمي أحد فقهاء الشافعة. طبقات السبكي 2. 317

(2) د يوانه 402:1

(3) ال د يون:«لولا التخوف للعواقب».

٣١٦

الأحنف(1 بن قيس1) ، و مالك بن مسمع، و حمدان الحجام، فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين. فقال: ألم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب. و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب و في الكتب القديمة يقول الله عز و جل الحاسد، عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمتي، و قال الأصمعي: رأيت أعرابيا قد بلغ مائة و عشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك؟ فقال: تركت الحسد فبقيت. و قال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد. قال الشاعر:

تراه كأن الله يجدع أنفه

و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر

و قال آخر:

قل للحسود إذا تنفس ضغنه

يا ظالما و كأنه مظلوم

و من كلام الحكماء إياك و الحسد فإنه يبين فيك و لا يبين في المحسود. و من كلامهم من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب. و قيل لبعضهم لزمت البادية و تركت قومك و بلدك قال و هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة. بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه و قصر من عنانه و اشدد من شكاله و كان عبد الملك متهما

____________________

(1) ساقط من ب

٣١٧

عند الرشيد بالطمع في الخلافة فقال الرشيد ما يقول هذا فقال عبد الملك مقال حاسد و دسيس حاقد يا أمير المؤمنين، قال: قد صدقت نقص القوم و فضلتهم و تخلفوا، و سبقتهم حتى برز شأوك و قصر عنك غيرك ففي صدورهم جمرات التخلف و حزازات التبلد. قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين، عليهم بالمزيد. و قال شاعر:

يا طالب العيش في أمن و في دعة

محضا بلا كدر صفوا بلا رنق

خلص فؤادك من غل و من حسد

فالغل في القلب مثل الغل في العنق

و من كلام عبد الله بن المعتز إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شي‏ء. و من كلامه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه. و من كلامه لا راحة لحاسد و لا حياة لحريص. و من كلامه الميت يقل الحسد له و يكثر الكذب عليه و من كلامه ما ذل قوم حتى ضعفوا، و ما ضعفوا حتى تفرقوا، و ما تفرقوا حتى اختلفوا، و ما اختلفوا حتى تباغضوا، و ما تباغضوا حتى تحاسدوا، و ما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض. و قال الشاعر:

إن يحسدوني فإني غير لائمهم

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا(1)

فدام لي و لهم ما بي و ما بهم

و مات أكثرنا غيظا بما يجد

____________________

(1) من أبيات في أمالي المرتضى 1: 414، ونسبها إلى الكميت بن زيد، وهي في شرح المختار من شعر بشار 67 من غير نسبة، وعيون الأخبار11:2، وأمالي القالي198:2.

٣١٨

و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد. و حد الحسد، هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك و تود أنه زال عنه، و صار إليك، و الغبطة ألا تغتاظ و لا تود زواله عنه، و إنما تود أن ترزق مثله، و ليست الغبطة بمذمومة. و قال الشاعر:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالكل أعداء له و خصوم(1)

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا و بغيا إنه لدميم

فصل في مدح الصبر و انتظار الفرج

و اعلم أنه (عليه‌السلام ) بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر و انتظار الفرج من الله إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب. و الصبر من المقامات الشريفة و قد وردت فيه آثار كثيرة. روى عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : (أن الصبر نصف الإيمان، و اليقين الإيمان كله) و قالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما. و قال علي (عليه‌السلام ) : (الصبر إما صبر على المصيبة أو على الطاعة أو عن المعصية و هذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين) و عنه (عليه‌السلام ) : (الحياء زينة و التقوى كرم و خير المراكب مركب الصبر) و عنه (عليه‌السلام ) : (القناعة سيف لا ينبو و الصبر مطية لا تكبو و أفضل العدة الصبر على الشدة)، قال الحسن (عليه‌السلام ) : (جربنا و جرب المجربون، فلم نر شيئا أنفع وجدانا و لا أضر فقدانا من الصبر تداوى به الأمور و لا يداوى هو بغيره).

____________________

(1) لأبي الأسود الدؤلي، ملحق ديوانه 51

٣١٩

و قال سعيد بن حميد الكاتب(1) :

لا تعتبن على النوائب

فالدهر يرغم كل عاتب

و اصبر على حدثانه

إن الأمور لها عواقب

كم نعمة مطوية

لك بين أثناء النوائب(2)

و مسرة قد أقبلت

من حيث تنتظر المصائب

و من كلامهم الصبر مر لا يتجرعه إلا حر. قال أعرابي: كن حلو الصبر عند مرارة النازلة. و قال كسرى لبزرجمهر ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة، قال ملازمة الطلب و المحافظة على الصبر و كتمان السر. و قال الأحنف بن قيس: لست حليما إنما أنا صبور فأفادني الصبر صفتي بالحلم. و سئل علي (عليه‌السلام ) أي شي‏ء أقرب إلى الكفر؟ قال: (ذو فاقة لا صبر له) و من كلامه (عليه‌السلام ) الصبر يناضل الحدثان و الجزع من أعوان الزمان و قال أعشى همدان:

إن نلت لم أفرح بشي‏ء نلته

و إذا سبقت به فلا أتلهف(3)

و متى تصبك من الحوادث نكبة

فاصبر فكل غيابة تتكشف

و الأمر يذكر بالأمر، و هذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في الأمالي، قال: لما أتي الحجاج بأعشى همدان أسيرا و قد كان خرج مع ابن الأشعث. قال له: يا ابن اللخناء، أنت القائل لعدو الرحمن يعني عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.

____________________

(1) البيتان الثالث والرابع في شرح المختار من شعر بشار 314، من غير نسبة.

(2) شرح المختار: " كم فرجة "

(3) ديوان الأعشين 35، مع اختلاف في الرواية والترتيب.

٣٢٠