كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة11%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94709 / تحميل: 8505
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

٢١. و من خطبة له (عليه‌السلام )

(فَإِنَّ اَلْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ اَلسَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ) قال الرضيرحمه‌الله أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه، و بعد كلام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بكل كلام لمال به راجحا و برز عليه سابقا. فأما قوله (عليه‌السلام ) : تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة، و أنقع نطفتها من حكمة، و قد نبهنا في كتاب الخصائص(١) و على عظم قدرها و شرف جوهرها غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك، و يحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت و إنما جعل ذلك أمامنا؛ لأن الإنسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء فهما أمامه، أي: بين يديه.

____________________

(١) كتاب خصائص الأئمة للشريف الرضى. انظر الذريعة في مصنفات الشيعة ٧: ١٦٤

٣٠١

ثم قال: و إن وراءكم الساعة تحدوكم، أي: تسوقكم، و إنما جعلها وراءنا؛ لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل، فلما كانت سائقة لنا كانت كالشي‏ء يحفز الإنسان من خلفه و يحركه من ورائه إلى جهة ما بين يديه. و لا يجوز أن يقال إنما سماها وراءنا؛ لأنها تكون بعد موتنا و خروجنا من الدنيا، و ذلك أن الثواب و العقاب هذا شأنهما و قد جعلهما أمامنا. و أما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله: فإن الغاية أمامكم، يعني: أن الجنة و النار خلفكم، و معنى قوله: وراءكم الساعة، أي: قدامكم. و لقائل أن يقول أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد و لكن ما ورد أمام بمعنى خلف و لا سمعنا ذلك. و أما قوله: تخففوا تلحقوا فأصله الرجل يسعى، و هو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه، و مثله قوله نجا المخففون. و قوله (عليه‌السلام ) : فإنما ينتظر بأولكم آخركم يريد إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر مجي‏ء من(١) يخلقون و يموتون في آخره، كأمير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم إنما يعطي الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير. و هذا كلام فصيح جدا. و الغور العمق و النطفة ما صفا من الماء و ما أنقع هذا الماء، أي: ما أرواه للعطش

____________________

(١) ج:«مجىءالذين مخيلقون»

٣٠٢

٢٢. و من خطبة له (عليه‌السلام )

) أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ ذَمَّرَ حِزْبَهُ وَ اِسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ لِيَعُودَ اَلْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ(١) وَ يَرْجِعَ اَلْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ لَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا اَلتَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ اَلدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلاَمَ أُجِيبَ وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ اَلْعَجَبِ بَعْثُهُمْ بَعْثَتُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلاَدِ هَبِلَتْهُمُ اَلْهَبُولُ لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي)

____________________

(١) ا: " قطابه ".

٣٠٣

يروى ذمر بالتخفيف و ذمر بالتشديد و أصله الحض و الحث و التشديد دليل على التكثير. و استجلب جلبه الجلب بفتح اللام ما يجلب كما يقال جمع جمعه و يروى جلبه و جلبه، و هما بمعنى، و هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه، أي: جمع قوما كالجهام الذي لا نفع فيه و روي ليعود الجور إلى قطابه و القطاب مزاج الخمر بالماء، أي: ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان، و يجوز أن يعني بالقطاب قطاب الجيب، و هو مدخل الرأس فيه، أي: ليعود الجور إلى لباسه و ثوبه. و قال الراوندي قطابه أصله و ليس ذلك بمعروف في اللغة. و روي الباطل بالنصب على أن يكون يرجع متعديا تقول رجعت زيدا إلى كذا و المعنى و يرد الجور الباطل إلى أوطانه. و قال الراوندي: يعود أيضا مثل يرجع، يكون لازما و متعديا، و أجاز نصب الجور به و هذا غير صحيح؛ لأن عاد لم يأت متعديا و إنما يعدى بالهمزة. و النصف الذي ينصف. و قال الراوندي: النصف النصفة(١) ، و المعنى لا يحتمله؛ لأنه لا معنى لقوله: و لا جعلوا بيني و بينهم إنصافا بل المعنى لم يجعلوا ذا انصاف بيني و بينهم. يرتضعون أما قد فطمت يقول يطلبون الشي‏ء بعد فواته؛ لأن الأم إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها. و قوله: يا خيبة الداعي هاهنا كالنداء في قوله تعالى:( يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ ) (٢) و قوله:( يا حَسْرَتَنا عَلى‏ ما فَرَّطْنا فِيها ) (٣) ، أي: يا خيبة احضري فهذا أوانك.

____________________

(١) كذا في ا، وفى ب: " النصف "، والنصفة: العدل

(٢) سورة يس ٣٠

(٣) سورة الأنعام ٣١

٣٠٤

و كلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل و الداعي هو أحد الثلاثة الرجلان و المرأة. ثم قال على سبيل الاستصغار لهم، و الاستحقار من دعا و إلى ما ذا أجيب، أي: أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي، و أقبح بالأمر الذي أجابوه إليه فما أفحشه و أرذله. و قال الراوندي: يا خيبة الداعي، تقديره يا هؤلاء، فحذف المنادى، ثم قال: خيبة الداعي، أي: خاب الداعي خيبة و هذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها، و إنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف كقوله: يا فانظر أيمن الوادي على إضم، و أيضا فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله، و تقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه. و هبلته أمه بكسر الباء ثكلته. و قوله: لقد كنت و ما أهدد بالحرب، معناه ما زلت لا أهدد بالحرب، و الواو زائدة، و هذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب، و قد ورد في القرآن العزيز كان بمعنى ما زال في قوله:( وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (١) و نحو ذلك من الآي معنى ذلك لم يزل الله عليما حكيما، و الذي تأوله المرتضىرحمه‌الله تعالى في تكملة الغرر و الدرر(٢) كلام متكلف و الوجه الصحيح ما ذكرناه. و هذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي، بل من خطب الجمل و قد ذكر كثيرا منها أبو مخنفرحمه‌الله تعالى، قال: حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس.

____________________

(١) سورة النساء ١٧٠.

(٢) تكملة الغرر والدرر ٢: ٣٠٠ - ٣٠٢

٣٠٥

قال لما رجعت رسل علي (عليه‌السلام ) من عند طلحة و الزبير و عائشة يؤذنونه بالحرب قام، فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، ثم قال أيها الناس إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا و وبختهم بنكثهم، و عرفتهم بغيهم فلم يستحيوا و قد بعثوا إلي أن أبرز للطعان و أصبر للجلاد، و إنما تمنيك نفسك أماني الباطل و تعدك الغرور ألا هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدد بالحرب، و لا أرهب بالضرب، و لقد أنصف القارة من راماها(١) فليرعدوا و ليبرقوا، فقد رأوني قديما و عرفوا نكايتي فكيف رأوني أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين، و فرقت جماعتهم و بذلك القلب ألقى عدوي اليوم، و إني لعلى ما وعدني ربي من النصر و التأييد و على يقين من أمري و في غير شبهة من ديني، أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيد و لا محيص من لم يقتل مات إن أفضل الموت القتل و الذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش، اللهم إن طلحة نكث بيعتي و ألب على عثمان حتى قتله، ثم عضهني(٢) به و رماني، اللهم فلا تمهله اللهم إن الزبير قطع رحمي و نكث بيعتي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت، ثم نزل

____________________

(١) قد أنصف القاره من راماها مثل ،والقاره قوم رماة من العرب .و فى اللسان (٤٣٦:٦) عن التهذيب :"كانو رماة الحدق فى الحاهلية ؛وهم اليوم فى المين ينسبون إلى أسد ،والنسبة إليهم قارى،وزعموا أن رجلين التقيا ؛أحىهما قارى والآخر أسدى ،فقال القارى :إن شئت صارعتك وإن شئت راميتك ،فقال :اخترت المرماة ،فقال القارى :لقد أنصفتنى ،رأنشد:

قدأنصف القارة من راماها

إنا اذا مافئةٌ نلقاها

نرد أًولاها على أً خراها

ثم انتزع له سهما فشك فؤاده

(٢) عضهه ،أى قال فيه مالم يكن.

٣٠٦

خطبة علي بالمدينة في أول إمارته

و اعلم أن كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) و كلام أصحابه و عماله في واقعة الجمل كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل، فمن ذلك الخطبة التي رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي (عليه‌السلام ) فمررت بمكة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) إذ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس و خرج علي (عليه‌السلام ) متقلدا سيفه فشخصت الأبصار نحوه فحمد الله و صلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، ثم قال: (أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، قلنا: نحن أهله و ورثته، و عترته، و أولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد و لا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة(١) لغيرنا و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك، و خشنت(٢) الصدور و جزعت النفوس و ايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين و أن يعود الكفر و يبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه، فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا، ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي فبايعتموني على شين مني لأمركم و فراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم، و بايعني هذان الرجلان في أول من بايع تعلمون ذلك، و قد نكثا و غدرا و نهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم و يلقيا بأسكم بينكم، اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية(٣)

____________________

(١) ا: " الامارة ".

(٢) ك ذ ا في ج، وحشنت أى أوغرات، ومنه قول عنترة:*وَخشنتَ صَ د رًا جيبُه لك ناصحُ*

(٣) ب: " أخذة واحدة رابية "، وما أثبته عن ا. وأخذة رابية، أي أخذة تزيد على الأخذات، وقال الجوهري: أي زائدة، كقولك: أربيت، إذا أخذت أكثر مما أعطيت، قال تعالى:( فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) .

٣٠٧

و لا تنعش(١) لهما صرعة و لا تقل لهما عثرة و لا تمهلهما فواقا(٢) ، فإنهما يطلبان حقا تركاه و دما سفكاه، اللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت و قولك الحق( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ ) (٣) ، اللهم فأنجز لي موعدك و لا تكلني إلى نفسي إنك على كل شي‏ء قدير) ثم نزل.

خطبته عند مسيره للبصرة

و روى الكلبي قال لما أراد علي (عليه‌السلام ) المسير إلى البصرة قام فخطب الناس، فقال: (بعد أن حمد الله و صلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم و الناس حديثو عهد بالإسلام و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن و يعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيئاتهم و العفو عن هفواتهم، فما بال طلحة و الزبير و ليسا من هذا الأمر بسبيل لم يصبرا علي حولا و لا شهرا، حتى وثبا و مرقا و نازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين يرتضعان أما قد فطمت و يحييان بدعة قد أميتت أدم عثمان زعما و الله ما التبعة إلا عندهم، و فيهم، و إن أعظم حجتهم لعلى

____________________

(١) النعش: الرافع؛ نعشت فلانا، إذا جبرته بعد فقر، ورفعته بعد عثرة.

(٢) الفواق، بفتح الفاء وضمها: ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عندنا إلا فواقا، أي قدر فواق.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الحج ٦٠:( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ) .

٣٠٨

أنفسهم و أنا راض بحجة الله عليهم و عمله فيهم، فإن فاءا و أنابا فحظهما أحرزا و أنفسهما غنما، و أعظم بها غنيمة و إن أبيا أعطيتهما حد السيف و كفى به ناصرا لحق و شافيا لباطل)، ثم نزل.

خطبته بذي قار

و روى أبو مخنف عن زيد بن صوحان قال شهدت عليا (عليه‌السلام ) بذي قار(١) ، و هو معتم بعمامة سوداء ملتف بساج يخطب. فقال في خطبة: (الحمد لله على كل أمر و حال في الغدو و الآصال، و أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا عبده و رسوله، ابتعثه رحمة للعباد و حياة للبلاد حين امتلأت الأرض فتنة، و اضطرب حبلها، و عبد الشيطان في أكنافها و اشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها، فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها و أخمد به شرارها، و نزع به أوتادها، و أقام به ميلها إمام الهدى و النبي المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فلقد صدع بما أمر به، و بلغ رسالات ربه فأصلح الله به ذات البين، و آمن به السبل، و حقن به الدماء، و ألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور حتى أتاه اليقين، ثم قبضه الله إليه حميدا، ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم و نلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني لا حاجة لي في ذلك و دخلت منزلي فاستخرجتموني فقبضت يدي فبسطتموها و تداككتم(٢) علي حتى ظننت أنكم قاتلي و أن بعضكم قاتل بعض فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك و لا جذل

____________________

(١) ذو قار: موضع قريب من البصرة، وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس.

(٢) ت د اكسكتم:تزاحمتم

٣٠٩

و قد علم الله سبحانه أني كنت كارها للحكومة بين أمة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و لقد سمعته يقول: ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق، ثم ينشر كتابه فإن كان عادلا نجا و إن كان جائرا هوى حتى اجتمع علي ملؤكم و بايعني طلحة و الزبير، و أنا أعرف الغدر في أوجههما و النكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة، و استخفا عائشة، و خدعاها و شخص معهما أبناء الطلقاء(١) فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين، و فعلوا المنكر، و يا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما علي، و هما يعلمان أني لست دون أحدهما و لو شئت أن أقول لقلت و لقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عني و خرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، و الله ما أنكرا علي منكرا، و لا جعلا بيني و بينهم نصفا و إن دم عثمان لمعصوب بهما و مطلوب منهما، يا خيبة الداعي، إلام دعا و بما ذا أجيب و الله إنهما لعلى ضلالة صماء و جهالة عمياء و إن الشيطان قد ذمر لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله ليعيد الجور إلى أوطانه، و يرد الباطل إلى نصابه)، ثم رفع يديه فقال: (اللهم إن طلحة و الزبير قطعاني و ظلماني، و ألبا علي و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا و انكث ما أبرما، و لا تغفر لهما أبدا و أرهما المساءة فيما عملا و أملا). قال أبو مخنف فقام إليه الأشتر فقال: الحمد لله الذي من علينا فأفضل و أحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، و لقد أصبت و وفقت و أنت ابن عم نبينا و صهره و وصيه، و أول مصدق به و مصل معه شهدتَ

____________________

(١) الطلقاء: هم الذين خلى عليهم الرسول عليه السلام يوم فتح مكة، وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق، فعيل بمعنى مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله.

٣١٠

مشاهده كلها، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة، فمن اتبعك أصاب حظه و استبشر بفلجه، و من عصاك و رغب عنك فإلى أمه الهاوية، لعمري يا أمير المؤمنين، ما أمر طلحة و الزبير و عائشة علينا بمخيل، و لقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه، و فارقا على غير حدث أحدثت و لا جور صنعت، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه و أغرى الناس بدمه، و أشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان، فإن سيوفنا في عواتقنا و قلوبنا في صدورنا و نحن اليوم كما كنا أمس ثم قعد:

٣١١

٢٣. و من خطبة له (عليه‌السلام )

) أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ كَقَطْرِ كَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنْ(١) رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ [ تَطْهُرُ ] فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ يُغْرَى بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ اَلْيَاسِرِ اَلَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ بِهَا اَلْمَغْرَمُ وَ كَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِي‏ءُ مِنَ اَلْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ وَ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِينَ حَرْثُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلآْخِرَةِ وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ [ شَخْصِهِ ] وَ اِخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَ اِعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لاَ سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اَللَّهِ يَكِلْهُ اَللَّهُ إِلَى مَنْ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِيَاءِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي اَلرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ عِتْرَتِهِ [ عَشِيرَتِهِ ] وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ وَ هُمْ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ

____________________

(١) ب: " فإذا ".

٣١٢

عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا إِنْ(١) نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ اَلصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ يَرِثُهُ غَيْرُهُ

وَ مِنْهَا:

أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ اَلْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا اَلْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لاَ يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ اَلْمَوَدَّةَ [ اَلْمَحَبَّةَ ])

قال الرضيرحمه‌الله (٢) :

أقول الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير، و الجماء الغفير، و يروى عفوة من(٣) أهل أو مال و العفوة الخيار من الشي‏ء، يقال أكلت عفوة الطعام، أي: خياره. و ما أحسن المعنى الذي أراده (عليه‌السلام ) بقوله و من يقبض يده عن عشيرته... إلى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم، و اضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و تناهض الأقدام الجمة

____________________

(١) ب: " إذا ".

(٢) ساقطة من ا

(٣) ا " في ".

٣١٣

الفالج الظافر الفائز، فلج يفلج بالضم، و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج، و الياسر الذي يلعب بالقداح، و اليسر مثله و الجمع أيسار، و في الكلام تقديم و تأخير تقديره كالياسر الفالج، أي: كاللاعب بالقداح المحظوظ منها، و هو من باب تقديم الصفة على الموصوف كقوله تعالى:( وَ غَرابِيبُ سُودٌ ) (١) و حسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان، و إن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى. و قوله: ليست بتعذير، أي: ليست بذات تعذير أي: تقصير فحذف المضاف، كقوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنَّارِ ) (٢) أي: ذي النار. و قوله: هم أعظم الناس حيطة كبيعة، أي: رعاية و كلاءة و يروى حيطة كغيبة، و هي مصدر حاط، أي: تحننا و تعطفا. و الخصاصة الفقر يقول القضاء و القدر ينزلان من السماء إلى الأرض كقطر المطر، أي: مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان في المال، و العمر، و الجاه، و الولد، و غير ذلك، فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد و غير ذلك، فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد، فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة و قبيح يستحيي من ذكره بين الناس و يخشع إذا قرع به و يغرى لئام الناس بهتك ستره به كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ينتظر أول فوزة و غلبة من قداحه تجلب له نفعا، و تدفع عنه ضرا كذلك من وصفنا حاله يصبر و ينتظر إحدى الحسنيين إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه و يستأثر به، فالذي عند الله خير له و إما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا و مالا فيصبح، و قد اجتمع له ذلك مع حسبه و دينه و مروءته المحفوظة عليه. ثم قال: المال و البنون حرث الدنيا، و هو من قوله سبحانه:( اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ

____________________

(١) سورة فاطر ٢٧

(٢) سورة البروج٤، ٥

٣١٤

زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ) (١) و من قوله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (٢) . قال: و قد يجمعهما الله لأقوام فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا و بنين فتجمع له الدنيا و الآخرة. ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه و ذلك لأنه تعالى قال:( فَاتَّقُونِ ) (٣) و قال:( فَارْهَبُونِ ) (٤) و قال:( فَلا تَخْشَوُا اَلنَّاسَ وَ اِخْشَوْنِ ) (٥) و غير ذلك من آيات التحذير. ثم قال و لتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم لا ذات تقصيركم فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة

فصل في ذم الحاسد و الحسد

و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد، و هو من أقبح الأخلاق المذمومة و روى ابن مسعود عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ألا لا تعادوا نعم الله. قيل: يا رسول الله، و من الذي يعادي نعم الله؟ قال: (الذين يحسدون الناس). و كان ابن عمر يقول تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود.

____________________

(١) السورة الكهف ٤٦.

(٢) سورة الشورى٢٠

(٣) سورة البقرة ٤١:( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون )

(٤ (سورة البقرة ٤٠( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم )

(٥) سورة المائدة ٤٤

٣١٥

قيل: لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب؟ قال: لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا و يضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس. و قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود). و قال منصور الفقيه(١) :

منافسة الفتى فيما يزول

على نقصان همته دليل

و مختار القليل أقل منه

و كل فوائد الدنيا قليل

و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله و من كلام عثمان بن عفان يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. و قال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شي‏ء إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر. و قال أبو تمام:

و إذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود(٢)

لو لا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

لو لا محاذرة العواقب لم تزل

للحاسد النعمى على المحسود(٣)

و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد، فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب فأنكروا ذلك، ثم جاءهم بعد ذلك بأيام، فقال إن الخليفة قد أمر بصلب

____________________

(١) هو منصور بن إسماعيل بن عيسى التميمي أحد فقهاء الشافعة. طبقات السبكي ٢. ٣١٧

(٢) د يوانه ٤٠٢:١

(٣) ال د يون:«لولا التخوف للعواقب».

٣١٦

الأحنف بن قيس١) ، و مالك بن مسمع، و حمدان الحجام، فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين. فقال: ألم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب. و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب و في الكتب القديمة يقول الله عز و جل الحاسد، عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمتي، و قال الأصمعي: رأيت أعرابيا قد بلغ مائة و عشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك؟ فقال: تركت الحسد فبقيت. و قال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد. قال الشاعر:

تراه كأن الله يجدع أنفه

و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر

و قال آخر:

قل للحسود إذا تنفس ضغنه

يا ظالما و كأنه مظلوم

و من كلام الحكماء إياك و الحسد فإنه يبين فيك و لا يبين في المحسود. و من كلامهم من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب. و قيل لبعضهم لزمت البادية و تركت قومك و بلدك قال و هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة. بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه و قصر من عنانه و اشدد من شكاله و كان عبد الملك متهما

____________________

(١) ساقط من ب

٣١٧

عند الرشيد بالطمع في الخلافة فقال الرشيد ما يقول هذا فقال عبد الملك مقال حاسد و دسيس حاقد يا أمير المؤمنين، قال: قد صدقت نقص القوم و فضلتهم و تخلفوا، و سبقتهم حتى برز شأوك و قصر عنك غيرك ففي صدورهم جمرات التخلف و حزازات التبلد. قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين، عليهم بالمزيد. و قال شاعر:

يا طالب العيش في أمن و في دعة

محضا بلا كدر صفوا بلا رنق

خلص فؤادك من غل و من حسد

فالغل في القلب مثل الغل في العنق

و من كلام عبد الله بن المعتز إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شي‏ء. و من كلامه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه. و من كلامه لا راحة لحاسد و لا حياة لحريص. و من كلامه الميت يقل الحسد له و يكثر الكذب عليه و من كلامه ما ذل قوم حتى ضعفوا، و ما ضعفوا حتى تفرقوا، و ما تفرقوا حتى اختلفوا، و ما اختلفوا حتى تباغضوا، و ما تباغضوا حتى تحاسدوا، و ما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض. و قال الشاعر:

إن يحسدوني فإني غير لائمهم

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا(١)

فدام لي و لهم ما بي و ما بهم

و مات أكثرنا غيظا بما يجد

____________________

(١) من أبيات في أمالي المرتضى ١: ٤١٤، ونسبها إلى الكميت بن زيد، وهي في شرح المختار من شعر بشار ٦٧ من غير نسبة، وعيون الأخبار١١:٢، وأمالي القالي١٩٨:٢.

٣١٨

و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد. و حد الحسد، هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك و تود أنه زال عنه، و صار إليك، و الغبطة ألا تغتاظ و لا تود زواله عنه، و إنما تود أن ترزق مثله، و ليست الغبطة بمذمومة. و قال الشاعر:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالكل أعداء له و خصوم(١)

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا و بغيا إنه لدميم

فصل في مدح الصبر و انتظار الفرج

و اعلم أنه (عليه‌السلام ) بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر و انتظار الفرج من الله إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب. و الصبر من المقامات الشريفة و قد وردت فيه آثار كثيرة. روى عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : (أن الصبر نصف الإيمان، و اليقين الإيمان كله) و قالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما. و قال علي (عليه‌السلام ) : (الصبر إما صبر على المصيبة أو على الطاعة أو عن المعصية و هذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين) و عنه (عليه‌السلام ) : (الحياء زينة و التقوى كرم و خير المراكب مركب الصبر) و عنه (عليه‌السلام ) : (القناعة سيف لا ينبو و الصبر مطية لا تكبو و أفضل العدة الصبر على الشدة)، قال الحسن (عليه‌السلام ) : (جربنا و جرب المجربون، فلم نر شيئا أنفع وجدانا و لا أضر فقدانا من الصبر تداوى به الأمور و لا يداوى هو بغيره).

____________________

(١) لأبي الأسود الدؤلي، ملحق ديوانه ٥١

٣١٩

و قال سعيد بن حميد الكاتب(١) :

لا تعتبن على النوائب

فالدهر يرغم كل عاتب

و اصبر على حدثانه

إن الأمور لها عواقب

كم نعمة مطوية

لك بين أثناء النوائب(٢)

و مسرة قد أقبلت

من حيث تنتظر المصائب

و من كلامهم الصبر مر لا يتجرعه إلا حر. قال أعرابي: كن حلو الصبر عند مرارة النازلة. و قال كسرى لبزرجمهر ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة، قال ملازمة الطلب و المحافظة على الصبر و كتمان السر. و قال الأحنف بن قيس: لست حليما إنما أنا صبور فأفادني الصبر صفتي بالحلم. و سئل علي (عليه‌السلام ) أي شي‏ء أقرب إلى الكفر؟ قال: (ذو فاقة لا صبر له) و من كلامه (عليه‌السلام ) الصبر يناضل الحدثان و الجزع من أعوان الزمان و قال أعشى همدان:

إن نلت لم أفرح بشي‏ء نلته

و إذا سبقت به فلا أتلهف(٣)

و متى تصبك من الحوادث نكبة

فاصبر فكل غيابة تتكشف

و الأمر يذكر بالأمر، و هذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في الأمالي، قال: لما أتي الحجاج بأعشى همدان أسيرا و قد كان خرج مع ابن الأشعث. قال له: يا ابن اللخناء، أنت القائل لعدو الرحمن يعني عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.

____________________

(١) البيتان الثالث والرابع في شرح المختار من شعر بشار ٣١٤، من غير نسبة.

(٢) شرح المختار: " كم فرجة "

(٣) ديوان الأعشين ٣٥، مع اختلاف في الرواية والترتيب.

٣٢٠

يا ابن الأشج قريع كندة

لا أبالي فيك عتبا(1)

أنت الرئيس ابن الرئيس

و أنت أعلى الناس كعبا(2)

نبئت حجاج بن يوسف

خر من زلق فتبا

فانهض هديت لعله

يجلو بك الرحمن كربا(3)

و ابعث عطية في الحروب

يكبهن عليه كبا

ثم قال عبد الرحمن خر من زلق فتب، و خسر و انكب و ما لقي ما أحب و رفع بها صوته و اهتز منكباه و در ودجاه(4) و احمرت عيناه، و لم يبق في المجلس إلا من هابه فقال أيها الأمير، و أنا القائل:

أبى الله إلا أن يتمم نوره

و يطفئ نار الكافرين فتخمدا(5)

و ينزل ذلا بالعراق و أهله

كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا

و ما لبث الحجاج أن سل سيفه

علينا فولى جمعنا و تبددا

فالتفت الحجاج إلى من حضر، فقال: ما تقولون؟ قالوا: لقد أحسن أيها الأمير و محا بآخر قوله أوله فليسعه حلمك. فقال: لاها الله إنه لم يرد ما ظننتم، و إنما أراد تحريض أصحابه، ثم قال له ويلك ألست القائل:

إن نلت لم أفرح بشي‏ء نلته

و إذا سبقت به فلا أتلهف

و متى تصبك من الحوادث نكبة

فاصبر فكل غيابة تتكشف

أما و الله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا ألست القائل في عبد الرحمن:]

و إذا سألت المجد أين محله

فالمجد بين محمد و سعيد

____________________

(1) ديوان الأعشين 312

(2) ديوان الأعشين: " أعلى القوم ".

(3) ديوان الأعشين: " فديت ".

(4) يقال: در العرق، إذا امتلأ دما، والودجان: عرقان في العنق.

(5) ديوان الأعشين 320، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات.

٣٢١

بين الأشج و بين قيس نازل

بخ بخ لوالده و للمولود(1)

و الله لا يبخبخ(2) بعدها أبدا يا حرسي اضرب عنقه. و مما جاء في الصبر قيل للأحنف إنك شيخ ضعيف و إن الصيام يهدك فقال إني أعده لشر يوم طويل و إن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله. و من كلامه من لم يصبر على كلمة سمع كلمات رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه. يونس بن عبيد لو أمرنا بالجزع لصبرنا. ابن السماك المصيبة واحدة فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين يعني فقد المصاب و فقد الثواب. الحارث بن أسد المحاسبي لكل شي‏ء جوهر و جوهر ا؛ لأنسان العقل و جوهر العقل الصبر.

جابر بن عبد الله سئل رسول الله ص عن الإيمان فقال الصبر و السماحة. و قال العتابي

اصبر إذا بدهتك نائبة

ما عال منقطع إلى الصبر

الصبر أولى ما اعتصمت به

و لنعم حشو جوانح الصدر

و من كلام علي (عليه‌السلام ) الصبر مفتاح الظفر و التوكل على الله رسول الفرج و من كلامه ع انتظار الفرج بالصبر عبادة. أكثم بن صيفي الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم.

____________________

(1) ديوان الأعشين 323

(2) نجبخ الرجل؛إ ذ ا قال:نج نج، و في اللسان:«والله لا نجبخت بع د ها».

٣٢٢

و من كلام بعض الزهاد و اصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه و اصبر عن عمل لا صبر على عقابك به. و كتب ابن العميد أقرأ في الصبر سورا و لا أقرأ في الجزع آية و أحفظ في التماسك و التجلد قصائد و لا أحفظ في التهافت قافية. و قال الشاعر:

و يوم كيوم البعث ما فيه حاكم

و لا عاصم إلا قنا و دروع

حبست به نفسي على موقف الردى

حفاظا و أطراف الرماح شروع

و ما يستوي عند الملمات إن عرت

صبور على مكروهها و جزوع

أبو حية النميري:

إني رأيت و في الأيام تجربة

للصبر عاقبة محمودة الأثر

و قل من جد في أمر يحاوله

و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر

و وصف الحسن البصري عليا (عليه‌السلام ) فقال كان لا يجهل و إن جهل عليه حلم و لا يظلم و إن ظلم غفر و لا يبخل و إن بخلت الدنيا عليه صبر. عبد العزيز بن زرارة الكلابي:

قد عشت في الدهر أطوارا على طرق

شتى فقاسيت منه الحلو و البشعا(1)

كلا بلوت فلا النعماء تبطرني

و لا تخشعت من لأوائها جزعا

لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه

و لا يضيق به صدري إذا وقعا

و من كلام بعضهم من تبصر تصبر الصبر يفسح الفرج، و يفتح المرتتج المحنة إذا تلقيت بالرضا و الصبر، كانت نعمة دائمة و النعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة.

____________________

(1) ديوان المعاني 1: 88، وفى نسبة هذه الأبيات وروايتها خلاف، أنظره في حواشي اللآلئ 412.

٣٢٣

قيل: لأبي مسلم صاحب الدولة بم أصبت ما أصبت؟ قال: ارتديت بالصبر، و اتزرت بالكتمان، و حالفت الحزم، و خالفت الهوى و لم أجعل العدو صديقا و لا الصديق عدوا. منصور النمري في الرشيد:

و ليس لأعباء الأمور إذا عرت

بمكترث لكن لهن صبور

يرى ساكن الأطراف باسط وجهه

يريك الهوينى و الأمور تطير

من كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) أوصيكم بخمس لو ضربتم إليهن آباط الإبل كانت لذلك أهلا لا يرجون أحدكم إلا ربه، و لا يخافن إلا ذنبه، و لا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم و لا يستحيي إذا جهل أمرا أن يتعلمه و عليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس له لا خير في إيمان لا صبر معه، و عنه (عليه‌السلام ) لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان. نهشل بن حري:

و يوم كأن المصطلين بحرة

و إن لم يكن جمرا قيام على جمر

صبرنا له حتى تجلى و إنما

تفرج أيام الكريهة بالصبر

علي (عليه‌السلام ) اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، و حسن اليقين و عنه (عليه‌السلام ) و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك، و في كتابه (عليه‌السلام ) الذي كتبه إلى عقيل أخيه، و لا تحسبن ابن أمك و لو أسلمه الناس متضرعا متخشعا و لا مقرا للضيم واهنا و لا سلس الزمام للقائد و لا وطي‏ء الظهر للراكب و لكنه كما قال أخو بني سليم:

٣٢٤

فإن تسأليني كيف أنت فإنني

صبور على ريب الزمان صليب(1)

يعز علي أن ترى بي كآبة

فيشمت عاد أو يساء حبيب

فصل في الرياء و النهي عنه

و اعلم أنه (عليه‌السلام ) بعد أن أمرنا بالصبر نهى عن الرياء في العمل، و الرياء في العمل منهي عنه، بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة؛؛ لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى و أصحابنا المتكلمون يقولون ينبغي أن يعمل المكلف الواجب؛ لأنه واجب و يجتنب القبيح؛ لأنه قبيح و لا يفعل الطاعة و يترك المعصية رغبة في الثواب و خوفا من العقاب، فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب، و شبهوه بالاعتذار في الشي‏ء، فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب لا ندما على القبيح الذي سبق منه، لا يكون عذره مقبولا و لا ذنبه عندك مغفورا، و هذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الأفراد من ألوف الألوف. و قد جاء في الآثار من النهي عن الرياء و السمعة كثير روي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أنه قال يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل أعمال الخير كالجبال أو قال كجبال تهامة، و له خطيئة واحدة، فيقال إنما عملتها ليقال عنك فقد قيل و ذاك ثوابك، و هذه خطيئتك أدخلوه بها إلى جهنم، و قال (عليه‌السلام ) : ليست الصلاة قيامك و قعودك إنما الصلاة إخلاصك، و أن تريد بها الله وحده، و قال حبيب الفارسي لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة و قال هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب لم أقدر على ذلك.

____________________

(1) مجموعة المعاني 72، وهما لصخر بن عمرو السلمي،والأول من أبيات أربعة في الأغاني 79:15

٣٢٥

توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر، و هي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه فكلمته في ذلك، و ذكرت صلاته، و قيامه، و صيامه، فقال لها: أما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة. قالت: بلى. قال: فإياها يطلب ابن الزبير بصومه و صلاته.و في الخبر المرفوع أن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل ألا و إن الرياء في العمل هو الشرك الخفي، صلى و صام لأمر كان يطلبه حتى حواه فلا صلى و لا صاما.

فصل في الاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة

ثم إنه (عليه‌السلام ) بعد نهيه عن الرياء، و طلب السمعة أمر بالاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة فإن الإنسان لا يستغني عنهم و إن كان ذا مال، و قد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا، فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة(1) :

إذا المرء لم يغضب له حين يغضب

فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا

و لم يحبه بالنصر قوم أعزة

مقاحيم في الأمر الذي يتهيب(2)

تهضمه أدنى العداة فلم يزل

و إن كان عضا بالظلامة يضرب(3)

فآخ لحال السلم من شئت و اعلمن

بأن سوى مولاك في الحرب أجنب

و مولاك مولاك الذي إن دعوته

أجابك طوعا و الدماء تصبب

فلا تخذل المولى و إن كان ظالما

فإن به تثأى الأمور و ترأب(4)

____________________

(1) في الحماسة211:2: " قراد بن عباد "، وصححه التبريزى: " قراد بن العيار "، وقال: " أبوه العيار أحد شياطين العرب"،

(2) مقاحيم: جمع مقحام، وهو الذي يخوض قحمة الشئ، أي معظمه.

(3) تهضمه، أي كسره وأذله. والعض: المنكر الشديد اللسان.

(4) تثأى: بخرق وتفتق.

٣٢٦

و من شعر الحماسة أيضا:

أفيقوا بني حزن و أهواؤنا معا

و أرحامنا موصولة لم تقضب(1)

لعمري لرهط المرء خير بقية

عليه و إن عالوا به كل مركب

إذا كنت في قوم و أمك منهم

لتعزى إليهم في خبيث و طيب

و إن حدثتك النفس أنك قادر

على ما حوت أيدي الرجال فكذب

و من شعر الحماسة أيضا:

لعمرك ما أنصفتني حين سمتني

هواك مع المولى و أن لا هوى ليا(2)

إذا ظلم المولى فزعت لظلمه

فحرق أحشائي و هرت كلابيا

و من شعر الحماسة أيضا:

و ما كنت أبغي العم يمشي على شفا

و إن بلغتني من أذاه الجنادع(3)

و لكن أواسيه و أنسى ذنوبه

لترجعه يوما إلي الرواجع

و حسبك من ذل و سوء صنيعة

مناواة ذي القربى و أن قيل قاطع(4)

و من شعر الحماسة أيضا:

ألا هل أتى ا؛ لأنصار أن ابن بحدل

حميدا شفى كلبا فقرت عيونها(5)

فإنا و كلبا كاليدين متى تقع

شمالك في الهيجا تعنها يمينها

____________________

(1) ديوان الحماسة (1: 318)بشرح المرزوقي، ونسبه التبريزي (1: 297)إلى جندل بن عمرو. معا، أي مجتمعة. والقضب: القطع، ولم يرد في الحماسة سوى البيت الأول.

(2) ديوان الحماسة (1: 350)بشرح التبريزي، ونسبه إلى حريث بن جابر.

(3) ديوان الحماسة (1: 380)بشرح التبريزي، ونسبه إلى محمد بن عبد الله الأزدي وروايته: " لا أدفع ابن العم يمشى... "، وشفا الشئ: حرفه. والجنادع: الدواهي.

(4) يجوز فتح همزة«إن»و كسرها و ان ظ ر التبريزي.

(5) ديوان (الحماسة 2: 522)بشرح المرزوقي وهي هناك أربعة أبيات، هنا الأول والرابع منها، ونسبها إلى بعض بنى جهينة

٣٢٧

و من شعر الحماسة أيضا:

أخوك أخوك من ينأى و تدنو

مودته و إن دعي استجابا(1)

إذا حاربت حارب من تعادي

و زاد غناؤه منك اقترابا(2)

يواسي في كريهته و يدنو

إذا ما مضلع الحدثان نابا(3)

فصل في حسن الثناء و طيب الأحدوثة

ثم إنه (عليه‌السلام ) ذكر أن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيرا له من المال يورثه غيره، و لسان الصدق هو أن يذكر الإنسان بالخير و يثنى عليه به قال سبحانه:( وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ ) (4) . و قد ورد في هذا المعنى من النثر و النظم الكثير الواسع فمن ذلك قول عمر لابنة هرم: ما الذي أعطى أبوك زهيرا؟ قالت: أعطاه مالا يفنى و ثيابا تبلى. قال: لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر و لا يفنيه الزمان. و من شعر الحماسة أيضا:

إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد

بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد(5)

و قل غناء عنك مال جمعته

إذا كان ميراثا و واراك لاحد

و قال يزيد بن المهلب: المال و الحياة أحب شي‏ء إلى الإنسان و الثناء الحسن أحب إلي منهما، و لو أني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غدا و قد مت كريما. و حكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي قال: قلت في أيام ولايتي الكوفة

____________________

(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 542، ونسبها إلى ربيعة بن مقروم.

(2) الحماسة: " وزاد سلاحه ".

(3) لم يذكر هذا البيت في الحماسة

(4) سورة الشعراء 84.

(5) ديوان الحماسة 3: 1199 بشرح المرزوقي، من أبيات نسبها إلى محمد بن أبي شحاذ.

٣٢٨

لرجل من وجوهها كان لا يجف لبده، و لا يستريح قلمه و لا تسكن حركته في طلب حوائج الناس و إدخال السرور على قلوبهم و الرفق على ضعفائهم، و كان عفيف الطعمة خبرني عما هون عليك النصب و قواك على التعب، فقال: قد و الله سمعت غناء الأطيار بالأسحار على أغصان الأشجار، و سمعت خفق الأوتار، و تجاوب العود، و المزمار، فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل محسن، فقلت لله أبوك فلقد ملئت كرما. و قال حاتم:

أماوي إن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لا ماء لدي و لا خمر(1)

ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني(2)

و أن يدي مما بخلت به صفر

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر(3)

بعض المحدثين:

من اشترى بماله

حسن الثناء غبنا

أفقره سماحه

و ذلك الفقر الغنى

و من أمثال الفرس كل ما يؤكل ينتن و كل ما يوهب يأرج. و قال أبو الطيب:

ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته

ما قاته و فضول العيش أشغال(4)

فصل في مواساة الأهل و صلة الرحم

ثم إنه (عليه‌السلام ) بعد أن قرظ الثناء و الذكر الجميل و فضله على المال أمر بمواساة

____________________

(1) ديوانه 118

(2) الديوان: " ما أهلكت ".

(3) الديوان: " إذا حشرجت نفس ".

(4) ديوانه 3: 288

٣٢٩

الأهل و صلة الرحم و إن قل ما يواسى به، فقال: ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة إلى آخر الفصل، و قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا فمن ذلك قول زهير:

و من يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه و يذمم(1)

و قال عثمان إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله و أنا أعطيتهم ابتغاء وجه الله و لن تروا مثل عمر. أبو هريرة مرفوعا الرحم مشتقة من الرحمن، و الرحمن اسم من أسماء الله العظمى، قال الله لها من وصلك وصلته، و من قطعك قطعته، و في الحديث المشهور صلة الرحم تزيد في العمر. و قال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الأباعد و يقطع الأقارب:

و أنت على الأدنى شمال عرية

شآمية تزوي الوجوه بليل(2)

و أنت على الأقصى صبا غير قرة

تذاءب منها مزرع و مسيل(3)

و من شعر الحماسة:

لهم جل مالي إن تتابع لي غنى

و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا(4)

و لا أحمل الحقد القديم عليهم

و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

____________________

(1) ديوانه 30(من مجموعة خمسة دواوين)

(2) ديوانه 119. الأدنى: الأقرب والشمال: ريح غير محمودة. بلبل: ريح باردة.

(3) الأقصى البعيد. والصبا: ريح مهبها من مطلع الثريا، وهي محمودة عندهم. وقرة: باردة.

(4) للمقنع الكندي، الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1180

٣٣٠

24. و من خطبة له (عليه‌السلام )

) وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ اَلْحَقَّ وَ خَابَطَ اَلْغَيَّ مِنْ إِدْهَانٍ وَ لاَ إِيهَانٍ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ فِرُّوا إِلَى اَللَّهِ مِنَ اَللَّهِ وَ اِمْضُوا فِي اَلَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً الإدهان المصانعة و المنافقة قال سبحانه( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (1) . و الإيهان مصدر أوهنته، أي: أضعفته و يجوز وهنته بحذف الهمزة و نهجه أوضحه و جعله نهجا، أي: طريقا بينا و عصبه بكم ناطه بكم و جعله كالعصابة التي تشد بها الرأس، و الفلج الفوز و الظفر. و قوله: و خابط الغي كأنه جعله و الغي متخابطين يخبط أحدهما في الآخر، و ذلك أشد مبالغة من أن تقول خبط في الغي؛ لأن من يخبط و يخبطه غيره يكون أشد اضطرابا ممن يخبط، و لا يخبطه غيره، و قوله: و فروا إلى الله من الله، أي: اهربوا إلى رحمة الله من عذابه، و قد نظر الفرزدق إلى هذا فقال:

إليك فررت منك و من زياد

و لم أحسب دمي لكم حلالا(2)

____________________

(1) سورة القلم 9.

(2) ديوانه 608، في مدح سعيد بن العاصي، ورايته: " ولم أجعل دمى ".

٣٣١

25. و من خطبة له (عليه‌السلام ) و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد

و قدم عليه عاملاه على اليمن، و هما عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أرطاة فقام (عليه‌السلام ) على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له في الرأي، فقال: (مَا هِيَ إِلاَّ اَلْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَكُونِي إِلاَّ أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصِيرُكِ فَقَبَّحَكِ اَللَّهُ وَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلشَّاعِرِ:

لَعَمْرُ أَبِيكَ اَلْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنِي

عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا اَلْإِنَاءِ قَلِيلِ(1)

ثُمَّ قَالَ (عليه‌السلام ) : (أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اِطَّلَعَ اَلْيَمَنَ وَ إِنِّي وَ اَللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي اَلْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي اَلْبَاطِلِ وَ بِأَدَائِهِمُ اَلْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ وَ بِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ فَلَوِ اِئْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ

____________________

(1) الوضر: بقية الدسم في الاناء.

٣٣٢

وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي اَللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ اَلْمِلْحُ فِي اَلْمَاءِ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ

هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ

فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ اَلْحَمِيمِ(1)

ثُمَّ نَزَلَ (عليه‌السلام ) مِنَ اَلْمِنْبَرِ قال الرضيرحمه‌الله : أقول الأرمية جمع رمي، و هو السحاب و الحميم هاهنا وقت الصيف و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر؛ لأنه أشد جفولا و أسرع خفوقا؛ لأنه لا ماء فيه و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء و ذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء، و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا و الإغاثة إذا استغيثوا و الدليل على ذلك، قوله هنالك لو دعوت أتاك منهم تواترات عليه الأخبار، مثل ترادفت و تواصلت الناس من يطعن في هذا و يقول التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الإتيان، و منه قوله سبحانه:( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ) (2) ليس المراد أنهم مترادفون بل بين كل نبيين فترة قالوا و أصل تترى من الواو و اشتقاقها من الوتر، و هو الفرد و عدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة.

____________________

(1) البيت في اللسان (19: 54)، ونسبه إلى أبى جندب الهذلي، وروايته: " رجال مثل أرمية الحميم ".

(2) سورة المؤمنين 44

٣٣٣

نسب معاوية بن أبي سفيان و ذكر بعض أخباره

و معاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، صخر بن حرب، بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف، بن قصي. و أمه هند بنت عتبة، بن ربيعة، بن عبد شمس، بن عبد مناف، بن قصي، و هي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان، فأما يزيد بن أبي سفيان، و محمد بن أبي سفيان، و عنبسة بن أبي سفيان، و حنظلة بن أبي سفيان، و عمرو بن أبي سفيان، فمن أمهات شتى. و أبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و هو رئيس بني عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر ذاك صاحب العير و هذا صاحب النفير و بهما يضرب المثل، فيقال للخامل لا في العير و لا في النفير. و روى الزبير بن بكار أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك، فقال لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، قال بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين، و ولي عهد المسلمين فما ذاك؟ قال إن خيلي مرت به فعبث بها و أصغرني، فقال خالد: أنا أكفيك فدخل على عبد الملك و الوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله فعبث بها و أصغره، و كان عبد الملك مطرقا فرفع رأسه، و قال:( إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) (1) ، فقال خالد:( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرا ً ) (2) فقال عبد الملك أفي عبد الله تكلمني و الله لقد دخل أمس علي فما أقام لسانه لحنا قال:

____________________

(1) سورة النمل 34

(2) سورة الإسراء 16

٣٣٤

خالد أفعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا(1) فقال خالد و إن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالدا لا(1) فالتفت الوليد إلى خالد، و قال له: اسكت ويحك فو الله ما تعد في العير و لا في النفير. فقال: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم التفت إلى الوليد فقال له: ويحك فمن صاحب العير و النفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير و جدي عتبة صاحب النفير، و لكن لو قلت غنيمات و حبيلات و الطائف و رحم الله عثمان لقلنا صدقت(2) . و هذا من الكلام المستحسن و الألفاظ الفصيحة، و الجوابات المسكتة، و إنما كان أبو سفيان صاحب العير؛ لأنه هو الذي قدم بالعير التي رام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و أصحابه أن يعترضوها و كانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر و البر، فنذر بهم أبو سفيان فضرب وجوه العير إلى البحر فساحل(3) بها حتى أنقذها منهم، و كانت وقعة بدر العظمى لأجلها؛ لأن قريشا أتاهم النذير بحالها و بخروج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بأصحابه من المدينة في طلبها لينفروا، و كان رئيس الجيش النافر لحمايتها عتبة بن ربيعة بن شمس جد معاوية لأمه. و أما غنيمات و حبيلات إلى آخر الكلام فإن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لما طرد الحكم بن أبي العاص إلى الطائف لأمور نقمها عليه أقام بالطائف في حبلة ابتاعها، و هي الكرمة، و كان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها فلما ولي أبو بكر شفع إليه عثمان في أن يرده فلم يفعل، فلما ولي عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل فلما ولي هو الأمر رده و الحكم جد عبد الملك فعيرهم خالد بن يزيد به. و بنو أمية صنفان الأعياص و العنابس فالأعياص العاص و أبو العاص

____________________

(1) من مجمع الأمثال.

(2) الخبر في مجمع الأمثال 2: 222

(3) ساحل بها: أتى بها ساحل البحر.

٣٣٥

و العيص و أبو العيص و العنابس حرب و أبو حرب و سفيان و أبو سفيان، فبنو مروان و عثمان من الأعياص، و معاوية و ابنة من العنابس، و لكل واحد من الصنفين المذكورين و شيعتهم كلام طويل و اختلاف شديد في تفضيل بعضهم على بعض. و كانت هند تذكر في مكة بفجور و عهر. و قال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار كان معاوية يعزى إلى أربعة إلى مسافر بن أبي عمرو و إلى عمارة بن الوليد بن المغيرة، و إلى العباس بن عبد المطلب، و إلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد قال، و قد كان أبو سفيان دميما قصيرا و كان الصباح عسيفا(1) لأبي سفيان شابا وسيما فدعته هند إلى نفسها فغشيها. و قالوا إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا، و قالوا إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك و في هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين و المشركين في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) قبل عام الفتح(2) :

لمن الصبي بجانب البطحا

في الترب ملقى غير ذي مهد

نجلت به بيضاء آنسة

من عبد شمس صلتة الخد(3)

و الذين نزهوا هندا عن هذا القذف رووا غير هذا فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي، و كان له بيت ضيافة يغشاه الناس فيدخلونه من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه و هند، ثم قام الفاكه و ترك هندا في البيت لأمر عرض له، ثم عاد إلى البيت فإذا رجل قد خرج من البيت فأقبل إلى هند فركلها برجله و قال من الذي كان عندك، فقالت: لم يكن عندي

____________________

(1) العسيف: الأجير.

(2) ديوانه 157

(3) نجلت به ولدته، وصلته الخد، الصلت: الأملس: وفى الأصول: " صلبة " تصحيف

٣٣٦

أحد و إنما كنت نائمة فقال الحقي بأهلك فقامت من فورها إلى أهلها فتكلم الناس في ذلك، فقال لها عتبة أبوها يا بنية إن الناس قد أكثروا في أمرك فأخبريني بقصتك على الصحة، فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله فتنقطع عنك القالة فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما و إنه لكاذب عليها. فقال: عتبة للفاكه إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، و خرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف و أخرج معه هندا، و نسوة معها فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند، و تنكر أمرها و اختطف لونها فرأى ذلك أبوها، فقال لها: إني أرى ما بك و ما ذاك إلا لمكروه عندك فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا. قالت: يا أبت، إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي و لكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب، و لا آمن أن يسمني ميسما يكون علي (عليه‌السلام ) عارا عند نساء مكة. قال لها: فإني سأمتحنه قبل المسألة بأمر، ثم صفر بفرس له فأدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله و شده بسير و تركه حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم و نحر لهم. فقال عتبة: إنا قد جئناك لأمر و قد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو. فقال ثمرة: في كمرة. فقال أبين من هذا. قال حبة بر في إحليل مهر. قال: صدقت انظر ا؛ لأنفي أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن و يقول انهضي حتى صار إلى هند، فضرب على كتفها و قال انهضي غير رقحاء و لا زانية و لتلدن ملكا يقال له معاوية، فوثب إليها الفاكه فأخذها بيده، و قال قومي إلى بيتك فجذبت يدها من يده و قالت إليك عني فو الله لا كان منك و لا كان إلا من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب. الرقحاء البغي التي تكتسب بالفجور و الرقاحة التجارة.

٣٣٧

و ولي معاوية اثنتين و أربعين سنة منها اثنتان و عشرون سنة ولي فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبي سفيان بعد خمس سنين من خلافة عمر إلى أن قتل أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) في سنة أربعين و منها عشرون سنة خليفة إلى أن مات في سنة ستين. و مر به إنسان و هو غلام يلعب مع الغلمان فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه. و لم يزل معاوية ذا همة عالية يطلب معالي الأمور و يرشح نفسه للرئاسة و كان أحد كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و اختلف في كتابته له كيف كانت فالذي عليه المحققون من أهل السيرة أن الوحي كان يكتبه علي (عليه‌السلام )، و زيد بن ثابت، و زيد بن أرقم، و أن حنظلة بن الربيع التيمي، و معاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك و إلى رؤساء القبائل، و يكتبان حوائجه بين يديه، و يكتبان ما يجبى من أموال الصدقات و ما يقسم في أربابها. و كان معاوية على أس(1) الدهر مبغضا لعلي (عليه‌السلام ) شديد الانحراف عنه، و كيف لا يبغضه، و قد قتل أخاه حنظلة يوم بدر، و خاله الوليد بن عتبة، و شرك عمه في جده، و هو عتبة أو في عمه، و هو شيبة على اختلاف الرواية، و قتل من بني عمه عبد شمس نفرا كثيرا من أعيانهم و أماثلهم، ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه و انضواء كثير من قتلته إليه (عليه‌السلام ) فتأكدت البغضة و ثارت الأحقاد، و تذكرت تلك الترات الأولى حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه. و قد كان معاوية مع عظم قدر علي (عليه‌السلام ) في النفوس و اعتراف العرب بشجاعته، و أنه البطل الذي لا يقام له يتهدده، و عثمان بعد حي بالحرب و المنابذة و يراسله من الشام رسائل خشنة حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل قال:

____________________

(1) أس الدهر، بفتح الهمزة أو ضمها أو كسرها: قدم الدهر ووجهه

٣٣٨

قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته، فجلس عثمان يوما للناس فاعتذر من أمور نقمت عليه فقال إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) قبل توبة الكافر، و إني رددت الحكم عمي؛ لأنه تاب فقبلت توبته و لو كان بينه و بين أبي بكر و عمر من الرحم ما بيني و بينه لآوياه، فأما ما نقمتم علي أني أعطيت من مال الله، فإن الأمر إلي أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للأمة و إلا فلما ذا كنت خليفة فقطع عليه الكلام معاوية، و قال للمسلمين الحاضرين عنده أيها المهاجرون قد علمتم أنه ليس منكم رجل إلا و قد كان قبل الإسلام مغمورا في قومه تقطع الأمور من دونه حتى بعث الله رسوله، فسبقتم إليه و أبطأ عنه أهل الشرف و الرئاسة فسدتم بالسبق لا بغيره حتى إنه ليقال اليوم رهط فلان و آل فلان و لم يكونوا قبل شيئا مذكورا و سيدوم لكم هذا الأمر ما استقمتم، فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه و إلا خرج منكم و لا ينفعكم سبقكم و هجرتكم. فقال له علي (عليه‌السلام ) ما أنت و هذا يا ابن اللخناء. فقال معاوية مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي فما كانت بأخس نسائكم، و لقد صافحها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يوم أسلمت و لم يصافح امرأة غيرها أما لو قالها غيرك فنهض علي (عليه‌السلام ) ليخرج مغضبا. فقال عثمان: اجلس. فقال له: لا أجلس. فقال: عزمت عليك لتجلسن فأبى و ولى، فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده و خرج، فأتبعه عثمان بصره، فقال: و الله لا تصل إليك و لا إلى أحد من ولدك. قال أسامة بن زيد كنت حاضرا هذا المجلس فعجبت في نفسي من تألي عثمان فذكرته لسعد بن أبي وقاص، فقال لا تعجب فإني سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يقول لا ينالها علي و لا ولده. قال أسامة: فإني في الغد لفي المسجد، و علي، و طلحة، و الزبير، و جماعة من المهاجرين جلوس إذ جاء معاوية، فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له، فجاء حتى جلس بين أيديهم

٣٣٩

فقال: أتدرون لماذا جئت؟ قالوا: لا قال، إني أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه لا أعطيكم إلا هذا السيف، ثم قام فخرج. فقال علي (عليه‌السلام ) لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا، فقال له طلحة: و أي شي‏ء يكون عنده أعظم مما قال قاتله الله لقد رمى الغرض فأصاب و الله ما سمعت يا أبا الحسن، كلمة هي أملأ لصدرك منها. و معاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله يرمى بالزندقة، و قد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الإلحاد و التعرض لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و ما تظاهر به من الجبر، و الإرجاء، و لو لم يكن شي‏ء من ذلك لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله لا سيما على قواعد أصحابنا و كونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار و الخلود فيها إن لم تكفرها التوبة.

بسر بن أرطاة و نسبه

و أما بسر بن أرطاة فهو بسر بن أرطاة، و قيل ابن أبي أرطاة، بن عويمر، بن عمران، بن الحليس، بن سيار، بن نزار، بن معيص، بن عامر، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة. بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف، و أمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي (عليه‌السلام )، فقتل خلقا كثيرا و قتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، و كانا غلامين صغيرين، فقالت أمهما ترثيهما:

يا من أحس بنيي اللذين هما

كالدرتين تشظى عنهما الصدف(1)

في أبيات مشهورة

____________________

(1) تشظى: تفرق شظايا. والأبيات في الكامل 8 - 158 - بشرح المرصفى.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350