كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة11%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94716 / تحميل: 8507
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لكن قاتله من لا نظير له

و كان يدعى أبوه بيضة البلد(١)

و انتبه يوما معاوية فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال: و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب، قال: لا جرم أنه قتلك و أباك بيسرى يديه و بقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها. و جملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهى و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها. و أما القوة و الأيد فبه يضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في المعارف: ما صارع أحدا قط إلا صرعه(٢) ، و هو الذي قلع باب خيبر و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه، و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة و كان عظيما جدا و ألقاه(٣) إلى الأرض، و هو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته (عليه‌السلام ) بيده بعد عجز الجيش كله عنها، و أنبط(٤) الماء من تحتها. و أما السخاء و الجود، فحاله فيه ظاهرة، و كان يصوم و يطوي و يؤثر بزاده و فيه أنزل( وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) (٥) ، و روى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية فأنزل فيه( اَلَّذِينَ

____________________

(١) بيضة البلد، يريد علي بن أبي طالب، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تريكة وحدها، ليس معها غيرها، كذا فسر في اللسان.

(٢) المعارف ٢١٠، وبعدها:"شىديد الوئب قوى الضرب".

(٣) ب: " فألقاه "

(٤) ب: " فأنبط ".

(٥) سورة الانسان ٩، ١٠

٢١

يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) (١) . و روى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت(٢) يده، و يتصدق بالأجرة و يشد على بطنه حجرا. و قال الشعبي و قد ذكره: (عليه‌السلام ) كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحبه الله السخاء و الجود ما قال لا لسائل قط، و قال عدوه و مبغضه الذي يجتهد في وصمه و عيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن(٣) بن أبي محفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس فقال: ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس، لو ملك بيتا من تبر و بيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلي فيها، و هو الذي قال: يا صفراء، و يا بيضاء، غري غيري، و هو الذي لم يخلف ميراثا و كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. و أما الحلم و الصفح، فكان أحلم الناس عن ذنب و أصفحهم عن مسي‏ء و قد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم و كان أعدى الناس له و أشدهم بغضا فصفح عنه. و كان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد، و خطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد(٤) اللئيم علي بن أبي طالب و كان علي (عليه‌السلام ) يقول: (ما زال الزبير

____________________

(١) سورة البقرة ٢٧٤، وللمفسرين في هذه الآية أسباب أخرى للنزول، ذكرها القرطبي في التفسير ١٩: ١٢٨، وانظر أسباب النزول للواحدي ٢٣١.

(٢) مجلت يده، أي ثخن جلده وتعجز وطهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، ومنه حديث فاطمة، أنها شكت إلى علي مجل يديها من الطحن. النهاية لابن الأثير ٤: ٨٠.

(٣) أورده الذهبى فى المشبه ص٥٧٣، وقال:"وفد على معاوية".

(٤) في ب: " الوغب "، وهما بمعنى.

٢٢

رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله)، فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا فصفح عنه و قال: اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك. و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة و كان له عدوا فأعرض عنه و لم يقل له شيئا. و قد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم و قلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، و تأففت و قالت: هتك ستري برجاله و جنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن و قلن لها: إنما نحن نسوة. و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف و شتموه و لعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبع(١) مول و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن و لم يأخذ أثقالهم و لا سبى ذراريهم و لا غنم شيئا من أموالهم، و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، و لكنه أبى إلا الصفح و العفو و تقيل سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يوم فتح مكة، فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس. و لما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات و قالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي (عليه‌السلام ) و أصحابه أن يشرعوا(٢) لهم شرب الماء، فقالوا: لا و الله، و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان، فلما رأى (عليه‌السلام ) أنه الموت لا محالة، تقدم بأصحابه و حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرءوس و الأيدي و ملكوا عليهم

____________________

(١) أ: " ألا يتبع مول ".

(٢) كذا في أ، وفي ب: " يسوغوا ".

٢٣

الماء، و صار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه و شيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك و لا تسقهم منه قطرة و اقتلهم بسيوف العطش، و خذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب، فقال: (لا و الله، لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة) ففي حد السيف ما يغني عن ذلك فهذه إن نسبتها إلى الحلم و الصفح فناهيك بها جمالا و حسنا، و إن نسبتها إلى الدين و الورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله (عليه‌السلام ). و أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه و عدوه، أنه سيد المجاهدين، و هل الجهاد لأحد من الناس إلا له، و قد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و أشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم و قتل المسلمون و الملائكة النصف الآخر، و إذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي و تاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري و غيرهما، علمت صحة ذلك، دع من قتله في غيرها كأحد و الخندق و غيرهما و هذا الفصل لا معنى للإطناب فيه؛ لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة و مصر و نحوهما. و أما الفصاحة، فهو (عليه‌السلام ) إمام الفصحاء و سيد البلغاء، و في كلامه(١) قيل: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين، و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت، و قال ابن نباتة(٢) : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة و كثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب. و لما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك

____________________

(١) ب: " وعن كلامه ".

(٢) هو عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن إسماعيل الفارقي الجذامي.

٢٤

كيف يكون أعيا الناس، فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره، و يكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة و لا يبارى في البلاغة، و حسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له، و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه. و أما سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحيا و التبسم، فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه.

قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة، و قال علي (عليه‌السلام ) في ذاك: (عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة و أني امرؤ تلعابة أعافس و أمارس)(١) ، و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك لو لا دعابة فيك، إلا أن عمر اقتصر عليها و عمرو زاد فيها و سمجها. قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه: كان فينا كأحدنا لين جانب و شدة تواضع و سهولة قياد و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه. و قال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة، قال قيس: نعم كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يمزح و يبتسم إلى أصحابه، و أراك تسر حسوا في ارتغاء(٢) و تعيبه بذلك، أما و الله لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى و ليس كما يهابك طغام أهل الشام.

____________________

(١) التلعابة، بفتح التاء وكسرها: الكثير اللعب والمرح. والمعافسة: الملاعبة أيضا. والممارسة: ملاعبة النساء. والخبر أورده ابن الأثير في النهاية ١: ١١٧، و ٣: ٥٩، ١١٠، و ٤: ٥٩، ٨٩.

(٢) في المثل: " هو يسر حسوا في ارتغاء "، يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره. (اللسان ١٩: ٤٦).

٢٥

و قد بقي هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه و أوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر، و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يعرف ذلك. و أما الزهد في الدنيا، فهو سيد الزهاد و بدل الأبدال و إليه تشد الرحال و عنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا، قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه قال: (خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت). و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و ليف أخرى، و نعلاه من ليف و كان يلبس الكرباس(١) الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة و لم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له و كان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، و لا يأكل اللحم إلا قليلا و يقول: (لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان)، و كان مع ذلك أشد الناس قوة و أعظمهم أيدا لا ينقض(٢) الجوع قوته و لا يخون(٣) الإقلال منته، و هو الذي طلق الدنيا و كانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام، فكان يفرقها و يمزقها، ثم يقول:

هذا جناي و خياره فيه

إذ كل جان يده إلى فيه(٤)

____________________

(١) الكرباس بالكسر: ثوب من القطن الأبيض، معرب.

(٢) ب: " ينقص ".

(٣) يخون: ينقص، وفي ب: " يخور "، وما أثبته عن أ.

(٤) البيت أنشده عمرو بن عدي حينما كان غلاما، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك " جذيمة الأبرش " الكمأة، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك، وكان عمرو لا يأكل منه، ويأتي به كما هو، وينشد البيت. وانظر القاموس ٣: ٢٥٩ - ٢٦٠، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الأولياء ١: ٨١.

٢٦

و أما العبادة، فكان أعبد الناس و أكثرهم صلاة و صوما، و منه تعلم الناس صلاة الليل و ملازمة الأوراد و قيام النافلة، و ما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده و السهام تقع بين يديه و تمر على صماخيه يمينا و شمالا فلا يرتاع لذلك و لا يقوم حتى يفرغ من وظيفته، و ما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده. و أنت إذا تأملت دعواته و مناجاته و وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه و إجلاله و ما يتضمنه من الخضوع لهيبته و الخشوع لعزته و الاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، و فهمت من أي قلب خرجت و على أي لسان جرت. و قيل لعلي بن الحسين (عليه‌السلام )، و كان الغاية في العبادة أين عبادتك من عبادة جدك، قال: (عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و أما قراءته القرآن و اشتغاله به، فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و لم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول من جمعه نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن، فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن؛ لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لما احتاج إلى أن يتشاغل(١) بجمعه بعد وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و إذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و غيرهما؛ لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ

____________________

(١) ب: " تشاغل ".

٢٧

و أبو عبد الرحمن كان تلميذه، و عنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق. و أما الرأي و التدبير، فكان من أسد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا، و هو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم و الفرس بما أشار، و هو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث، و إنما قال أعداؤه: لا رأي له؛ لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه. و قد قال (عليه‌السلام ) لو لا الدين و التقى لكنت أدهى العرب و غيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوفقه سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن، و لا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب، و من كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب. و أما السياسة، فإنه كان شديد السياسة، خشنا في ذات الله، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه و لا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به و أحرق قوما بالنار، و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد الله البجلي، و قطع جماعة و صلب آخرين. و من جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل و صفين و النهروان، و في أقل القليل منها مقنع فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه و بطشه و انتقامه مبلغ العشر مما فعل (عليه‌السلام ) في هذه الحروب بيده و أعوانه. فهذه هي خصائص البشر و مزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله و الرئيس المقتفى أثره. و ما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة و تعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة و تصور ملوك الفرنج و الروم صورته في بيعها و بيوت عباداتها

٢٨

حاملا سيفه مشمرا لحربه و تصور ملوك الترك و الديلم صورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه و سيف أبيه ركن الدولة صورته، و كان على سيف ألب أرسلان و ابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر. و ما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به و ود كل أحد أن يتجمل و يتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه و صنفوا في ذلك كتبا و جعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه و قصروه عليه و سموه سيد الفتيان، و عضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد

لا سيف إلا ذو الفقار

و لا فتى إلا علي

و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء و شيخ قريش و رئيس مكة، قالوا: قل، أن يسود فقير و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له و كانت قريش تسميه الشيخ. و في حديث عفيف الكندي لما رأى(١) النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يصلي في مبدإ الدعوة و معه غلام و امرأة، قال: فقلت للعباس أي شي‏ء هذا، قال: هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس و لم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام، و هو ابن أخي أيضا و هذه الامرأة و هي زوجته، قال: فقلت: ما الذي تقولونه أنتم. قال ننتظر ما يفعل الشيخ، يعنى أبا طالب، و أبو طالب، هو الذي كفل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) صغيرا، و حماه و حاطه كبيرا و منعه من مشركي قريش، و لقي لأجله عنتا عظيما و قاسى بلاء شديدا و صبر على نصره و القيام بأمره، و جاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه (عليه‌السلام )، و قيل له اخرج منها فقد مات ناصرك. و له مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين و الآخرين و أخاه جعفر ذو الجناحين الذي قال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أشبهت خلقي و خلقي فمر يحجل

____________________

(١) الخبر في أسد الغابة ٣: ٤١٤ مع اختلاف في الرواية.

٢٩

فرحا، و زوجته سيدة نساء العالمين، و ابنيه سيدا شباب أهل الجنة، فآباؤه آباء رسول الله و أمهاته أمهات رسول الله، و هو مسوط بلحمه و دمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله و أبي طالب، و أمهما واحدة فكان منهما سيد الناس هذا الأول و هذا التالي و هذا المنذر و هذا الهادي. و ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى و آمن بالله و عبده و كل من في الأرض يعبد الحجر و يجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه (عليه‌السلام ) أول الناس اتباعا لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) إيمانا به و لم يخالف في ذلك إلا الأقلون و قد قال هو (عليه‌السلام ) أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس و صليت قبل صلاتهم، و من وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك و علمه واضحا، و إليه ذهب الواقدي و ابن جرير الطبري و هو القول الذي رجحه و نصره صاحب كتاب الإستيعاب(١) . و لأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد وجب أن نختصر و نقتصر فلو أردنا شرح مناقبه و خصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه و بالله التوفيق(٢) .

____________________

(١) الإستيعاب لابن عبد البر النمري القرطبي ٢: ٤٥٧.

(٢) وانظر ترجمته وأخباره أيضا في أسد الغابة ٤: ١٦ - ٤٠، والاستيعاب ٣: ١٠٨٩ - ١١٣٣، والإصابة ٤: ٢٦٩ - ٢٧١، وإنباه الرواة ١: ١٠ - ١٢، وتاريخ الاسلام للذهبي ٢: ١٩١ ٢٠٧، وتاريخ بغداد ١: ١٣٣ - ١٣٨، وتاريخ أبي الفدا ١: ١٨١ - ١٨٢، وتاريخ الطبري ٦: ٨٨ - ٩١، وتاريخ ابن كثير ٧: ٣٣٢ - ٣٦١، و ٨: ١ - ١٣، وتذكرة الحفاظ ١: ١٠ - ١٣، وتهذيب الأسماء واللغات ١: ٣٤٤ - ٣٤٩، وتهذيب التهذيب ٧: ٣٣٤ - ٣٣٩، وحلية الأولياء ١: ٦١ - ٧٨، وصفة الصفوة ٣: ١١٩ - ١٤٤، وطبقات ابن سعد ٦: ٦، وطبقات القراء لابن الجزري ١: ٦٤١ - ٧٤٥، ومروج الذهب ٢: ٥٤ - ٠٥، والمعارف ٨٨ - ٢٩، ومعجم الأدباء ١٤: ٤١ - ٥٠، ومعجم الشعراء ٢٧٩ - ٢٨٠، ومقاتل الطالبيين ٢٤ - ٤٥، والنجوم الزاهرة ١: ١١٩ - ٢١٠.

٣٠

القول في نسب الرضي أبي الحسن (رحمه‌الله ) و ذكر طرف من خصائصه و مناقبه

هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى، بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق (عليه‌السلام )، مولده سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة. و كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس و دولة بني بويه، و لقب بالطاهر ذي المناقب و خاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد و ولي نقابة الطالبيين خمس دفعات، و مات و هو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض و ذهب بصره، و توفي عن سبع و تسعين سنة، فإن مولده كان في سنة أربع و ثلاثمائة، و توفي سنة أربعمائة، و قد ذكر ابنه الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها و أولها:

وسمتك حالية الربيع المرهم

و سقتك ساقية الغمام المرزم(١)

سبع و تسعون اهتبلن لك العدا

حتى مضوا و غبرت غير مذمم

لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما

أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم(٢)

إلا بقايا من غبارك أصبحت

غصصا و أقذاء لعين أو فم

إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا

فالذئب يعسل في طريق الضيغم(٣)

و دفن النقيب أبو أحمد أولا في داره، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين (عليه‌السلام ). و هو الذي كان السفير بين الخلفاء و بين الملوك من بني بويه و الأمراء من بنى حمدان و غيرهم و كان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ما شرع في إصلاح أمر فاسد

____________________

(١) ديوانه، لوحة ١٥٣

(٢) الأزلم: الدهر.

(٣) عسل الذئب: مضى مسرعا واضطرب في عدوه.

٣١

إلا و صلح على يديه و انتظم بحسن سفارته و بركة همته و حسن تدبيره و وساطته، و لاستعظام عضد الدولة أمره و امتلاء صدره و عينه به حين قدم العراق ما(١) قبض عليه و حمله إلى القلعة بفارس، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة و استصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد و ملك الحضرة، و لما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة، فكتب إلى أبيه و هو معتقل بالقلعة بشيراز:

أبلغا عنى الحسين ألوكا

أن ذا الطود بعد عهدك ساخا(٢)

و الشهاب الذي اصطليت لظاه

عكست ضوءه الخطوب فباخا(٣)

و الفنيق الذي تذرع طول

الأرض خوى به الردى و أناخا(٤)

أن يرد مورد القذى و هو راض

فبما يكرع الزلال النقاخا(٥)

و العقاب الشغواء أهبطها النيق

و قد أرعت النجوم صماخا(٦)

أعجلتها المنون عنا و لكن

خلفت في ديارنا أفراخا

و على ذاك فالزمان بهم عاد

غلاما من بعد ما كان شاخصا

و أم الرضي أبي الحسن، فاطمة بنت الحسين بن أحمد(٧) بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم، و هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )، شيخ الطالبيين و عالمهم و زاهدهم و أديبهم و شاعرهم

____________________

(١) ما هنا المصدرية.

(٢) لوحة ١٨٢، والألوك: الرسالة.

(٣) بأخ: سكن وفتر.

(٤) الفنيق في الأصل: الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله ولا يركب.

(٥) النقاخ: البارد العذب الصافي.

(٦) الشغواء من وصف العقاب، قيل لها ذلك لفضل في منقارها الأعلى على الأسفل. والنيق: حرف من حروف الجبل.

(٧) تكملة من أ، ج.

٣٢

ملك بلاد الديلم و الجبل، و يلقب بالناصر للحق جرت له حروب عظيمة مع السامانية و توفي بطبرستان سنة أربع و ثلاثمائة و سنه تسع و سبعون سنة، و انتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني، و يلقب بالداعي إلى الحق. و هي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا. و حفظ الرضي (رحمه‌الله ) القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة، و عرف من الفقه و الفرائض طرفا قويا، و كان (رحمه‌الله ) عالما أديبا و شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره(١) أتى بما لا يشق فيه غباره، و إن قصد في المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها على أثره و كان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية، و كان عفيفا شريف النفس عالي الهمة ملتزما(٢) بالدين و قوانينه، و لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة حتى أنه رد صلاة أبيه و ناهيك بذلك شرف نفس و شدة ظلف(٣) ، فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل. و كان يرضى بالإكرام و صيانة الجانب و إعزاز الأتباع و الأصحاب، و كان الطائع(٤) أكثر ميلا إليه من القادر(٥) ، و كان هو أشد حبا و أكثر ولاء للطائع منه للقادر، و هو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها منها

____________________

(١) ساقطة من ا

(٢) ب، ج:"مستلزما "وما أئبته عن ا

(٣) الظلف، من طلف نفسه عن الشئ بظلفها طلفا: منعها وحبسها.

(٤) هو أبو بكر عبد الكريم الطائع لأمر الله، بويع بالخلافة له سنة ٣٦٣، ثم خلع، وقبض عليه الديلم سنة ٣٨١، وبويع لأخيه القادر، فحمل إليه الطائع، وبقي عنده إلى أن توفي سنة ٣٩٣. الفخري ٢٥٤، وابن الأثير حوادث سنة ٣٨١.

(٥) هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر، المعروف بالقادر، بويع له بالخلافة بعد خلع أخيه، وتوفي سنة ٤٢٢. الفخري ٢٥٤.

٣٣

عطفا أمير المؤمنين فإننا

في دوحة العلياء لا نتفرق(١)

ما بيننا يوم الفخار تفاوت

أبدا كلانا في المعالي معرق

إلا الخلافة شرفتك فإنني(٢)

أنا عاطل منها و أنت مطوق

فيقال إن القادر قال له على رغم أنف الشريف. و ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي، قال: كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد و متقدمهم و سمع الحديث الكثير، و كان كريما مفضلا على أهل العلم قال و عليه قرأ الشريف الرضي (رحمه‌الله ) القرآن، و هو شاب حدث السن(٣) فقال له يوما: أيها الشريف أين مقامك، قال: في دار أبي بباب محول(٤) ، فقال: مثلك لا يقيم بدار أبيه قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة فامتنع الرضي من قبولها، و قال له: لم أقبل من أبي قط شيئا، فقال: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك؛ لأني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها(٥) . و كان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه(٦) إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره و ينظمها في شعره، و لا يجد من الدهر(٧) عليها مساعدة فيذوب كمدا و يفنى وجدا، حتى توفي و لم يبلغ غرضا. فمن ذلك قوله:

ما أنا للعلياء إن لم يكن

من ولدي ما كان من والدي(٨)

و لا مشت بي الخيل أن لم أطأ

سرير هذا الأصيد الماجد(٩)

____________________

(١) ديوانه لوحة ٤٠.

(٢) الديوان: " ميزتك وإنني ".

(٣) تكملة من أ.

(٤) باب محول، بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الواوولام:حلة كبيرة من محال بغىاى؛كانت متصلة بالكرخ.

(٥) المنتظم " حوادث سنة ٣٩٣.

(٦) أ: " في " وما أثبته عن ب.

(٧) أ: " في الدهر " وما أثبته عن ب.

(٨) ديوانه، لوحة ٨٩.

(٩) ديوانه " الأغلب الماجد ".

٣٤

و منه قوله:

متى تراني مشيحا في أوائلهم

يطفو بي النقع أحيانا و يخفيني(١)

لتنظرني مشيحا في أوائلها

يغيب بي النقع أحيانا و يبديني(٢)

لا تعرفوني إلا بالطعان و قد

أضحى لثامي معصوبا بعرنيني(٣)

و منه قوله يعني نفسه:

فوا عجبا مما يظن محمد

و للظن في بعض المواطن غدار(٤)

يؤمل أن الملك طوع يمينه(٥)

و من دون ما يرجو المقدر أقدار

لئن هو أعفى للخلافة لمة

لها طرر فوق الجبين و أطرار

و رام العلا بالشعر و الشعر دائبا

ففي الناس شعر خاملون و شعار(٦)

و إني أرى زندا تواتر قدحه

و يوشك يوما أن تكون له نار

و منه قوله:(٧)

لا هم قلبي بركوب العلا

يوما و لا بلت يدي بالسماح(٨)

____________________

(١) ديوانه ص ٥٢٢ - مطبعة نخبة الاخبار، من قصيدة يذكر فيها القبض على الطائع لله، ويصف خروجه من الدار سليما، وأنه حين أحسن بالامر بادر ونزل دجلة، وتلوم من القضاة والاشراف والشهود، فامتهنوا وأخذت ثيابهم. ومطلعها:

لواعج الشوق تخطيهم وتصميني

واللوم في الحب ينهاهم ويغريني

ولو لقوا بعض ما ألقى نعمت بهم

لكنهم سلموا مما يعنيني

(٢) هذا البيت لم يذكر في أ، ب، وهو في المطبوعة المصرية والديوان.

(٣) الديوان " إذا "

(٤) ديوانه لوحة ٢١٤، وروايته: " غرار ". وفي أ: " بعض المواضع ".

(٥) الديوان " يقدر أن الملك ".

(٦) شعر:جمع أشعر، وهو كثير الشعر طويلة.

(٧) ديوانه لوحة ٨٤، من قصيدة أولها:

نبهتهم مثل عوالي الرماح

إلى الوغى قبل نموم الصباح

فوارس نالوا المنى بالقنا

وصافحوا أغراضهم بالصفاح

(٨) الديوان: " ولا بل يدي ".

٣٥

إن لم أنلها باشتراط كما

شئت على بيض الظبى و اقتراح(١)

أفوز منها باللباب الذي

يعيي الأماني نيله و الصراح

فما الذي يقعدني عن مدى

ما هو بالبسل و لا باللقاح

يطمح من لا مجد يسمو به

إني إذا أعذر عند الطماح

أما فتى نال المنى فاشتفى

أو بطل ذاق الردى فاستراح

و في هذه القصيدة ما هو أخشن مسا و أعظم نكاية، و لكنا عدلنا عنه و تخطيناه كراهية لذكره، و في شعره الكثير الواسع من هذا النمط. و كان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي(٢) الكاتب له صديقا و بينهما لحمة الأدب و وشائجه و مراسلات(٣) و مكاتبات بالشعر فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط

أبا حسن لي في الرجال فراسة

تعودت منها أن تقول فتصدقا(٤)

و قد خبرتني عنك أنك ماجد

سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى(٥)

فوفيتك التعظيم قبل أوانه

و قلت أطال الله للسيد البقا

____________________

(١) هو أبو إسحاق الصابي، صاحب الرسائل المشهورة، كان كاتب الانشاء ببغداد عن الخليفة، وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي، وكان صابئيا متشددا في دينه، وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل، ولكنه كان يصوم شهر رمضان مع المسلمين، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ، ويستعمله في رسائله، ولما مات رثاه الشريف بقصيدته الدالية المشهورة: أرأيت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفا يرثي صابئا، فقال: إنما رثيت فضله. توفي سنة ٣٨٤. " ابن خلكان ١: ١٢ ".

(٢) ب: " وبينهما ولمرسلات ".

(٣) ديوان الرضي، لوحة ١٩٤.

(٤) الديوان " من العلياء ".

٣٦

و أضمرت منه لفظة لم أبح بها

إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا

فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي

و أوجب بها حقا عليك محققا

و كن لي في الأولاد و الأهل حافظا

إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا

فكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة أولها:

سننت لهذا الرمح غربا مذلقا

و أجريت في ذا الهندواني رونقا(١)

و سومت ذا الطرف الجواد و إنما(٢)

شرعت له نهجا فخب و أعنقا

و هي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه يعد فيها نفسه و يعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر و تم المرام، و هذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت، و قال: إني عملتها في أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان كاتب الطائع، و ما كان الأمر كما ادعاه و لكنه خاف على نفسه. و ذكر أبو الحسن الصابي(٣) و ابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي و ابنه أبا القاسم المرتضى و جماعة من القضاة و الشهود و الفقهاء و أبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها:

ما مقامي على الهوان و عندي

مقول صارم و أنف حمي(٤)

و إباء محلق بي عن الضيم

كما زاغ طائر وحشي

أي عذر له إلى المجد إن

ذل غلام في غمدة المشرفي

____________________

(١) ديوانه، ١٩٤.

(٢) الطراف: الفرس الأصيل.

(٢) هو هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي، حفيد أبي إسحاق الصابي، ذكر صاحب كشف الظنون ٢٩٠ أن ثابت بن قرة الصابي كتب تاريخا سنة ١٩٠ إلى سنة ٣٦٣، وذيله ابن أخته هلال بن محسن الصابي، وانتهى إلى سنة ٤٤٧، وذيله ولده غرس النعمة محمد بن هلال ولم يتم.

(٣) ديوانه ٥٤٦ (مطبعة نخبة الأخيار)

٣٧

أحمل الضيم في بلاد الأعادي(١)

و بمصر الخليفة العلوي

من أبوه أبي و مولاه مولاي

إذا ضامني البعيد القصي

لف عرقي بعرقه سيدا الناس

جميعا محمد و علي

و قال القادر للنقيب أبي أحمد: قل: لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا، و أي ضيم لقي من جهتنا، و أي ذل أصابه في مملكتنا(٢) ، و ما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا(٣) ألم نوله النقابة ألم نوله المظالم، ألم نستخلفه على الحرمين و الحجاز و جعلناه أمير الحجيج، فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر، فقال النقيب أبو أحمد: أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه و لا رأيناه بخطه و لا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحلة إياه و عزاه إليه، فقال: القادر إن كان كذلك فلتكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر و يكتب محمد خطه فيه فكتب(٤) محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب أبو أحمد و ابنه المرتضى، و حمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطه فيه حمله أبوه و أخوه فامتنع من سطر(٥) خطه، و قال: لا أكتب و أخاف دعاة صاحب مصر و أنكر الشعر و كتب خطه، و أقسم فيه أنه ليس بشعره و أنه لا يعرفه فأجبره أبوه على أن يكتب(٦) خطه في المحضر فلم يفعل، و قال: أخاف دعاة المصريين و غيلتهم لي فإنهم معروفون بذلك، فقال أبوه: يا عجباه! أتخاف من بينك و بينه ستمائة فرسخ و لا تخاف من بينك و بينه مائة ذراع و حلف ألا يكلمه و كذلك المرتضى فعلا ذلك تقية و خوفا من القادر

____________________

(١) الديوان: " ألبس الذل في ديار الأعادي "

(٢) ب: " في ملكنا ".

(٣) ب،: " ضيعتنا ".

(٤) ب،: " فكتب محضر "، بالبناء للمجهول.

(٥) ب،: " تسطير".

(٦) ب،: " يسطر ".

٣٨

و تسكينا له و لما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره، و بعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة و ولاها محمد بن عمر النهر سابسي(١) . و قرأت بخط محمد بن إدريس الحلي الفقيه الإمامي قال: حكى أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرائيني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة و ابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه و أجله و رفع من منزلته و خلى ما كان بيده من الرقاع و القصص، و أقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسمرحمه‌الله فلم يعظمه ذلك التعظيم و لا أكرمه ذلك الإكرام و تشاغل عنه برقاع يقرؤها و توقيعات يوقع بها فجلس قليلا، و سأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد: فتقدمت إليه و، قلت له: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون و هو الأمثل و الأفضل منهما و إنما أبو الحسن شاعر قال: فقال لي إذا انصرف الناس و خلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال و كنت مجمعا على الانصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا، فلما لم يبق إلا غلمانه و حجابه دعا بالطعام فلما أكلنا و غسل يديه و انصرف عنه أكثر غلمانه، و لم يبق عنده غيري قال لخادم: هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام و أمرتك أن تجعلهما في السفط(٢) الفلاني فأحضرهما فقال: هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار، و قلت له هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء

____________________

(١) النهر سابسى منسوب إلى نهر سايس، فوق واسط بيوم. " ياقوت ".

(٢) السفط بالتحريك، كالجوالق.

٣٩

إلى أخلائهم و ذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال فردها، و كتب إلى هذا الكتاب فاقرأه، قال: فقرأته و هو اعتذار عن الرد و في جملته إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة، و إنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا و لسن ممن يأخذن أجرة و لا يقبلن صلة قال فهذا هذا. و أما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا و قسطنا على الأملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد قد كتب إلى منذ أيام في هذا المعنى، هذا الكتاب فاقرأه فقرأته و هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع و الخشوع و الاستمالة و الهز و الطلب و السؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه. قال فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم و التبجيل هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد و نفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة و نفسه تلك النفس، فقلت: وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقا و الله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه و لا أحله إلا في محله و قمت فانصرفت. و توفي الرضيرحمه‌الله في المحرم من سنة أربع و أربعمائة و حضر الوزير فخر الملك و جميع الأعيان و الأشراف و القضاة جنازته و الصلاة عليه و دفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ، و مضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) ؛ لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته و دفنه و صلى عليه فخر الملك أبو غالب، و مضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره.

٤٠

و مما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها(1) :

يا للرجال لفجعة جذمت يدي

و وددت لو ذهبت على برأسي(2)

ما زلت آبى وردها حتى أتت(3)

فحسوتها في بعض ما أنا حاسي

و مطلتها زمنا فلما صممت

لم يثنها مطلي و طول مكاسي

لله عمرك من قصير طاهر

و لرب عمر طال بالأدناس

و حدثني فخار بن معد العلوي الموسويرحمه‌الله قال: رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الإمام في منامه كان، فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) دخلت عليه و هو في مسجده بالكرخ و معها ولداها الحسن و الحسين (عليه‌السلام ) صغيرين فسلمتهما إليه، و قالت له علمهما الفقه فانتبه متعجبا من ذلك فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر، و حولها جواريها، و بين يديها ابناها محمد الرضي و علي المرتضى صغيرين، فقام إليها و سلم عليها، فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله و قص عليها المنام و تولى تعليمهما الفقه(4) و أنعم الله عليهما، و فتح لهما من أبواب العلوم و الفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا و هو باق ما بقي الدهر(5)

____________________

(1) ب: " التي من جملة مرثيته "، وما أثبته عن أ.

(2) ديوانه 131:2.

(3) الديوان:"يازلت أحذر وردها".

(4) ساقط من ب.

(5) وانظر ترجمة الشريف الرضي أيضا في أخبار المحمدين من الشعراء 88 - 89، وإنباه الرواة 3: 114 - 115، وتاريخ ابن الأثير 7: 028، وتاريخ بغداد 2: 246 - 247، وتاريخ أبي الفدا 2: 145، وتاريخ ابن كثير 12: 3 - 4، وابن خلكان 2: 2 - 4، ودمية القصر 73 - 75، روضات الجنان 573 - 579، وشذرات الذهب 3: 182-184، وعيون التواريخ " وفيات 406 "، ولسان الميزان 5: 141، ومرآة الجنان 3: 18 - 20، والمنتظم لابن الجوزي " وفيات 406 "، والنجوم الزاهرة 4: 240، والوافي بالوفيات 2: 374 - 379، ويتيمة الدهر 3: 116 - 135، وله أيضا ترجمة في مقدمة كتابه المجازات النبوية " طبع بغداد " منقولة عن كتاب " تأسيس الشيعة الكرام لفنون الاسلام "، بتحقيق السيد حسن صدر بالدين.

٤١

القول في شرح خطبة نهج البلاغة

قال الرضيرحمه‌الله بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد(1) الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، و معاذا من بلائه و وسيلا إلى جنانه، و سببا لزيادة إحسانه، و الصلاة على رسوله نبي الرحمة و إمام الأئمة و سراج الأمة المنتجب من طينة الكرم، و سلالة المجد الأقدم و مغرس الفخار المعرق و فرع العلاء المثمر المورق، و على أهل بيته مصابيح الظلم و عصم الأمم و منار الدين الواضحة، و مثاقيل الفضل الراجحة فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم و مكافأة لعملهم، و كفاء لطيب أصلهم و فرعهم ما أنار(2 فجر طالع و خوى نجم ساطع2) اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية و لا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف كما فعل القطب الراوندي فإنه شرع أولا في تفسير قوله أما بعد، ثم قال: هذا هو فصل الخطاب، ثم ذكر ما معنى الفصل و أطال فيه و قسمه أقساما يشرح ما قد فرع له منه، ثم شرح الشرح و كذلك أخذ يفسر قوله من بلائه و قوله إلى جنانه و قوله و سببا، و قوله المجد و قوله

____________________

(1) أ: " حمدا ".

(2 – 2)ب: " ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم طالع ". وكذا في مخطوطة النهج.

٤٢

الأقدم، و هذا كله إطالة و تضييع للزمان من غير فائدة و لو أخذنا بشرح(1) مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة و أن نذكر الفصل بينها و بين إما المكسورة، و نذكر هل المكسورة من حروف العطف أو لا، ففيه خلاف و نذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة و مهملة أو عاملة، و نفسر معنى قول الشاعر:

أبا خراشة أما كنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع(2)

بالفتح و نذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة، و لم فتحت هاهنا حيث أضيفت و نخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها. و نبتدئ الآن فنقول قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا هو الفخار بكسر الفاء، : قال و هذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها و هو غير جائز؛ لأنه مصدر فاخر و فاعل يجي‏ء مصدره على فعال بالكسر لا غير، نحو: قاتلت قتالا، و نازلت نزالا، و خاصمت خصاما، و كافحت كفاحا، و صارعت صراعا، و عندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء و تكون مصدر فخر لا مصدر فاخر، فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على فعال بالفتح نحو سمح سماحا و ذهب ذهابا اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا فتزول الشبهة، و العصم جمع عصمة و هو ما يعتصم به و المنار الأعلام واحدها منارة بفتح الميم، و المثاقيل جمع مثقال و هو مقدار وزن الشي‏ء تقول مثقال حبة و مثقال قيراط و مثقال دينار، و ليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة فقوله مثاقيل الفضل أي: زنات الفضل و هذا من باب الاستعارة، و قوله: تكون إزاء لفضلهم أي مقابلة له و مكافأة بالهمز من كافأته أي جازيته و كفاء بالهمز و المد، أي: نظيراً.

____________________

(1) كذا في ج وهو الصوب، وفى باقى الأصول: "لشرح".

(2) البيت لعباس بن مرداس السلمي، وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة."اللسان 183:8".

٤٣

و خوى النجم، أي: سقط و طينة الكرم أصله و سلالة المجد فرعه و الوسيل جمع وسيلة، و هو ما يتقرب به، و لو قال: و سبيلا إلى جنانه لكان حسنا، و إنما قصد الإغراب على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ، و قوله و مكافأة لعملهم إن أراد أن يجعله قرينة لفضلهم كان مستقبحا عند من يريد البديع لأن الأولى ساكنة الأوسط و الأخرى متحركة الأوسط و أما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح و إن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشو السجعة الثانية، و جعل القرينة و أصلهم فهو جائز، إلا أن السجعة الثانية تطول جدا، و لو قال: عوض لعملهم لفعلهم لكان حسنا قال الرضيرحمه‌الله فإني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة (عليه‌السلام ) يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، و جعلته أمام الكلام و فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا (عليه‌السلام ) و عاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام و مماطلات الزمان، و كنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا، و فصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه (عليه‌السلام ) من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الأمثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه و متعجبين من نواصعه، و سألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في جميع فنونه و متشعبات غصونه من خطب و كتب و مواعظ و أدب، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، و غرائب الفصاحة و جواهر العربية، و ثواقب الكلم الدينية و الدنياوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام و لا مجموع الأطراف

٤٤

في كتاب إذ كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) مشرع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها و منه (عليه‌السلام ) ظهر مكنونها، و عنه أخذت قوانينها و على أمثلته حذا كل قائل خطيب و بكلامه استعان كل واعظ بليغ، و مع ذلك فقد سبق و قصروا و تقدم و تأخروا؛ لأن كلامه (عليه‌السلام ) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، و فيه عبقة من الكلام النبوي عنفوان السن أولها و محاجزات الأيام ممانعاتها و مماطلات الزمان مدافعاته و قوله معجبين، ثم قال: و متعجبين فمعجبين من قولك أعجب فلان برأيه و بنفسه فهو معجب بهما و الاسم العجب بالضم، و لا يكون ذلك إلا في المستحسن و متعجبين من قولك تعجبت من كذا، و الاسم العجب و قد يكون في الشي‏ء يستحسن و يستقبح و يتهول منه و يستغرب و مراده هنا التهول و الاستغراب و من ذلك قول أبي تمام

أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب

و آل ما كان من عجب إلى عجب(1)

يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا إما استقباحا له أو تهولا منه و استغرابا، و في بعض الروايات معجبين ببدائعه، أي: أنهم يعجبون غيرهم و النواصع الخالصة و ثواقب الكلم مضيئاتها، و منه الشهاب الثاقب و حذا كل قائل اقتفى و اتبع و قوله مسحة يقولون على فلان مسحة من جمال مثل قولك شي‏ء، و كأنه هاهنا يريد ضوءا و صقالا و قوله عبقة، أي: رائحة

____________________

(1) ديوانه 1: 115، مطلع قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل. المخلس، من قولهم: أخلس رأسه إذا صار فيه بياض وسواد. والقصب: جمع قصبة، وهي خصلة من الشعر تجعل كهيئة القصبة الدقيقة. " من شرح الديوان ".

٤٥

و لو قال عوض العلم الإلهي الكتاب الإلهي لكان أحسن قال الرضيرحمه‌الله فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع، و منشور الذكر، و مذخور الأجر، و اعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أميرالمؤمنين (عليه‌السلام ) في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدثرة و الفضائل الجمة، و أنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر و الشاذ الشارد، فأما كلامه (عليه‌السلام ) فهو البحر الذي لا يساجل، و الجم الذي لا يحافل، و أردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بقول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

المحاسن الدثرة الكثيرة مال دثر أي كثير و الجمة مثله و يؤثر عنهم أي يحكى و ينقل قلته آثرا أي حاكيا و لا يساجل، أي: لا يكاثر أصله من النزع بالسجل و هو الدلو الملي‏ء(1) ، قال:

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدلو إلى عقد الكرب(2)

و يروى و يساحل بالحاء من ساحل البحر، و هو طرفه أي: لا يشابه في بعد ساحله و لا يحافل، أي: لا يفاخر بالكثرة أصله من الحفل، و هو الامتلاء و المحافلة المفاخرة بالامتلاء ضرع حافل أي ممتلئ.

____________________

(1) الذلو تذكر وتؤنث.

(2) للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، اللسان 13: 346، ونقل عن ابن بري: " أصل المساجلة، أن يستقي ساقيان فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب أصلا للمفاخرة ".

٤٦

و الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي و من هذه الأبيات(1) :

و منا الذي اختير الرجال سماحة

و جودا إذا هب الرياح الزعازع(2)

و منا الذي أحيا الوئيد و غالب

و عمرو و منا حاجب و الأقارع(3)

و منا الذي قاد الجياد على الوجا(4)

بنجران حتى صبحته الترائع

و منا الذي أعطى الرسول عطية

أسارى تميم و العيون هوامع

الترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران، و هو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم.

و منا غداة الروع فرسان غارة

إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع(5)

و منا خطيب لا يعاب و حامل

أغر إذا التفت عليه المجامع(6)

أي: إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها؛ لأنها رماح قصيرة و حامل أي حامل للديات

____________________

(1) من نقيضته لقصيدة جرير التي أولها:

ذكرت وصال البيض والشيب شائع

ودار الصبا من عهدهن بلاقع

وهما في النقائض 685 - 705 " طبع أوروبا "، ويختلف ترتيب القصيدة هنا عن ترتيبها هناك.

(2) رواية النقائض: " منا الذي اختير "، بحذف الواو، وهو ما يسمى بالخرم، فتحذف الفاء من " فعولن "، في أول البيت من القصيدة. وانظر خبر غالب بن صعصعة، أبو الفرزدق مع عمير بن قيس الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري في الأغاني 19: 5 " طبعة الساسي ".

(3) الذي أحيا الوئيد، هو جده صعصعة بن ناجية بن عقال، وغالب أبوه، وعمرو بن عمرو بن عدس، والأقارع: الأقرع، وفراس ابنا حابس بن عقال، وانظر أخبار هؤلاء جميعا في شرح النقائض.

(4) الوجا: الحفا.

(5) منعت، يريد ارتفعت بالسيوف بعد الطعان بالرماح. والأشاجع: عصب طاهر الكف. وفي الديوان " فتيان غارة ".

(6) قوله: " خطيب " نعني شبه بن عقال بن صعصعة. والحامل، يعني عبد الله بن حكيم بن نافد، من بني حوي بن سفيان بن مشاجع، الذي حمل الحملات يوم المربد حين قتل مسعود بن عمرو العتكي، وكان يقال له القرين. والأغر من الرجال: المعروف كما يعرف الفرس بغرته في الخيل، يقول: فهو معروف في الكرم والجود. " من شرح النقائض ".

٤٧

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

بهم أعتلي ما حملتنيه دارم(1)

و أصرع أقراني الذين أصارع

أخذنا بآفاق السماء عليكم

لنا قمراها و النجوم الطوالع(2)

فوا عجبا حتى كليب تسبني

كأن أباها نهشل أو مجاشع

قال الرضيرحمه‌الله و رأيت كلامه (عليه‌السلام ) يدور على أقطاب ثلاثة: أولها: الخطب و الأوامر، و ثانيها: الكتب و الرسائل، و ثالثها: الحكم و المواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم و الأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا و مفصلا فيه أوراقا، ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا و يقع إلي آجلا، و إذا جاء شي‏ء من كلامه الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها، و قررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به، و أشدها ملامحة لغرضه، و ربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة و محاسن كلم غير منتظمة؛ لأني أورد النكت و اللمع و لا أقصد التتالي و النسق قوله أجمعت على الابتداء، أي: عزمت، و قال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال؛ لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر و لا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) (3) .

____________________

(1) النقائض: ما حملتني مجاشع ".

(2) قمراها: الشمس والقمر، فغلب المذكر مع حاجته إلى إقامة البيت.

(3) سورة يونس 71.

٤٨

هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالوا أجمعت الأمر و على الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح(1) على ذلك. و المحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح و المذاكر(2) ؛و مثله المقابح، و الحوار بكسر الحاء مصدر حاورته، أي: خاطبته و الأنحاء الوجوه و المقاصد و أشدها ملامحة لغرضه، أي: أشدها إبصارا له و نظرا إليه من لمحت الشي‏ء و هذه استعارة، يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني، أي: يشابهه كان ذلك الكلام يلمح و يبصر من هذا الكلام قال الرضي (رحمه‌الله ) : و من عجائبه (عليه‌السلام ) التي انفرد بها و أمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد و المواعظ و التذكير و الزواجر إذا تأمله المتأمل و فكر فيه المفكر(3) و خلع من قلبه، أنه كلام مثله ممن عظم قدره و نفذ أمره، و أحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة و لا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى(4) سفح جبل لا يسمع إلا حسه و لا يرى إلا نفسه، و لا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب و يجدل الأبطال و يعود به ينطف دما و يقطر مهجا، و هو مع تلك الحال زاهد الزهاد و بدل الأبدال، و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد و ألف بين الأشتات، و كثيرا ما أذاكر الإخوان بها و أستخرج عجبهم منها و هي موضع العبرة بها(5) و الكفرة فيها

____________________

(1) الصحاح 3: 1198.

(2) ب: " المذاكير "، وما أثبته عن أ.

(3) ب: " المتفكر "، وما أثبته عن أ.

(4) مخطوطة النهج: " في سفح ".

(5) كلمة " بها " ساقطة من ب، وهي في أ.

٤٩

قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده، و كذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه و كل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع و كسر البيت جانب الخباء، و سفح الجبل أسفله و أصله حيث يسفح فيه الماء و يقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا، كما قاله الراوندي و إنما ذاك القد قددته طولا و قططته عرضا، قال ابن فارس صاحب المجمل، قال ابن عائشة: كانت ضربات علي (عليه‌السلام ) في الحرب أبكارا إن اعتلى قد و إن اعترض قط و يجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة، و هي وجه الأرض و ينطف دما يقطر و الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث. كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد(1) ذكره الرضي (رحمه‌الله )، و هو موضع التعجب؛ لأن الغالب على أهل الشجاعة و الإقدام و المغامرة و الجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية و فتك و تمرد و جبرية، و الغالب على أهل الزهد و رفض الدنيا و هجران ملاذها و الاشتغال بمواعظ الناس و تخويفهم المعاد، و تذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة و لين و ضعف قلب، و خور طبع و هاتان حالتان متضادتان و قد اجتمعتا له (عليه‌السلام ). و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و إراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية و طباع حوشية و غرائز وحشية، و كذلك الغالب على أهل الزهادة و أرباب الوعظ و التذكير و رفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق و عبوس في الوجوه و نفار من الناس

____________________

(1) كلمة " قد " ساقطة من ب.

٥٠

و استيحاش و أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) كان أشجع الناس و أعظمهم إراقة للدم، و أزهد الناس و أبعدهم عن ملاذ الدنيا، و أكثرهم وعظا و تذكيرا بأيام الله و مثلاته، و أشدهم اجتهادا في العبادة و آدابا لنفسه في المعاملة، و كان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا و أسفرهم وجها و أكثرهم بشرا، و أوفاهم هشاشة و أبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهم مباعد، أو غلظة و فظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدر معهما قلب حتى عيب بالدعابة، و لما لم يجدوا فيه مغمزا و لا مطعنا تعلقوا بها و اعتمدوا في التنفير عنه عليها، و تلك شكاة ظاهر عنك عارها(1) ، و هذا من عجائبه و غرائبه اللطيفة. و منها أن الغالب على شرفاء الناس، و من هو من أهل بيت السيادة و الرئاسة أن يكون ذا كبر و تيه و تعظم و تغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى، و كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في مصاص الشرف و معدنه و معانيه لا يشك عدو و لا صديق، أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و قد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها، و مع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير و كبير، و ألينهم عريكة، و أسمحهم خلقا و أبعدهم عن الكبر، و أعرفهم بحق، و كانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته

____________________

(1) " الشكاة توضع موضع العيب والذم، وعير الرجل عبد الله بن الزبير بأمه، فقال ابن الزبير: * وتلك شكاة طاهر عنك عارها * أراد أن تعبيره إياه بأن أمه كانت ذات النطاقين ليس بعار. ومعنى قوله: " طاهر عنك عارها "، أي ناب، أراد أن هذا ليس عارا يلزق به، وأنه يفخر بذلك، لأنها إنما سميت ذات النطاقين، لأنه كان لها نطاقان تحمل في أحدهما الزاد إلى أبيها وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وكانت تنتطق بالنطاق الآخر، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها ". اللسان: " 19: 171 "، وديوان الهذليين (1: 21)، وهذا العجز لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: * وعيرها الواشون أني أحبها *

٥١

و الزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة و لا أحالت خلقه الرئاسة، و كيف تحيل الرئاسة خلقه و ما زال رئيسا و كيف تغير الإمرة سجيته و ما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا و لا اكتسب بها زينة، بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم، تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر و علي، و قالوا: فأكثروا فرفع رأسه إليهم، و قال: قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة، و لكنه زانها، و هذا الكلام دال بفحواه و مفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة، و تممت نقصه و أن عليا (عليه‌السلام ) لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة، و كانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتم نقصها بولايته إياها. و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و قتل الأنفس، و إراقة الدماء، أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو؛ لأن أكبادهم واغرة و قلوبهم ملتهبة و القوة الغضبية عندهم شديدة، و قد علمت حال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في كثرة إراقة الدم، و ما عنده من الحلم و الصفح و مغالبة هوى النفس، و قد رأيت فعله يوم الجمل و لقد أحسن مهيار في قوله(1) :

حتى إذا دارت رحى بغيهم

عليهم و سبق السيف العذل

عاذوا بعفو ماجد معود

للعفو حمال لهم على العلل

فنجت البقيا عليهم من نجا

و أكل الحديد منهم من أكل

أطت بهم أرحامهم فلم يطع

ثائرة الغيظ و لم يشف الغلل

و منها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط، كان عبد الله بن الزبير شجاعا و كان أبخل الناس، و كان الزبير أبوه شجاعا و كان شحيحا قال له عمر: لو وليتها لظلت تلاطم الناس

____________________

(1) من قصيدة في ديوانه 3: 901 - 611 يذكر فيها مناقب الإمام علي وما منى به من أعدائه.

٥٢

في البطحاء على الصاع و المد، و أراد علي (عليه‌السلام ) أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارك الزبير في أمواله و تجاراته فقال: (عليه‌السلام ) أما إنه قد لاذ بملاذ و لم يحجر عليه و كان طلحة شجاعا و كان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر، و كان عبد الملك شجاعا و كان شحيحا يضرب به المثل في الشح، و سمي رشح الحجر لبخله، و قد علمت حال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في الشجاعة و السخاء كيف هي، و هذا من أعاجيبه أيضا (عليه‌السلام ). قال الرضي (رحمه‌الله ) : و ربما جاء(1) في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد و المعنى المكرر و العذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية، فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار و غيره على عقائل الكلام، و ربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا أو اعتمادا و لا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه (عليه‌السلام )، حتى لا يشذ عني منه شاذ، و لا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي و الحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي، و ما علي إلا بذل الجهد و بلاغة الوسع و على الله سبحانه نهج السبيل و إرشاد الدليل. و رأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، و يقرب عليه طلابها و فيه حاجة العالم و المتعلم و بغية البليغ و الزاهد، و يمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد و العدل و تنزيه الله سبحانه و تعالى عن شبه الخلق، ما هو بلال كل غلة و شفاء كل علة و جلاء كل شبهة، و من الله أستمد التوفيق و العصمة، و أتنجز التسديد و المعونة، و أستعيذه من خطإ الجنان قبل خطإ

____________________

(1) ب: "كان".

٥٣

اللسان، و من زلة الكلم قبل زلة القدم، و هو حسبي و نعم الوكيل في أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق و أعذاق و الغيرة بالفتح و الكسر خطأ و عقائل الكلام كرائمه، و عقيلة الحي كريمته، و كذلك عقيلة الذود و الأقطار الجوانب واحدها قطر و الناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة، و قوله و على الله نهج السبيل، أي: إبانته و إيضاحه نهجت له نهجا، و أما اسم الكتاب فنهج البلاغة، و النهج هنا ليس بمصدر، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه، و الطلاب بكسر الطاء الطلب و البغية ما يبتغى و بلال كل غلة بكسر الباء ما يبل به الصدى، و منه قوله انضحوا الرحم ببلالها، أي صلوها بصلتها و ندوها(1) ، قال أوس:

كأني حلوت الشعر حين مدحته

صفا صخرة صماء يبس بلالها(2)

و إنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان؛ لأن خطأ الجنان أعظم و أفحش من خطإ اللسان، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه، و هو غير معتقد للكفر بقلبه، و إنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم؛ لأنه أراد زلة القدم الحقيقية و لا ريب أن زلة القدم أهون و أسهل؛ لأن العاثر يستقيل من عثرته و ذا الزلة تجده ينهض من صرعته، و أما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها و لا ينهض صريعها، و طالما كانت لا شوى(3) لها قال أبو تمام:

يا زلة ما وقيتم شر مصرعها

و زلة الرأي تنسى زلة القدم(4)

____________________

(1) اللسان –بلل، وفى الطبعة الأولى "أنضجوا"، تحريف.

(2) يهجو الحكم بن مروان بن زنباع، اللسان 31: 76، 81: 012 وحلا الرجل الشئ يحلوه، أعطاه إياه، أي جعل الشعر حلوانا له مثل العطاء.

(3) لا شوى لها، أي لا برء لها، قال الكميت: أجيبوا رقي الآسي النطاسي واحذروا * مطفئة الرصيف التي لا شوى لها

(4) ديوانه 3: 491، وروايته: " يا عثرة ما وقيتم ".

٥٤

باب الخطب و الأوامر

٥٥

٥٦

قال الرضي (رحمه‌الله ) : باب المختار من خطب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) و أوامره و يدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة، و المواقف المذكورة، و الخطوب الواردة المقامات جمع مقامة، و قد تكون المقامة المجلس و النادي الذي يجتمع إليه الناس، و قد يكون اسما للجماعة و الأول أليق هاهنا بقوله المحضورة، أي: التي قد حضرها الناس. و منذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) و نجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه الأصل فإذا أنهيناه قلنا الشرح فذكرنا ما عندنا فيه و بالله التوفيق

1. فمن خطبة له (عليه‌السلام ) يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم

(اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ)

٥٧

الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما، تقول حمدت زيدا على إنعامه، و مدحته على إنعامه، و حمدته على شجاعته، و مدحته على شجاعته، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله، كما ذكرناه من المثالين، فأما الشكر فأخص من المدح؛ لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد. إن قيل الاستعمال خلاف ذلك؛ لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد. قيل: ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان، فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد، و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر، و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه. ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم، فإن استعمل شي‏ء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان، فإن الاستعمال لا يساعدهم؛ لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم، و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني، بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي، فأما

٥٨

أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية(1) و الإمامية(2) ،أو تؤخذ معه أمور أخرى، و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة(3) ،و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية(4) ، فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا، و نظروا إلى مجرد الظاهر، فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا. و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس(5) ؛ و المعنى مطروق جدا، و منه في الكتاب العزيز كثير، كقوله تعالى:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها ) (6) و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و قال الكتاب(7) من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم، الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها، و إن عجزنا عن إحصائها و عدها، و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد:

فما بلغت كف امرئ متناول

بها المجد إلا و الذي نلت أطول(8)

____________________

(1) الأشعرية هم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري، وهي جماعة الصفاتية، الذين يثبتون لله تعالى الصفات الأزلية، كالعلم والقدرة والحياة وغيرها. وانظر الكلام عليهم في الملل والنحل للشهرستاني 1: 85 - 94.

(2) الامامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام، وهم فرق متعددة ذكرهم الشهرستاني في الملل والنحل 1: 144 - 154.

(3) المعتزلة ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، انظر أيضا الكلام عليهم، وتعداد فرقهم في المصدر السابق 1: 49 - 78.

(4) الكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، عدهم الشهرستاني من جماعة الصفاتية، لأنهم كانوا ممن يثبتون الصفات، إلا أنهم انتهوا فيها إلى التجسيم والتشبيه، الملل والنحل 1: 99 - 104.

(5) أ: " كالركبة والجلسة هيئة الركوب والجلوس ".

(6) سورة إبراهيم 34، النحل 18.

(7) ب: " في الكتاب "، وكلمة " في " مقحمة.

(8) ديوانها 184، والرواية هناك

فما بلغت كف امرئ متناول

بها المجد إلا حيث ما نلت أطول

وما بلغ المهدون في القول مدحة

ولا صفة إلا الذي فيك أفضل

٥٩

و لا حبر المثنون في القول مدحة

و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل

و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ(1) الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية:

الحمد لله بقدر الله

لا قدر وسع العبد ذي التناهي

و الحمد لله الذي برهانه

أن ليس شأن ليس فيه شانه

و الحمد لله الذي من ينكره

فإنما ينكر من يصوره

و أما قوله الذي لا يدركه، فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت، فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق؛ لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء، يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة، مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم، مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة، و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع(2) لم يكن متصورا. فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود، فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته. يقول: ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة؛ لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب. ثم قال و لا نعت موجود، أي: و لا يدرك(3) بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها، و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها، ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا

____________________

(1) أ: " بلفظة ".

(2) ب: " جميعا ".

(3) ب: " لا يدرك "، من غير واو.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350