كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

كتاب شرح نهج البلاغة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف: الصفحات: 350
المشاهدات: 90613
تحميل: 7663


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90613 / تحميل: 7663
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لكن قاتله من لا نظير له

و كان يدعى أبوه بيضة البلد(1)

و انتبه يوما معاوية فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال: و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب، قال: لا جرم أنه قتلك و أباك بيسرى يديه و بقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها. و جملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهى و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها. و أما القوة و الأيد فبه يضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في المعارف: ما صارع أحدا قط إلا صرعه(2) ، و هو الذي قلع باب خيبر و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه، و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة و كان عظيما جدا و ألقاه(3) إلى الأرض، و هو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته (عليه‌السلام ) بيده بعد عجز الجيش كله عنها، و أنبط(4) الماء من تحتها. و أما السخاء و الجود، فحاله فيه ظاهرة، و كان يصوم و يطوي و يؤثر بزاده و فيه أنزل( وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) (5) ، و روى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية فأنزل فيه( اَلَّذِينَ

____________________

(1) بيضة البلد، يريد علي بن أبي طالب، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تريكة وحدها، ليس معها غيرها، كذا فسر في اللسان.

(2) المعارف 210، وبعدها:"شىديد الوئب قوى الضرب".

(3) ب: " فألقاه "

(4) ب: " فأنبط ".

(5) سورة الانسان 9، 10

٢١

يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) (1) . و روى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت(2) يده، و يتصدق بالأجرة و يشد على بطنه حجرا. و قال الشعبي و قد ذكره: (عليه‌السلام ) كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحبه الله السخاء و الجود ما قال لا لسائل قط، و قال عدوه و مبغضه الذي يجتهد في وصمه و عيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن(3) بن أبي محفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس فقال: ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس، لو ملك بيتا من تبر و بيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلي فيها، و هو الذي قال: يا صفراء، و يا بيضاء، غري غيري، و هو الذي لم يخلف ميراثا و كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. و أما الحلم و الصفح، فكان أحلم الناس عن ذنب و أصفحهم عن مسي‏ء و قد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم و كان أعدى الناس له و أشدهم بغضا فصفح عنه. و كان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد، و خطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد(4) اللئيم علي بن أبي طالب و كان علي (عليه‌السلام ) يقول: (ما زال الزبير

____________________

(1) سورة البقرة 274، وللمفسرين في هذه الآية أسباب أخرى للنزول، ذكرها القرطبي في التفسير 19: 128، وانظر أسباب النزول للواحدي 231.

(2) مجلت يده، أي ثخن جلده وتعجز وطهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، ومنه حديث فاطمة، أنها شكت إلى علي مجل يديها من الطحن. النهاية لابن الأثير 4: 80.

(3) أورده الذهبى فى المشبه ص573، وقال:"وفد على معاوية".

(4) في ب: " الوغب "، وهما بمعنى.

٢٢

رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله)، فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا فصفح عنه و قال: اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك. و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة و كان له عدوا فأعرض عنه و لم يقل له شيئا. و قد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم و قلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، و تأففت و قالت: هتك ستري برجاله و جنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن و قلن لها: إنما نحن نسوة. و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف و شتموه و لعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبع(1) مول و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن و لم يأخذ أثقالهم و لا سبى ذراريهم و لا غنم شيئا من أموالهم، و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، و لكنه أبى إلا الصفح و العفو و تقيل سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يوم فتح مكة، فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس. و لما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات و قالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي (عليه‌السلام ) و أصحابه أن يشرعوا(2) لهم شرب الماء، فقالوا: لا و الله، و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان، فلما رأى (عليه‌السلام ) أنه الموت لا محالة، تقدم بأصحابه و حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرءوس و الأيدي و ملكوا عليهم

____________________

(1) أ: " ألا يتبع مول ".

(2) كذا في أ، وفي ب: " يسوغوا ".

٢٣

الماء، و صار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه و شيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك و لا تسقهم منه قطرة و اقتلهم بسيوف العطش، و خذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب، فقال: (لا و الله، لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة) ففي حد السيف ما يغني عن ذلك فهذه إن نسبتها إلى الحلم و الصفح فناهيك بها جمالا و حسنا، و إن نسبتها إلى الدين و الورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله (عليه‌السلام ). و أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه و عدوه، أنه سيد المجاهدين، و هل الجهاد لأحد من الناس إلا له، و قد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) و أشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم و قتل المسلمون و الملائكة النصف الآخر، و إذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي و تاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري و غيرهما، علمت صحة ذلك، دع من قتله في غيرها كأحد و الخندق و غيرهما و هذا الفصل لا معنى للإطناب فيه؛ لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة و مصر و نحوهما. و أما الفصاحة، فهو (عليه‌السلام ) إمام الفصحاء و سيد البلغاء، و في كلامه(1) قيل: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين، و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت، و قال ابن نباتة(2) : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة و كثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب. و لما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك

____________________

(1) ب: " وعن كلامه ".

(2) هو عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن إسماعيل الفارقي الجذامي.

٢٤

كيف يكون أعيا الناس، فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره، و يكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة و لا يبارى في البلاغة، و حسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له، و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه. و أما سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحيا و التبسم، فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه.

قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة، و قال علي (عليه‌السلام ) في ذاك: (عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة و أني امرؤ تلعابة أعافس و أمارس)(1) ، و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك لو لا دعابة فيك، إلا أن عمر اقتصر عليها و عمرو زاد فيها و سمجها. قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه: كان فينا كأحدنا لين جانب و شدة تواضع و سهولة قياد و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه. و قال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة، قال قيس: نعم كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يمزح و يبتسم إلى أصحابه، و أراك تسر حسوا في ارتغاء(2) و تعيبه بذلك، أما و الله لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى و ليس كما يهابك طغام أهل الشام.

____________________

(1) التلعابة، بفتح التاء وكسرها: الكثير اللعب والمرح. والمعافسة: الملاعبة أيضا. والممارسة: ملاعبة النساء. والخبر أورده ابن الأثير في النهاية 1: 117، و 3: 59، 110، و 4: 59، 89.

(2) في المثل: " هو يسر حسوا في ارتغاء "، يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره. (اللسان 19: 46).

٢٥

و قد بقي هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه و أوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر، و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يعرف ذلك. و أما الزهد في الدنيا، فهو سيد الزهاد و بدل الأبدال و إليه تشد الرحال و عنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا، قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه قال: (خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت). و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و ليف أخرى، و نعلاه من ليف و كان يلبس الكرباس(1) الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة و لم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له و كان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، و لا يأكل اللحم إلا قليلا و يقول: (لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان)، و كان مع ذلك أشد الناس قوة و أعظمهم أيدا لا ينقض(2) الجوع قوته و لا يخون(3) الإقلال منته، و هو الذي طلق الدنيا و كانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام، فكان يفرقها و يمزقها، ثم يقول:

هذا جناي و خياره فيه

إذ كل جان يده إلى فيه(4)

____________________

(1) الكرباس بالكسر: ثوب من القطن الأبيض، معرب.

(2) ب: " ينقص ".

(3) يخون: ينقص، وفي ب: " يخور "، وما أثبته عن أ.

(4) البيت أنشده عمرو بن عدي حينما كان غلاما، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك " جذيمة الأبرش " الكمأة، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك، وكان عمرو لا يأكل منه، ويأتي به كما هو، وينشد البيت. وانظر القاموس 3: 259 - 260، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الأولياء 1: 81.

٢٦

و أما العبادة، فكان أعبد الناس و أكثرهم صلاة و صوما، و منه تعلم الناس صلاة الليل و ملازمة الأوراد و قيام النافلة، و ما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده و السهام تقع بين يديه و تمر على صماخيه يمينا و شمالا فلا يرتاع لذلك و لا يقوم حتى يفرغ من وظيفته، و ما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده. و أنت إذا تأملت دعواته و مناجاته و وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه و إجلاله و ما يتضمنه من الخضوع لهيبته و الخشوع لعزته و الاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، و فهمت من أي قلب خرجت و على أي لسان جرت. و قيل لعلي بن الحسين (عليه‌السلام )، و كان الغاية في العبادة أين عبادتك من عبادة جدك، قال: (عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و أما قراءته القرآن و اشتغاله به، فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و لم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول من جمعه نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن، فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن؛ لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لما احتاج إلى أن يتشاغل(1) بجمعه بعد وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و إذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و غيرهما؛ لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ

____________________

(1) ب: " تشاغل ".

٢٧

و أبو عبد الرحمن كان تلميذه، و عنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق. و أما الرأي و التدبير، فكان من أسد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا، و هو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم و الفرس بما أشار، و هو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث، و إنما قال أعداؤه: لا رأي له؛ لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه. و قد قال (عليه‌السلام ) لو لا الدين و التقى لكنت أدهى العرب و غيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوفقه سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن، و لا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب، و من كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب. و أما السياسة، فإنه كان شديد السياسة، خشنا في ذات الله، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه و لا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به و أحرق قوما بالنار، و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد الله البجلي، و قطع جماعة و صلب آخرين. و من جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل و صفين و النهروان، و في أقل القليل منها مقنع فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه و بطشه و انتقامه مبلغ العشر مما فعل (عليه‌السلام ) في هذه الحروب بيده و أعوانه. فهذه هي خصائص البشر و مزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله و الرئيس المقتفى أثره. و ما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة و تعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة و تصور ملوك الفرنج و الروم صورته في بيعها و بيوت عباداتها

٢٨

حاملا سيفه مشمرا لحربه و تصور ملوك الترك و الديلم صورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه و سيف أبيه ركن الدولة صورته، و كان على سيف ألب أرسلان و ابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر. و ما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به و ود كل أحد أن يتجمل و يتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه و صنفوا في ذلك كتبا و جعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه و قصروه عليه و سموه سيد الفتيان، و عضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد

لا سيف إلا ذو الفقار

و لا فتى إلا علي

و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء و شيخ قريش و رئيس مكة، قالوا: قل، أن يسود فقير و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له و كانت قريش تسميه الشيخ. و في حديث عفيف الكندي لما رأى(1) النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يصلي في مبدإ الدعوة و معه غلام و امرأة، قال: فقلت للعباس أي شي‏ء هذا، قال: هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس و لم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام، و هو ابن أخي أيضا و هذه الامرأة و هي زوجته، قال: فقلت: ما الذي تقولونه أنتم. قال ننتظر ما يفعل الشيخ، يعنى أبا طالب، و أبو طالب، هو الذي كفل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) صغيرا، و حماه و حاطه كبيرا و منعه من مشركي قريش، و لقي لأجله عنتا عظيما و قاسى بلاء شديدا و صبر على نصره و القيام بأمره، و جاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه (عليه‌السلام )، و قيل له اخرج منها فقد مات ناصرك. و له مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين و الآخرين و أخاه جعفر ذو الجناحين الذي قال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أشبهت خلقي و خلقي فمر يحجل

____________________

(1) الخبر في أسد الغابة 3: 414 مع اختلاف في الرواية.

٢٩

فرحا، و زوجته سيدة نساء العالمين، و ابنيه سيدا شباب أهل الجنة، فآباؤه آباء رسول الله و أمهاته أمهات رسول الله، و هو مسوط بلحمه و دمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله و أبي طالب، و أمهما واحدة فكان منهما سيد الناس هذا الأول و هذا التالي و هذا المنذر و هذا الهادي. و ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى و آمن بالله و عبده و كل من في الأرض يعبد الحجر و يجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه (عليه‌السلام ) أول الناس اتباعا لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) إيمانا به و لم يخالف في ذلك إلا الأقلون و قد قال هو (عليه‌السلام ) أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس و صليت قبل صلاتهم، و من وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك و علمه واضحا، و إليه ذهب الواقدي و ابن جرير الطبري و هو القول الذي رجحه و نصره صاحب كتاب الإستيعاب(1) . و لأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد وجب أن نختصر و نقتصر فلو أردنا شرح مناقبه و خصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه و بالله التوفيق(2) .

____________________

(1) الإستيعاب لابن عبد البر النمري القرطبي 2: 457.

(2) وانظر ترجمته وأخباره أيضا في أسد الغابة 4: 16 - 40، والاستيعاب 3: 1089 - 1133، والإصابة 4: 269 - 271، وإنباه الرواة 1: 10 - 12، وتاريخ الاسلام للذهبي 2: 191 207، وتاريخ بغداد 1: 133 - 138، وتاريخ أبي الفدا 1: 181 - 182، وتاريخ الطبري 6: 88 - 91، وتاريخ ابن كثير 7: 332 - 361، و 8: 1 - 13، وتذكرة الحفاظ 1: 10 - 13، وتهذيب الأسماء واللغات 1: 344 - 349، وتهذيب التهذيب 7: 334 - 339، وحلية الأولياء 1: 61 - 78، وصفة الصفوة 3: 119 - 144، وطبقات ابن سعد 6: 6، وطبقات القراء لابن الجزري 1: 641 - 745، ومروج الذهب 2: 54 - 05، والمعارف 88 - 29، ومعجم الأدباء 14: 41 - 50، ومعجم الشعراء 279 - 280، ومقاتل الطالبيين 24 - 45، والنجوم الزاهرة 1: 119 - 210.

٣٠

القول في نسب الرضي أبي الحسن (رحمه‌الله ) و ذكر طرف من خصائصه و مناقبه

هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى، بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق (عليه‌السلام )، مولده سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة. و كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس و دولة بني بويه، و لقب بالطاهر ذي المناقب و خاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد و ولي نقابة الطالبيين خمس دفعات، و مات و هو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض و ذهب بصره، و توفي عن سبع و تسعين سنة، فإن مولده كان في سنة أربع و ثلاثمائة، و توفي سنة أربعمائة، و قد ذكر ابنه الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها و أولها:

وسمتك حالية الربيع المرهم

و سقتك ساقية الغمام المرزم(1)

سبع و تسعون اهتبلن لك العدا

حتى مضوا و غبرت غير مذمم

لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما

أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم(2)

إلا بقايا من غبارك أصبحت

غصصا و أقذاء لعين أو فم

إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا

فالذئب يعسل في طريق الضيغم(3)

و دفن النقيب أبو أحمد أولا في داره، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين (عليه‌السلام ). و هو الذي كان السفير بين الخلفاء و بين الملوك من بني بويه و الأمراء من بنى حمدان و غيرهم و كان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ما شرع في إصلاح أمر فاسد

____________________

(1) ديوانه، لوحة 153

(2) الأزلم: الدهر.

(3) عسل الذئب: مضى مسرعا واضطرب في عدوه.

٣١

إلا و صلح على يديه و انتظم بحسن سفارته و بركة همته و حسن تدبيره و وساطته، و لاستعظام عضد الدولة أمره و امتلاء صدره و عينه به حين قدم العراق ما(1) قبض عليه و حمله إلى القلعة بفارس، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة و استصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد و ملك الحضرة، و لما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة، فكتب إلى أبيه و هو معتقل بالقلعة بشيراز:

أبلغا عنى الحسين ألوكا

أن ذا الطود بعد عهدك ساخا(2)

و الشهاب الذي اصطليت لظاه

عكست ضوءه الخطوب فباخا(3)

و الفنيق الذي تذرع طول

الأرض خوى به الردى و أناخا(4)

أن يرد مورد القذى و هو راض

فبما يكرع الزلال النقاخا(5)

و العقاب الشغواء أهبطها النيق

و قد أرعت النجوم صماخا(6)

أعجلتها المنون عنا و لكن

خلفت في ديارنا أفراخا

و على ذاك فالزمان بهم عاد

غلاما من بعد ما كان شاخصا

و أم الرضي أبي الحسن، فاطمة بنت الحسين بن أحمد(7) بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم، و هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )، شيخ الطالبيين و عالمهم و زاهدهم و أديبهم و شاعرهم

____________________

(1) ما هنا المصدرية.

(2) لوحة 182، والألوك: الرسالة.

(3) بأخ: سكن وفتر.

(4) الفنيق في الأصل: الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله ولا يركب.

(5) النقاخ: البارد العذب الصافي.

(6) الشغواء من وصف العقاب، قيل لها ذلك لفضل في منقارها الأعلى على الأسفل. والنيق: حرف من حروف الجبل.

(7) تكملة من أ، ج.

٣٢

ملك بلاد الديلم و الجبل، و يلقب بالناصر للحق جرت له حروب عظيمة مع السامانية و توفي بطبرستان سنة أربع و ثلاثمائة و سنه تسع و سبعون سنة، و انتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني، و يلقب بالداعي إلى الحق. و هي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا. و حفظ الرضي (رحمه‌الله ) القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة، و عرف من الفقه و الفرائض طرفا قويا، و كان (رحمه‌الله ) عالما أديبا و شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره(1) أتى بما لا يشق فيه غباره، و إن قصد في المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها على أثره و كان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية، و كان عفيفا شريف النفس عالي الهمة ملتزما(2) بالدين و قوانينه، و لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة حتى أنه رد صلاة أبيه و ناهيك بذلك شرف نفس و شدة ظلف(3) ، فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل. و كان يرضى بالإكرام و صيانة الجانب و إعزاز الأتباع و الأصحاب، و كان الطائع(4) أكثر ميلا إليه من القادر(5) ، و كان هو أشد حبا و أكثر ولاء للطائع منه للقادر، و هو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها منها

____________________

(1) ساقطة من ا

(2) ب، ج:"مستلزما "وما أئبته عن ا

(3) الظلف، من طلف نفسه عن الشئ بظلفها طلفا: منعها وحبسها.

(4) هو أبو بكر عبد الكريم الطائع لأمر الله، بويع بالخلافة له سنة 363، ثم خلع، وقبض عليه الديلم سنة 381، وبويع لأخيه القادر، فحمل إليه الطائع، وبقي عنده إلى أن توفي سنة 393. الفخري 254، وابن الأثير حوادث سنة 381.

(5) هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر، المعروف بالقادر، بويع له بالخلافة بعد خلع أخيه، وتوفي سنة 422. الفخري 254.

٣٣

عطفا أمير المؤمنين فإننا

في دوحة العلياء لا نتفرق(1)

ما بيننا يوم الفخار تفاوت

أبدا كلانا في المعالي معرق

إلا الخلافة شرفتك فإنني(2)

أنا عاطل منها و أنت مطوق

فيقال إن القادر قال له على رغم أنف الشريف. و ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي، قال: كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد و متقدمهم و سمع الحديث الكثير، و كان كريما مفضلا على أهل العلم قال و عليه قرأ الشريف الرضي (رحمه‌الله ) القرآن، و هو شاب حدث السن(3) فقال له يوما: أيها الشريف أين مقامك، قال: في دار أبي بباب محول(4) ، فقال: مثلك لا يقيم بدار أبيه قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة فامتنع الرضي من قبولها، و قال له: لم أقبل من أبي قط شيئا، فقال: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك؛ لأني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها(5) . و كان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه(6) إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره و ينظمها في شعره، و لا يجد من الدهر(7) عليها مساعدة فيذوب كمدا و يفنى وجدا، حتى توفي و لم يبلغ غرضا. فمن ذلك قوله:

ما أنا للعلياء إن لم يكن

من ولدي ما كان من والدي(8)

و لا مشت بي الخيل أن لم أطأ

سرير هذا الأصيد الماجد(9)

____________________

(1) ديوانه لوحة 40.

(2) الديوان: " ميزتك وإنني ".

(3) تكملة من أ.

(4) باب محول، بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الواوولام:حلة كبيرة من محال بغىاى؛كانت متصلة بالكرخ.

(5) المنتظم " حوادث سنة 393.

(6) أ: " في " وما أثبته عن ب.

(7) أ: " في الدهر " وما أثبته عن ب.

(8) ديوانه، لوحة 89.

(9) ديوانه " الأغلب الماجد ".

٣٤

و منه قوله:

متى تراني مشيحا في أوائلهم

يطفو بي النقع أحيانا و يخفيني(1)

لتنظرني مشيحا في أوائلها

يغيب بي النقع أحيانا و يبديني(2)

لا تعرفوني إلا بالطعان و قد

أضحى لثامي معصوبا بعرنيني(3)

و منه قوله يعني نفسه:

فوا عجبا مما يظن محمد

و للظن في بعض المواطن غدار(4)

يؤمل أن الملك طوع يمينه(5)

و من دون ما يرجو المقدر أقدار

لئن هو أعفى للخلافة لمة

لها طرر فوق الجبين و أطرار

و رام العلا بالشعر و الشعر دائبا

ففي الناس شعر خاملون و شعار(6)

و إني أرى زندا تواتر قدحه

و يوشك يوما أن تكون له نار

و منه قوله:(7)

لا هم قلبي بركوب العلا

يوما و لا بلت يدي بالسماح(8)

____________________

(1) ديوانه ص 522 - مطبعة نخبة الاخبار، من قصيدة يذكر فيها القبض على الطائع لله، ويصف خروجه من الدار سليما، وأنه حين أحسن بالامر بادر ونزل دجلة، وتلوم من القضاة والاشراف والشهود، فامتهنوا وأخذت ثيابهم. ومطلعها:

لواعج الشوق تخطيهم وتصميني

واللوم في الحب ينهاهم ويغريني

ولو لقوا بعض ما ألقى نعمت بهم

لكنهم سلموا مما يعنيني

(2) هذا البيت لم يذكر في أ، ب، وهو في المطبوعة المصرية والديوان.

(3) الديوان " إذا "

(4) ديوانه لوحة 214، وروايته: " غرار ". وفي أ: " بعض المواضع ".

(5) الديوان " يقدر أن الملك ".

(6) شعر:جمع أشعر، وهو كثير الشعر طويلة.

(7) ديوانه لوحة 84، من قصيدة أولها:

نبهتهم مثل عوالي الرماح

إلى الوغى قبل نموم الصباح

فوارس نالوا المنى بالقنا

وصافحوا أغراضهم بالصفاح

(8) الديوان: " ولا بل يدي ".

٣٥

إن لم أنلها باشتراط كما

شئت على بيض الظبى و اقتراح(1)

أفوز منها باللباب الذي

يعيي الأماني نيله و الصراح

فما الذي يقعدني عن مدى

ما هو بالبسل و لا باللقاح

يطمح من لا مجد يسمو به

إني إذا أعذر عند الطماح

أما فتى نال المنى فاشتفى

أو بطل ذاق الردى فاستراح

و في هذه القصيدة ما هو أخشن مسا و أعظم نكاية، و لكنا عدلنا عنه و تخطيناه كراهية لذكره، و في شعره الكثير الواسع من هذا النمط. و كان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي(2) الكاتب له صديقا و بينهما لحمة الأدب و وشائجه و مراسلات(3) و مكاتبات بالشعر فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط

أبا حسن لي في الرجال فراسة

تعودت منها أن تقول فتصدقا(4)

و قد خبرتني عنك أنك ماجد

سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى(5)

فوفيتك التعظيم قبل أوانه

و قلت أطال الله للسيد البقا

____________________

(1) هو أبو إسحاق الصابي، صاحب الرسائل المشهورة، كان كاتب الانشاء ببغداد عن الخليفة، وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي، وكان صابئيا متشددا في دينه، وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل، ولكنه كان يصوم شهر رمضان مع المسلمين، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ، ويستعمله في رسائله، ولما مات رثاه الشريف بقصيدته الدالية المشهورة: أرأيت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفا يرثي صابئا، فقال: إنما رثيت فضله. توفي سنة 384. " ابن خلكان 1: 12 ".

(2) ب: " وبينهما ولمرسلات ".

(3) ديوان الرضي، لوحة 194.

(4) الديوان " من العلياء ".

٣٦

و أضمرت منه لفظة لم أبح بها

إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا

فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي

و أوجب بها حقا عليك محققا

و كن لي في الأولاد و الأهل حافظا

إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا

فكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة أولها:

سننت لهذا الرمح غربا مذلقا

و أجريت في ذا الهندواني رونقا(1)

و سومت ذا الطرف الجواد و إنما(2)

شرعت له نهجا فخب و أعنقا

و هي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه يعد فيها نفسه و يعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر و تم المرام، و هذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت، و قال: إني عملتها في أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان كاتب الطائع، و ما كان الأمر كما ادعاه و لكنه خاف على نفسه. و ذكر أبو الحسن الصابي(3) و ابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي و ابنه أبا القاسم المرتضى و جماعة من القضاة و الشهود و الفقهاء و أبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها:

ما مقامي على الهوان و عندي

مقول صارم و أنف حمي(4)

و إباء محلق بي عن الضيم

كما زاغ طائر وحشي

أي عذر له إلى المجد إن

ذل غلام في غمدة المشرفي

____________________

(1) ديوانه، 194.

(2) الطراف: الفرس الأصيل.

(2) هو هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي، حفيد أبي إسحاق الصابي، ذكر صاحب كشف الظنون 290 أن ثابت بن قرة الصابي كتب تاريخا سنة 190 إلى سنة 363، وذيله ابن أخته هلال بن محسن الصابي، وانتهى إلى سنة 447، وذيله ولده غرس النعمة محمد بن هلال ولم يتم.

(3) ديوانه 546 (مطبعة نخبة الأخيار)

٣٧

أحمل الضيم في بلاد الأعادي(1)

و بمصر الخليفة العلوي

من أبوه أبي و مولاه مولاي

إذا ضامني البعيد القصي

لف عرقي بعرقه سيدا الناس

جميعا محمد و علي

و قال القادر للنقيب أبي أحمد: قل: لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا، و أي ضيم لقي من جهتنا، و أي ذل أصابه في مملكتنا(2) ، و ما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا(3) ألم نوله النقابة ألم نوله المظالم، ألم نستخلفه على الحرمين و الحجاز و جعلناه أمير الحجيج، فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر، فقال النقيب أبو أحمد: أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه و لا رأيناه بخطه و لا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحلة إياه و عزاه إليه، فقال: القادر إن كان كذلك فلتكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر و يكتب محمد خطه فيه فكتب(4) محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب أبو أحمد و ابنه المرتضى، و حمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطه فيه حمله أبوه و أخوه فامتنع من سطر(5) خطه، و قال: لا أكتب و أخاف دعاة صاحب مصر و أنكر الشعر و كتب خطه، و أقسم فيه أنه ليس بشعره و أنه لا يعرفه فأجبره أبوه على أن يكتب(6) خطه في المحضر فلم يفعل، و قال: أخاف دعاة المصريين و غيلتهم لي فإنهم معروفون بذلك، فقال أبوه: يا عجباه! أتخاف من بينك و بينه ستمائة فرسخ و لا تخاف من بينك و بينه مائة ذراع و حلف ألا يكلمه و كذلك المرتضى فعلا ذلك تقية و خوفا من القادر

____________________

(1) الديوان: " ألبس الذل في ديار الأعادي "

(2) ب: " في ملكنا ".

(3) ب،: " ضيعتنا ".

(4) ب،: " فكتب محضر "، بالبناء للمجهول.

(5) ب،: " تسطير".

(6) ب،: " يسطر ".

٣٨

و تسكينا له و لما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره، و بعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة و ولاها محمد بن عمر النهر سابسي(1) . و قرأت بخط محمد بن إدريس الحلي الفقيه الإمامي قال: حكى أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرائيني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة و ابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه و أجله و رفع من منزلته و خلى ما كان بيده من الرقاع و القصص، و أقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسمرحمه‌الله فلم يعظمه ذلك التعظيم و لا أكرمه ذلك الإكرام و تشاغل عنه برقاع يقرؤها و توقيعات يوقع بها فجلس قليلا، و سأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد: فتقدمت إليه و، قلت له: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون و هو الأمثل و الأفضل منهما و إنما أبو الحسن شاعر قال: فقال لي إذا انصرف الناس و خلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال و كنت مجمعا على الانصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا، فلما لم يبق إلا غلمانه و حجابه دعا بالطعام فلما أكلنا و غسل يديه و انصرف عنه أكثر غلمانه، و لم يبق عنده غيري قال لخادم: هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام و أمرتك أن تجعلهما في السفط(2) الفلاني فأحضرهما فقال: هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار، و قلت له هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء

____________________

(1) النهر سابسى منسوب إلى نهر سايس، فوق واسط بيوم. " ياقوت ".

(2) السفط بالتحريك، كالجوالق.

٣٩

إلى أخلائهم و ذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال فردها، و كتب إلى هذا الكتاب فاقرأه، قال: فقرأته و هو اعتذار عن الرد و في جملته إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة، و إنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا و لسن ممن يأخذن أجرة و لا يقبلن صلة قال فهذا هذا. و أما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا و قسطنا على الأملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد قد كتب إلى منذ أيام في هذا المعنى، هذا الكتاب فاقرأه فقرأته و هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع و الخشوع و الاستمالة و الهز و الطلب و السؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه. قال فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم و التبجيل هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد و نفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة و نفسه تلك النفس، فقلت: وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقا و الله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه و لا أحله إلا في محله و قمت فانصرفت. و توفي الرضيرحمه‌الله في المحرم من سنة أربع و أربعمائة و حضر الوزير فخر الملك و جميع الأعيان و الأشراف و القضاة جنازته و الصلاة عليه و دفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ، و مضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) ؛ لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته و دفنه و صلى عليه فخر الملك أبو غالب، و مضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره.

٤٠