كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 350

كتاب شرح نهج البلاغة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف: الصفحات: 350
المشاهدات: 90581
تحميل: 7663


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 350 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90581 / تحميل: 7663
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و مما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها(1) :

يا للرجال لفجعة جذمت يدي

و وددت لو ذهبت على برأسي(2)

ما زلت آبى وردها حتى أتت(3)

فحسوتها في بعض ما أنا حاسي

و مطلتها زمنا فلما صممت

لم يثنها مطلي و طول مكاسي

لله عمرك من قصير طاهر

و لرب عمر طال بالأدناس

و حدثني فخار بن معد العلوي الموسويرحمه‌الله قال: رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الإمام في منامه كان، فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) دخلت عليه و هو في مسجده بالكرخ و معها ولداها الحسن و الحسين (عليه‌السلام ) صغيرين فسلمتهما إليه، و قالت له علمهما الفقه فانتبه متعجبا من ذلك فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر، و حولها جواريها، و بين يديها ابناها محمد الرضي و علي المرتضى صغيرين، فقام إليها و سلم عليها، فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله و قص عليها المنام و تولى تعليمهما الفقه(4) و أنعم الله عليهما، و فتح لهما من أبواب العلوم و الفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا و هو باق ما بقي الدهر(5)

____________________

(1) ب: " التي من جملة مرثيته "، وما أثبته عن أ.

(2) ديوانه 131:2.

(3) الديوان:"يازلت أحذر وردها".

(4) ساقط من ب.

(5) وانظر ترجمة الشريف الرضي أيضا في أخبار المحمدين من الشعراء 88 - 89، وإنباه الرواة 3: 114 - 115، وتاريخ ابن الأثير 7: 028، وتاريخ بغداد 2: 246 - 247، وتاريخ أبي الفدا 2: 145، وتاريخ ابن كثير 12: 3 - 4، وابن خلكان 2: 2 - 4، ودمية القصر 73 - 75، روضات الجنان 573 - 579، وشذرات الذهب 3: 182-184، وعيون التواريخ " وفيات 406 "، ولسان الميزان 5: 141، ومرآة الجنان 3: 18 - 20، والمنتظم لابن الجوزي " وفيات 406 "، والنجوم الزاهرة 4: 240، والوافي بالوفيات 2: 374 - 379، ويتيمة الدهر 3: 116 - 135، وله أيضا ترجمة في مقدمة كتابه المجازات النبوية " طبع بغداد " منقولة عن كتاب " تأسيس الشيعة الكرام لفنون الاسلام "، بتحقيق السيد حسن صدر بالدين.

٤١

القول في شرح خطبة نهج البلاغة

قال الرضيرحمه‌الله بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد(1) الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، و معاذا من بلائه و وسيلا إلى جنانه، و سببا لزيادة إحسانه، و الصلاة على رسوله نبي الرحمة و إمام الأئمة و سراج الأمة المنتجب من طينة الكرم، و سلالة المجد الأقدم و مغرس الفخار المعرق و فرع العلاء المثمر المورق، و على أهل بيته مصابيح الظلم و عصم الأمم و منار الدين الواضحة، و مثاقيل الفضل الراجحة فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم و مكافأة لعملهم، و كفاء لطيب أصلهم و فرعهم ما أنار(2 فجر طالع و خوى نجم ساطع2) اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية و لا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف كما فعل القطب الراوندي فإنه شرع أولا في تفسير قوله أما بعد، ثم قال: هذا هو فصل الخطاب، ثم ذكر ما معنى الفصل و أطال فيه و قسمه أقساما يشرح ما قد فرع له منه، ثم شرح الشرح و كذلك أخذ يفسر قوله من بلائه و قوله إلى جنانه و قوله و سببا، و قوله المجد و قوله

____________________

(1) أ: " حمدا ".

(2 – 2)ب: " ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم طالع ". وكذا في مخطوطة النهج.

٤٢

الأقدم، و هذا كله إطالة و تضييع للزمان من غير فائدة و لو أخذنا بشرح(1) مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة و أن نذكر الفصل بينها و بين إما المكسورة، و نذكر هل المكسورة من حروف العطف أو لا، ففيه خلاف و نذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة و مهملة أو عاملة، و نفسر معنى قول الشاعر:

أبا خراشة أما كنت ذا نفر

فإن قومي لم تأكلهم الضبع(2)

بالفتح و نذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة، و لم فتحت هاهنا حيث أضيفت و نخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها. و نبتدئ الآن فنقول قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا هو الفخار بكسر الفاء، : قال و هذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها و هو غير جائز؛ لأنه مصدر فاخر و فاعل يجي‏ء مصدره على فعال بالكسر لا غير، نحو: قاتلت قتالا، و نازلت نزالا، و خاصمت خصاما، و كافحت كفاحا، و صارعت صراعا، و عندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء و تكون مصدر فخر لا مصدر فاخر، فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على فعال بالفتح نحو سمح سماحا و ذهب ذهابا اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا فتزول الشبهة، و العصم جمع عصمة و هو ما يعتصم به و المنار الأعلام واحدها منارة بفتح الميم، و المثاقيل جمع مثقال و هو مقدار وزن الشي‏ء تقول مثقال حبة و مثقال قيراط و مثقال دينار، و ليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة فقوله مثاقيل الفضل أي: زنات الفضل و هذا من باب الاستعارة، و قوله: تكون إزاء لفضلهم أي مقابلة له و مكافأة بالهمز من كافأته أي جازيته و كفاء بالهمز و المد، أي: نظيراً.

____________________

(1) كذا في ج وهو الصوب، وفى باقى الأصول: "لشرح".

(2) البيت لعباس بن مرداس السلمي، وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة."اللسان 183:8".

٤٣

و خوى النجم، أي: سقط و طينة الكرم أصله و سلالة المجد فرعه و الوسيل جمع وسيلة، و هو ما يتقرب به، و لو قال: و سبيلا إلى جنانه لكان حسنا، و إنما قصد الإغراب على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ، و قوله و مكافأة لعملهم إن أراد أن يجعله قرينة لفضلهم كان مستقبحا عند من يريد البديع لأن الأولى ساكنة الأوسط و الأخرى متحركة الأوسط و أما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح و إن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشو السجعة الثانية، و جعل القرينة و أصلهم فهو جائز، إلا أن السجعة الثانية تطول جدا، و لو قال: عوض لعملهم لفعلهم لكان حسنا قال الرضيرحمه‌الله فإني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة (عليه‌السلام ) يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، و جعلته أمام الكلام و فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا (عليه‌السلام ) و عاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام و مماطلات الزمان، و كنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا، و فصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه (عليه‌السلام ) من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الأمثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه و متعجبين من نواصعه، و سألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في جميع فنونه و متشعبات غصونه من خطب و كتب و مواعظ و أدب، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، و غرائب الفصاحة و جواهر العربية، و ثواقب الكلم الدينية و الدنياوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام و لا مجموع الأطراف

٤٤

في كتاب إذ كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) مشرع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها و منه (عليه‌السلام ) ظهر مكنونها، و عنه أخذت قوانينها و على أمثلته حذا كل قائل خطيب و بكلامه استعان كل واعظ بليغ، و مع ذلك فقد سبق و قصروا و تقدم و تأخروا؛ لأن كلامه (عليه‌السلام ) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، و فيه عبقة من الكلام النبوي عنفوان السن أولها و محاجزات الأيام ممانعاتها و مماطلات الزمان مدافعاته و قوله معجبين، ثم قال: و متعجبين فمعجبين من قولك أعجب فلان برأيه و بنفسه فهو معجب بهما و الاسم العجب بالضم، و لا يكون ذلك إلا في المستحسن و متعجبين من قولك تعجبت من كذا، و الاسم العجب و قد يكون في الشي‏ء يستحسن و يستقبح و يتهول منه و يستغرب و مراده هنا التهول و الاستغراب و من ذلك قول أبي تمام

أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب

و آل ما كان من عجب إلى عجب(1)

يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا إما استقباحا له أو تهولا منه و استغرابا، و في بعض الروايات معجبين ببدائعه، أي: أنهم يعجبون غيرهم و النواصع الخالصة و ثواقب الكلم مضيئاتها، و منه الشهاب الثاقب و حذا كل قائل اقتفى و اتبع و قوله مسحة يقولون على فلان مسحة من جمال مثل قولك شي‏ء، و كأنه هاهنا يريد ضوءا و صقالا و قوله عبقة، أي: رائحة

____________________

(1) ديوانه 1: 115، مطلع قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل. المخلس، من قولهم: أخلس رأسه إذا صار فيه بياض وسواد. والقصب: جمع قصبة، وهي خصلة من الشعر تجعل كهيئة القصبة الدقيقة. " من شرح الديوان ".

٤٥

و لو قال عوض العلم الإلهي الكتاب الإلهي لكان أحسن قال الرضيرحمه‌الله فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع، و منشور الذكر، و مذخور الأجر، و اعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أميرالمؤمنين (عليه‌السلام ) في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدثرة و الفضائل الجمة، و أنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر و الشاذ الشارد، فأما كلامه (عليه‌السلام ) فهو البحر الذي لا يساجل، و الجم الذي لا يحافل، و أردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) بقول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

المحاسن الدثرة الكثيرة مال دثر أي كثير و الجمة مثله و يؤثر عنهم أي يحكى و ينقل قلته آثرا أي حاكيا و لا يساجل، أي: لا يكاثر أصله من النزع بالسجل و هو الدلو الملي‏ء(1) ، قال:

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدلو إلى عقد الكرب(2)

و يروى و يساحل بالحاء من ساحل البحر، و هو طرفه أي: لا يشابه في بعد ساحله و لا يحافل، أي: لا يفاخر بالكثرة أصله من الحفل، و هو الامتلاء و المحافلة المفاخرة بالامتلاء ضرع حافل أي ممتلئ.

____________________

(1) الذلو تذكر وتؤنث.

(2) للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، اللسان 13: 346، ونقل عن ابن بري: " أصل المساجلة، أن يستقي ساقيان فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب أصلا للمفاخرة ".

٤٦

و الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي و من هذه الأبيات(1) :

و منا الذي اختير الرجال سماحة

و جودا إذا هب الرياح الزعازع(2)

و منا الذي أحيا الوئيد و غالب

و عمرو و منا حاجب و الأقارع(3)

و منا الذي قاد الجياد على الوجا(4)

بنجران حتى صبحته الترائع

و منا الذي أعطى الرسول عطية

أسارى تميم و العيون هوامع

الترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران، و هو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم.

و منا غداة الروع فرسان غارة

إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع(5)

و منا خطيب لا يعاب و حامل

أغر إذا التفت عليه المجامع(6)

أي: إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها؛ لأنها رماح قصيرة و حامل أي حامل للديات

____________________

(1) من نقيضته لقصيدة جرير التي أولها:

ذكرت وصال البيض والشيب شائع

ودار الصبا من عهدهن بلاقع

وهما في النقائض 685 - 705 " طبع أوروبا "، ويختلف ترتيب القصيدة هنا عن ترتيبها هناك.

(2) رواية النقائض: " منا الذي اختير "، بحذف الواو، وهو ما يسمى بالخرم، فتحذف الفاء من " فعولن "، في أول البيت من القصيدة. وانظر خبر غالب بن صعصعة، أبو الفرزدق مع عمير بن قيس الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري في الأغاني 19: 5 " طبعة الساسي ".

(3) الذي أحيا الوئيد، هو جده صعصعة بن ناجية بن عقال، وغالب أبوه، وعمرو بن عمرو بن عدس، والأقارع: الأقرع، وفراس ابنا حابس بن عقال، وانظر أخبار هؤلاء جميعا في شرح النقائض.

(4) الوجا: الحفا.

(5) منعت، يريد ارتفعت بالسيوف بعد الطعان بالرماح. والأشاجع: عصب طاهر الكف. وفي الديوان " فتيان غارة ".

(6) قوله: " خطيب " نعني شبه بن عقال بن صعصعة. والحامل، يعني عبد الله بن حكيم بن نافد، من بني حوي بن سفيان بن مشاجع، الذي حمل الحملات يوم المربد حين قتل مسعود بن عمرو العتكي، وكان يقال له القرين. والأغر من الرجال: المعروف كما يعرف الفرس بغرته في الخيل، يقول: فهو معروف في الكرم والجود. " من شرح النقائض ".

٤٧

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

بهم أعتلي ما حملتنيه دارم(1)

و أصرع أقراني الذين أصارع

أخذنا بآفاق السماء عليكم

لنا قمراها و النجوم الطوالع(2)

فوا عجبا حتى كليب تسبني

كأن أباها نهشل أو مجاشع

قال الرضيرحمه‌الله و رأيت كلامه (عليه‌السلام ) يدور على أقطاب ثلاثة: أولها: الخطب و الأوامر، و ثانيها: الكتب و الرسائل، و ثالثها: الحكم و المواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم و الأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا و مفصلا فيه أوراقا، ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا و يقع إلي آجلا، و إذا جاء شي‏ء من كلامه الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها، و قررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به، و أشدها ملامحة لغرضه، و ربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة و محاسن كلم غير منتظمة؛ لأني أورد النكت و اللمع و لا أقصد التتالي و النسق قوله أجمعت على الابتداء، أي: عزمت، و قال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال؛ لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر و لا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) (3) .

____________________

(1) النقائض: ما حملتني مجاشع ".

(2) قمراها: الشمس والقمر، فغلب المذكر مع حاجته إلى إقامة البيت.

(3) سورة يونس 71.

٤٨

هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالوا أجمعت الأمر و على الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح(1) على ذلك. و المحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح و المذاكر(2) ؛و مثله المقابح، و الحوار بكسر الحاء مصدر حاورته، أي: خاطبته و الأنحاء الوجوه و المقاصد و أشدها ملامحة لغرضه، أي: أشدها إبصارا له و نظرا إليه من لمحت الشي‏ء و هذه استعارة، يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني، أي: يشابهه كان ذلك الكلام يلمح و يبصر من هذا الكلام قال الرضي (رحمه‌الله ) : و من عجائبه (عليه‌السلام ) التي انفرد بها و أمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد و المواعظ و التذكير و الزواجر إذا تأمله المتأمل و فكر فيه المفكر(3) و خلع من قلبه، أنه كلام مثله ممن عظم قدره و نفذ أمره، و أحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة و لا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى(4) سفح جبل لا يسمع إلا حسه و لا يرى إلا نفسه، و لا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب و يجدل الأبطال و يعود به ينطف دما و يقطر مهجا، و هو مع تلك الحال زاهد الزهاد و بدل الأبدال، و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد و ألف بين الأشتات، و كثيرا ما أذاكر الإخوان بها و أستخرج عجبهم منها و هي موضع العبرة بها(5) و الكفرة فيها

____________________

(1) الصحاح 3: 1198.

(2) ب: " المذاكير "، وما أثبته عن أ.

(3) ب: " المتفكر "، وما أثبته عن أ.

(4) مخطوطة النهج: " في سفح ".

(5) كلمة " بها " ساقطة من ب، وهي في أ.

٤٩

قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده، و كذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه و كل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع و كسر البيت جانب الخباء، و سفح الجبل أسفله و أصله حيث يسفح فيه الماء و يقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا، كما قاله الراوندي و إنما ذاك القد قددته طولا و قططته عرضا، قال ابن فارس صاحب المجمل، قال ابن عائشة: كانت ضربات علي (عليه‌السلام ) في الحرب أبكارا إن اعتلى قد و إن اعترض قط و يجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة، و هي وجه الأرض و ينطف دما يقطر و الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث. كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد(1) ذكره الرضي (رحمه‌الله )، و هو موضع التعجب؛ لأن الغالب على أهل الشجاعة و الإقدام و المغامرة و الجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية و فتك و تمرد و جبرية، و الغالب على أهل الزهد و رفض الدنيا و هجران ملاذها و الاشتغال بمواعظ الناس و تخويفهم المعاد، و تذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة و لين و ضعف قلب، و خور طبع و هاتان حالتان متضادتان و قد اجتمعتا له (عليه‌السلام ). و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و إراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية و طباع حوشية و غرائز وحشية، و كذلك الغالب على أهل الزهادة و أرباب الوعظ و التذكير و رفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق و عبوس في الوجوه و نفار من الناس

____________________

(1) كلمة " قد " ساقطة من ب.

٥٠

و استيحاش و أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) كان أشجع الناس و أعظمهم إراقة للدم، و أزهد الناس و أبعدهم عن ملاذ الدنيا، و أكثرهم وعظا و تذكيرا بأيام الله و مثلاته، و أشدهم اجتهادا في العبادة و آدابا لنفسه في المعاملة، و كان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا و أسفرهم وجها و أكثرهم بشرا، و أوفاهم هشاشة و أبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهم مباعد، أو غلظة و فظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدر معهما قلب حتى عيب بالدعابة، و لما لم يجدوا فيه مغمزا و لا مطعنا تعلقوا بها و اعتمدوا في التنفير عنه عليها، و تلك شكاة ظاهر عنك عارها(1) ، و هذا من عجائبه و غرائبه اللطيفة. و منها أن الغالب على شرفاء الناس، و من هو من أهل بيت السيادة و الرئاسة أن يكون ذا كبر و تيه و تعظم و تغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى، و كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في مصاص الشرف و معدنه و معانيه لا يشك عدو و لا صديق، أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، و قد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها، و مع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير و كبير، و ألينهم عريكة، و أسمحهم خلقا و أبعدهم عن الكبر، و أعرفهم بحق، و كانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته

____________________

(1) " الشكاة توضع موضع العيب والذم، وعير الرجل عبد الله بن الزبير بأمه، فقال ابن الزبير: * وتلك شكاة طاهر عنك عارها * أراد أن تعبيره إياه بأن أمه كانت ذات النطاقين ليس بعار. ومعنى قوله: " طاهر عنك عارها "، أي ناب، أراد أن هذا ليس عارا يلزق به، وأنه يفخر بذلك، لأنها إنما سميت ذات النطاقين، لأنه كان لها نطاقان تحمل في أحدهما الزاد إلى أبيها وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وكانت تنتطق بالنطاق الآخر، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها ". اللسان: " 19: 171 "، وديوان الهذليين (1: 21)، وهذا العجز لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: * وعيرها الواشون أني أحبها *

٥١

و الزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة و لا أحالت خلقه الرئاسة، و كيف تحيل الرئاسة خلقه و ما زال رئيسا و كيف تغير الإمرة سجيته و ما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا و لا اكتسب بها زينة، بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم، تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر و علي، و قالوا: فأكثروا فرفع رأسه إليهم، و قال: قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة، و لكنه زانها، و هذا الكلام دال بفحواه و مفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة، و تممت نقصه و أن عليا (عليه‌السلام ) لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة، و كانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتم نقصها بولايته إياها. و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و قتل الأنفس، و إراقة الدماء، أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو؛ لأن أكبادهم واغرة و قلوبهم ملتهبة و القوة الغضبية عندهم شديدة، و قد علمت حال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في كثرة إراقة الدم، و ما عنده من الحلم و الصفح و مغالبة هوى النفس، و قد رأيت فعله يوم الجمل و لقد أحسن مهيار في قوله(1) :

حتى إذا دارت رحى بغيهم

عليهم و سبق السيف العذل

عاذوا بعفو ماجد معود

للعفو حمال لهم على العلل

فنجت البقيا عليهم من نجا

و أكل الحديد منهم من أكل

أطت بهم أرحامهم فلم يطع

ثائرة الغيظ و لم يشف الغلل

و منها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط، كان عبد الله بن الزبير شجاعا و كان أبخل الناس، و كان الزبير أبوه شجاعا و كان شحيحا قال له عمر: لو وليتها لظلت تلاطم الناس

____________________

(1) من قصيدة في ديوانه 3: 901 - 611 يذكر فيها مناقب الإمام علي وما منى به من أعدائه.

٥٢

في البطحاء على الصاع و المد، و أراد علي (عليه‌السلام ) أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارك الزبير في أمواله و تجاراته فقال: (عليه‌السلام ) أما إنه قد لاذ بملاذ و لم يحجر عليه و كان طلحة شجاعا و كان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر، و كان عبد الملك شجاعا و كان شحيحا يضرب به المثل في الشح، و سمي رشح الحجر لبخله، و قد علمت حال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في الشجاعة و السخاء كيف هي، و هذا من أعاجيبه أيضا (عليه‌السلام ). قال الرضي (رحمه‌الله ) : و ربما جاء(1) في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد و المعنى المكرر و العذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية، فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار و غيره على عقائل الكلام، و ربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا أو اعتمادا و لا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه (عليه‌السلام )، حتى لا يشذ عني منه شاذ، و لا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي و الحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي، و ما علي إلا بذل الجهد و بلاغة الوسع و على الله سبحانه نهج السبيل و إرشاد الدليل. و رأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، و يقرب عليه طلابها و فيه حاجة العالم و المتعلم و بغية البليغ و الزاهد، و يمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد و العدل و تنزيه الله سبحانه و تعالى عن شبه الخلق، ما هو بلال كل غلة و شفاء كل علة و جلاء كل شبهة، و من الله أستمد التوفيق و العصمة، و أتنجز التسديد و المعونة، و أستعيذه من خطإ الجنان قبل خطإ

____________________

(1) ب: "كان".

٥٣

اللسان، و من زلة الكلم قبل زلة القدم، و هو حسبي و نعم الوكيل في أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق و أعذاق و الغيرة بالفتح و الكسر خطأ و عقائل الكلام كرائمه، و عقيلة الحي كريمته، و كذلك عقيلة الذود و الأقطار الجوانب واحدها قطر و الناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة، و قوله و على الله نهج السبيل، أي: إبانته و إيضاحه نهجت له نهجا، و أما اسم الكتاب فنهج البلاغة، و النهج هنا ليس بمصدر، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه، و الطلاب بكسر الطاء الطلب و البغية ما يبتغى و بلال كل غلة بكسر الباء ما يبل به الصدى، و منه قوله انضحوا الرحم ببلالها، أي صلوها بصلتها و ندوها(1) ، قال أوس:

كأني حلوت الشعر حين مدحته

صفا صخرة صماء يبس بلالها(2)

و إنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان؛ لأن خطأ الجنان أعظم و أفحش من خطإ اللسان، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه، و هو غير معتقد للكفر بقلبه، و إنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم؛ لأنه أراد زلة القدم الحقيقية و لا ريب أن زلة القدم أهون و أسهل؛ لأن العاثر يستقيل من عثرته و ذا الزلة تجده ينهض من صرعته، و أما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها و لا ينهض صريعها، و طالما كانت لا شوى(3) لها قال أبو تمام:

يا زلة ما وقيتم شر مصرعها

و زلة الرأي تنسى زلة القدم(4)

____________________

(1) اللسان –بلل، وفى الطبعة الأولى "أنضجوا"، تحريف.

(2) يهجو الحكم بن مروان بن زنباع، اللسان 31: 76، 81: 012 وحلا الرجل الشئ يحلوه، أعطاه إياه، أي جعل الشعر حلوانا له مثل العطاء.

(3) لا شوى لها، أي لا برء لها، قال الكميت: أجيبوا رقي الآسي النطاسي واحذروا * مطفئة الرصيف التي لا شوى لها

(4) ديوانه 3: 491، وروايته: " يا عثرة ما وقيتم ".

٥٤

باب الخطب و الأوامر

٥٥

٥٦

قال الرضي (رحمه‌الله ) : باب المختار من خطب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) و أوامره و يدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة، و المواقف المذكورة، و الخطوب الواردة المقامات جمع مقامة، و قد تكون المقامة المجلس و النادي الذي يجتمع إليه الناس، و قد يكون اسما للجماعة و الأول أليق هاهنا بقوله المحضورة، أي: التي قد حضرها الناس. و منذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) و نجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه الأصل فإذا أنهيناه قلنا الشرح فذكرنا ما عندنا فيه و بالله التوفيق

1. فمن خطبة له (عليه‌السلام ) يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم

(اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ)

٥٧

الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما، تقول حمدت زيدا على إنعامه، و مدحته على إنعامه، و حمدته على شجاعته، و مدحته على شجاعته، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله، كما ذكرناه من المثالين، فأما الشكر فأخص من المدح؛ لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد. إن قيل الاستعمال خلاف ذلك؛ لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد. قيل: ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان، فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد، و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر، و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه. ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم، فإن استعمل شي‏ء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان، فإن الاستعمال لا يساعدهم؛ لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم، و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني، بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي، فأما

٥٨

أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية(1) و الإمامية(2) ،أو تؤخذ معه أمور أخرى، و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة(3) ،و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية(4) ، فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا، و نظروا إلى مجرد الظاهر، فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا. و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس(5) ؛ و المعنى مطروق جدا، و منه في الكتاب العزيز كثير، كقوله تعالى:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها ) (6) و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و قال الكتاب(7) من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم، الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها، و إن عجزنا عن إحصائها و عدها، و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد:

فما بلغت كف امرئ متناول

بها المجد إلا و الذي نلت أطول(8)

____________________

(1) الأشعرية هم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري، وهي جماعة الصفاتية، الذين يثبتون لله تعالى الصفات الأزلية، كالعلم والقدرة والحياة وغيرها. وانظر الكلام عليهم في الملل والنحل للشهرستاني 1: 85 - 94.

(2) الامامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام، وهم فرق متعددة ذكرهم الشهرستاني في الملل والنحل 1: 144 - 154.

(3) المعتزلة ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، انظر أيضا الكلام عليهم، وتعداد فرقهم في المصدر السابق 1: 49 - 78.

(4) الكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، عدهم الشهرستاني من جماعة الصفاتية، لأنهم كانوا ممن يثبتون الصفات، إلا أنهم انتهوا فيها إلى التجسيم والتشبيه، الملل والنحل 1: 99 - 104.

(5) أ: " كالركبة والجلسة هيئة الركوب والجلوس ".

(6) سورة إبراهيم 34، النحل 18.

(7) ب: " في الكتاب "، وكلمة " في " مقحمة.

(8) ديوانها 184، والرواية هناك

فما بلغت كف امرئ متناول

بها المجد إلا حيث ما نلت أطول

وما بلغ المهدون في القول مدحة

ولا صفة إلا الذي فيك أفضل

٥٩

و لا حبر المثنون في القول مدحة

و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل

و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ(1) الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية:

الحمد لله بقدر الله

لا قدر وسع العبد ذي التناهي

و الحمد لله الذي برهانه

أن ليس شأن ليس فيه شانه

و الحمد لله الذي من ينكره

فإنما ينكر من يصوره

و أما قوله الذي لا يدركه، فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت، فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق؛ لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء، يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة، مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم، مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة، و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع(2) لم يكن متصورا. فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود، فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته. يقول: ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة؛ لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب. ثم قال و لا نعت موجود، أي: و لا يدرك(3) بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها، و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها، ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا

____________________

(1) أ: " بلفظة ".

(2) ب: " جميعا ".

(3) ب: " لا يدرك "، من غير واو.

٦٠