المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية0%

المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 220

  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27769 / تحميل: 6453
الحجم الحجم الحجم
المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

المجتبى عليه السلام بين وميض الحرف ووهج القافية

مؤلف:
العربية

في الحالتين نوع من التحفيز والإثارة التي يُحدثها الموضوع، وربّما هناك جانب من الضغط والقسرية يُشاغل التجربة من خلال الظلال التي تنسحب من الموضوع على النتاج بشكل أو بآخر على محور الاختيار والانتقاء في عملية بناء النص، ممّا يُشكّل إعاقة أو حاجزاً نفسياً وخصوصاً في المراحل الأوّليّة الابتدائية من التجربة، ومع انّ هذا التفريق يجد له حيّزاً من الحقيقة بلا شكّ لكنّني أرى - على مستوى التجربة الشعرية - انّ الشاعريّة الحقّة لا تعدّ الموضوع قانوناً قسريّاً يمنعها من التحقّق والامتداد فلا جديد تحت الشمس على مستوى المواضيع، فالتفرّد والإبداع في تجدّد متواصل عبر مسيرة البشرية ونشاطاتها الحيوية، فالشاعر معنيّ باكتشاف البدائل والمعادلات الشعرية والمداخل الوجدانية الجديدة لنفس الأفكار والمواضيع والاطروحات القديمة، وهذا التحديد هو من صميم عملية اختياره وانتقائه التي يُجرّبها بوعي فني نفّاذ وإدراك جمالي متقدّم.

3 - انّ مساحة الفعل الأخلاقي وحقل ممارسته تشمل مواضيع الحياة كافة بلا اختيار ولا انتقاء ولا فرز ولا تفضيل، في حين انّ التجربة الجمالية قائمة على ذلك ممّا يقلّل من مساحتها التي تتفاعل عليها مع مفردات الحياة.

وبنفس الطريقة فالوقت الذي تصرفه من حياتنا لنعايش الضوابط والمقرّرات الأخلاقية هو أكثر بكثير من الوقت الذي نستغرقه مع التجربة الجمالية عموماً، ومع كون هذا التفريق لا يحدّد الأفضلية لجانب دون غيره، لكنّه يبيّن أولوية جانب على آخر ويعطيه تراتبيّة مقرّرة سلفاً، فيصبح بالإمكان إنشاء مدخلية أخلاقية للتجربة الجمالية باعتبارها نشاطاً منزّهاً عن الغرض على الأقل في حالة إدراكها، ممّا يترتّب عليه سلوك أخلاقي خيّر واضح كل الوضوح، وإذا أضفنا إلى ذلك الممارسة الشعائرية العبادية في التطابق السلوكي

١٦١

مع ما اُمرنا به من إحياء وتعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى وتبعاً لذلك إحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام ، أصبح الموضوع لا يشكّل ضغطاً أو قسراً بقدر ما يشكّل تحفيزاً وإثارة تبحث عن الاستجابة.

4 - انّ من طبيعة المواضيع التي يتعاطاها كل محبّ وموّال لآل بيت العصمةعليهم‌السلام أن يبرز منها واقع شعوري وجداني متحقّق من تفاعل مع شهادة وفقدان مرير، إلى تناغم مع ولادة ووجدان أثير، فكلتا الحالتين فيّاضة بالعواطف السامية، جيّاشة بالمشاعر الإنسانية الحقّة، دفّاقة بالأحاسيس الحيّة الأصيلة، ممّا يؤكّد بروز السمة المتولّدة من الموضوع المعالج والأثر المستتبع له، وبتعاضد هذا الاستعداد النفسي والقابلية الشعورية مع آثار المدخلية الأخلاقية والتشريعية في كسب الأجر الأخروي وتحصيل الثواب، تتحفّز الدوافع الخيّرة أخلاقياً وتثار الإمكانات الفنية جمالياً فلا يعدم الشاعر الحقيقي الأصيل وسيلة ليهزّ شجرة الإبداع لتتساقط ثمار الولاء والحبّ ناضجة طريّة في أكفّ المتلقّين المتشوقين للأصيل المتجدّد والجديد المتأصّل.

على أنّي أؤشر لنصوص هذه المجموعة عدم إبلائها اهتماماً للسمة المتولّدة عن موضوع ولادة الإمام الحسنعليه‌السلام ، فهي نصوص تقترب من الفرح بحذر وسرعان ما تبتعد عنه مؤثّرة أرضيات الحزن والمأساة على أجواء الفرح وفضاءات السرور.

هناك شوق عارم لدى المتلقّي أو القارئ ليعاصر ويزامن شاعراً ما أثناء كتابته لقصيدة جديدة، فيعيش المتلقّي - وفقاً لذلك - عصر النص الشعري أو الأدبي أو الفنّي بطزاجته ويناعته وطراوته وجدته.

حبّذا لو كان المتلقّي قريباً من النص وصاحبه ليسائله ويكاشفه لغرض تعميق درجات الإدراك الجمالي ووعي التجربة، لكنّ ما يحدث غالباً بعيد عن

١٦٢

هذا الحلم والرغبة المتوسّلة بان يكون التواصل حميمياً وخلاّقاً، فهناك فجوة في قنوات التوصيل يتحمّلها الطرفان - الشاعر والقارئ في هذا المثال - فيقوم شخص ثالث بمهمّة المصالحة وتقريب وجهات النظر وترتيب مستلزمات اللقاء الحقيقي وهذا الشخص هو الناقد.

هذا التدخّل بين القارئ والنص له ما يُبرّره عندما يحاول تكوين حالة من الشعور والوعي الأفضل في ذهن المُتلقّي، ليشدّ الانتباه إلى قراءة اُفق أوسع تكون أكثر إرضاءً وإمتاعاً من خلال إدراك ما هو مميّز في النتاج الشعري أو من خلال كشف مستويات جديدة في العمل، وفي النتيجة يكون هذا التدخّل تدخّلاً لتدريب الحساسيّة أثناء القراءة ولإرهاف الذوق وتحفيز الاهتمام بالعمل الفنّي أو الأدبي، وربّما وصل - على مستوى الأهداف والغايات الأكبر - إلى جعل عملية التلقّي إبداعاً له خصوصياته وفرادته.

والمسلّم به أنّ الناقد قارئ نوعيّ للنصوص، أو هو قارئ متفوّق يُحسن قراءة النص بدرجة أعلى بكثير من درجة الصفر التي تُحدّد بداية التواصل بين قارئ مبتدئ ونص، ومحاولتنا هنا مُقيّدة بتحليل وتشريح النصوص لا تقويمها والحكم عليها، بمعنى أنّنا نحاول أن نجيب على سؤال: كيف كُتِب هذا النص؟

هذا التفحّص النقدي لا يُحاول الاستغراق في المعلومات الخاصّة، ليعرض عضلاته الثقافية والمعرفية بقدر ما يحاول - إن استطاع - أن يسلّم القارئ مفاتيح النصوص من خلال التعرّف والوصول إلى بعض بواباتها المغلقة، فنحن نحاول كشف الطرق التعبيرية والأساليب الفنية وكفاءة الأدوات التي يستخدمها الشعراء هنا، لذا عالجنا كلّ نص حسب الظاهرة الاُسلوبية الأكثر وضوحاً فيه، مع غضّ النظر عن الظواهر الاُخرى الموجودة في ثنايا النصوص

١٦٣

وطيّاتها، وهي محاولة للتعرّف على المستويات المتعدّدة التي يطرحها النقد لتشريح النصوص وتحليل بناءاتها المعقّدة.

فتفحّصنا المستوى العروضي في قصيدة فرات الأسدي ( البوح المشتهى ) ومحاولته في الخروج على البُنى الإيقاعية التقليدية بحسّ تركيبي إيقاعي جديد يعتمد على تشابه الأجزاء في التراكيب التقليدية، ولكن بتجريب جديد لتراسل الأوزان والأبحر الشعرية.

ورأينا المستوى المعجمي والمستوى الصوتي هما الأكثر وضوحاً للمعالجة النقدية في قصيدة نزار سنبل ( قراءات في وادي السنا )، واكتشفنا في نصّه ظاهرة أسميناها ( رنين الرويّ ) ربّما سنتوسّع معها في مقبل الأيام لتأشيرها وتوضيحها والتنظير لها.

ودرسنا المستويين التركيبي والدلالي في قصيدة علي الفرج ( صوفية جرح ) مع تأشير الاستخدام السردي والتصوّر الحكائي في المقدمة الشعرية الحرّة التي أوردها الشاعر قبل قصيدته.

ومع قصيدة ( سمات البقيع ) الجأنا قاسم آل قاسم إلى تتبّع مضامينه واُطروحاته الفكرية على المستوى البنائي للقصيدة الذي خرج به الشاعر من مألوفه عندما نظم قصيدته شعراً حرّاً.

ومع يقين البصري في مقدّمته وقصيدته ( الندى المحترق ) لاحظنا تلاحم الموقفين الجمالي والأخلاقي عنده، وكذلك درسنا آلية تداخل النصوص ( التناص ) والمقابسة.

ومع قصيدة ( كبدي وجراحك الخضراء ) لمعروف عبد المجيد، نظرنا إلى مسألة استبطان الحدث والواقعة التاريخية وكيفية المعالجة الفنّية للوقائع ووسائل الإخبار والإبلاغ الفنّي.

١٦٤

وختاماً آمل أن تجد هذه المحاولة مَن ينتفع بها في مسايرتها لهذه النصوص واحتفائها بمنهج ربّما لم تتكامل معه بالشكل المطلوب، لكنّها في الأقل محاولة لا تدّعي التأسيس في مرحلة غياب المحاولات الرائدة.

والله من وراء القصد.

١٦٥

١٦٦

قراءات في وادي السنا

الشيخ نزار سنبل

قرأتُ حبّك منقوشاً على اُفقٍ

تضجّ فيه دموعُ الورد والشفقِ

قرأت فيه حياتي كلّ دائرتي

ففي الفؤاد حكايا آخر الرّمق

وخاطبتْ لغتي أقلامَ محبرتي:

هوى المحبّين حرفٌ من دم الحَدَق

تذوب كلّ لغات الزهر حين هوت

على يديه طيور العشق فاحترقي

* * *

قرأتُ فجركَ يا أحلام قافيتي

فاُلهبت في دمي أثوابُه الخضرُ

وكان يشرق ملء الأرض هالتُه

يضيء يبسم لكنّ المدى جَمُر

يسلّ من وجع العشّاق إبرته

فتنطفي الروح والأحلام والكِبَر

وما تعوّد أو ألقاه مُنكسراً

حتى تكسَّر في شطآنه البحر

* * *

قرأتُ ليلك مشدوهاً على سفرِ

تئنُّ فيه حكايا الدّمع والسهرِ

رأيتُ روحاً تمدّ الكون سابحةً

تشدّ خيط شعاع الشمس بالقمر

١٦٧

رأيتُ ظلاًّ شفافيّ الرؤى ألِقاً

يرشَّ أفنيةَ الأيام بالزّهر

رأيتُ شيئاً وما أدركتُ صورته

وحسبُ روحي أن تفنى على قَدَر

* * *

قرأتُ عصرك أصناماً مُحنّطةً

وسُجَّداً حولها تبكي بلا أملِ

تعثّرت في كهوف الليل وانطفأت

حتى الشموع التي ترنو على خجل

وكنتَ تلمح خلف الغيب قاحلة

تذيب كل معاني الوحي والمُثل

وكانت الفأس في كفيك غاضبةً

فحطّمتْ كلّ مجد صيغ بالحيل

وإن سعيت إلى الجلّى بلا وجل

فإنَّ رُوحك من روح الإمام علي

* * *

قرأتُ كلّ دوالي الورد بوحَ مُنى

وصرتُ أقطفُ من ثدي النخيل جَنى

وصغت من ولهي اُنشودة رُسِمَتْ

على دروب الحيارى التائهين سَنا

وناغمت بسماتُ الطير ساقيتي

فرفَّ من حُلُمِ الواحات ما سَكنا

وما تحيّرت في حسن أبادله

حلو الأحاديث إلاّ الوحي والحَسَنا

* * *

١٦٨

• الشيخ نزار سنبل:

لأنّ الشيخ نزار سنبل شاعر يحتفي ويحنو على المفردات اللّغوية بشكل يقدّمها على الإمكانات والأدوات الاُخرى في العملية الشعرية، فسوف نسائله وفقاً لمعطيين من معطيات المفردة ونترك غيرها عملاً بالاختصار والإيجاز المطلوبين لهذه الدراسة المتعجّلة.

أولاً سندلّل: كيف انّ الشاعر شاعر مفردات أساساً؟ ثم نعرّج على التفريعات الاُخرى، من المسلّم به انّ التجربة الشعرية ظاهرة لغوية أساساً، لها طبيعة خاصة بها، لكنّها على أرض الواقع لغة أوّلاً وآخراً، وهي بالتالي كلمات أو مفردات لغوية وأشياء اُخرى، لكنّ النظام المعجمي الذي يحفظ اللغة ويصونها هو مجموعة كلمات وألفاظ، ونحن نبدأ - على العموم - في تعلّم لغة معينة من خلال تعلّم مفرداتها اللغوية، فالحال انّ مستوى استخدام الألفاظ في التجربة الشعرية له ضرورته التي لا تُنكر.

لكنّنا نرى عند الشيخ نزار سنبل احتفاء خاصاً بالمفردات بشكل واضح على محور اختياره لها، بحيث نرى هناك قصدية لا تستتر في عملية الاختيار في أغلب قصائده، ويمكننا أن نحدّد سياقاً أو نمطاً لاختياراته في كلّ قصيدة.

وسنسمّي هذا النمط المستخلص من قصيدته ( قراءات في وادي السنا ) بالنمط الريفي الزراعي الذي نجده ينظم غالبية ألفاظ القصيدة بالشكل الذي يجعل الإشارة واضحة معلومة، ويدعم التصوّر الأوّلي ليكون مبتوتاً بصحّته من خلال عملية الاستقصاء والتصنيف فسنجد مثلاً: في المقطع الأوّل ( الاُفق، الورد، الشفق، الزهر، طيور ).

وتنتظم في المقطع الثاني كلمات ( فجر، الخضر، يشرق ملء الأرض هالته، المدى، شطآن، البحر ) ليقترب أكثر من بيئته التي استمدّ منها

١٦٩

كفايته اللغوية.

ونحدّد في المقطع الثالث ( خيط شعاع الشمس، يرش بالزهر ) على مستوى التركيب.

فهو في قراءاته الثلاث الاُولى ( قرأت حبّك، قرأت فجرك، قرأت ليلك ) لم يغادر الرؤى الريفية الزراعية التي تنظم اختياره على محور واضح، لكنّه في المقطع الرابع من القصيدة يقرأ شيئاً آخر ( قرأتُ عصركَ ) فينتبه إلى المفارقة بين قراءاته للعصر وبين قراءاته للرؤى الريفية الزراعية التي يحمّلها بالمعاني على محور الدلالة في كلماته المختارة فلا يأتي بشيء منها في هذا المقطع، لكنّه على سبيل الموازنة يوظّف المقطع الأخير لإبراز هذه الرؤى وبكثافة فنرى ( دوالي الورد، أقطف من ثدي النخيل جنى، انشودة، بسمات الطير، حلم الواحات ).

ونسمّي نمطاً آخر من أنماط اختياره لمفردات تنتظم في سياق خاص بالنمط اللغوي، وهذا النمط معني بانتقاء ألفاظ تعبّر عن ظواهر اللغة والكلام والقول فيظهر لنا الاستقصاء ما يلي ( قرأتُ حبّكَ، قرأتُ فيه، حكايا آخر الرمق، خاطبتْ لغتي أقلام محبرتي، هوى المحبّين حرف، لغات الزهر، قرأتُ فجركَ، أحلام قافيتي، قرأتُ ليلكَ، حكايا الدمع والسهر، قرأت عصركَ، معاني الوحي، قرأت كلّ دوالي الورد بوح منى، صغت من ولهي انشودة، حلو الأحاديث ) ممّا يؤكّد القصدية في الاختيار مع الجهد الواضح في بعثرة هذا التوجّه لتحقيق العفوية والتلقائية في النص، لكنّنا نلاحظ في المقطع الثالث انّ الشاعر قد كشف - بلا قصد - عن التنظيم في إعطائه الأولوية للمفردات في حالة تكرّر فعل ( رأيت ) ثلاث مرات في بدايات البيت الثاني والثالث والرابع من المقطع فنرى على التوالي ( رأيت روحاً، رأيت ظلاًّ، رأيت شيئاً وما أدركت

١٧٠

صورته ) وهذا التدرّج في الكشف عن دلالة اللفظ الأوّل ( روحاً ) في التتابع ( ظلاًّ ) يمنحنا مفتاحاً في تعامل الشاعر مع الألفاظ لنراه يدور حول الألفاظ التي يعتني بها مثل لفظة ( روح ) التي سيقول عنها في البيت الرابع بعد نفس الفعل ( رأيت ):

رأيت شيئاً وما أدركتُ صورته

وحسب روحي أن تفنى على قدرِ

ليكمل دورة اختياره بنفس اللفظة ( وحسب روحي ) ممّا يدعم فرضية اهتمامه بالمفردات على المستوى الدلالي.

لكنّنا نكتشف جانباً آخر من هذا الاهتمام اللّغوي بالمفردات لدى الشاعر على المستوى الصوتي، هذا الاهتمام الذي يختفي بشكل أعمق وأبعد من الظهور، ممّا يقرّبه لحالة الاستخدام اللاشعوري ويبعده عن القصدية والتعمّد وهذا الجانب له بُعد غائر وعميق لعلّنا نفرد له بحثاً خاصاً عندما نجده عند غيره من الشعراء. وسنطلق على هذا الجانب من المستوى الصوتي تسمية مؤقتة هي ( رنين الرّوي ).

إنّ القافية في الشعر تعتمد على تكرار حرف أو عدّة حروف في نهايات الأشطر أو الأبيات، وفي الشعر العمودي تأخذ شكل بناء شاقولي من الخارج، وهي رغم اعتمادها على جرس حرف الرُّويّ وما قبله وما بعده فهي كذلك تسور القصيدة العمودية بسور إيقاعي ضاغط بحيث يجتهد الشاعر بالإتيان بها سلسلة محقّقة للمتطلبات الشعرية الاُخرى، وتظل تشاغله في عملية الكتابة فكأنّها تضغط برنين روِّيها - لا شعورياً - على البيت الشعري بشكل استباق منذ بداية تشكّله، ممّا يقتضي مراعاته والاهتمام بشروطه.

هذا الضغط يؤثّر على الألفاظ المختارة في صدر البيت وعجزه بما يولّد استعداداً مسبقاً ينكشف على اللاشعور في عملية الكتابة، فيبدأ بالمناوشة

١٧١

بشكل حضور لنفس حرف الرُّوي في متن البيت بسبب من رنين حرف الروي الذي ينتظر تشكّله في كلمة ملائمة.

ولشرح هذا البعد الصوتي الغامض سنلاحظ المقطع الأوّل من قصيدة الشاعر فنرى حرف القاف:

في البيت الأوّل في ألفاظ ( قرأت، منقوشة ).

وفي البيت الثاني ( قرأت ).

وفي البيت الثالث ( أقلام ).

وفي البيت الرابع ( العشق ).

وفي المقطع الثاني حيث حرف الروي هو حرف الراء نرى:

في البيت الأوّل ( قرأت، فجرك ).

في البيت الثاني ( يشرق، الأرض ).

في البيت الثالث ( ابرته، الروح ).

وفي البيت الرابع ( منكسراً، تكسر ).

وهكذا في المقطع الثالث أيضاً حيث حرف الروي هو حرف الراء أيضاً:

ففي في البيت الأوّل ( قرأت ).

وفي البيت الثاني ( رأيت، روحاً ).

وفي البيت الثالث ( رأيت، الرؤى، يرش ).

وفي البيت الرابع ( رأيت، ادركت، صورته، روح ).

ومع حرف اللام في المقطع الرابع نرى:

في البيت الأوّل ( حولها، بلا ).

في البيت الثاني ( الليل، التي، على ).

وفي البيت الثالث ( تلمح، خلف، الغيب، قاحلة، كل، الوحي، المثل ).

١٧٢

وفي البيت الرابع ( الفأس، كل، بالحيل ).

وفي البيت الخامس ( إلى، الجلّى، بلا، وجل، الامام ).

وأخيراً نرى نون المقطع الأخير:

في البيت الأوّل منه ( منى، كنت، من، النخيل ).

وفي البيت الثاني ( من، انشودة، التائهين ).

وفي البيت الثالث ( ناغمت ).

وفي البيت الرابع ( حسن ).

وهذه الظاهرة يمكن أن تستقصي في الشعر العربي قديمه وحديثه، لتحدّد على المستوى الصوتي الذي يشكّل جانباً حيوياً أصيلاً في تكوين التجربة الشعرية وامتدادها وحضورها كنوع أدبي متميز.

بقي لنا مع نصّ الشيخ نزار سنبل ملاحظة عامّة من قدرته في إعطاء أكثر من مدخل لمعالجته، مع اكتفائنا بهذا المدخل التشريحي المبسط لمستوى الاختيار اللّغوي والمستوى الصوتي المرتبط بنظام التقفية وهو في طور التجريب المستمر المنفتح على ما يُتاح من إمكانات تعبيرية وتوصيلية، ففي هذه المعالجة النقدية أكثر من فائدة لتجربته ولتجارب الشعراء الآخرين ممّن نتوخّى فيهم مواصلة الإبداع ورفده بكلّ جديد.

١٧٣

١٧٤

سمات البقيع

الشيخ قاسم آل قاسم

إذا شئتَ أن تقرأ الوحي، أن تكتب الوحي، أو أن تقولْ ...

فلا بد أن تستشفّ البقيع لتصبح وحياً وتصبح بعض معاني الرسول

إذا شئت أن ترسم النور أو تنحت النور فارحل مع الشّمسِ.

لا تنتظر أن تضيق دائرة الاُفقِ

فكم ألّم العاشقين الاُفولْ.

إذا شئت أن تسمع الوحي لا تخش أن تدع الناس تغرقُ نحو السّماء

تطرق أبوابها وحلّق إلى الأرض خلف البقيع ..

ولا تنسَ أن تطرق الباب كما كان يطرقه جبرئيل.

وقف خاشعاً خلف أعتابه واطرقِ وإن شئت فاجثُ على الأرضِ

كي تستعير من الزغب، زغبَ الملائكِ شيئاً لترسم وجه ( الحسن )

ولن تستطيع

لأنّك حين تحاول أن ترسم بعض معانيه يسمو، لأنّ ( الحسنْ )

١٧٥

فوق ضيق المسافات فوق الزمن

ولن تستطيع

لأنّك حين استضفت القوافي وقاموسك الأبجديّ

حكمتَ بأنّ على الفن أن يتنازل عن عرشه

ليسجن بين زواياك بين حدود القلمْ

وحتى لو انّ رؤاك خيال السماوات لن تستطيع

لأنّ الذي دونه حسن والذي تبتغيه ( الحسنْ )

وكل الذي ها هنا هو منه، لذاك أبى القوم تشييعه ونفوا نعشَهُ

وظنّوا بأنَّ ثراه يضيع.

وما علموا أن بُردته ستكون ( البقيعْ )

وما علموا أنّه توشك الأرض تنشق عن مثلِهِ

ألف جيل ويأتي يصلّي على قبره جبرئيلْ

لأنّ التراب ارتوى عبق الوحي منه،

وفي كل شبر من الأرض كل التراب يحدِّث عنه

فيا قومنا: حطّموا المئذنهْ، أزيلوا القبابْ

فلا تستطيعون محو التراب ولا تقدرون بأن تخرسوا ألسُنَهْ

لكيلا يكون الحسن:

عليكم بان تذبحوا كل فنٍّ، وأن تحرقوا كلّ وجه جميلْ

عليكم بأن تنحروا الفجر كي يتمزّق وجه الأصيل

أن تقطعوا سعفات النخيل، أن تطفئوا الشمس حتى يموت النهار

أن تصنعوا من وجوهِ اُميّة اشرعةً مشوّهةً تصادر لون البحارْ

لكيلا يكون الحسنْ

١٧٦

عليكم بأن توقفوا عجلات الزّمنْ، لئلاّ يجيء الربيع

فتبدو على كلّ زهرة روض سمات البقيع ووجه الحسنْ

أيا وهجاً من عيون البتول، ويا لونَ بسمتها والضحيّة

ويا لحن إيقاعها حين تخطو تحاكي الرسول

ويا عرفها إذ تدير الرّحى، ويا رجع أنغامها والصدى

منحتَ السحابَ الندى، فعاش على راحتيك الربيع

فهل يا ترى يحتويك البقيع؟!

مساكينُ أعداؤك الواهمون

إنّك بين الزوايا بلاك الكفن

وما علموا أنّ في كل شبر صداكَ، وفي كلّ ذرّة رمل وطنْ

فإن أوصدوا باب أرض البقيعْ

فما أوصدوا بابَ روح الحسنْ

١٧٧

• الشيخ قاسم آل قاسم:

يدخلنا الشيخ قاسم آل قاسم إلى نصّه عبر بوابة التشريط المرتبط بالمشيئة أو هو المحاصر لها، هذه المشيئة شخصيّة فرديّة يخاطبها الشاعر ليكشف لها وينير لها عتمات الوصول، فنلاحظ الخطاب من الشاعر إلى هذه الذات المخاطبة يأتي ناصحاً واعظاً:

إذا شئت أن تقرأ الوحي أن تكتب الوحي أو أن تقولْ

هنا يسائل الشاعر مشيئة الإنسان إذا أرادت أو شاءت الاقتران بالوحي عبر طريقين متتابعين هما قراءة الوحي وكتابته، ويسائل هذه المشيئة مخيّراً اياها ب‍ ( أو ) أن تقول، على وجه يفهم منه أنّ التشريط ب‍ ( إذا ) جاء ليحصر ثلاث ظواهر لغوية بالأساس ( القراءة، الكتابة، القول ).

فلا بدّ أن تستشف هنا مطالبة مؤكّدة بالبحث والتقصّي والاستزادة، وعموماً هي استحضار حالة وعي عميق وإدراك متوقّد الاستشفاف والشفافية في التعامل مع الظواهر اللغوية الثلاث.

لتصبح وحياً

وتصبح بعض معاني الرسول

إنّ الشاعر يكشف للمخاطب شروط الالتحام بما هو إلهي ومقدّس، ويكشف له قوانين صيرورة الإنسان قريباً من الله تعالى ومن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر التعامل مع النصّ الألهي أو النصّ النبوي، أو لنقل النص المقدّس حاملاً وعيه وإدراكه وعلمه لبلوغ ما يأمل.

لكننّا نكتشف انّ المخاطب انسان نوعي هو عموم الفنّان شاعراً كان أو كاتباً أو غيره، لذا نرى التشريط الثاني يستخدم ألفاظاً متخصّصة مثل ( ترسم، تنحت ) وهو يطالب هنا:

١٧٨

إذا شئت أن ترسم النور أو تنحت النور

فارحل إلى الشمس لا تنتظر أن تضيق دائرة الاُفق

فكم ألّم العاشقين الاُفول

مطالبة بالرحيل إلى الأصل والمنبع الحقيقي بدون انتظار، وواضح أنّ النور وما يقابله وهو الاُفول جاءا رمزين متقابلين للحقيقة المطلقة واللاّحقيقة.

وقد تعاطف الشاعر في خطابه هنا مع هموم الفنّانين، ووصفهم بالعاشقين الذين يتألّمون أكثر من غيرهم لعدم بلوغ الغاية.

ويؤكّد الشاعر ثانية اختلاف الطرق الجمالية الفنية عن الطرق الاُخرى، أو هو يوصي ويُطالب الفنان - كإنسان نوعي - بمخالفة الأساليب السائدة لأنّ الفنان عنده هو حامل شعلة الإبداع فلا بدّ له من المغايرة، ففي حين يطرق الناس أبواب السماء يطالب آل قاسم الشاعر بالتحليق إلى الأرض لكنّها ليست أيّة أرض كانت، بل هي أرض نوعية خاصة، بقعة سماوية مقدّسة هي البقيع ليقف الشاعر خاشعاً يطرق باب البقيع وإن شاء جثا أيضاً ليحقّق شروط الالتحام المطلوب.

وينتهي إلى استعارة شيء من زغب الملائك الطائرة ليصنع منها ريشة ملائمة لرسم وجه الإمام الحسنعليه‌السلام .

ويسترسل الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم بعد ذلك استرسالاً مطوّلاً يقول فيه: بعدم كفاءة الوسط والنشاطات الإنسانية في التعامل مع ما هو مقدّس، وعلى وجه الخصوص والحصر قضية الإمام الحسنعليه‌السلام وهي موضوع القصيدة، لأنّ النشاط الإنساني ومنه الفن محصور بملازمات عالم الإمكان مكاناً وزماناً، فلن يصل إلى التطابق مع ما هو إلهي:

لأنّ الحسن ..

فوق ضيق المسافات فوق الزمن ..

١٧٩

وعلى الرغم من سعة الفن وإنسانيته فالشاعر - مثلاً - يسجنه بقلمه ويرى فيه رأيه الخاص المحدود ليؤكّد عدم الاستطاعة في التعبير عن ما هو سام، ويضيف آل قاسم في تأكيده لعدم استطاعة الوصول:

وحتى لو أنّ رؤاك خيال السماوات لن تستطيع

لأنّ الذي دونه حسن والذي تبتغيه الحسن

ويبدأ بعدها آل قاسم في عرض إلتحام الأرض بكلّ مفرداتها وتفاصيلها بقضيّة الإمام الحسنعليه‌السلام :

لأنّ التراب ارتوى عبق الوحي منهُ

وفي كلّ شبر من الأرض كلّ التراب يُحدِّثُ عنه

وينتهي حواره مع ظالمي الإمام الحسنعليه‌السلام هكذا:

لكيلا يكون الحسن

عليكم بان تذبحوا كلّ فن

وأن تحرقوا كلّ وجه جميل

في طرح شعري يرسخ ارتباط ما هو جميل بما هو حقيقي، لأنّ الجمال عند آل قاسم ينشد ما هو حقّ وما هو خير، وإزالة الحقّ تعني إزالة الجمال أوّلاً وآخراً، وهذه إلتفاتة ونظر فلسفي ألبسه الشاعر حلّة الشعر وأدخله دوائر الفن عبر التفاف على تقريرية ومباشرة اللغة النثرية.

ويسترسل الشاعر بعدها ليعبّر عن إلتحام المفردات الطبيعية بالإمام المعصوم عموماً، وتخصيصاً الإمام الحسنعليه‌السلام ، فالفجر المنحور ووجه الأصيل الممزّق وسعفات النخيل المقطوعة والشمس المطفأة والنهار الميت ولون البحار المُصادَر، كلّ هذه المفردات الحياتية هي المعادلات الوجدانية الشعرية لمظلومية الإمام الحسنعليه‌السلام التي تراها وجوه اُميّة المشوّهة.

١٨٠