كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٥

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 260

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 260
المشاهدات: 42913
تحميل: 6805


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 260 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42913 / تحميل: 6805
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 5

مؤلف:
العربية

لأجل تكاليفهم في الآخرة و أما المعاقبون فلو كانوا مكلفين لجاز وقوع التوبة منهم و سقوط العقاب بها و هذا معلوم فساده ضرورة من دين الرسول ع و هاهنا اعتراضان أحدهما أن يقال فما قولكم في قوله تعالى( كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ ) و هذا أمر و خطاب لأهل الجنة و الأمر تكليف و الثاني أن الإجماع حاصل على أن أهل الجنة يشكرون الله تعالى و الشكر عبادة و ذلك يستدعى استحقاق الثواب و الجواب عن الأول أن قوله( كُلُوا وَ اِشْرَبُوا ) عند شيخنا أبي عليرحمه‌الله تعالى ليس بأمر على الحقيقة و إن كانت له صورته كما في قوله تعالى( كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ) . و أما الشيخ أبو هاشم فعنده أن قوله( كُلُوا وَ اِشْرَبُوا ) أمر لكنه زائد في سرور أهل الجنة إذا علموا أن الله تعالى أراد منهم الأكل و أمرهم به و لكنه ليس بتكليف لأن الأمر إنما يكون تكليفا إذا انضمت إليه المشقة و أما الجواب عن الثاني فإن الشكر الذي بالقلب رجوعه إلى الاعتقادات و الله تعالى يفعل في أهل الجنة المعارف كلها فلا وجوب إذا عليهم و أما الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذة فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم و بهذا الوجه نجيب عن قول من يقول أ ليس زبانية النار يعالجون أهل العذاب في جهنم أعاذنا الله منها و هل هذا إلا محض تكليف لأنا نقول إنه يجوز أن يكون للزبانية في ذلك لذة عظيمة فلا يثبت التكليف معها كما لا يكون الإنسان مكلفا في الدنيا بما يخلص إليه شهوته و لا مشقة عليه فيه

١٤١

إن قيل هذا الجواب ينبئ على أن معارف أهل الآخرة ضرورية لأنكم أجبتم عن مسألة الشكر بأن الله تعالى يفعل المعارف في أهل الجنة فدللوا على ذلك بل يجب عليكم أن تدللوا أولا على أن أهل الآخرة يعرفون الله تعالى قيل أما الدليل على أنهم يعرفونه تعالى فإن المثاب لا بد أن يعلم وصول الثواب إليه على الوجه الذي استحقه و لا يصح ذلك إلا مع المعرفة بالله تعالى ليعلم أن ما فعله به هو الذي لمستحقه و القول في المعاقب كالقول في المثاب و أيضا فإن من شرط الثواب مقارنة التعظيم و التبجيل له من فاعل الثواب لأن تعظيم غير فاعل الثواب لا يؤثر و التعظيم لا يعلم إلا مع العلم بالقصد إلى التعظيم و يستحيل أن يعلموا قصده تعالى و لا يعلموه و القول في العقاب و كون الاستحقاق و الإهانة تقارنه تجري هذا المجرى فأما بيان أن هذه المعرفة ضرورية فلأنها لو كانت من فعلهم لكانت إما أن تقع عن نظر يتحرون فيه و يلجئون إليه أو عن تذكر نظر أو بأن يلجئوا إلى نفس المعرفة من غير تقدم نظر و الأول باطل لأن ذلك تكليف و فيه مشقة و قد بينا سقوط التكليف في الآخرة و لا يجوز أن يلجئوا إلى النظر لأنهم لو ألجئوا إلى النظر لكان إلجاؤهم إلى المعرفة أولا و إلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى النظر و لا يجوز وقوعها عند تذكر النظر لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه و يلزمه دفعها و في ذلك عود الأمر إلى التكليف و ليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع الشبه كما لم تمنع معاينة المعجزات و الأعلام عن وقوعها و لا يجوز أن يكون الإلجاء إلى المعرفة لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب لا يصح إلا من الله تعالى فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة عارفا بهذه القضية و في ذلك استغناؤه بتقدم هذه المعرفة على الإلجاء إليها إن قيل إذا قلتم إنهم مضطرون إلى المعارف فهل تقولون إنهم مضطرون إلى الأفعال

١٤٢

قيل لا لأنه تعالى قال( وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) و لأن من تدبر ترغيبات القرآن في الجنة و الثواب علم قطعا أن أهل الجنة غير مضطرين إلى أفعالهم كما يضطر المرتعش إلى الرعشة إن قيل فإذا كانوا غير مضطرين فلم يمنعهم من وقوع القبيح منهم قيل لأن الله تعالى قد خلق فيهم علما بأنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه و هذا يمنع من الإقدام على القبيح بطريق الإلجاء و يمكن أيضا أن يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح مع ما في القبيح من المضرة فيكونون ملجئين إلى ألا يفعلوا القبيح فأما قوله ع و لا ينجى بشي‏ء كان لها فمعناه أن أفعال المكلف التي يفعلها لأغراضه الدنيوية ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة كمن ينفق ماله رئاء الناس و ليست طرق النجاة إلا بأفعال البر التي يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير و قد أوضح ع ذلك بقوله فما أخذوه منها لها أخرجوا منه و حوسبوا عليه و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه و أقاموا فيه فمثال الأول من يكتسب الأموال و يدخرها لملاذه و مثال الثاني من يكسبها لينفقها في سبيل الخيرات و المعروف ثم قال ع و إنها عند ذوي العقول كفي‏ء الظل . إلى آخر الفصل و إنما قال كفي‏ء الظل لأن العرب تضيف الشي‏ء إلى نفسه قال تأبط شرا

إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل

له كالئ من قلب شيحان فاتك

١٤٣

و يمكن أن يقال الظل أعم من الفي‏ء لأن الفي‏ء لا يكون إلا بعد الزوال و كل في‏ء ظل و ليس كل ظل فيئا فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار صحت الإضافة و السابغ التام و قلص أي انقبض و قوله ع بينا تراه أصل بينا بين فأشبعت الفتحة فصارت بينا على وزن فعلى ثم تقول بينما فتزيد ما و المعنى واحد تقول بينا نحن نرقبه أتانا أي بين أوقات رقبتنا إياه أتانا و الجمل تضاف إليها أسماء الزمان كقولك أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات و ولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليه كقوله( وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ ) و كان الأصمعي يخفض ببينا إذا صلح في موضعه بين و ينشد بيت أبي ذؤيب بالجر

بينا تعنقه الكمأة و روغه

يوما أتيح له جري‏ء سلفع

و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما على الابتداء و الخبر و ينشد هذا البيت على الرفع و هذا المعنى متداول قال الشاعر

ألا إنما الدنيا كظل غمامة

أظلت يسيرا ثم خفت فولت

و قال

ظل الغمام و أحلام المنام فما

تدوم يوما لمخلوق على حال

١٤٤

63 و من خطبة له ع

فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَ اِبْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَ اِسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا وَ عَلِمُوا أَنَّ اَلدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ اَلْجَنَّةِ أَوِ اَلنَّارِ إِلاَّ اَلْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اَللَّحْظَةُ وَ تَهْدِمُهَا اَلسَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ اَلْمُدَّةِ وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ اَلْجَدِيدَانِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ اَلْأَوْبَةِ وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدَمُ بِالْفَوْزِ أَوِ اَلشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ اَلْعُدَّةِ فَتَزَوَّدُوا فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ [ تَجُوزُونَ ] بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ وَ اَلشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ اَلْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَ يُمَنِّيهِ اَلتَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى اَلشِّقْوَةِ نَسْأَلُ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَ لاَ تُقَصِّرُ [ تَقْتَصِرُوا ] بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَ لاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ اَلْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لاَ كَآبَةٌ

١٤٥

بادروا آجالكم بأعمالكم أي سابقوها و عاجلوها البدار العجلة و ابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية الزائلة و قوله فقد جد بكم أي حثثتم على الرحيل يقال جد الرحيل و قد جد بفلان إذا أزعج و حث على الرحيل و استعدوا للموت يمكن أن يكون بمعنى أعدوا فقد جاء استفعل بمعنى أفعل كقولهم استجاب له أي أجابه و يمكن أن يكون بمعنى الطلب كما تقول استطعم أي طلب الطعام فيكون بالاعتبار الأول كأنه قال أعدوا للموت عدة و بمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال اطلبوا للموت عدة و أظلكم قرب منكم كأنه ألقى عليهم ظله و هذا من باب الاستعارة و العبث اللعب أو ما لا غرض فيه أو ما لا غرض صحيح فيه و قوله و لم يترككم سدى أي مهملين و قوله أن ينزل به موضعه رفع لأنه بدل من الموت و الغائب المشار إليه هو الموت و يحدوه الجديدان يسوقه الليل و النهار و قيل الغائب هنا هو الإنسان يسوقه الجديدان إلى الدار التي هي داره الحقيقية و هي الآخرة و هو في الدنيا غائب على الحقيقة عن داره التي خلق لها و الأول أظهر و قوله فتزودوا في الدنيا من الدنيا كلام فصيح لأن الأمر الذي به يتمكن المكلف من إحراز نفسه في الآخرة إنما هو يكتسبه في الدنيا منها و هو التقوى و الإخلاص و الإيمان و الفاء في قوله فاتقى عبد ربه لبيان ماهية الأمر الذي يحرز الإنسان به نفسه

١٤٦

و لتفصيل أقسامه و أنواعه كما تقول فعل اليوم فلان أفعالا جميلة فأعطى فلانا و صفح عن فلان و فعل كذا و قد روي اتقى عبد ربه بلا فاء بتقدير هلا و معناه التحضيض و قد روي ليسوفها بكسر الواو و فتحها و الضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه و قد تقدم ذكرها قبل بكلمات يسيرة و يجوز أن يعنى به ليسوف التوبة كأنه جعلها مخاطبة يقول لها سوف أوقعك و التسويف أن يقول في نفسه سوف أفعل و أكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز له و من روى بفتح الواو جعله فعل ما لم يسم فاعله و تقديره و يمنيه الشيطان التوبة أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفا إياها أي يعد من المسوفين المخدوعين و قوله فيا لها حسرة يجوز أن يكون نادى الحسرة و فتحة اللام على أصل نداء المدعو كقولك يا للرجال و يكون المعنى هذا وقتك أيتها الحسرة فاحضري و يجوز أن يكون المدعو غير الحسرة كأنه قال يا للرجال للحسرة فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه إلا أنها لما كانت للضمير فتحت أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة

عظة للحسن البصري

و هذا الكلام من مواعظ أمير المؤمنين البالغة و نحوه من كلام الحسن البصري ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان و التبيين

١٤٧

ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا و لا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا و إذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه و إذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه البقاء هاهنا قليل و البقاء هناك طويل أمتكم آخر الأمم و أنتم آخر أمتكم و قد أسرع بخياركم فما تنتظرون المعاينة فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها و بقيت الأعمال قلائد في الأعناق فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة ألا إنه لا أمة بعد أمتكم و لا نبي بعد نبيكم و لا كتاب بعد كتابكم أنتم تسوقون الناس و الساعة تسوقكم و إنما ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم من رأى محمدا ص فقد رآه غاديا رائحا لم يضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة رفع له علم فسما إليه فالوحى الوحى النجاء النجاء على ما ذا تعرجون ذهب أماثلكم و أنتم ترذلون كل يوم فما تنتظرون. إن الله بعث محمدا على علم منه اختاره لنفسه و بعثه برسالته و أنزل إليه كتابه و كان صفوته من خلقه و رسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض فآتاه فيها قوتا و بلغة ثم قال( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فركن أقوام إلى غير عيشته و سخطوا ما رضي له ربه فأبعدهم و أسحقهم يا ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك و اعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك رحم الله امرأ نظر فتفكر و تفكر فاعتبر و اعتبر

١٤٨

فأبصر و أبصر فأقصر فقد أبصر أقوام و لم يقصروا ثم هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا و لا رجعوا إلى ما فارقوا يا ابن آدم اذكر قوله عز و جل( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) عدل و الله عليك من جعلك حسيب نفسك خذوا صفوة الدنيا و دعوا كدرها و دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ظهر الجفاء و قلت العلماء و عفت السنة و شاعت البدعة لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة عين لكل مسلم و جلاء الصدور و لقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها و كانوا مما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم عليكم منها ما لي أسمع حسيسا و لا أرى أنيسا ذهب الناس و بقي النسناس لو تكاشفتم ما تدافنتم تهاديتم الأطباق و لم تتهادوا النصائح أعدوا الجواب فإنكم مسئولون إن المؤمن من لا يأخذ دينه عن رأيه و لكن عن ربه ألا إن الحق قد أجهد أهله و حال بينهم و بين شهواتهم و ما يصبر عليه إلا من عرف فضله و رجا عاقبته فمن حمد الدنيا ذم الآخرة و لا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه إن الإيمان ليس بالتمني و لا بالتشهي و لكن ما وقر في القلوب و صدقته الأعمال و هذا كلام حسن و موعظة بالغة إلا أنه في الجزالة و الفصاحة دون كلام أمير المؤمنين ع بطبقات

١٤٩

من خطب عمر بن عبد العزيز

١٥٠

من خطب ابن نباتة

و من خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت أيها الناس ما أسلس قياد من كان الموت جريره و أبعد سداد من كان هواه أميره و أسرع فطام من كانت الدنيا ظئره و أمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره فاتقوا الله عباد الله حق تقواه و راقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه و تأهبوا لوثبات المنون فإنها كامنة في الحركات و السكون بينما ترى المرء مسرورا بشبابه مغرورا بإعجابه مغمورا بسعة اكتسابه مستورا عما خلق له لما يغرى به إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها و كدرت له الأيام شرابها و حومت عليه المنية عقابها و أعلقت فيه ظفرها و نابها فسرت فيه أوجاعه و تنكرت عليه طباعه و أظل رحيله و وداعه و قل عنه منعه و دفاعه فأصبح ذا بصر حائر و قلب طائر و نفس غابر في قطب هلاك دائر قد أيقن بمفارقة أهله و وطنه و أذعن بانتزاع روحه عن بدنه حتى إذا تحقق منه اليأس و حل به المحذور و البأس أومأ إلى خاص عواده موصيا لهم بأصاغر أولاده جزعا عليهم من ظفر أعدائه و حساده

١٥١

و النفس بالسياق تجذب و الموت بالفراق يقرب العيون لهول مصرعه تسكب و الحامة عليه تعدد و تندب حتى تجلى له ملك الموت من حجبه فقضى فيه قضاء أمر ربه فعافه الجليس و أوحش منه الأنيس و زود من ماله كفنا و حصر في الأرض بعمله مرتهنا وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان مقيما بين قوم كانوا فزالوا و حوت عليهم الحادثات فحالوا لا يخبرون بما إليه آلوا و لو قدروا على المقال لقالوا قد شربوا من الموت كأسا مرة و لم يفقدوا من أعمالهم ذرة و آلى عليهم الدهر ألية برة ألا يجعل لهم الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة و لم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم الذي أنطقهم و أبادهم الذي خلقهم و سيوجدهم كما خلقهم و يجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا و يجعل الله الظالمين لنار جهنم وقودا( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً )

١٥٢

64 و من خطبة له ع

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ اَلْأَصْوَاتِ وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ اَلْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ اَلْأَجْسَامِ وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِنٍ بَاطِنٌ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لاَ تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ وَ لاَ اِسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لاَ شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لاَ ضِدٍّ مُنَافِرٍ وَ لَكِنْ خَلاَئِقُ مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ لَمْ يَحْلُلْ فِي اَلْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا اِبْتَدَأَ وَ لاَ تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لاَ وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ وَ لاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ اَلْمَأْمُولُ مَعَ اَلنِّقَمِ اَلْمَرْهُوبُ مَعَ اَلنِّعَمِ يصم بفتح الصاد لأن الماضي صممت يا زيد و الصمم فساد حاسة السمع و يصمه بكسرها يحدث الصمم عنده و أصممت زيدا

١٥٣

و الند المثل و النظير و المثاور المواثب و الشريك المكاثر المفتخر بالكثرة و الضد المنافر المحاكم في الحسب نافرت زيدا فنفرته أي غلبته و مربوبون مملوكون و داخرون ذليلون خاضعون و لم ينأ لم يبعد و لم يؤده لم يتعبه و ذرأ خلق و ولجت عليه الشبهة بفتح اللام أي دخلت و المرهوب المخوف فأما قوله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا فيمكن تفسيره على وجهين أحدهما أن معنى كونه أولا أنه لم يزل موجودا و لا شي‏ء من الأشياء بموجود أصلا و معنى كونه آخرا أنه باق لا يزال و كل شي‏ء من الأشياء يعدم عدما محضا حسب عدمه فيما مضى و ذاته سبحانه ذات يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين معا في كل حال فلا حال قط إلا و يصدق على ذاته أنه يجب كونها مستحقة للأولية و الآخرية بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا و ذلك الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانية فإن غيره مما يبقى زمانين فصاعدا إذا نسبناه إلى ما يبقى دون زمان بقائه لم يكن استحقاقه الأولية و الآخرية بالنسبة إليه على هذا الوصف بل إما يكون استحقاقا بالكلية بأن يكون استحقاقا قريبا فيكون إنما يصدق عليه أحدهما لأن الآخر لم يصدق عليه أو يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين لكن ليس ذلك لذات الموصوف بالأولية و الآخرية بل إنما ذلك الاستحقاق لأمر خارج عن ذاته الوجه الثاني أن يريد بهذا الكلام أنه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد قالوا لأنه واجب لذاته و الواجب لذاته

١٥٤

واجب من جميع جهاته إذ لو فرضنا جواز اتصافه بأمر جديد ثبوتي أو سلبي لقلنا إن ذاته لا تكفي في تحققه و لو قلنا ذلك لقلنا إن حصول ذلك الأمر أو سلبه عنه يتوقف على حصول أمر خارج عن ذاته أو على عدم أمر خارج عن ذاته فتكون ذاته لا محالة متوقفة على حضور ذلك الحصول أو السلب و المتوقف على المتوقف على الغير متوقف على الغير و كل متوقف على الغير ممكن و الواجب لا يكون ممكنا فيكون معنى الكلام على هذا التفسير نفي كونه تعالى ذا صفة بكونه أولا و آخرا بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات لا وجود لها في الأعيان و لا يكون ذلك من أحوال ذاته الراجعة إليها كالعالمية و نحوها لأن تلك أحوال ثابتة و نحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة و أما قوله أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا فإن للباطل و الظاهر تفسيرا على وجهين أحدهما أنه ظاهر بمعنى أن أدلة وجوده و أعلام ثبوته و إلهيته جلية واضحة و معنى كونه باطنا أنه غير مدرك بالحواس الظاهرة بل بقوة أخرى باطنة و هي القوة العقلية. و ثانيهما أنا نعني بالظاهر الغالب يقال ظهر فلان على بني فلان أي غلبهم و معنى الباطن العالم يقال بطنت سر فلان أي علمته و القول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه كونه أولا قبل كونه آخرا و أما قوله كل مسمى بالوحدة غيره قليل فلأن الواحد أقل العدد و معنى كونه واحدا يباين ذلك لأن معنى كونه واحدا إما نفي الثاني في الإلهية أو كونه يستحيل عليها الانقسام و على كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقي و إن فسرناه على قاعدة البلاغة و صناعة

١٥٥

الخطابة كان ظاهرا لأن الناس يستحقرون القليل لقلته و يستعظمون الكثير لكثرته قال الشاعر

تجمعتم من كل أوب و وجهة

على واحد لا زلتم قرن واحد

و أما قوله و كل عزيز غيره ذليل فهو حق لأن غيره من الملوك و إن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء و القدر و هذا هو تفسير قوله و كل قوى غيره ضعيف و كل مالك غيره مملوك و أما قوله و كل عالم غيره متعلم فهو حق لأنه سبحانه مفيض العلوم على النفوس فهو المعلم الأول جلت قدرته و أما قوله و كل قادر غيره يقدر و يعجز فهو حق لأنه تعالى قادر لذاته و يستحيل عليه العجز و غيره قادر لأمر خارج عن ذاته أما لقدرة كما قاله قوم أو لبنية و تركيب كما قاله قوم آخرون و العجز على من عداه غير ممتنع و عليه مستحيل و أما قوله ع و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها فحق لأن كل ذي سمع من الأجسام يضعف سمعه عن إدراك خفي الأصوات و يتأثر من شديدها و قويها لأنه يسمع بآلة جسمانية و الآلة الجسمانية ذات قوة متناهية واقفة عند حد محدود و الباري تعالى بخلاف ذلك و اعلم أن أصحابنا اختلفوا في كونه تعالى مدركا للمسموعات و المبصرات فقال شيخنا أبو علي و أبو هاشم و أصحابهما إن كونه مدركا صفة زائدة على كونه عالما و قالا إنا نصف الباري تعالى فيما لم يزل بأنه سميع بصير و لا نصفه بأنه سامع مبصر و معنى كونه سامعا مبصرا أنه مدرك للمسموعات و المبصرات

١٥٦

و قال شيخنا أبو القاسم و أبو الحسين و أصحابهما أن معنى كونه تعالى مدركا هو أنه عالم بالمدركات و لا صفة له زائدة على صفته بكونه عالما و هذا البحث مشروح في كتبي الكلامية لتقرير الطريقين و في شرح الغرر و غيرهما و القول في شرح قوله و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام كالقول فيما تقدم في إدراك السمع و أما قوله و كل ظاهر غيره غير باطن و كل باطن غيره غير ظاهر فحق لأن كل ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس و القمر و غيرهما من الألوان الظاهرة فإنها ليست إنما تدرك بالقوة العقلية بل بالحواس الظاهرة و أما هو سبحانه فإنه أظهر وجودا من الشمس لكن ذلك الظهور لم يمكن إدراكه بالقوى الحاسة الظاهرة بل بأمر آخر إما خفي في باطن هذا الجسد أو مفارق ليس في الجسد و لا في جهة أخرى غير جهة الجسد و أما على التفسير الثاني فلأن كل ملك ظاهر على رعيته أو على خصومه و قاهر لهم ليس بعالم ببواطنهم و ليس مطلعا على سرائرهم و البارئ تعالى بخلاف ذلك و إذا فهمت شرح القضية الأولى فهمت شرح الثانية و هي قوله و كل باطن غيره غير ظاهر

اختلاف الأقوال في خلق العالم

فأما قوله لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه إلى قوله عباد داخرون فاعلم أن

١٥٧

الناس اختلفوا في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي على أقوال القول الأول قول الفلاسفة قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس إنه زعم أن العالم كان عن البارئ تعالى لأن جوهره و ذاته جوهر و ذات مسخرة للمعدوم أن يكون مسخرا موجودا قال و زعم ابن قيس أن علة وجود العالم وجود البارئ قال و على كلا القولين يكون العالم قديما أما على قول أرسطو فلأن جوهر ذات البارئ لما كان قديما لم يزل وجب أن يكون أثرها و معلولها قديما و أما على قول ابن قيس فلأن البارئ موجود لم يزل لأن وجوده من لوازم ذاته فوجب أن يكون فيضه و أثره أيضا لم يزل هكذا قال ابن زكريا فأما الذي يقول أصحاب أرسطاطاليس الآن في زماننا فهو أن العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد و لا غرض لأن كل من فعل فعلا لغرض كان حصول ذلك الغرض له أولى من لا حصوله فيكون كاملا لحصول ذلك الغرض و واجب الوجود لا يجوز أن يكون كاملا بأمر خارج عن ذاته لأن الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته قالوا لكن تمثل نظام العالم في علم واجب الوجود يقتضي فيض ذلك النظام منه قالوا و هذا معنى قول الحكماء الأوائل إن علمه تعالى فعلي لا انفعالي و إن العلم على قسمين أحدهما ما يكون المعلوم سببا له و الثاني ما يكون هو سبب المعلوم مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها و مثال الثاني أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء كيفية العمل فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره

١٥٨

قالوا و علمه تعالى من القسم الثاني و هذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية و هو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل و بالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام و بأن ذلك واجب عن إحاطته فيكون الموجود وفق المعلوم من غير انبعاث قصد و طلب عن الأول الحق سبحانه فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل هو المنبع لفيضان الوجود في الكل القول الثاني قول حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة و إليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين و هو أن علة خلق البارئ للعالم تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولى و تريده غير ممكن لترفض محبتها إياها و عشقها لها و تعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى هذا العالم و اعلم أن هذا القول هو القول المحكي عن الحرنانية أصحاب القدماء الخمسة و حقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة اثنان منهم حيان فاعلان و هما البارئ تعالى و النفس و مرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس التي في العالم كالأرواح البشرية و القوى النباتية و النفوس الفلكية و يسمون هذه الذات النفس الكلية و واحد من الخمسة منفعل غير حي و هو الهيولى و اثنان لا حيان و لا فاعلان و لا منفعلان و هما الدهر و القضاء قالوا و البارئ تعالى هو مبدأ العلوم و المنفعلات و هو قائم العلم و الحكمة كما أن النفس مبدأ الأرواح و النفوس فالعلوم و المنفعلات تفيض من البارئ سبحانه فيض النور عن قرص الشمس و النفوس و الأرواح تفيض عن النفس الكلية فيض النور عن القرص إلا أن النفوس جاهلة لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلا و إدراكا و إما أن تمارس غيرها و تمازجه فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة و المخالطة معرفة ناقصة و كان البارئ تعالى في الأزل عالما بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى

١٥٩

و تعشقها و تطلب اللذة الجسمانية و تكره مفارقة الأجسام و تنسى نفسها و لما كان البارئ سبحانه قائم العلم و الحكمة اقتضت حكمته تركب الهيولى لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب فجعل منها أفلاكا و عناصر و حيوانات و نباتات فأفاض على النفوس تعقلا و شعورا جعله سببا لتذكرها عالمها الأول و معرفتها أنها ما دامت في هذا العالم مخالطة للهيولى لم تنفك عن الآلام فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام و رفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها و مضرتها القول الثالث قول المجوس إن الغرض من خلق العالم أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو و أن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيه و يجعله في ربط و وثاق و العدو عندهم هو الشيطان و بعضهم يعتقد قدمه و بعضهم حدوثه قال قوم منهم إن البارئ تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها الشيطان و قال آخرون بل شك شكا رديئا فتولد الشيطان من شكه و قال آخرون بل تولد من عفونة رديئة قديمة و زعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه و كان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه فلم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب وثبة عظيمة فصار في سلطان الله تعالى في النور و أدخل معه الآفات و البلايا و السرور فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك و الأرض و العناصر شبكة له و هو فيها محبوس لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول و صار في الظلمة فهو أبدا يضطرب و يرمي الآفات على خلق الله سبحانه فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت و من أصحه رماه الشيطان بالسقم و من سره رماه بالحزن و الكآبة فلا يزال كذلك و كل يوم ينتقص سلطانه و قوته لأن الله تعالى يحتال له كل يوم و يضعفه إلى أن تذهب قوته كلها

١٦٠