نظرة عابرة الى الصحاح الستة

نظرة عابرة الى الصحاح الستة0%

نظرة عابرة الى الصحاح الستة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 561

نظرة عابرة الى الصحاح الستة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الصمد شاكر
تصنيف: الصفحات: 561
المشاهدات: 244081
تحميل: 7371

توضيحات:

نظرة عابرة الى الصحاح الستة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 561 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 244081 / تحميل: 7371
الحجم الحجم الحجم
نظرة عابرة الى الصحاح الستة

نظرة عابرة الى الصحاح الستة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فاعلمك انهم كانوا يغلطون لا انهم كانوا يتعمدّون(1) .

وعن بسر بن سعيد : اتقوا الله وتحفّظوا في الحديث ، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويحدثنا عن كعب ثم يقوم ، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ، ويجعل حديث كعب عن رسول الله(2) .

( الخامس ) : انّ اكثار الحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان محرّماً بنظر عمر ، فانّه عزر المكثرين بالحبس ، ضرورة عدم جواز حبس المسلم وايذائه على أمر مباح أو مستحب ، بل مكروه. وهذا يبطل نظر الغالين في حقّ الصحابة بانّهم كلّهم عدول.

( السادس ) : يظهر من كلام عثمان انّ الكذب في نقل الحديث قد كثر بعد زمن الشيخين ، ولذا لم يحلل للناس نقل ما لم يسمع في زمانهما ، وذيل كلامه أيضاً يعرض بالكاذبين.

( السابع ) : يظهر من قول الفاروق في ذيل الخبر الخامس ( إلاّ فيما يعمل به ) انّ نظره إلى منع نقل الاَحاديث الواردة في فضائل بعض الصحابة مخافة أفتتان الناس به ، فيوهن مقام الخلافة في قلوبهم. ويظهر من غيره انّ السبب في النهي هو الخوف من الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمداً أو غفلة.

( الثامن ) : يظهر من الخبر السادس انّ السبب في ترك تحدّث الصحابة هو كذب المستمعين ، وانّهم يزيدون على كلام واحد مائة. وهذا السبب الذي خافه ابن أبي وقاص يجب ان لا ننساه حتّى عند الاعتماد على أحاديث الصحاح الستة ، والله الهادي ، وقد مرّ في الخبر الاَول سبب آخر ،

__________________

(1) اضواء على السنة المحمدية 114 ، مختلف الحديث لابن قتيبة 49.

(2) سير اعلام النبلاء 2 : 436.

٢١

وهو اختلاف الناقلين ، واختلاف من بعدهم أشد الاختلاف.

يبقى في المقام سؤال وهو انّ الذين امتنعوا من الصحابة من نقل الحديث هل هو بداع نفسي منهم مخافة الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بزجر حكومي من الخلفاء ـ لا سيّما الخليفة الثاني ـ؟ الظاهر هو الثاني ، ويدعمه قرائن ـ كما يأتي عن أبي هريرة ـ وكما يستفاد من كلام عثمان السابق وغيره ، والله العالم.

الثانية : كتابة الحديث.

إذا فرضنا النهي عن اكثار نقل الحديث أو عن أصله ، وكذا إن فرضنا رغبة جمع من الاَصحاب عن تحديث الناس بأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان بوسع جمع منهم أن يحفظ السنّة القوليّة عن الاندراس والنسيان بقيد الكتابة ، بأنّ يكتبوا ما يطمئنون بسماعه عن الرسول الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويودعونه إلى الثقات تكميلاً لاَمر الشريعة ، لكن كتابة الحديث بدورها ـ كنقل الحديث ـ ابتليت بالمنع والنهي ، بل بمنع أشد من منع النقل ، واليكم بعض دلائله :

1 ـ روى الدارمي ( شيخ البخاري ) ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد ، عن أبي سعيد الخدري ( رض ) قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ، فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه.

واخرج الدارمي ، عن أبي سعيد : انّهم استأذنوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يكتبوا عنه ، فلم يأذن لهم.

ولفظ الترمذي : استأذنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتابة ، فلم يأذن لنا(1) .

__________________

(1) سنن الترمذي 2 : 91.

٢٢

2 ـ وعن زيد بن ثابت : انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرنا ألاّ نكتب شيئاً من حديثه.

اقول : والصحيح أن يقول : نهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نكتب شيئاً من حديثه.

3 ـ ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ(1) عن الحاكم ما رواه عن عائشة قالت : جمع أبي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت خمسمائة حديث ، فبات يتقلّب ، ولمّا أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الاَحاديث التي عندك ، فجئته بها فأحرقها وقال : خشيت أن أموت وهي عندك ، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ، ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك(2) .

أقول : وقد مرّ قول أبي بكر : فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه.

4 ـ وعن ابن عبد البر والبيهقي ـ في المدخل ـ عن عروة : انّ عمر أراد أن يكتب السنن ، فاستفتي أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، فاشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له ، فقال : انّي اريد أن اكتب السنن ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتب فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله وانّي والله لا أشوب ( لا البس ) كتاب الله بشيء أبداً.

5 ـ وعن جامع بيان العلم وفضله(3) عن يحيى بن جعدة : انّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتب ، ثم كتب في الامصار :

__________________

(1) تذكرة الحفاظ 1 : 5.

(2) أقول : هذا حال كتاب هذا الصحابي الشهير ، فكيف بكتاب البخاري وغيره. ثم أنّ هذا النقل يخالف حديثه الناهي عن كتابة الحديث!

(3) جامع بيان العلم وفضله 1 : 64 و65 ، طبقات ابن سعد 1 : 206.

٢٣

من كان عنده شيء فليمحه(1) .

أقول : لا أدري كيفية ارادة عمر واستخارته كما لا أدري ـ ولا يُدرى ـ من هم أُولئك القوم الذين قبلنا أكبّوا على أحاديث نبيّهم وتركوا كتاب ربّهم ، لكن كان عمر يرى بطلان كتابة الحديث حتّى في زمان النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى في الحديث الذي يحفظ الاَُمّة من الضلالة بعد نبيها ، وكان النبي أراد أن يكتبها بيده أو كان يأمر أحد صحابته بكتابته كما قصَّ ذلك لنا ابن عباس ، وأخرجه البخاري في مواضع من كتابه ، وقال عمر في وجه منعه واجتهاده : انّه قد غلبه الوجع أو انّه يهجر!!! وحسبنا كتاب الله.

6 ـ وعنهما ، عن ابن سعد ، عن عبدالله بن العلاء قال : سألت القاسم ابن محمّد أن يملي عليَّ أحاديث ، فقال : انّ الاَحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها ، ثم قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب.

وقد قرئت المثناة بالثاء المثلثة ، وبالشين المعجمة ، وبالسين المهملة ، وادّعى بعضهم أنَّ المراد بها : مجموعة الروايات الاسرائيلية ، وهو نوع توجيه.

7 ـ وعن الاَسود بن هلال قال : أتى عبدالله بن مسعود بصحيفة فيها حديث ، فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ، ثم أمر بها فأُحرقت ، ثم قال : اذكر الله رجلاً يعلمها عند أحد إلاّ أعلمني به ، والله لو أعلم أنّها بدير هند

__________________

(1) أقول : وعن الطبقات الكبرى لابن سعد 5 : 188 : خطب ( عمر ) الناس يوماً قائلاً : أيّها الناس انّه قد بلغني انّه قد ظهرت في ايديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقينَّ أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى رأيي ، فظنّوا انّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فاتوه بكتبهم فأحرقها بالنار!!!

٢٤

لبلغتها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون.

8 ـ وعن تقييد العلم للخطيب البغدادي(1) عن أبي نضرة قال : قلت لاَبي سعيد الخدري : ألا بكتب ما نسمع منك؟

قال : أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ انّ نبيكم كان يحدّثنا فنحفظ.

9 ـ وعن ابن عباس : كنّا نكتب العلم ولا نكتبه.

أي لا نكتبه لغيرنا أو لا نسمح أن يكتب عنا أحد.

10 ـ وعن أبي سعيد الخدري(2) وكنّا لا نكتب إلاّ القرآن والتشهّد.

أقول : ومع هذا التأكيد على التشهد ـ حتّى نقل عن عبدالله بن مسعود أنّه قال : علّمني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله التشهد وكفّي بكفّه كما يعلّمني السورة من القرآن ـ فقد نقلت تسع صيغ للتشهّد ، فما بال غيره من أجزاء الصلاة وغيرها من الاَعمال غير المعمولة في كلّ يوم مرات(3) .

أقول : والمتتبّع يمكنه أن يجد شواهد غير ما ذكرنا على عدم كتابة الحديث والنهي عنها ومحو ما كتب من الحديث واحراقه ، ومع ذلك فانّ أصل المقصد وهو عدم تقييد الاَحاديث بالكتابة في القرن الاَول الهجري ومدّة بعده أمر مسلَّم لا يقبل الارتياب ، وهو من الواضحات التي لا تحتاج إلى دليل وشاهد.

ثم انّه ينبغي لنا أن نرجع النظر إلى تلك الشواهد ثانياً ونأخذ منها

__________________

(1) تقييد العلم : 27.

(2) تقييد العلم : 92.

(3) لاحظ تفصيل صيغ التشهّد التسع في ص82 إلى ص85 من كتاب أضواء على السنة المحمديّة.

٢٥

بعض مطالب أُخر ، فمنها : انّ النهي في الخبرين الاَولين مطلق يشمل المؤلفين والمدونين حتّى في القرن الثالث من الهجرة ، فهل عصوا حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ أمر لا بدّ فيه من التأمّل.

ومنها : انّ احراق أبي بكر الاَحاديث انّما هو لاَجل اشتباه الرواة أو كذبهم في النقل ، فيعلم انّه كان قليل الرواية عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو عديمها ، وإلاّ لم يكن وجه لاحراق ما سمعه عن النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومنها : انّ الناس قد علموا بأهميّة كتابة الحديث ، فأشاروا بصحّتها أو لزومها على عمر ، لكن عمر ردّ مشورتهم ولم ينصرف عنها وحدها ، بل أمر أهل الاَمصار بمحو الاَحاديث التي كتبوها ، وهذا لا لاَجل نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ لم يكن للاستخارة في شهر واحد وجه ، بل مخافة شوب كتاب الله بغيره ، لكن عمر كان يعلم بانّ الاَحاديث لا تشوب بالقرآن ، وانّه كلام الخالق ، وبينهما بون بعيد وتفاوت شديد ، وهذا نهج البلاغة لعلي ، وهذه الكتب المدّونة في القرن الثالث من الصحاح والمسانيد والسنن قد شاعت وكثرت ولم يشتبه على أحد بالقرآن وآياته ، فالظاهر انّ لاجتهاده في عدم كتابة الحديث ولزوم محو ما كتب إلى انذاك في المدينة والاَمصار دليلاً آخر لم ير ذاك الوقت مصلحة في افشائه ، فأبدى وجهاً آخر لاقناع الناس المستشارين ، وهم الصحابة الاجلاّء بالطبع.

وقد اشرنا إلى منعه عن كتابة حديث واحد أراده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لاَجل عدم ضلالة أُمّته بعده ، فهل يحتمل انّه أيضاً لئلا يشوب به القرآن؟

ومنها : انّ القاسم بن محمّد يخبر أنّ الاَحاديث كثرت على عهد عمر ولاَجله أمر بأحراقها ، فليعتبر المنصف بكثرة الاَحاديث في زمن خليفة مهيب متشدّد مثل عمر وخوفه منها حتّى أمر باحراقها ، ثم بكثرة الاَحاديث

٢٦

في زمن عثمان حتّى منع ذكر الاَحاديث التي لم تسمع في زمن الشيخين كما مر.

قال أبو سلمة لاَبي هريرة ـ وهو أحد المكثرين المشهورين في صدر الاسلام ـ أكنت تحدّث في زمن عمر هذا؟

قال : لو كنت أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته.

ولو قام عمر من قبره ورأى رواج سوق الجعل والتزوير في الحديث والافتراء على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورأى أسوأ واشنع من هذا تعصّب عوّام الناس ، وغفلة مدّعي العلم عن تلك المجعولات والمجهولات ، لمات غضباً وغيظاً. ولقد حقّت عليهم كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار؟!

ومنها : انّ ما علّل به المنع عبدالله بن مسعود غير مفهوم ولا معقول ، فانّ سبب هلاك أهل الكتاب انّما هو ترك العمل بكتاب ربّهم وسنّة نبيهم ظلماً وعتواً ، وهذا قطعي ، وليس سبب هلاكهم تدوين أحاديث نبيّهم والعمل بها وحدها ، مع انّه لا ملازمة بين كتابة الروايات وترك العمل بكتاب الله ، كما هو المشهود من القرن الثالث إلى يومنا هذا.

بحث توضيحي

لا ريب في انّ السنة القولية لم تتقيّد بالكتابة في القرن الاَول ، ولا خلاف فيه ، وانّما الكلام في انّه هل باجتهاد من الخلفاء أو بنهي سابق من النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

وعلى الاَول ، الداعي لهم إمّا أمر سياسي ، وإمّا شيء أعمق منه ، إذ لا يحتمل كونه خوفاً من الكذب أو شغل الناس عن كتاب الله أو شوب الكتاب بغيره ، إذ بامكانهم تشكيل لجنة من أُمناء الصحابة وعلمائهم لجمع

٢٧

صحيح الاَحاديث وتدوينها في مجموعة باسم أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما فعلوا ذلك بالنسبة إلى جمع آيات الكتاب الكريم ، ولا يترتب على ذلك أي محذور جزماً.

وعلى الثاني ، فانّ فرض النهي المذكور أمراً تعبّديّاً صرفاً كجملة من المحرمات الاَُخر التي لا يعلم وجهها ، يتجّه السؤال إلى هؤلاء المحدّثين الذين ألّفوا كتب الحديث من الصحاح والمسانيد والسنن هل هم من العصاة المبتدعة؟ ولعلّه لا مناص عنه على هذا الوجه ، واشير في هذا إلى ما قاله بعض المحقّقين ، من انّ التابعين لم يدوّنوا الحديث لنشره إلاّ بأمر الامراء. وإن فرض انّ للنهي حكمة مفهومة ، فما هي الحكمة المذكورة؟

يقول بعض أهل التحقيق : وقد يكون قريباً من الصواب في حكمة نهي النبي عن كتابة الحديث ، هو لكي لا تكثر أوامر التشريع ولا تتسع أدلّة الاحكام ، وهو ما كان يتحاشاهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يكره كثرة السؤال ، أو يكون من الاَحاديث في أُمور خاصة بوقتها بحيث لا يصحّ الاستمرار في العمل بها.

يقول صاحب المنار ( المجلد العاشر ) بعد كلام له : وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث ، بل في رغبتهم عنه ، بل في نهيهم عنه ، قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الاَحاديث ( كلّها ) ديناً عاماً دائماً كالقرآن ، ولو كانوا فهموا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انّه يريد ذلك لكتبوا ولاَمروا بالكتابة وبهذا يسقط قول من قال : انّ الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية ، وإذا اضفت إلى ذلك كلّه حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الاَحاديث ، ثم ما جرى عليه علماء الاَمصار في القرن الاَول والثاني من

٢٨

اكتفاء الواحد منهم ـ كأبي حنيفة ـ بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قلّ ، وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبيّن أحكامه ، قوي عندك ذلك الترجيح.

بل تجد الفقهاء لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به ، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتّبعة ولا سيّما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية ، فيها مئات من المسائل المخالفة للاَحاديث المتّفق على صحّتها وقد أورد ابن القيّم في « أعلام الموقعين » شواهد كثيرة جداً من ردّ الفقهاء للاَحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك ، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه ، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهداً. انتهى كلام هذا المفسّر الفقيه العارف بالاحاديث أعني السيّد رشيد رضا.

أقول : ما ذكره هو الواقع خارجاً سواء كان حقّاً أو باطلاً ، فانّ الخلفاء لا سيّما عمر رضي الله عنه وأرباب المذاهب لم يكونوا يقيّدون أنفسهم بالاَحاديث ، بل يقدّمون اجتهادهم بالقياس وغيره عليها من دون استيحاش وحرج ، فلم يكن قيمتها عندهم كقيمة الآيات القرآنية ، فالسنّة القولية عند أهل السنة ـ وإن عدّت أحد ركني الشريعة ادعاءً ولكنّها ليست كذلك ـ عملاً بأي دليل كان ، وإن كان ما أعتذر به السيّد رضا ـ على ما عرفته آنفاً ـ من أحسن الاعتذار ، ومنه يظهر أمران آخران ، وهما :

1 ـ انّ ما ذكره جمع من الغافلين من اعتبار روايات الصحاح الستة ، وعدم جواز التشكيك في اعتبارها وصدورها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتفاق الكلّ على اعتبارها ـ خصوصاً على اعتبار أحاديث البخاري ومسلم ـ مخالف للواقع ، بل هو طبل فارغ لا وزن له سوى صوته! فانّ الصحابة لم يروها معتبرة وفقهاء المذاهب ـ خصوصاً الاِمام أبو حنيفة ـ لم يقبلوها كما

٢٩

اعترف به ابن القيّم ، وهو أمر واضح لا مجال للتشكيك فيه اللّهم إلاّ عند من أهمل عقله وغفل عن كلّ شيء سوى صوت طبل المتعسفين المتعصبين خلافاً لاَمر القرآن حيث يقول :( واجتنبوا قَولَ الزورِ ) (1) .

2 ـ انّ بعض الاَعلام من الشيعة الامامية ـ السيّد شرف الدين العاملي اللبناني ـ ألّف كتاباً سمّاه النص والاجتهاد ، وجمع فيه موارد اجتهاد الصحابة في مقابل النص ، وكأنّه يريد التعريض بهم ، فنقول في جوابه : انّ هذا الاعتراض انّما يتمّ على أُصول الشيعة القائلين بمنع الاجتهاد في مقابل النص أشد المنع ، وانّ الاَحاديث عندهم كالآيات في الحجيّة والاعتبار إذا جمعت فيها شروط الحجية ، ولاَجله ذهبوا إلى بطلان القياس ، ولا يتمّ على مبنى أهل السنّة كما عرفت من هذا المقام.

تعقيب تحقيقي

قلت : انّ ما ذكره السيّد رشيد رضا وابن القيّم وغيرهما هو واقع الحال ، فلا بدّ من الاذعان به بعنوان انّه أمر وقع في الخارج ، وأمّا انّه حقّ أو لا فهو بحث آخر ، فأقول هنا انّ الصحيح عندي بطلانه ، فانّ النبي الاكرم لم ينه عن كتابة الحديث ونقله(2) فانّه مخالف للعقل والنقل ، أمّا عقلاً : فانّ النبي المعصوم المأمور بتبليغ الدين الذي لا ينطق عن الهوى أمر باشياء ونهى عن أشياء وفصَّل كيفية العبادات والمعاملات والسياسات باجزائها وشرائطها ، وهو يعلم انّه لا يتمّ شريعة الاسلام إلاّ بالكتاب وما سنّه قولاً وعملاً ، ويعلم أيضاً انّ شريعته خالدة مستمرة إلى يوم القيامة ، فكيف ينهى

__________________

(1) وان قال محمود أبو ريه في ص34 كتابه اضواء على السنة المحمدية ( الطبعة الخامسة ) : ومن الاَحاديث ما تقضي البداهة بصدقه كحديث « لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن » لكنّا لا نقبل هذه الدعوى منه.

٣٠

عن كتابة ما هو من عند الله بلسانه ، وهل الاَمر بمحو كتابة حديثه إلاّ الاَمر بمحو كتابة الحقّ والنور؟

وهل يمكن استبداله بالاجتهاد والقياس في تمام الاَحكام الفقهية؟ كلا ثم كلا.

وأمّا نقلاً : فانّه أمر في موارد بالكتابة ، بل أمر قبيل وفاته باتيان دواة وكتاب يكتب كتاباً لا تضل الاَُمّة بعده ، وفي هذا دلالة على شرف الكتابة وعظمتها وعظم فائدتها حيث انّها توجب الحفظ عن الضلال.

وعن سنن أبي داود ومستدرك الصحيحين عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعبدالله بن عمرو العاص : « أُكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّ ».

وأيضاً قد ثبت انّ لعلي صحيفة كان فيها جملة من الاَحكام الشرعية ـ كما سيأتي بحثها ـ وهذا يبطل ادّعاء النهي من أساسه.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في لقطة البخاري برقم 2302 : « اكتبوا لاَبي شاة ».

وعن سالم بن عبدالله ، عن أبيه ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أقرأني سالم كتاباً كتبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الصدقات قبل ان يتوفّاه الله ، فوجدت فيه زكاة(1) .

وعن عمرو بن حزم : انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم ، فقرئ على أهل اليمن وهذه نسخته(2) .

الثالثة : تدوين الحديث

وقال الهروي ـ كما في محكي ارشاد الساري(3) : لم يكن الصحابة

__________________

(1) سنن ابن ماجه برقم 1798.

(2) سنن النسائي 8 : 59.

(3) ارشاد الساري 1 : 7.

٣١

والتابعون(1) يكتبون الاَحاديث ، انّما كانوا يودوّنها لفظاً ويأخذونها حفظاً ، إلاّ كتاب الصدقات ، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء ، حتّى خيف عليه الدروس واسرع في العلماء الموت أمر عمر بن عبد العزيز ( الذي تولّى سنة 99 ومات سنة 101 ) أبا بكر بن ( محمّد الانصاري ) حزم : أن أنظر ما كان من حديث رسول الله أو سننه فاكتبه لي ، فانّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء(2) . وأوصاه أن يكتب ما عند عمرة بنت عبد الرحمن...

لكن لا دليل على انّ ابن حزم فعل شيئاً أم لا؟ بل استظهر بعضهم انّه انصرف عن كتابة الحديث لما عاجلت المنية عمر بن عبد العزيز ، ثم عزله يزيد بن عبد الملك عن امرة المدينة وقضائها.

ثم انّ هشام بن عبد الملك في ولايته ( سنة 105 هـ ) طلب من محمّد بن مسلم بن شهاب الزهري ، بل قيل انّه أكرهه على تدوين الحديث ، وعلى كلّ لم يعتبر عصر بني أُميّة عصر تصنيف منسق ، لانّهم لم يجدوا من آثار هذا العصر كتباً جامعة مبوبة ، وما صنعوه انّما هو مجموعات تضم الحديث والفقه والنحو واللغة والخبر وغيره ، ولا تحمل علماً واجداً.

وعن الغزالي في احياء العلوم : بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منهما في زمن الصحابة وصدر التابعين ، وانّما حدث بعد سنة 120 هـ...

وانّما ازدهر التدوين في العصر العباسي بتشويق من المنصور

__________________

(1) قيل آخر عصر التابعين هو حدود الخمسين ومائة. والحد الفاصل بين المتقدّم والمتأخّر هو رأس سنة 300.

(2) صحيح البخاري 1 : 49 كتاب العلم باب كيف يقبض العلم.

٣٢

الدوانيقي ، وقيل انّه أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والاعجمية بالعربية في الطب والسياسة والفلسفة والفلك والتنجيم والآداب والمنطق وغيرها.

وعن تقييد العلم للخطيب البغدادي عن معمر ، عن الزهري قال : كنّا نكره كتاب العلم حتّى أكرهنا عليه هؤلاء الاُمراء فرأينا ألا نمنعه أحداً من المسلمين(1) .

وقال أيضاً : استكتبني الملوك فأكتبتهم ، فاستحييت الله إذ كتبتها للملوك ألاّ أكتبها لغيرهم(2) .

وإليك قائمة باسماء جمع من المؤلّفين على ما ذكره الذهبي وغيره :

1 ـ ابن جريح ( المتوفّى 150 هـ ) التصانيف.

2 ـ أبو حنيفة ( المتوفّى 150 هـ ) الفقه والرأي.

3 ـ سعيد بن عروبة ( المتوفّى 156 هـ ).

4 ـ الاَوزاعي بالشام ( المتوفّى 156 هـ ـ أو 157 ).

5 ـ حماد بن سلمة ( المتوفّى 167 هـ ).

6 ـ مالك بن أنس ( المتوفّى 179 هـ ) الموطأ.

7 ـ ابن اسحاق ( المتوفّى 151 هـ ) المغازي.

8 ـ معمر اليمني ( المتوفّى 153 هـ ).

9 ـ سفيان الثوري ( المتوفّى 161 هـ ) الجامع.

10 ـ هشام الواسطي ( المتوفّى 188 هـ ).

11 ـ الليث بن سعد ( المتوفّى 175 هـ ).

__________________

(1) تقييد العلم : 107.

(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1 : 77.

٣٣

12 ـ عبدالله بن لهيعة ( المتوفّى 174 هـ ).

13 ـ ابن المبارك ( المتوفّى 181 هـ ).

14 ـ القاضي أبو يوسف يعقوب ( المتوفّى 182 هـ ).

15 ـ ابن وهب ( المتوفّى 191 هـ ).

قيل : ولم يصل الينا من الكتب المبوبّة إلى آخر المائة الثانية ( أي في الحديث ) إلاّ موطأ مالك.

أقول : لسنا بصدد التحقيق حول هذا الموضوع ، وانّما ذكرناه تطفلاً ، فلنرجع إلى أصل المقصود وهو البحث عن تدوين الحديث وكتبه المشهورة وتاريخه وما يتعلّق به من اعتبار الاَحاديث المنسوبة إلى النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله واعتبارها. فأقول : تحوّل تدوين الحديث بعد عام ( 200 هـ ) إلى حالة أُخرى ، وهي أن يفرد حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة بالتدوين كما عرفت آنفاً.

فصنّف عبدالله بن موسى العبسي الكوفي ( المتوفّى 213 ) ومسدد بن مسرهد البصري ( المتوفّى 228 ) والحميدي ( المتوفى 219 ) كلّ منهم مسنداً(1) ، ثم بعد ذلك صنّف أحمد بن حنبل ( المتوفّى 241 ) واسحاق بن راهويه ( المتوفّى 237 ) استاذ البخاري وغيرهما مسانيد(2) .

__________________

(1) المسند ان يجعل جميع ما يروي عن كلّ صحابي ـ أي ما يسند إليه ـ في باب على حدة مهما كان موضوع الحديث.

(2) قيل : ان معاوية استحضر عبيد بن سارية يسأله أخبار الملوك وامر أن يدوّن ما يقول : وقيل : انّ خالد بن يزيد بن معاوية ترجم كتب الفلسفة والنجوم والكيمياء والطب والحروب وغيرها ، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانه ، وقيل : انّ ابا جعفر المنصور أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والاَعجمية بالعربية ، وهو حمل الفقهاء على جمع الحديث والفقه.

٣٤

أمّا الكتب المشهورة المرجوع اليها في الحديث ، فهي ما يلي.

1 ـ الموطأ لانس بن مالكرحمه‌الله ، المولود في سنة( 91 ) أو ( 92 هـ ) ، المتوفّى في سنة( 179 ) .

2 ـ كتاب محمّد بن اسماعيل البخاريرحمه‌الله ، المولود في سنة ( 194 هـ ) ، المتوفّى في سنة ( 256 هـ ).

3 ـ كتاب مسلم بن الحجاج النيشابوري ؛ ، المولود في سنة ( 204 هـ ) ، المتوفّى في سنة ( 268 هـ ).

4 ـ سنن أبي داود سليمان بن الاشعث السجستاني ، المولود ( 202 هـ ) ، المتوفّى في سنة ( 275 هـ ).

5 ـ سنن الترمذي الضرير محمّد بن عيسى ، المولود ( 209 هـ ) ، المتوفّى ( 279 هـ ).

6 ـ سنن النسائي أحمد بن شعيب النيسابوري ، المولود ( 215 هـ ) ، المتوفّى ( 303 هـ ).

وعن ابن خلدون ( المقدمة 418 ) : هذه هي المسانيد المشهورة في الملّة ، وهي أُمّهات كتب الحديث في السنة ، وانّها إن تعدّدت ترجع إلى هذه في الاَغلب.

وزاد بعضهم على الاَُصول الخمسة ـ أي كتب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ـ سنن ابن ماجه المولود 209 هـ المتوفّى ( 375 ) أو ( 373 ) ، ولذا اشتهرت كلمة الصحاح الستة في لسان العوام ، وقيل انّ الكتاب السادس هو سنن الدارمي المتوفّى سنة ( 255 هـ ) ، فانّ ابن ماجه اخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الاَحاديث.

ومن هذا يعرف انّ عمدة التدوين انّما وقعت في القرن الثالث من

٣٥

الهجرة.

ولادة غير مشروعة

1 ـ عرفت انّ الصحابة الكبار وأهل النفوذ نهوا عن نقل الحديث أو اكثاره ، فأُهمل نقل الاَحاديث إلى حد كبير ، وعرفت أيضاً انّ كتابة الحديث قد تركت ، إمّا بأمر من النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإمّا بأمر من الخلفاء ، واستمرت هذه الحالة إلى أوائل القرن الثالث من الهجرة غالبة ، والنتيجة الطبيعية من الحالة المذكورة أمران محتومان ، ولن تجد لسنّة الله تبديلاً ولا تحويلاً.

أحدهما : وقوع تحريف في الاَحاديث زيادة ونقيصة.

وثانيهما : ضياع الاَحاديث بكمية كثيرة بموت حامليها أو نسيانهم ، وما وصل إلى القرن الثالث ـ بل القرن الثاني ـ فانّما هو قليل جداً عادة ، لكنّ الاَقاويل المسماة بالاَحاديث مع ذلك زادت وكثرت ونمت ، بحيث تندهش العقول منها ، واليك بعض شواهد هذا الفضول.

1 ـ عن أحمد بن حنبل في مسنده : هذا كتاب جمعته وانتقيته من ( 750 ) ألف حديث.

2 ـ وعن محمّد بن عمر الرازي أبي بكر الحافظ : كان أبو زرعة يحفظ ( 700 ) ألف حديث ، وكان يحفظ ( 140 ) ألف حديث في التفسير.

3 ـ وعن مالك ، انّه اختار الموطأ من ( 100 ) ألف حديث.

4 ـ وعن البخاري ، انّه أختار كتابه من ( 600 ) ألف حديث.

5 ـ وعن مسلم ، انّه اختار كتابه من ( 300 ) ألف حديث.

6 ـ وعن أبي داود ، انّه كتب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( 500 ) ألف حديث.

7 ـ وعن البخاري انّه قال : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي الف حديث غير صحيح.

٣٦

8 ـ وعن أحمد انّه قال : صحّ من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر وظاهر هذا الكلام ان الاَحاديث الصحيحة فقط تزيد عن ( 700 ) ألف حديث ، وأمّا غير الصحاح من المجهول والضعيف فعدده لم يذكر.

9 ـ قيل انّ العلماء رووا عشرات آلاف من الاَحاديث في التفسير ، وانّ ابن تيمية قد ذكر في كتابه « أُصول التفاسير » انّ الاِمام أحمد قد قال : ثلاثة أُمور ليس لها اسناد : التفسير والملاحم والمغازي(1) . ولذلك قال شعبة تسعة أعشار الحديث كذب(2) .

أقول : العاقل المنصف المدقّق لا يرى في كلام شعبة مبالغة ، بل يتوقّف في صدق العشر الواحد منها ، فالسنّة ـ أي الاَحاديث القولية النبويّة ـ قد غرقت في بحر من الدس والكذب والافتراء ، بحيث لايمكن وجدانها لاَي غائص حريص ، فانّا لله وانا إليه راجعون ، وكأنّ النبي الخاتم يعلم مستقبل أقواله حيث قال : « من قال عليَّ ما لم أقله فقد تبوأ مقعده من النار ». أو : « من كذّب عليَّ فهو في النار » ونحوهما من العبارات ، لكن الوضّاعين ، إمّا لا اعتقاد لهم بالنار ، وإمّا لا عقل لهم ، حيث أجابوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بانّا لا نكذّب عليك ، بل نكذّب لك!!!

يقول الدكتور أحمد أمين(3) : ومن الغريب اننا لو اتخذنا رسماً بيانياً للحديث لكان شكل « هرم » طرفه المدبّب هو عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم يأخذ في السعة على مرّ الزمان ، حتّى نصل إلى القاعدة أبعد ما نكون على عهد

__________________

(1) مسند أحمد : 14.

(2) أنظر ص193 وهامشها وص299 من كتاب أضواء على السنة المحمدية لمحمود أبو ريه.

(3) الاسلام الصحيح : 215.

٣٧

الرسول ، مع انّ المعقول كان العكس. فصحابة رسول الله أعرف الناس بحديثه ، ثم يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا ، ولكنّا نرى أنّ أحاديث العهد الاَموي أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين ، وأحاديث العصر العباسي أكثر من أحاديث العهد الاَموي(1) .

وأقول : وبعد ذلك أفلا تعجب ممّا نقل عن البخاري انّه يحفظ مائة ألف حديث صحيح ؟!!!

لا من ادعاء الحفظ ، فانّه خارج عن محل بحثنا ، بل من ادّعاء صحّة هذا الكمية الهائلة من الروايات ، وهل يرضى نفسه ونفس كل منصف مع نهي الخلفاء عن الرواية أو اكثارها وعن الكتابة ان تصل بعد أكثر من قرنين مائة ألف حديث إلى البخاري وحده على ما شرطه؟ فلو أقسم أحد ببطلان هذا الادّعاء لم يكن كاذباً وآثماً ولو سألتني عن الحق ، قلت : انّ اقتصار البخاري في كتابه على نقل 2062 حديث فقط خير دليل على اشتباه هذه الدعوى ، أفلا تعقلون؟!

ما هو أسباب هذا التكثّر المجعول؟

اليك ما يحضرني عاجلاً :

1 ـ عدم اقدام الخلفاء الراشدين على تدوين الاَحاديث المعتبرة في مجموعة لا يبقى بعدها مجال للوضع والكذب ، بل من سوء الحظ منعوا من كتابتها وأوجدوا أرضية وسيعة للوضّاعين والمكثرين بما شاءوا.

2 ـ الغلو المفرط في شأن كلّ من سمّي بالصحابي ولو كان فاسقاً فاجراً ، وجعلوا الصحبة ستراً قوياً وجداراً منيعاً عن أي نقد وبحث فضلاً

__________________

(1) ضحى الاسلام : 128.

٣٨

عن الاعتراض على اخطائهم ، فتراهم يكرمون المتحاربين منهم من القاتل والمقتول ويتحفونهم بالترضيّة ، ويزعمون عدالتهم ، وإن صدر منهم ما صدر ، فقبلوا أكاذيب أبي هريرة وامثاله باخلاص واعتقدوا كأنّها لم تصدر إلاّ عن لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولئن كان في الصدر الاول عدّة محدودة من أمثال أبي هريرة ، لكن تكثّر وتعدّد بعده في الطبقة الثانية أضعاف عدد الطبقة الاولى ، وهكذا إلى زمان المدّونين من أرباب المسانيد والصحاح!

والواقع انّ غلوّنا في حق الصحابة وعد الجميع في مرتبة عالية من التقوى والاخلاص قد تسبّب ضرراً كثيراً على الدين والعلم والحقيقة ، ومن يزعم انّ اطلاق العقل في التحقيق والبحث عن أحوال الصحابة ـ حسب موازين الجرح والتعديل الرائجة في حق غيرهم ـ يوجب التزلزل في اركان التسنّن فهو يعترف ـ أشعر أو لم يشعر ـ بانّ بناء التسنّن على الاَباطيل والمجهولات والعمى المطلق ، ولا يوافقه أحد من علماء أهل السنة.

3 ـ دس الاسرائيليات في الاَحاديث وبثها بين المسلمين ثم أصبحت كونها من أقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مسلمة لا تقبل الترديد ، ولاحظ تفصيله في غير هذا الكتاب.

4 ـ وجود أُناس فاقدي التقوى لا همَّ لهم سوى هم البطن وهم عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم ، فقصّوا على الناس ما أعجبهم أو ما قويت به السلطة الحاكمة ، ونسبوا كلّ ذلك إلى النبي الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحصلوا بذلك على حطام الدنيا ومتاعها واشتهروا بين الناس ، فباعوا الدين بالدنيا.

وعرفت فيما مرّ انّ البخاري ادّعى انّه يحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.

وعن مالك بن أنس ( 91 أو 93 ـ 179 ) : انّ هذا العلم دين فانظروا

٣٩

عمّن تأخذون دينكم ، لقد أدركت سبعين ممّن يقولون قال رسول الله عند هذه الاساطين ( عمد المسجد النبوي ) ، فما أخذت عنهم شيئاً(1) 5 ـ النظام الاَموي كان بحاجة شديدة إلى استخدام الدين لضرب منافسيهم ومخالفيهم من بني هاشم الذين هم أكثر منهم ديناً وعلماً وكرماً وأقرب رحماً إلى الرسول الاَعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصرفوا الملايين في اجارة الدجالين والوضّاعين لابطال الحقّ وإحقاق الباطل(2) .

6 ـ دس الزنادقة لافساد أمر الشريعة وعقائد الاَُمة.

اخرج ابن عساكر ـ على ما نقل ـ عن الرشيد انّه جيء إليه بزنديق فأمر بقتله ، فقال : يا أمير المؤمنين أين أنت عن أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم أُحرّم فيها الحلال وأُحلّ فيها الحرام.

وحكي انّه لما أخذ عبد الكريم بن أبي العوجاء يضرب عنقه قال : لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أُحرّم فيها الحلال وأُحللّ الحرام.

وعن حماد بن زيد وضعت الزنادقة على رسول الله اثني عشر ألف حديث.

وعن اسحاق بن راهويه : انّه يحفظ أربعة آلاف حديث مزوّرة.

تأكيد ثانوي

وممّا يؤكد انّ هذه الكثرة المكثرة من الاَحاديث نشأت من الجعل والكذب لاغراض مادية أو سياسية أو غير ذلك ، وانّه لا يصح الاعتماد على

__________________

(1) أضواء على السنة المحمدية : 295.

(2) ملوك بني أُميّة لم يطلبوا وضع الحديث في حقّهم فقط ، فانّ فسقهم وسوء حالهم من صدر الاسلام كان معلوماً مشهوراً عند المسلمين ، بل في تقليل شأن علي وآله ، وفي تعظيم مخالفيهم ، وفي حوادث تتعلّق بهما ، وقد نجحوا في تغيير الرأي العام إلى ما أرادوا.

٤٠