الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92454
تحميل: 7026


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92454 / تحميل: 7026
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء الأول

معهد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العالي للشريعة

١

الفقه إمكانيّات خصبة للتطوير

مقدِّمة

يُعَدُّ الفقه أحد أهمّ العلوم الإسلاميّة، بل يذهب بعضهم إلى أنّه العلم الإسلامي الأوحد الّذي لا يمكن دعوى تأثّره بالفكر الوافد. وقد عرَّفه الفقهاء بأنّه: ((العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أدلَّتها التفصيليّة))(١) . وتتَّضح أهميّة هذا العلم بعد الوقوف على مرامي هذا التعريف وغاياته، حيث إنّه يراد من الأحكام الشرعيّة الأحكام الخمسة: ((الوجوب والحرمة، الاستحباب والكراهة، الإباحة))، وإذا جمع هذا مع المسلَّمة الّتي يؤمن بها الفقهاء؛ وهي أنّ كلّ فعل من أفعال المكلَّفين مورد لحكم من هذه الأحكام الخمسة: ((ما من حادثة إلا ولله فيها حكم))(٢) . عند ذلك تبرز أهميّة هذا العلم لدى المشتغلين به. ويؤكِّد هذه الأهميّة أنّ المسلم قديماً، وحديثاً ـ إلى حد ما، لا يخلو بيته من كتاب فقهي بشكل أو بآخر.

وعلى ضوء هذا الوعي لأهميّة الفقه يقول الإمام الخمينيرحمه‌الله :

((... ولا يمكن توضيح حقيقة القوانين الإلهيّة، ولو على نحو الإجمال، في مثل هذه اللقاءات...؛ فأحكام الإسلام قوانين تنظِّم حياة جميع أفراد بني الإنسان،

ــــــــــــــ

١ ـ حسن زين الدين، معالم الدين وملاذ المجتهدين، ط عبد الرحيم، ص ٢٢.

٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ط٢، قم، مؤسسة آل البيت، ١٤١٤هـ، مج٢٧، ص٥٢.

٢

تنظِّم علاقتهم بالله... وبالجهاز الحاكم، وتنظِّم العلائق الّتي يمكن تصورها. إنّ للإسلام قوانين تنظِّم كلّ هذه الشؤون... فالإسلام يحتوي على نظام للحكم يناظر مؤسّسات الأنظمة الأخرى للحاكم، لكن مؤسّساته تقوم على أساس العدالة. كما أنّ له قوانين تنظِّم علاقة الجهاز الحاكم بالرعيّة، بمختلف فئاتها)) (٣) .

تطوير الفقه

إنّ أهميّة علم الفقه الّتي أشرنا إليها، تملي على العلماء والباحثين ضرورة تطوير الفقه والنهوض به؛ ليبلغ إلى ما يرتجى منه كنظام يقنن لجوانب الحياة الإنسانيّة كلِّها، على الصعيدين الفردي والاجتماعي، الدنيوي والأخروي.

مراحل تطور الفقه

اختلف الباحثون في تعداد المراحل الّتي مرَّ بها الفقه؛ فمنهم من أوصلها إلى تسعة(٤) ، في حين رأى آخرون غير ذلك، منهم محمود شهابي واعتمد تقسيماً آخر للفقه(٥) . وبغضِّ النظر عن هذا الاختلاف في عدد مراحل الفقه وطبقات الفقهاء، الّذي يبتني على المعيار المعتمد من زمني أو كيفي، يلاحظ تطور الفقه نفسه. ولو لاحظنا تطور الفقه بنظرة إجماليّة، نجد أنّ الفقهاء اعتمدوا في تدوين فقههم، نصوص الروايات الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، دون أيَّ إضافة أو تفريع عليها؛ اللَّهُم إلاّ حذف اسنادها ودرجها على شكل مجموعة من المسائل.

وهكذا إلى أن أتى الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠)، فلم يرقه الجمود الفقهي:(( إنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقِّهة والمنتسبين إلى علم الفروع ينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل... وكنت، على قديم الوقت، متشوِّق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك، تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل...)) (٦) .

ــــــــــــــ

٣ ـ أنظر: الإمام الخميني، الكوثر، ط١، طهران، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام، ١٩٩٦م، ج٢، ص٤٧٣.

٤ ـ أبو القاسم كرجي، تاريخ فقه وفقها (بالفارسيّة)، ط١، طهران، سمت، ١٣٧٥هـ. ش.

٥ ـ محمو شهابي، أدوار فقه، ط٥، طهران، وزارة الإرشاد، ١٣٧٥هـ. ش.

٦ ـ محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط، طهران، المكتبة المرتضويّة، ١٣٨٧هـ، ج١، ص٢.

٣

فألّف كُتباً عدّة، حاول فيها الخروج عن المألوف في تدوين الفقه، فأثرت حركته وانتقل بها إلى مراتب عجز تلاميذه عن مجاراته فيها، فجمدوا أمام عبقريّته سنين متطاولة(٧) .

وهكذا تابع الفقه مسيرته، بين تطور وركود، إلى أن وصل إلى عصرنا الحاضر. ولا نريد أن نؤرِّخ لتطور الفقه عبر عصوره الّتي مرَّ بها، ولكن نريد الدخول من هذا الباب إلى البحث عن الإمكانيّات الّتي يتمتَّع بها الفقه للتطوير، ووسائل هذا التطوير ومساربه.

١ ـ مِلاكات الأحكام:

يؤمن كثير من الفقهاء بأنّ الأحكام الّتي شرّعها الله تابعة للمصالح والمفاسد المترتِّبة عليها، وهذه المصالح أو المفاسد يُطلق عليها مصطلح: (مِلاكات الأحكام)، ومن شأن الالتفات إلى مِلاكات الأحكام ومحاولة اكتشافها أن يدفع بالفقه إلى الأمام، وقد التفت كثير من الفقهاء إلى هذه المسالة، وعبرَّوا عنها بعبارات مختلِفة، تدور بأجمعها حول إمكانيّة إدراك علّة الحكم، وتوسعة بعض الأحكام الواردة في واقعة محدَّدة لتشمل غيرها من الوقائع المشابِهة، وضمن هذا الإطار يقع القياس عند فقهاء أهل السنّة، وتنقيح المناط عند فقهاء الإماميّة.

ولم يكن الموقف من إدراك مِلاكات الأحكام موحَّداً، بل اختُلِف بين فقة العبادات وفقه المعاملات؛ حيث فرّق بعض الفقهاء بين المجالين، فحكموا بإمكانيّة الوصول إلى المِلاك في المجال الثاني دون المجال الأول.

(( إذا كان للشارع كلمة بشأن الأصول العُقلائيّة، نفياً أم إثباتاً، فإنّ هذه الممارسة تُعَدُّ في الواقع إرشاداً إلى حكم العقلاء، لا أنّ للشارع تعبُّداً في باب المعاملات. أمّا في باب العبادات، فلا يمكن أن نأتي بالتعليلات بشأن الأحكام الشرعيّة...)) (٨) .

ــــــــــــــ

٧ ـ محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ط٣، بيروت، دار التعارف، ١٩٨١م، ص٦٢.

٨ ـ محمد هادي معرفت، الحياة الطيّبة، العدد ٦ و٧، ص٥٠، وللمقارنة انظر: محمد مهدي شمس الدين، مجلة المنطلق، العدد١١١.

٤

٢ ـ التَّحول في المنهج:

ترتكز كثير من الخلافات الفقهيّة على التغير في المنهج المعتمد في استنباط الأحكام، وبهذا وحده يمكن تفسير الخلاف بين الأخباريّين والأصوليّين في الفقه الإمامي؛ حيث أنكرت الفئة الأولى قيمة العقل في استنباط الأحكام وقبلتها الأخرى ضمن حدود وضوابط قرَّروها. وهكذا كثير من الخلافات الفقهيّة، ترتدُّ بالتالي إلى أصول منهجيّة. ومن هنا لا يمكن أن يتطوّر الفقه، إلا بتطوّر منهجه وأدواته العلميّة المعتمدة. ويبدو أثر المنهج الأصولي واضحاً في كثير من المسائل الفقهيّة، فمن يتابع فتاوى الشيخ يوسف البحراني يجده يتوقّف عن الفتوى في كثير من الموارد، بينما نجد غيره من أصحاب المنهج الأصولي يجترحون الحلول الفقهيّة لموارد توقّفه(٩) .

٣ ـ زيادة المسائل:

لا شكَّ في أنّ زيادة المسائل تُعَدُّ إحدى مسارب التطوير الفقهي، وهذه الزيادة على شكلين، فتارةً تُأخَذ زيادة المسائل كحالة افتراضيّة؛ بحيث يُعمِل الفقيه ذهنه لاختراع المسائل والإشكاليّات الفقهيّة ثُمََّّ البحث عن حلول لها، وهذا النحو لا يمكن عدُّه تطوّراً، إلاّ بنحو من التحفّظ، وبحسب الموارد. وقد كان الفقه يتطوّر في بعض مراحله على هذا النحو(١٠) . وأخرى يَأخُذ تطور الفقه بزيادة المسائل شكلاً مرتبطاً بالواقع؛ بحيث تزداد المسائل بحسب حاجة الواقع، لا بحسب الافتراضات الذهنيّة، وهذا النحو من الزيادة يمليه حدوث مشكلات واقعيّة تواجه العقل الفقهي وتحتاج إلى حلول مستوحاة من المصادر الشرعيّة، ليكيّف المكّلف المسلم سلوكه على ضوئها، ومثال ذلك: أحكام البنوك، التأمين، ترقيع الأعضاء وبيعها، الاستنساخ، الموت الرحيم،... إلخ. وهذا الشكل من

ــــــــــــــ

٩ ـ أنظر: يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج١٤، ص٤٦٢.

١٠ ـ أنظر: جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، طبعة حجرية، أصفهان، مهدوي، ج١، ص٢٧، توبة الزاني عند النزع.

٥

الزيادة يمكن تسميته تطوّراً دون أدنى تحفّظ؛ وذلك لأنّ الفقه علم عملي ينبغي أن يتفاعل مع حاجات الواقع ومشكلاته.

وهذا ما يشير إليه الإمام الخمينيرحمه‌الله ، عندما ينصح الطلاّب قائلاً:(( أيّها السادة الطلاّب، عليكم أن تبحثوا المسائل الفقهيّة من خلال سوق الحويش (أحد الأسواق المحليّة في مدينة النجف الأشرف)، لا في غرف مدارسكم)) (١١) .

٤ ـ التطبيق العملي للفقه:

هناك فرق كبير بين الفقه النظري، الّذي لا يعرف طريقه للتطبيق، وبين الفقه العملي، الّذي يتمّ تطبيقه في عالم الواقع؛ حيث إنّ تطبيق الفقه، أو أي نظريّة قانونيّة أخرى، سوف يظهر مكامن الخلل فيها ويدعو القائمين عليها إلى إصلاحها. ولعل هذا ما يفسّر نمو أبحاث العبادات في الفقه الشيعي وضمور غيرها من الأبواب بالقياس إليها؛ حيث إنّ فقه العبادات قابل للتطبيق في حياة الفرد المسلم، بغضِّ النظر عن لون الحكومة السياسي، بينما الجانب الاجتماعي من الفقه قد لا يتيسّر تطبيقه في كثير من الأحوال، ما يؤدّي إلى عدم الاهتمام به، وهذا ما يفسّر قلّة اهتمام الفقهاء بأحكام العبيد في هذا العصر. وعلى ضوء هذا يمكن تفسير الأحكام الولائيّة الّتي تدعو إلى تشريع بعض الأحكام الخاصّة بمجالات تطرأ أثناء التطبيق، والمثال الأوضح لذلك من النظام القضائي الإسلامي؛ حيث إنّنا لا نجد في الرسائل العمليّة والكتب الفقهيّة المتداولة حديثاً عن منصب المدّعي العام، ولكن التطبيق لهذا النظام، يظهر أنّ القاضي على مستوى الشَّكل الظاهري يتحوّل إلى حكَمٍ وخَصْم للمدعي عليه في آن واحد، ولذلك يطرح الحديث عن استحداث منصب المدَّعي العام؛ للتخلّص من هذا التناقض الشكلي.

ــــــــــــــ

١١ ـ عن مجلة الحياة الطيّبة، العدد٦ و٧، ص٤٩.

٦

٥ ـ المقارنة:

ينطلق الفقه الإسلامي عموماً، سنّيّاً كان أم إماميّاً، من مجموعة من المنطلقات المشتركة كالكتاب الكريم والسنّة الشريفة، بغض النظر عن الاختلاف في معايير تشخيصها والوثوق بها. هذه الوحدة ـ ولو في بعض المُنطلقات على الأقل ـ مضافاً إلى الوحدة في الاهتمامات والأهداف؛ حيث إنّ الفقه الإسلامي عموماً يهدف إلى التوفيق بين سلوك المؤمن وبين الشريعة؛ هذه الوحدة تدعو إلى التكامل بين الفقهين واستفادة كلٍّ منهما من الآخر.

وقد التفت المتقدّمون من الفقهاء إلى أهميّة المقارنة وتأثيرها على فقههم وصياغة نظرياتهم، وهكذا وصلت إلينا موسوعات فقهيّة مقارنة منذ بدايات البحث الفقهي المنظَّم مثل: كتاب الخلاف للشيخ الطوسي، واستمرّت هذه السنّة إلى زمن العلاّمة الحلّي، فكان كتاب تذكرة الفقهاء، ثُمَّّ بعد ذلك لم نَعُد نرى المقارنة بين الفقهين إلاّ نادراً.

ومن الأبواب الّتي تدعو الحاجة إلى فتحها هو باب المقارنة مع الفقه الوضعي؛ حيث إنّ كثيراً ممّا في القوانين الّتي تُطَبَّق في العالم المعاصر قد يلتقي مع الفقه الإسلامي، وقد يختلف معه. ومن هنا لابدّ من بيان الموقف الفقهي منها. يقول الشيخ محمد هادي معرفت في معرض الدعوة إلى مقارنة الفقه بالقوانين المعمول بها على الصعيد الدولي: ((هل ثُمَّة مصلحة أن تقتفي الجمهوريّة الإسلاميّة... النُّظم الحقوقيّة المقرّرة في البلدان الأجنبيّة...))(١٢) .

هذه بعض الموارد والإمكانيّات الّتي يتحلّى بها الفقه، وتفسح له المجال بالتطوير والتقدّم، يضاف إليها غيرها ممّا عالجه هذا الكتاب، الّذي نأمل أن يكون مساهمة، ولو متواضعة، على طريق النهوض بالفقه؛ للوصول به إلى مرتبة تضاهي سائر القوانين المعمول بها في عالمنا المعاصر.

الحياة الطيّبة

ــــــــــــــ

١٢ ـ مجلة الحياة الطيبة، العدد ٦ و٧، ص٤٩.

٧

مجال الفقه وحدوده  مدخل عام

مهدي مهريزي

ترجمة: خالد توفيق

إنّ البحث عن سؤال ((ماذا يريد الإنسان من الدين؟)) يمكن الإطلالة عليه ودرسه من زاويتين:

الأولى: من خارج الدين؛ بحيث نصل، من خلال المعايير العقلانيّة، إلى ما نتوقّعه من الدين وما نريده منه.

الثانية: من داخل الدين؛ حيث تسعى هذه الرؤية إلى أن تستشفّ الجواب من خلال الاستناد إلى النصوص الدينيّة، لكي تتبيّن التخوم الّتي تمتدّ إليها دائرة الدين في صلتها بحياة الإنسان.

والرؤية الّتي تطلّ على المقولة من خلال البُعد الثاني (الديني) هي الّتي يُطلق عليها ((كمال الدين)) أو ((شمول الدين وجامعيّته)).

هناك الكثيرون من العلماء يشتغلون على هذا الموضوع وينظرون إليه من خلال الزاوية الأولى؛ [النظر إلى دور الدين من خارج الدين وعبر المعايير العقلانيّة]، إلاّ أنّ الحقّ أنّ هذه المعالجة ناقصة، وهي تعبير عن رؤية غير تامّة ولا منسجمة. فما لم يتحدّد لنا ما هو المراد من الدين، ولماذا ينبغي اللجوء إليه، لا يمكن معرفة مجاله، والدائرة الّتي يمتدّ إليها. فلو يمّمنا وجوهنا صوب الدين على أثر/ وبدافع حاجات و متطلّبات يعجز الإنسان نفسه عن تلبيتها، فلا يمكن أن يُنفى وقوع الخطأ في معرفة احتياجات الإنسان وتشخيصها، ومن ثُمََّ، فإنّنا نطلب من الدين أن يلبّي لنا رغباتنا في متطلّبات لم نعرفها.

وبتعبير آخر، يمكن للدين أن يلبّي ـ من جهة ـ التوقّعات الأوليّة للإنسان، كما يؤدّي ـ من جهة أخرى ـ إلى توسّع دائرة الترقّب. تُرى هل عرف الإنسان جميع أبعاد نفسه حتّى يكون مُحِيطاً باحتياجاته ومتطلّباته كافّة؟، إذا ما آمنا بعجز الإنسان، في الجملة، عن تلبية بعض الاحتياجات، فعندئذ لا يمكن إنكار عجزه وقصوره فيما يرتبط باستنتاج آماله ومتطلّباته.

٨

وعلى هذا الأساس يحتاج بعدا المسألة، كلاهما، إلى الدراسة، ويتطلّبان معالجة علميّة جادّة من قبل الباحثين في الدين.

ويطلّ هذا المقال على جزء من مسألة الشموليّة أو الجامعيّة؛ متمثّلة بمجال الفقه، انطلاقاً من الزاوية الثانية (الدينيّة)؛ لأنّ مجال الدين وشموليّته مسألة معروضة للتداول من خلال مستويات عدّة، هي:

١ ـ مجال الدين في دائرة المعرفة بالوجود، وفي نطاق المسائل الفلسفيّة، أو ما يرتبط بمقولة الرؤية الكونيّة عامّة.

٢ ـ مجال الدين في نطاق دائرة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.

٣ ـ مجال الدين بالنسبة إلى المسائل الأخلاقيّة.

٤ ـ مجال الدين بالنسبة إلى المسائل الحقوقيّة والسُّلوكيّة.

إنّ المحور الرابع، الّذي يأتي في هذه الدراسة بعنوان ((مجال الفقه))، هو ما سيكون موضعاً للبحث والتحليل. لكن ينبغي الإقرار بأنّ هذه المسألة لم تحظ بدراسة جدّيّة في إطار ما هو متداول في مجال علمَيْ الفقه والأصول، بل وحتّى في نطاق علم الكلام، ولم يُخصّص لها عنوان مستقل، وبذلك، ليس هناك تصوّر واضح عن الموضوع. ولم تتّضح مرتكزاته والمسلّمات المفترضة الّتي يقوم عليها، كما لم يتبيّن طريق معالجة المشكلة وحلولها. وينبغي لهذا الموضوع أن يأخذ موقعه في نطاق بحوث ((فلسفة الفقه))(١) ، الّذي يعدّ بدوره علماً ناشئاً.

ورغم أنّ عامّة الفقهاء والأصوليّين يؤمنون بامتداد مجال الفقه، وتشهد بذلك سيرتهم العلميّة، ومنهجهم في البحث، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يخضع لعملية التبيين والتفسير والاستدلال. وما نسعى إليه في هذه الدراسة هو أن نقدّم ((مدخلاً)) يكون بمثابة الأرضيّة الّتي توطئ للبحث الجادّ. على أن ّ ما ينبغي التنبيه إليه هو أنّ الكلام لا يدور حيال الفقه، أو بُنْيته الحاليّة، بقدر ما ينصبّ على ((مجال الفقه)) كما ينبغي أن يكون، بغض النظر عمّا هو عليه في الوقت الراهن.

ــــــــــــــ

(١) كمحاولة تمهيديّة على هذا الصعيد، يُنظر: مهدي مهريزي، كتاب قضايا إسلاميّة معاصرة، ١٤١٨هـ. مدخل إلى فلسفة الفقه، ترجمة خالد توفيق.

٩

أوّلاً: عرض المسألة

يتمثّل عمل الفقيه بالبحث عن الأدلّة لاستخراج الأحكام الشرعيّة، كما يقوم، مضافاً إلى ذلك، بالبحث حول بعض الموضوعات الّتي يترتّب عليها الحكم. وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في الموضوعات العباديّة. فعلى سبيل المثال، يطرح الشيخ الأنصاري في كتابه ((المكاسب)) كثيراً من التحليلات حول موضوعات الأحكام. وباستثناء هذين القسمين المتمثّلين ببيان الحكم والموضوع ليست هناك مسألة اُخرى يبحث عنها في الفقه.

وما يُعنى به البحث عن ((مجال الفقه)) و((دائرة وحدود تدخُّله))، هو: مضافاً إلى القسمين المذكورين (الحكم والموضوع)، هل ثُمَّة للفقه ساحات أخرى لم يتناولها الفقهاء الآن؟، وفي مسألة الحكم والموضوع، إلى أين تمتدّ دائرة الفقه؟، هل يقع على عاتق الفقه وضمن مجاله بيان حكم جميع أشكال النشاط الإنساني، بما في ذلك النشاط الظاهري والباطني، الفردي والاجتماعي؟، ثُمَّ هل كلّ ما يتعرض له الفقهاء في أبحاثهم داخلٌ في حدود صلاحياتهم، أم أنّ بعض الموضوعات الّتي يبحثونها تقع خارج مجال تخصّصهم، وحدود دائرة علمهم؛ بحيث إنّ بعض الموضوعات الّتي يبحثون عنها تقع خارج نطاق دائرة الفقه؟

وما يهمنا الإشارة إليه في عرض المسألة هو تسليط الضوء على مواضع الاختلاف، سواء بين الفقهاء أم غيرهم، وأن نوثّق لخلاصة ما ذكروه من الآراء والأقوال وبعض الاستدلالات.

١٠

وتتمثّل مواضع الخلاف في الرؤية، بما يلي:

١ ـ الفقه والأعمال الباطنيّة

هل يعني الفقه بالأعمال الظاهريّة للإنسان وحدها، أم يمتدّ إلى الأعمال الباطنية أيضاً؟، وبتعبير آخر: هل تُعَدُّ بعض المسائل الأخلاقيّة، الّتي تهتم ببيان حكم الأعمال الباطنيّة، جزءاً من الفقه، أم أنّها تقع ضمن مجال علم الأخلاق؟

يقول الفقيه محمد تقي الأصفهاني في ((هداية المسترشدين))، أثناء تعريف الفقه: ((إذا ما جعلنا الفقه مختصّاً بأعمال الجوارح، فإنّ كثيراً من المباحث تخرج عن دائرة الفقه، كمباحث النِّيَّة وغيرها))(٢) . من جهة اُخرى يقول بعض الحقوقيّين: ((إنّ الأخلاق، بشكل عام، تدخل في الفقه الإسلامي))(٣) .

وعلى طرف آخر نجد هناك آراءً لكتّاب معاصرين تنكر التداخل بين الأخلاق والفقه أو الاشتراك بينهما. فعندما عُقد في إيران مؤتمر عن فقه الطب كتبت إحدى المجلاّت النقدية ما نصّه: ((في الأيام الحاضرة، عمد عدد من الأطبّاء في بلدن

ــــــــــــــ

(٢) هداية المسترشدين، ص٣، سطر ٢٨، مع تدخّل طفيف في ترتيب الصياغة.

(٣) محمد جعفر جعفري لنكرودي، مقدّمة عمومي علم حقوق (مقدّمة عامّة في علم الحقوق)، ص١٩ ـ ٢١، بالفارسيّة.

١١

إلى عقد مؤتمر عن فقه الطب، من دون أن ينتبهوا إلى دقائق الأخلاق الطبّيّة. يظنّ هؤلاء أنّه بحل ّالمسائل الفقهيّة يفلحون بعلاج المسائل الأخلاقيّة أيضاً، وكأنّ الفقه صار حلاّلاً للمسائل الأخلاقيّة أيضاً، وهذا خطأ آخر))(٤) .

على أنّ تقسيم الفقه إلى الفقه الأكبر والفقه الأصغر، كما هو شائع في نصوص الأخلاقيّين، وذوي الميول العرفانيّة: كالغزالي (ت: ٥٠٥ هـ)، وصدر الدين الشيرازي (ت: ١٠٥٠ هـ)، يشير إلى خروج الأخلاق عن مجال الفقه(٥) .

وإنّ الفقه في الحقيقة ـ وإن كان يتوفّر على بيان حكم بعض الأعمال الباطنية ـ إلاّ أنّ لعلم الأخلاق، بحدوده وثغوره، دائرة مستقّلة عن الفقه. فالبحث في علم الأخلاق يتمثّل بـ: سُبُل معرفة الرذائل والفضائل، وكيفيّة علاجها (الرذائل) والوقاية منها. ومن ثُمََّ، فإنّ علم الأخلاق لا يضطلع بمسؤوليّة بيان الحكم وحده.

٢ ـ الفقه والأعمال الاجتماعيّة

هل يقتصر الفقه على الأعمال الفرديّة، أم أنّه يمتدّ ليشمل الأعمال الاجتماعيّة أيضاً؟، ثُمَّ هل يستوعب جميع الأعمال الفردية والاجتماعية، أم أنّه يقتصر على بعضها وحسب؟، لا يكاد يوجد اختلاف يذكر في الشطر الأول من السؤال. إنّما تعود أكثر الاختلافات إلى الشطر الثاني، المتمثّل في أنّ الفقه هل يستوعب فعّاليّات الإنسان ونشاطاته الاجتماعية كافّة، وينهض ببيان أحكامها، أم أنّه يُعْنَى ببعضها فقط؟، وإنّ ما يظهر من شكّ أو تردّد إزاء بعض الفعّاليّات كالسياسة والاقتصاد ينتمي إلى هذا القسم.

لقد تحّدث الإمام الخمينيرحمه‌الله عن هذا الجانب أكثر من غيره، كما تدل ّعلى ذلك نصوصه الّتي ننتخب بعضها؛ حيث يقول في أحدها:((في الوقت الّذي يتحتّم عليكم أن تبذلوا أقصى جهودكم، كي لا يقع ـ لا قدّر الله ـ ما من شأنه أن يكون

ــــــــــــــ

(٤) مجلة كِيَان، العدد ٢٧، ص١٣، مقال: خدمات الدين وحسناته، بالفارسيّة.

(٥) نشرة كلّيّة الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة، مشهد، العدد٣٠، ص٥٥ ـ ٦٤، بالفارسيّة.

١٢

مخالفة للشريعة، يتحتّم عليكم أيضاً، أن تبذلوا قصارى جهدكم لكي لا يُتّهم الإسلام بالعجز عن إدارة العالم في القضايا الاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والسياسية)) (٦) .

كما يقول في نصّ آخر:((إنّ الحكومة، من وجهة نظر المجتهد الواقعي، هي تجلّي الفلسفة العمليّة للفقه في جميع زوايا الحياة الإنسانية وأبعادها، وهي انعكاس البُعد العملي للفقه، في تعاطيه مع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية كافّة. والفقه هو النظرية الواقعية والتامّة لإدارة حياة الإنسان، من المهد إلى اللّحد)) (٧) .

وفي نصّ آخر يقول:((إنّ ماهيّة هذه القوانين وطبيعتها تكشف عن أنّها شُرِّعت من أجل تكوين الدولة، وبهدف إدارة المجتمع سياسيّاً، واقتصاديّاً، وثقافيّاً)) (٨) .

كما يعبّر الإمام الخمينيرحمه‌الله عن القناعة نفسها بقوله:((إنّ للإسلام أحكاماً في جميع الأبعاد الّتي يحتاج إليها الإنسان. وإن ّما جاء في الإسلام من أحكام، سواء أكانت أحكاماً سياسية أم أحكاماً لها صلة بالحكومة أو بالمجتمع أو بالأفراد، أم لها علاقة بالثقافة الإسلامية، تتوافق بأجمعها مع احتياجات الإنسان)) (٩) .

ومن نصوصه أخيراً، قولهرحمه‌الله :((إنّ للإسلام أحكاماً تنظّم شؤون الإنسان المادية والمعنوية كافّة. وله أحكام في الأمور الّتي لها دخل برقيّه المعنوي وتربيته العقلانيّة)) (١٠) .

ومن الفقهاء المعاصرين، يذهب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي إلى القناعة عينها فيقول:((ليس في الإسلام واقعة خالية من الحكم، حتّى الأرش في الخدش. وإنّ كلّ ما تحتاج إليه الأمّة الإسلامية ،حتّى يوم القيامة، موجود في القوانين الإسلامية، لكن غاية ما هناك أنه ينبغي بذل الجهد لاستخراج ذلك)) (١١) .

ــــــــــــــ

(٦) الإمام الخميني، صحيفة النور، أحاديث وخطابات، ج٢١، ص٩٨، بالفارسيّة.

(٧) المصدر نفسه، ص٦١.

(٨) ولاية الفقيه، طبعة منشورات الحرّيّة، ص٢٨، بالفارسيّة.

(٩) صحيفة النور، ج٢، ص٢٣٢، بالفارسيّة.

(١٠) المصدر نفسه، ج١، ص٢٣٥.

(١١) الشيخ ناصر مكارم شيرازي، مجلة مسجد، العدد٢، و انظر أيضاً: أنوار الفقاهة (المكاسب المحرّمة)، ص٣؛ أنوار الفقاهة (كتاب البيع)، ج١، ص٥٥٣.

١٣

هاتان شهادتان لفقيهين من المدرسة الأصوليّة، وثُمَّ لغيرهما من المنتمين إلى هذه المدرسة، نصوص دالّة على هذا الصعيد. وبالانتقال إلى مصنّفات فقهاء المدرسة الأخباريّة، نجدها حافلة بالنصوص الدالّة على غنى الفقه وثرائه، من ذلك، ما نصّ عليه الشيخ محمد أمين الاسترابادي في كتابه ((الفوائد المدنية)):((إنّ من ضرورات مذهب الإماميّة أنّ كلّ ما تحتاج إليه الأمة حتّى يوم القيامة، وكلّ ما يقع موضع نزاع بين اثنين، قد وصل فيه خطاب وحكم من جانب الله (تعالى) حتّى أرش الخدش)) (١٢) .

كما قال أيضاً: ((خلوّ واقعة عن حكم إلهي غير متصوّر عند أصحابنا))(١٣) . أمّا الفقيه الكبير الشيخ يوسف البحراني صاحب موسوعة ((الحدائق))، فهو يؤمن بوجود روايات كثيرة تدلّ على أنّ هناك خطاباً شرعيّاً يتكفّل بيان جميع الأمور الجزئيّة والكليّة(١٤) . هذا، ولكن بعض الفقهاء يذهب إلى أنّ المباحات خارجة عن دائرة جعل الحكم؛ وذلك لأنّ رسالة الشريعة وهدفها هي البعث والنهي، لا بيان المباحات، كما ينصّ على ذلك السيّد الخوئيرحمه‌الله في قوله:((فإنّ الشريعة شُرِّعت للبعث إلى شيء والنهي عن آخر، لا لبيان المباحات)) (١٥) .

الرؤية الأخرى: في مقابل الرؤية الأولى توجد رؤية ثانية معارضة، وحاصلها: إنّ الشريعة الإسلامية نهضت ببيان أهداف وقيمٍ تمّ على ضوئها تنظيم الحكم والقانون، حيث عُهِد بهذا الأمر إلى المختصيّن. وممّن يُعَدُّ من الرموز الّتي تعبّر عن هذه الرؤية الشيخ مجتهد شبستري، فقد عرض لها أثناء بيان رؤيته عن بُنْيَة الحكومة. وعاود تأكيدها في مقالات وحوارات في كثير من المجلاّت، منها مجلّة ((كيهان فرهنكي))(١٦) الّتي تصدر عن مؤسّسة كيهان، ومجلّة ((حوزة)) الّتي تصدر عن المركز الإعلامي للحوزة العلميّة، ومجلّة ((نقد ونظر)) الّتي تصدر عن المركز ذاته.

ــــــــــــــ

(١٢) محمد أمين الإسترابادي، الفوائد المدنية، ص٤٧، بتصرّف طفيف في الصياغة.

(١٣) المصدر نفسه، ص٤٧.

(١٤) الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج١، ص٤٧.

(١٥) السيّد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، ج٣، ص٤٧.

(١٦) كيهان فرهنكي(كيهان الثقافي)، السنة الرابعة، العدد٦ـ٨، مجموعة مقالات ((الدين والعقل)) ينظر أيضاً: حوار مجلة حوزة مع شبستري، العدد ٤٨، ص١٣٠ فما بعد.

١٤

يقول مثلاً في مقال نُشِر في العدد الخامس من فصلية ((نقد ونظر)): ((ما يمكن استنتاجه من المقدّمات الآنفة، هو أنّ ما يكون سبباً في العلاقات العائلية والاجتماعية، وما يدخل في الحكومة والقضاء والعقوبات وأمثالها، ممّا جاء في الكتاب والسنّة بصيغة إمضاءات أمضاها الشارع من دون تصرف، أو إمضاءات اقترنت بالإصلاح والتعديل، هي ليست من اختراعات الكتاب والسنّة بهدف تعيين القوانين (الأحكام) الخالدة الّتي تُحدِّد الوضع الحقوقي للعلاقات العائلية، أو العلاقات الحقوقية للمجتمع، أو مسألة الحكم وما شابه ذلك.

إنّ ما هو خالد لا يتغيّر في هذه الإمضاءات هو ((الأصول القَيميّة))، الّتي تعدّ أهدافهاً للكتاب والسنّة، والغاية الّتي يرميان إليها (الكتاب والسنَّة) من وراء هذه التغييرات والتدخّلات المستلهَمة على ضوئهما. على أنّ هذه الأصول القيميّة ليست أموراً مستقلّة، بل هي ناشئة من ضرورات السلوك التوحيدي للإنسان، او هي بذاك المعنى، ومن ثُمَّ فإنّ قيمتها مستمدّة من ذلك المعنى))(١٧) .

ثُمَّ يقول في تتمّة الرؤية ذاتها: ((تفضي بنا الأصول والنتائج الّتي بينّاها إلى موضوع أساسي، هو: من الضروري أن تُدرس القوانين ذات الصلة بالعلاقات الحقوقيّة الّتي ترتبط بالعائلة والاجتماع، وبالحكومة وشكلها، وبالقضاء والحدود والديّات والقصاص وما شاكل ذلك ممّا يستند إليه مجتمع المسلمين، ويعمل به ويبدي فيه الفقهاء رأياً، من الضروري أن يُدرس في كلّ عصر من العصور، ويقارن بمعيار مدى انسجامه أو عدم انسجامه مع إمكان السلوك التوحيدي للناس))(١٨) .

ومن النصوص الأخرى الدالّة على هذه الرؤية، ما جاء في مجلّة ((كيهان فرهنكي)) في معرض بحث عن مقولة ((الفقه وكماله))؛ حيث كتب الباحث: ((ليس في الفقه غنىً في الحكم ولا غنىً في البرنامج، وكلاهما لا يعدّ نقصاً في الفقه، فقد تبيّن على ضوء ما مرّ أنّ الحكمي [نسبة إلى الحكم الشرعي] هو

ــــــــــــــ

(١٧) مجلة نقد ونظر، العدد٥، ص٢٩٨، بالفارسيّة.

(١٨) المصدر نفسه، ص٢٩٨ ـ ٢٩٩.

١٥

أمر لا معنى له، كما أنّ الثراء أو الغنى البرنامجي [نسبة إلى برامج وخطط التنفيذ] هو أمر لا صلة له بأصل الدين.

وعلى ضوء ذلك ينبغي البحث عن نقص الفقه أو ثرائه في طبيعة المنهج والأسلوب. فهل بمقدور منهج الفقه الإسلامي وأسلوبه المتبع حالياً أن يستوفي جميع المسائل، على ضوء الموازين، ويستخرج حكمها أم لا؟. على أنّ المنهج نفسه يمكن أن يتّسم في برهة بالضعف، وفي برهة اُخرى بالقوّة؛ والباعث إلى ذلك أنّ المنهج أمر بشري امتزج بفكر البشر وتقلّباته.

إنّ الإسلام هو دين الله. أمّا الفقه، فهو جهد بشري لاستنباط تكاليف الإنسان في هذا الدين. وعلى هذا، فإنّ غنى الإسلام وثراءه يكمُن في غنى موازينه وثراء معاييره، كما يكمُن غنى هذا الدين بغنى الهداية الموجودة فيه، وما يسـوق إليه الإنسانيَّة نحو( مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) ))(١٩) .

وآخر نصّ نقف عنده، ضمن هذه الرؤية، هو ما نشرته واحدة من أبرز مجلاّت النخبة في إيران، لكاتب أثار مقاله جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية والثقافية، حيث قال في جانب منه: ((على هذا ليس ثُمَّة حاجة أن يقوم الله ورسله بتعليم الإنسان طريق الحياة، وسبل حلّ المسائل الفردية والاجتماعية، لا سيما وأنّ الصعوبات والمشاق والجهود الّتي يبذلها الإنسان لمعالجة مشاكله، هي جزء من برنامج الخليقة والتكوين الإنساني، ووسيلة إلى إصلاح الإنسان وتربيته وتقرّبه إلى الله تعالى. على هذا ألا يبدو أن ّعملاً كهذا يُعدّ من اللغو في حق الله ورسله؟))(٢٠) .

تنظيم الاستدلال

يظهر للعيان من النصوص الّتي ساقها هؤلاء لإثبات نظريتهم، أنّهم يستدلّون بما يلي:

ــــــــــــــ

(١٩) كيهان فرهنكي، السنة السادسة، العدد١، ص١٦، بالفارسيّة.

(٢٠) مهدي بازركان، كيان، العدد ٢٨، ص٤٩، مقال: ((الله والآخرة هما الهدف من بعثة الأنبياء)) بالفارسيّة.

١٦

أوّلاً: إنّ حلّ مسائل الحياة بالقواعد الثانوية مثل العسر، والحرج، والاضطرار لا يعدّ علامة على الغنى والثراء في أحكام الشريعة؛ لأنّ هذا الأمر ميسور لجميع الحقوقيّين في المذاهب البشرية. ومن ثُمَّ، فإنّ العودة إلى قواعد كهذه، يشير إلى عدم الشمول ويُثْبِت التناقض، لذلك قالوا: ((إذا استنبطنا على ضوء موازين الفقه القديم وأسلوبه حكمَ خمسمائة مسألة جديدة، بالارتكاز إلى العسر، والحرج، والاضطرار، فهل يمكن لنا أن نقولك إنّ فقهنا يتّسم بالكامل، أو أن يكون معنى ذلك وجودَ حكمٍ للمسائل كافّة إلى يوم القيامة))(٢١) .

ثانياً: كما ذهبوا أيضاً في نصوصهم إلى أنّ سيرة الأئمّة لم تكن قائمة على أساس بيان البرامج [والمشاريع المنظِّمة للأحكام الشرعيّة وسبُل تنفيذها]، وإنّما كان الآخرون يسألون والأئمّة يجيبون. ومعنى هذا السلوك ومدلوله أنّه ينبغي أن يُعرض البرنامج على الفقيه ليبيّن عدم مغايرته للموازين.

ويدلّ على هذا المنحى من الاستدلال قول أحد الكتّاب في مجلّة ((كيهان فرهنكي)): ((إنّ فيما تروونه؛ من أن أئمّتنا لم يعرضوا إلى مشروع من قَبِل أنفسهم وبمبادرة ابتدائية منهم في أيّ مجال من المجالات، أو أنّهم لم بادروا إلى تدوين كتاب، وإنّما اكتفوا بالإجابة عن أسئلة الناس في كلّ عصر؛ هو بحدّ نفسه أفضل دليل على ما ندّعيه))(٢٢) .

على هذا يسعى هذا الّتيار إلى إثبات عدم الغنى الحكمي من خلال الدليل الأول، وإلى إثبات عدم الغنى البرنامجي من خلال الدليل الثاني.

وقفة مع الشيخ شبستري

لم يذكر الشيخ شبستري ـ الّذي مرّت نصوصه ـ الدليل على رأيه، بل انطلق من مسلّماته في فهم الكتاب والسنّة، وهو يقول عنهما: ((هذه المجموعة الوحيانيّة

ــــــــــــــ

(٢١) كيهان فرهنكي، السنة السادسة، العدد١، ص١٥.

(٢٢) المصدر نفسه، ص١٦.

١٧

تقوم بدور المؤشِّر، والمبيِّن، والمحـرِّك لظاهرِ وأهداف السـلوك التوحيدي في حياة الإنسـان))(٢٣) ، ومن ثُمَّ، فهو يعتقد بأنّ إمكانيّة تفسير الآيات والروايات إنّما تكمن بالارتباط بهذه ((البؤرة))؛ أي بالخصال الثلاث للظاهرة؛ متمثّلة بالإشارة، والتبيين، والتحريك. وهذه ـ كما أسلفنا ـ مسلّمة ينطلق منها صاحبها دون أن يبرهن عليها. ويبدو أمامنا من رأي الّتيار الثاني أنّ هذه الجماعة تنظر إلى خلود الحلال والحرام إلى يوم القيامة، على أنّه خلود الموازين والقيم.

لكن هذا الادّعاء حتّى لو كان صحيحاً، فإنّ الدليل الّذي يسوقونه لا يشهد على دعواهم، ولا يثبت رأيهم، فالشيخ شبستري لم يقم أيَّ دليل باستثناء طرح الادّعاء نفسه وعدّه مُسلَّمة، أو فرضاً قبليّاً وحسب، وذلك من دون أن يُشْفِع هذه المسلّمة بالإثبات.

ومن الممكن بناء النظريّات وتأسيسها على أساس الفروض والمسلّمات، أو القبليّات الّتي تمّ بيانها وإثباتها والبرهنة عليها في المرتبة السابقة. ولكن عندما يكون الفرض نفسه نظريّة جديدة، فينبغي تبيين هذا الفرض وإثباته في المرتبة الأولى، ثُمَّ تأسيس نظريّات أخرى على ضوئه. على أنّ أقلّ ما كان يُرتقب من أصحاب هذه الرؤية هو إبطال نظريّة الطرف الآخر، حتّى وإنّ تمّ العزف عن إثبات النظرية المدّعاة، إلاّ أنّ شيئاً من هذا لم يحصل.

أمّا بشأن الأدلّة الأخرى، وما قيل عن سيرة الأئمّة وحلّ المشكلات بالقواعد الثانويّة، ففيما يتعلّق بحلّ المشكلات عن طريق القواعد الثانوية، سيكون الحقّ مع صاحب الاعتراض لو أنّ الأمر كذلك، بيد أنّه ليس كذلك. ففي مقولة شموليّة الفقه وخلوده وجامعيّته تَدْخُل مجموعة من العوامل، منها القواعد الثانويّة، وصلاحيّات الحكومة، ومنطقة الفراغ، وكشف ملاكات الأحكام، وغير ذلك ممّا يؤدّي إلى غنى الفقه وشموله؛ وبذلك يتعيّن عند المقارنة، مقارنة

ــــــــــــــ

(٢٣) مجلة نقد ونظر، العدد٥، ص٢٩٦.

١٨

مجموعة بمجموعة؛ لأنّ تشابه بعض أجزاء المجموعتين لا يشير إلى تشابههما مطلقاً. ومن ثُمَّ، فإنّ استخدام قاعدة العسر والحرج والاضطرار في الفقه الإسلامي، وبقيّة المدارس الحقوقيّة لا يعني تشابهها، بل ينبغي أن تؤخذ بقيّة العوامل الّتي تنضمّ إلى الفقه الإسلامي، وهي تضاف إلى قاعدة الاضطرار والعسر والحرج، ثُمَّ تتمّ عملية المقارنة.

يبدو لنا أنّ ما دفع الشيخ شبستري وغيره إلى طرح هذه النظرية، يتمثّل بكيفيّة تطبيق القوانين الدينيّة الثابتة على تحوّلات الحياة. فإذا ما توفّرت طريقة لحلِّ هذه الإشكاليّة من خلال نظرية يتمّ عن طريقها/ وإلى جوارها الحفاظ على ظواهر النصوص الدينيّة، فعندئذ لا يصل الأمر إلى التوسّل بالنظريّات الّتي تملي عمليّةَ ممارسة التأويل في النصوص، أو تجرّ إلى حذفها والاستغناء عنها. ولقد شهد هذا المجال العديد من النظريّات، والحقّ أنّ بعضها تَوفَّر على تقديم حل ّمنطقي لعلاج المسألة(٢٤) .

٣ ـ الفقه ومشاريع التنفيذ

السؤال المطروح أمام الرؤيتين، هو: هل يتحمّل الفقه مسؤوليّة وضع البرامج والخطط التنفيذيّة، وتحديد أسلوب العمل، أم أنّ مهمّته تقتصر على بيان الحكم وحسب؟؛ أي: تَدْخُل وسائل تنفيذ الأحكام، وكيفيّة تطبيقها في دائرة الفقه أم لا؟

يكتب الدكتور سروش معبّراً عن موقفه من هذه النقطة، بقوله: ((لقد عمد أبو حامد (الغزالي) إلى وضع الفقه في موقع أكبر من حجمه، بينما ما يقوم به الفقه من تنظيم وحل ّمشكلات وما ينطوي عليه من دقّة، هو ممّا يختصّ بالمجتمعات البسيطة الّتي لم تشهد تحوّلاً، ولم تتعقّد بعد؛ حيث تكون العلاقات فيها بسيطة والحاجات قليلة، ما يبعث على شدّة ارتباط الناس بعضهم ببعض))(٢٥) .

ــــــــــــــ

(٢٤) مهدي مهريزي، مدخل إلى فلسفة الفقه، الفقه والزمان، ص٣٩ ـ ١٠٨، حيث توفّر البحث على استعراض عشر نظريات في الموضوع.

(٢٥) فرهنك (الثقافة)، الكتابان الرابع والخامس، مقال: ((جامه تهذيب برتن احياء)) (ثوب التهذيب على بدن الإحياء)، ص٣٨، بالفارسيّة.

١٩

كما يقول أيضاً: ((إنّ ما يقع على عاتق الفقه، وما يدخل في مسؤوليّته هو أنّه يقوم بتحديد الثغور الأخيرة وتعيين الحدود النهائيّة للجهد البشري؛ بحيث يرسم للإنسان الحدّ الّذي ينبغي أن لا يتخطّّاه. أمّا ما عدا ذلك فقد عُهِد به إلى العلم. وإلاّ، فإنّ قضايا من قبيل حلّ الاختناقات المرويّة في الشوارع، وانقطاع الكهرباء، وقلّة الطاقة، وتلوّث الهواء، وهجوم أمواج الإذاعات العالمية الّتي لها دور في نصاعة الثقافة، وكذا شيوع الأمراض الكثيرة، ومسائل التعليم والتربية العامّة؛ هل يمكن لها أن تدخل في دائرة الفقه، وتكون من مسؤوليّته؟، وهل ننتظر من الفقه أن يحل ّجميع معضلات العالم والحياة، وكلّ المشكلات الحقوقيّة والقانونيّة؟، تُرى أيّ فهم للفقه، وأيّ تصور له هو الّذي أفضى إلى ترقّب مثل هذا الدور له؟، إنّ دور الفقه لا يتعدّى أن يسجّل في قضيّة الاختناقات المروية: أنّ على الإنسان [أو الدولة] أن يحلّ مشكلة الازدحام المروي بأيّ أسلوب شاء، شرط أن تراعى مثلاً، الملكيّة المشروعة؛ بحيث لا يتضرّر إنسان في ملكيّته المشروعة من ذلك الحلّ))(٢٦) .

وللكاتب نفسه أخيراً: ((على هذا الضوء، عندما نقول: إنّ الفقه لا يضع برنامجاً لحياتنا في هذه الحياة، فإنّما المراد بذلك أنّ الفقه يوفّر الحكم ويبيّنه، لكنّه لاينهض بمهمّة وضع البرنامج. إنّ البرمجة هي من شأن العلم لا من شأن الفقه، وهي تحتاج إلى المنهج العلمي))(٢٧) . ونلمس في نصوص أخرى، للكاتب نفسه، ما يؤيّد هذه الرؤية(٢٨) .

وعندما نعود إلى كلمات الفقهاء، لا نعثر على نصّ صريح في إثبات هذه الفكرة أو رفضها. ولكن يمكن أن نستفيد من خلال نصوص الإمام الخميني وعموميّاتها، ما يفيد عموميّة الفقه؛ بحيث يشمل البرنامج وأسلوب التنفيذ أيضاً، كما لمسناه من خلال النصوص السابقة.

ــــــــــــــ

(٢٦) المصدر نفسه، ص٣٩.

(٢٧) كيان، العدد ٢٧، ص١٣، بالفارسيّة.

(٢٨) كيهان فرهنكي، السنة السادسة، العدد١، ص١٢، مقال بعنوان: ((تأملي پرامون فقه وكمال آن)) (نظرة حول الفقه وكماله)، بالفارسيّة.

٢٠