الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92502
تحميل: 7026


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92502 / تحميل: 7026
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

آليَّات التَّطوير الفقهي ودواعيه*

إسماعيل إسماعيلي

يُشكّل علما الفقه والأصول محور العلوم وأساسها في الحوزات العلميّة القائمة اليوم، وهما من العلوم الّتي كانت متداوَلة منذ القدم في الحوزات الدينيّة، ويتمتّعان بمكانة متميّزة؛ بحيث تُنفق أغلب الأوقات والأموال والجهود لدراستها والبحث فيهما.

وليس الفقه والأصول في مرتبة واحدة من حيث الأهمّيّة، فعلم الأصول، بكل ماله من عظمة ومنزلة، إنّما هو بمثابة وسيلة وأداة في خدمة الفقه. وعلى هذا، فإنّ المكانة الأهمّ بين العلوم الحوزويّة هي للفقه. أمّا بقيّة العلوم، فهي إمّا تمهيد وأداة لدراسة الفقه، أو أنّها تُتَناول على هامش اكتساب الفقه. وقد يصحّ أن نطلِق عليها أنّها ((فَضْلَة))(١) . وفي الواقع، فإنّ تعلُّمها ودراستها زيادة على الهدف الأصلي، رغم كونها تُثري معلومات الإنسان.

وبطبيعة الحال، لا يوجد رأي موحَّد بشأن تلك المجموعة من العلوم الّتي ينبغي دراستها بوصفها مقدِّمة للفقه، وكذلك بشأن مستوى الإلمام بكلّ واحد منها(٢) .

إلاّ أنّه من الواضح عدم كون دراسة هذه العلوم في الحوزة هدفاً، بل يهتم بها في سبيل تحقُّق الهدف الأصلي، وإعداد الأرضيّة اللاّزمة لدراسة الفقه فحسب.

ــــــــــــــ

*مقالة مأخوذة من مجموعة مقالات مطبوعة بعنوان ((ماضي الحوزة وحاضرها ومستقبلها في رؤية القائد))، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، ١٩٩٨م. ترجمة: يوسف الهادي.

١ ـ آقا بزرك الطهراني، طبقات أعلام الشيعة، القرن١٢هـ، ص٧، و ج٦، ص٢٠٤.

٢ ـ الإمام الخميني، الرسائل، ج٢، ط إسماعيليان، قم، ص٩٦ ـ ٩٩.

١٤١

ومع هذا، يبدو أنّ الفقه، في القرن الأخير على الأقل، لم يحقّق النموّ والتكامل المطلوبين: ((إنّ جميع فروع العلم قد انصهرت في الفقه، ووقع الفقه نفسه في مسار توقَّف معه عن التكامل منذ مائة سنة مضت وإلى الآن))(٣) .

وقد أبدى الإمام الخامنئي خلال زيارته إلى قم، وفي لقائه علماء الحوزة، قلقه بشأن الضعف والجمود المهيمن على العلوم الحوزويّة، وخاصّة الفقه. ودعا طلاّب الحوزة وعلماءها إلى الجدّ بشكل أكبر في سبيل تطوير الفقه والتفقّه، بشكل يُمكِن معه تحوّل الفقه إلى ((نظريّة إدارة حقيقيّة وكاملة للإنسان والمجتمع من المهد إلى اللّحد))(٤) ، وملبّياً لشتى الاحتياجات الاجتماعيّة والحكوميّة والقضايا والموضوعات المستجَدة(٥) .

وتسعى هذه المقالة إلى إظهار دوافع تطوّر الفقه والتفقّه، والعوائق الّتي حالت دون ذلك في القرن الأخير، من خلال إلقاء نظرة عابرة على نقاط القوّة والضعف. وبهذا الصدد اضطررنا إلى الإشارة بشكل سريع إلى مراحل تطوير وتكامل الفقه في القرون الماضيّة.

نظرة إلى تاريخ علم الفقه

يرجع تاريخ علم الفقه إلى تاريخ الإسلام، ففي عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان المبعوثون الّذين يذهبون إلى المناطق النائيّة، مثل: الحبشة، واليمن، وحضرموت، لتعليم المسلمين الجدد، أو يرسلهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مهام عسكريّة وسياسيّة، مكلَّفين بتبيان أحكام الإسلام للناس في نطاق مهمّتهم المكلَّفِين بها، وحلّ مشاكلهم بالاعتماد على فهمهم لآيات القرآن واستنباطهم منها، وعلى ما تعلموه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما رأوه من أعمال النبيّ وسلوكه(٦) .

ــــــــــــــ

٣ ـ ((بحث حول المرجعيّة والروحانيّة))، ساهم فيه جمع من العلماء، نشر ((شركت سهامي انتشار))، طهران، ص١٧٥.

٤ ـ الإمام الخميني، صحيفة النور، ط وزارة الإرشاد، ج٢٨، ص٩٨.

٥ ـ خطاب في المدرسة الفيضيّة، آذار ١٣٧٤هـ.ش. (كانون الأول، ١٩٩٥م).

٦ ـ سيرة ابن هشام، ج٤، ص ص ١٤٣،١٣٧،٢٤١، دار إحياء التراث العربي، بيروت، وحسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، دار إحياء التراث، بيروت، ج١، ص٤٩٥.

١٤٢

وواضح أنّ عمل هؤلاء الأصحاب كان يعدّ شكلاً من أشكال الاجتهاد، رغم بساطته وبدائيّته. وفيما بعد، وعلى عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أصبح فهم أحكام الدين وتبيانها، والإجابة عن أسئلة الناس الدينيّة، من واجبات الولاة والموظَّفِين الّذين كانعليه‌السلام يرسلهم إلى شتّى المناطق التابعة للدولة الإسلاميّة(٧) .

وفي الفترات اللاّحقة، وعلى عهد الإمامين الباقر والصادقعليه‌السلام ، تطوّر الفقه والتفقّه بين الأصحاب تطوّراً ملحوظاً. واستُخدمت أيضاً بعض القواعد الفقهيّة وأصول الاجتهاد بشكل بسيط لم يكن يتعدّى ـ بطبيعة الحال ـ فهم النصوص، ولم يكن الكثير من هذه الفروع الفقهيّة الّتي تشبّعت في كتب الفقه، موجوداً آنذاك.

ومع بداية عصر الغيبة، ظهرت أوّل الكتب الاستدلاليّة في الفقه الشيعي على يد ابن أبي عقيل [الحسن بن علي، معاصر للكليني المتوفّى سنة ٣٢٩ هـ]، وابن الجنيد الإسكافي [محمّد بن أحمد ت ٣٨١ هـ]، إلاّ أنّها كانت مختصرة جداً، وحتّى في الفترات اللاّحقة، وإلى عهد الشيخ الطوسي [محمّد بن الحسن، ت ٤٦٠هـ]، لم تكن كتبنا الفقهيّة ليزيد عدد صفحاتها عن بضع مئات من الصفحات من الحجم العادي، رغم كونها مجموعة فقهيّة كاملة.

وشيئاً فشيئاً، تطوّر علم الفقه إلى جانب العلوم الأخرى في القرون التالية، وأضيفت إليه فروع عديدة على يد فقهاء كبار، كالمحقّق [جعفر بن الحسن، ٦٠٢ ـ ٦٧٦ هـ] والعلاّمة [الحسن بن يوسف، ت ٧٢٦]، والشهيدين، وغيرهم، ودخلت الفقه ـ تدريجياً ـ مسائل حديثة كانت تطرأ على المجتمع في شتّى جوانب الحياة، وأصبحت خاضعة لبحوث الفقهاء ودراساتهم، ممّا أدّى إلى اتساع نطاق الفقه إلى حدّ كبير. ولحسن الحظ، فإنّ مسار الحركة التكامليّة للفقه كان في العصور الماضية يتمتّع بسرعة مناسبة ما أغنى علم الفقه كثيراً. وتُظهِر دراسة

ــــــــــــــ

٧ ـ نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح، الرسالة، ص٦٧.

١٤٣

الكتب الفقهيّة في العصور الماضيّة، أن مسائل جديدة دخلت إلى الفقه مع مرور الزمان، وبحسب احتياجات الناس، ما أدّى إلى زيادة حجم الموضوعات الفقهيّة وثرائها. وقد وسّع الفقهاء ـ وإلى حد كبير، ولأجل الإجابة على المسائل المستجَدة الّتي كانت تعرض للمسلمين، وكذلك الإجابة عن الأسئلة المطروحة ـ نطاق استخراج الفروع والمسائل من الأصول؛ بحيث إنّ صاحب جواهر الكلام بذل عمراً طويلاً نسبياً، ومشقّة وجهوداً عظيمة، حتّى تمكّن من تدوين دورة فقهيّة.

وقد استمرّت الفروع الفقهيّة في الازدياد والتوسّع بعد وفاة صاحب الجواهر، عن طريق الشيخ الأنصاري [صاحب المكاسب والرسائل، ١٢١٤ ـ ١٢٨١ هـ] ومن جاء بعده، وإلى يومنا هذا، وكلّ بحسب قدرته. وعلى هذا، فقد طوى علم الفقه طريق النموّ والتكامل إلى جانب العلوم الإسلاميّة، بل قبلها. وهو اليوم بين أيدي رجال الحوزة على هيئة كنز ثمين لا ينضب، يضُمّ كمّيّات هائلة من المسائل والفروع الفقهيّة.

التطور الكيفي للفقه

لم يكن تطوّر الفقه واتساعه في زيادة أحجام الكتب الفقهيّة ومضاعفة الفروع والأبواب الفقهيّة فحسب، بل كان له نموّ كيفي أيضاً، يعادل ويواكب نموّه الكمي وزيادة مسائله وفروعه، فتكاملت أساليب الاستدلال والاجتهاد واستنباط الأحكام من المصادر طوال هذه الفترة.

ورغم أنّ النموّ الكيفي لم يكن بمستوى واحد خلال جميع الفترات الماضية، وكان يعرض له الضعف في بعض المراحل التاريخيّة، إلاّ أنّه يمكن القول، بصورة عامّة، إنَ النموّ الكيفي للفقه تحقّق بالتزامن مع النموّ الكمي، بل قبله أيضاً. ولم يتوقّف عن الحركة في أيّ وقت؛ ذلك أنّ فقهاء الإماميّة واكبوا حركة الزمن، وكانوا يبحثون شتّى الموضوعات والأسئلة الّتي كانت تعرض للأمّة الإسلاميّة، ويقدّمون حلولاً فقهيّة مناسبة ومسعِفة، ولم يكونوا ليتركوا سؤالاً من دون جواب. وفضلاً عن هذا، فقد كانوا يضعون على بساط البحث والدراسة كثيراً من الموضوعات والمسائل الّتي كانت أذهانهم المبدعة تحتمِل ظهورها، ويوضحون أحكامها، ويفتحون آفاقاً وطرقاً جديدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.

١٤٤

وكان تجديد عدد من الفقهاء الماضين، قد بلغ من الأهميّة حدّاً كان يحدث معه ـ أحياناً ـ ثورة في بعض أبواب الفقه. فمثلاً عندما أفتى العلاّمة الحلّي ـ وبعد عدّة قرون من الفتوى بتنجس ماء البئر بمجرد ملامسته النجاسة ـ بعدم نجاسة ذلك الماء، أحدث تغيّراً عظيماً في باب الطهارة. وقد عرض هذا الرأي بشكل استدلالي متين جعل الفقهاء الّذين تلوه يؤيّدونه جيلاً بعد جيل(٨) .

وقد قدّم فقهاء مبدعون، مثل: ابن إدريس [محمد بن أحمد الحلّي، ت٥٩٨ هـ]، والشهيدين الأوّل [محمد بن مكي، ت٧٨٦هـ] والثاني [زين الدين العاملي، ت٩٦٥هـ]، والمحقّق الكركي، والمحقّق الأردبيلي [ت٩٩٣ هـ]، والشيخ الأنصاري وغيرهم، وكلُّ في عصره، أساليب خاصّة بهم، وأبدعوا آثاراً قيّمة، طوّرت الفقه منهجاً وأسلوباً. كما أنّ بعض الفقهاء الّذين كانت لهم علاقة مع الحكومات القائمة في زمانهم، كانوا يقدّمون الحلول الفقهيّة الناجعة للمشكلات الفقهيّة ذات الطابع الاجتماعي العام.

الفقه في عصرنا

ويتمتّع الفقه اليوم بمنزلة سامية في الحوزات العلميّة، فكثيرون هم العلماء الّذين يجدّون ليل نهار في مجالات التدريس، والتأليف، وإيضاح المسائل الفقهيّة. ورغم هذا كلّه، يبدو أنّ النموّ الكيفي ـ وبعبارة أخرى، تطوّر ورقيّ الفقه في الحوزات العلميّة ـ ليس بالمستوى المطلوب، وكما يقول الشهيد مطهري:

ــــــــــــــ

٨ ـ قواعد الأحكام، ج١، ص٥، وتحرير الأحكام، ص٤، ومختلف الشيعة، ج١، ص٢٥.

١٤٥

((إنّ الفقه بدوره توقّف عن التكامل منذ مائة سنة مضت، وإلى الآن))(٩) .

نعم، إنّ فقهاء عصرنا يفكّرون ويتناولون المسائل نفسها الّتي فكر فيها الماضون وتناولوها. وبالتالي، فقد حبسوا أنفسهم في إطار الماضين. ومنذ فترة طويلة، بل قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، أدرك الفقهاء الواعون هذه المعضلة، وحاولوا بعث الروح في المسار التكاملي للفقه.

وقد حاول الإمام الخمينيقدس‌سره مراراً أن يحرّك عجلة الفقه المتوقّفة، ويدعو الفقهاء إلى عرض آرائهم الفقهيّة في القضايا المستجَدة؛ حكوميّة أواجتماعيّة، وفي الظواهر الّتي يسبّبها التطوّر المتسارِع للعلم والتكنولوجيا في عالمنا المعاصر، وحذّرهم من النتائج المريرة الّتي يمكن أن تظهر نتيجة اعتزال القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، وتجاهل حقائق الحياة المعاصرة، وعدم الإسراع في حلّ مشاكل الناس بشكل جاد.

ماذا يعني تطوّر الفقه؟

الآن وقد أشرنا إلى عدم تطوّر الفقه في العصر الراهن، فمن الأفضل أن نرى ما الّذي يعنيه التطوّر؟، ما المقصود بتطوّر الفقه أو عدم تطوّره؟

إنّ كلمة تطوّر تعني النموّ والحركة، ووحده النموّ الّذي يتّجه نحو الكمال يسمّى تطوراً. وعلى هذا، فليست كلّ حركة ونموّ تطوراً. والتطوّر في الفقه يعني أن يتمتّع علم الفقه بحياة ونمو يمكِّنانه من الحركة جنباً إلى جنب ركب العلم، بل أمامه، ويفتح في كل لحظة آفاقاً جديدة بوجه المتطلِّعين إلى الأمام، ويتفاعل مع قضايا العالم الإسلامي ومشكلاته، والحوادث المستجَدة، ويلبّي الحاجات الفقهيّة في مجالات الحكم والسياسة والاقتصاد، والفن والثقافة والاجتماع، وغير ذلك، بشكل واضح ليعلم كل فرد تكليفه وواجبه تجاه ما يواجهه من أوضاع.

ــــــــــــــ

٩ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص١٧٥.

١٤٦

إذاً، فتطور الفقه ليس في ازدياد حجمه وفروعه ومسائله، وإنّما في أن يكون هذا النمو على طريق الكمال، وأن يزيد من قدرته على إزالة العقبات. وفضلاً عن الفقه، فإنّ طُرق استنباط الأحكام وأساليب الاجتهاد، هي الأخرى بحاجة مستمرّة إلى حركة تكامليّة، وينبغي لها أن لا تتوقّف عن الحركة في أيّ وقت، وينبغي أن لا يُتَصوَّر أن جميع أساليب الاجتهاد قد بُيِّنت، وأنّه لا يمكن إيجاد أساليب أفضل ممّا هو موجود. ففي ظل تطوّر الفقه واستخدام آليّات أسهل وأشمل لاستنباط الأحكام، يستطيع فقهاء الإسلام أن يحقّقوا أفضل الإنجازات.

واليوم، وضمن الظروف الّتي تقدّمت فيها البشريّة في شتّى الميادين، وخطت خطوات جادة، وأضافت يوماً بعد يوم إلى علومها، فإنّ الفقه لم يُظهِر قدرته على تلبية الحاجات وتحقيق السبق في ميادين الحياة المختلفة، وضمن تعداده النقائص الّتي تعانيها الحوزات العلميّة في الوقت الراهن، يقول الإمام الخامنئي:

((إنّ السبب الأوّل، هو أنّ الفقه، الّذي هو مجال اختصاصنا، لم يتّسع ليشمل المجالات المستجَدة، أو أنّه اتّسع بشكل ضئيلٍ جداً؛ إذ يوجد اليوم الكثير من المسائل الّتي ينبغي للفقه أن يجد حلولاً لها، لكنّه لم يجد تلك الحلول. فالفقه قادر على ذلك، إلاّ أنّ الفقهاء لم يعملوا على تطوير إمكاناته))(١٠) .

نعم، الفقه رغم قدرته وثرائه لم يلبِّ الكثير من الاحتياجات المعاشة، فما تزال اليوم آلاف الموضوعات الفرديّة، والاجتماعيّة، والحكوميّة الجديدة، غير خاضعة للبحث والتمحيص في بوتقة الفقه. والعجيب في الأمر، هو أنّه مع وجود كل هذه الاحتياجات، وإدراك أنّ احتياجات من هذا النوع يجب أن يلبّيها الفقهاء والحوزات، والتحذيرات المتتالية الّتي أصدرها الإمام الخميني، وبقيّة أصحاب الرأي، فإنّه لم يتم حتّى الآن القيام بحركة جادة وأساسيّة في هذ الاتّجاه، لا من قبل الفقهاء ولا من قبل الحوزات العلميّة، ولم يفكّر أحد في ضرورة العثور على حلول لهذه المعضلات، فما يزال الكثيرون من المجتهدين والأساتذة يفضِّلون تدريس أبواب الصلاة والطهارة والنكاح والطلاق.

ــــــــــــــ

١٠ ـ من خطابه في المدرسة الفيضيّة، عام ١٩٩٥م.

١٤٧

وما يؤسف له، هو أنّ أصحاب الرأي في الحوزات لم يتّجهوا ـ كما كان متوقّعاً ـ للتدريس والبحث في المسائل الّتي يُبتلي بها المجتمع والحكومة، لإيجاد حلول فقهيّة لمشكلاتها.

تعلّم الفقه ونشره

أدّى ابتعاد الحوزة عن الحكم والسياسة في القرون الماضيّة إلى أن يدور الفقه في حلقة مفرَغة، وأن يقتصر عمل الفقيه على توضيح المسائل العباديّة، وتنظيم علاقة الإنسان بالله، وأن يعدّ ما سوى ذلك خارجاً عن مجال اختصاص الفقيه. وتلاحظ اليوم بقايا من هذه الرؤية الضيّقة في الفقه، في الحوزات العلميّة، ويوجد هنا وهناك فقهاء يسيرون على طريق فصل الدين عن السياسة، واعتبار الفقه مقتصراً ـ بشكل طبيعي ـ على القضايا العباديّة والشخصيّة. بينما الفقه هو علم بأحكام الدين، وأحكام الدين لها شموليّة وسعة؛ بحيث يستوعب جميع جوانب حياة الإنسان الفرديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة. الإسلام دين الحياة، وقد قدّم أسمى وأكمل برنامج لرقي الإنسان وكماله، ويريد تطبيق هذا البرنامج من خلال تحكيم دين الله في شتى جوانب الحياة وتأسيس الحكومة العالميّة للإسلام. وإنّ تحكيم الدين الإلهي في العالم والبلوغ بالإنسان إلى مرتبة الكمال الحق، لا يتلاءم أساساً مع تضييق الفقه وجعله مقتصراً على الأمور العباديّة والفرديّة.

يجب أن يتمتّع الفقه بشموليّة تمكِّنه من احتواء جميع جوانب حياة الإنسان الفرديّة، والسياسيّة، والثقافيّة، والاجتماعيّة، والحكوميّة. وفي الحقيقة، فإنّ سعي الاستكبار العالمي لترسيخ فكرة فصل الدين عن السياسة في البلدان الإسلاميّة، وحوزات العلوم الدينيّة؛ إنّما هو للحيلولة دون تحقّق حاكميّة الإسلام وتطبيق قيمه السامية بشكل عملي. وفضلاً عن ذلك، فإنّ الفقهاء يعتبرون أن موضوع علم الفقه هو أفعال المكلَّفين، وأفعال المكلَّفين لا تقتصر على أفعال خاصّة، بل تشمل جميع أفعال الإنسان، و شؤونه الفرديّة والاجتماعيّة كافّة، وهذا بدوره يتطلَّب أن يكون للفقه من السعة ما يجعله يبدي رأيه في كل واقعة وظاهرة تحدُث في حياة الإنسان.

١٤٨

موانع تطور الفقه

الآن، وقد أشيرَ بشكل عابر إلى الوضع الراهن للفقه، وأصبح واضحاً أن الفقه قد أصيب بالوهن والتراخي، ينبغي أن نشير إلى بعض العوامل الّتي أدّت إلى هذا الضعف:

١ ـ التهرُّب من مواجهة القضايا المعاشة: بعد انتصار الثورة الإسلاميّة وتهيؤ الأرضيّة اللاّزمة، كان متوقّعاً أن تهرع الحوزة ـ انطلاقاً من الرسالة الملقاة على عاقتها ـ إلى الاهتمام بالمسائل المستجَدة، وتفتح باباً جديداً في البحوث الفقهيّة لكل موضوع بمجرد ظهوره، وتبحث بشكل جاد عن الحلول والأجوبة الصحيحة والمناسبة له، وتُثبت عمليّاً كفاءة الفقه الشيعي. لكن يبدو أن شكلاً من أشكال عدم الميل إلى هذه الأبحاث يستشري في أوساط الفقهاء، وبدلاً من أن يهرعوا للترحيب بالموضوعات المستجَدة، فإنّهم يمتنعون عن مواجهتها. إنّ عدم الاتّجاه للخوض في البحوث الجديدة والمجالات البكر، والامتناع عن ذلك، لأيّ سبب كان، أمر غير مقبول، ومن أهمّ عوامل إبطاء حركة الفقه التكامليّة، وفي إضعاف قدرته وإيقاف تطوّره.

٢ ـ عدم نضج الكتب الدراسيّة: إنّ للمتون الدراسيّة لكل علم تأثيراً كبيراً في جموده أو تطوّره؛ ذلك أنّ أساليب التعليم، وكيفيّة الخوض في أحد الموضوعات، وإفهام قواعده والأمور العلميّة، هي الّتي تحدِّد الهيكليّة الفكريّة، وأساليب نظرة طلاّب العلم إلى المسائل المطروحة. وتعليم الفقه ليس مستثنىً من هذه القاعدة. والكتابان الفقهيّان اللّذان يدرّسان في الحوزات؛ وهما: ((شرح اللُّمعة الدمشقيّة، والمكاسب)) ـ مع كل ما فيهما من غنىً ـ لا يمكنهما أن يكونا نصوصاً تعليميّة. فالشهيد والشيخ، لم يكن لهما هدف كهذا عند تأليفهما هذين الكتابين. فقد ألّف الشهيد الثاني ـ قبل حوالي خمسة قرونن وفي ظلّ ظروف الحكم الاستبدادي السيئة ـ ((شرح اللُّمعة))؛ الّذي شرح فيها كتاب اللُّمعة للشهيد الأوّل؛ لذا، فإنّ عباراته معقّدة وصعبة؛ بحيث لا تناسب العمل التعليمي. كما أنّ كتاب ((المكاسب))، الّذي هو حصيلة الأفكار العميقة للشيخ مرتضى الأنصاري، هو في الحقيقة مذكّرات دروسه في ((البحث الخارج)) [المرحلة العالية من

١٤٩

الدراسة الفقهيّة]، وشأنه شأن شرح اللُّمعة يفتقر إلى خصائص الكتاب التعليمي. وربَّما يقال: إنّ نصوص الفقه التعليميّة وكتباً مثل شرح اللُّمعة والمكاسب تدرس في مرحلتي المقدِّمات والسطوح من تعليم الفقه، بينما يتركز القسم الأكبر من تعليم الفقه في مرحلة ((البحث الخارج))، الّذي ليست له نصوص محدَّدة. ومن هنا، فإنّ النصوص التعليميّة في الفقه، ليس لها تأثير كبير في عدم تطوّره.

ولكن لابدّ من الالتفات، إلى أنّ التعليم في السنوات الأولى يمثل الحجر الأساس الّذي تقوم عليه دروس البحث الخارج في جميع الأحوال، ولا يمكن إنكار أهميّة كتابي شرح اللُّمعة والمكاسب في بناء الهيكليّة الفكريّة للطلاّب، وتعرّفهم على أساليب البحث، والاستفادة من المصادر بشكل صحيح، واستخدام القواعد الفقهيّة والأصوليّة، رغم أنّ دروس ((البحث الخارج)) ينبغي أن تكون ذات معايير تعليميّة واضحة.

٣ ـ زيادة البحث الأصولي عن الحاجة: إنّ علم الأصول أداة لاستنباط الأحكام، ولا شكّ في أنّ المهارة في فهم قواعده، يجعل الوصول إلى مصادر الأحكام والاستفادة منها أمراً سهلاً، ويزيد من قدرة الفقيه الاجتهاديّة. واهتمام الحوزات العلميّة بالبحوث الأصوليّة العميقة في القرون الماضيّة يكشف عن هذه النكتة. ولكن لمّا لم تكن معرفة علم الأصول هدفاً بحدّ ذاتها بقدر ما هي وسيلة يستفيد منها الفقيه في الوصول إلى الأحكام، فينبغي الحذر من أن يتحوّل التوسّع المبالغ فيه، والخوض في البحوث الهامشيّة للأصول؛ الّتي لا تُطبّق إطلاقاً في الفقه أو تستخدم بشكل ضئيل جداً، دون بلوغ الهدف الّذي هو التفقّه في الدين.

١٥٠

وقد ازداد الخوض في مسائل علم الأصول خلال السنوات الأخيرة في الحوزات العلميّة، بشكل لم تدع معه عشرات ومئات المسائل الافتراضيّة تماماً ـ والّتي هي وليدة الأذهان الخلاّقة لعلماء الأصول، والّتي ليس لها استخدامات عمليّة ـ مجالاً لأيّ فكرة جديدة ومبتكرة. ومَنَعت الحوزات من تناول المسائل الرئيسيّة والواقعيّة، كما حالت بين رجال الحوزة والرؤية الواقعيّة(١١) . وكان البروجردي [ت١٣٨٠هـ]، الّذي هو من الفقهاء الكبار المتميِّزين والمبدِعين في القرن الأخير، يحاول تجنّب هذه المشكلة، رغم ما كان له من تبحّر كبير في علم الأصول. ولذلك قلّما نجده يبني المسائل الفقهيّة على أساس المسائل الأصوليّة. ولم يكن يخوض في المسائل الافتراضيّة إطلاقاً(١٢) .

وما يؤسف له، هو أنّه يتمّ الخوض في الحوزات، خلال عصرنا، بشكل واسع جداً في مناقشة مسائل افتراضيّة في بحوث علم الأصول، وفي بحوث مثل: العلم الإجمالي، الاستصحاب الكلّي بأقسامه وفرضيّاته النظريّة، الّتي ليست لها أيّة فائدة عمليّة وفقهيّة. وهذا الأمر يشكل عاملاً من عوامل جمود الفقه، ومنَع الفقهاء وعلماء الأصول من النظر بشكل جاد إلى المسائل الحديثة.

ــــــــــــــ

١١ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص١٧٥.

١٢ ـ المصدر نفسه، ص٢٤٢.

١٥١

٤ ـ البحوث الفقهيّة غير الضروريّة: وُظِّفت القدرات والبحوث الدقيقة خلال القرن الأخير، بشكل أكبر، لفروع وأقسام من الفقه؛ هي بشكل عام غريبة عن قضايا الحياة اليوميّة، والموضوعات المهمّة، والفاعلة في المجتمع. وقد ازدادت لفّات خيوط هذه البحوث تعقيداً؛ بحيث مَنعت فقهاءنا من التفكير في المسائل المستجدة.

وفي عصرنا الراهن، يتناول الفقهاء في كتبهم الفقهيّة، وفي دروسهم الّتي يلقونها على طلاّب (البحث الخارج)، شرح أكبر الموضوعات، ويضعون حواشي على الحواشي، ويزيدون من الإشكالات ويجيبون على إشكالات، ويُشْكِلون على إشكالات لا تنفع الفقه والمجتمع، ولا تتضمّن سوى تزجية الوقت، وإظهار البراعة، وحين يُسألون عن هذا العمل الّذي لا طائل من ورائه، يجيبون بقولهم:

((صحيح أنّ هذا النوع من الأبحاث لا فائدة عمليّة من ورائه، إلاّ أنّ له فوائد عمليّة جمّة، ومثل هذه البحوث يجب أن تقُرَأ كما في الماضي، بل بشكل أكبر، لتتفتّح أذهان وأفكار الطلاّب والعلماء، ويصبحوا من أهل النقد والبحث)).

ومن الواضح إمكان تنمية أذهان طلاّب العلم عن طريق البحوث الجديدة وما تدعو له الحاجة، خاصّة أنّه ينبغي للمجتهد، بعد طرح المسائل المستجَدَّة، أن يبحث عن أدلّة، ويستجيب للحاجات الفقهيّة المعاصرة، من خلال طُرق لم تكن موجودة من قبل، وهذا بإمكانه أن ينمّي أذهان وأفكار الطلاّب بشكل أفضل، ويفتح آفاقاً جديدة أمام إيجاد حلول للمشاكل المطروحة.

١٥٢

العوامل المؤدِّية إلى تطوُّر الفقه

بعد المرور السريع على الوضع الراهن للحوزة، والإشارة إلى عوامل جمود الفقه في العصر الحاضر، والتذكير بالموضوعات والمسائل المهمَلة، ونقاط الضعف والنقائص الّتي تسبب عدم قدرة الفقه على حلّ المعضلات الاجتماعيّة والحكوميّة، وتلبية حاجات الناس الجديدة، لابدّ من الحديث عمّا ينبغي فعله لإنهاء هذه الحالة، وأيّة أدوات وأساليب ينبغي للحوزة أن تستخدمها ليتسنى ـ مرّة أخرى ـ للفقه وبقيّة العلوم الحوزويّة ، تحقيق الكمال والتطوّر المرجوّين. وبعبارة أخرى، ولأجل أن يتمكّن الفقه من التحرّك بمواكبة الزمان؛ حتّى لا يسبقه، ويقدّم في جميع الميادين والمجالات حلولاً مناسبة، ترى ما الّذي يجب عمله؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتضمن أقساماً عدّة، يعود جزء منها إلى وضع التركيبة الإداريّة، ومؤسّسات وأنظمة الحوزة، والجزء الآخر إلى إقامة نظام ووضع خطّة للحوزات، وتنظيم أعمال البحوث، وإصلاح النظام التعليمي، وتدوين الكتب الدراسيّة، والرقي بالوعي الاجتماعي للحوزويّين، وغير ذلك ممّا هو خارج عن نطاق موضوع مقالنا هذا. وهنا نكتفي بالإشارة، بشكل عابر، إلى بعض هذه الأقسام الّتي لها علاقة برقي علم الفقه، ونشرح باختصار العوامل الّتي لو استخدمت لأدت إلى نمو الفقه ورقيّه.

١ ـ استخدام أساليب جديدة

قلنا فيما مضى إنّ أساليب الاجتهاد والاستنباط في العصور الماضيّة، كانت تنمو إلى جانب نموّ الفقه واتساعه. وفي الحقيقة، فإنّ ظهور أساليب جديدة في الاستفادة من المصادر وإصدار الفتاوى، كان على الدوام، مؤثِّراً في نمو الفقه ورقيّه. ولهذا، فإنّه متى ما تُصُوِّر أنّ الأساليب الموجودة كاملة لا نقص فيها، وأنّ الطُرق الأخرى ليست أفضل وأكمل ممّا هو موجود، فلن يكون بمقدورنا تطوير الفقه والرقيَّ به. كما أنّ أساليب الاستفادة من المصادر الفقهيّة، ينبغي أن تسير دائماً ـ شأنها شأن الفقه ـ نحو الكمال ، ولا ينبغي لها أن تتوقّف عن الحركة التكامليّة إطلاقاً؛ بحجة كونها كاملة لا نقص فيها.

١٥٣

وعلى هذا الأساس، فإنّه كلمّا أقدم فقيه على إبداع ما، وساهم ـ باستخدامه لأساليب جديدة ـ في نموّ الفقه وعدد طرق الاستنباط، حصل تطوّر وتحرّك في الفقه بمستوى يعتدّ به، وأصبح أحياناً بداية لتحوّل مهمّ على مسار تكامل الفقه؛ ولذا فإننا لو قسَّمنا، مثلاً، مراحل تكامل الفقه إلى فترات، لوجدنا على رأس كل فترة فقيهاً مجدِّداً مثل ابن أبي عقيل، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، وابن إدريس الحلّي، والعلاّمة الحلّي، والشهيدين، والمحقّق الكركي، والوحيد البهبهاني [ت١٠٧١ هـ]، والشيخ الأنصاري، والسيّد البروجردي، وغيرهم، ساهم مساهمة جادة في نمو الفقه ورقيّه؛ وذلك من خلال إبداعه أساليب جديدة أو إكماله للأساليب والمفاهيم القديمة في الاجتهاد.

يقول الإمام الخميني ـ مشيراً إلى ضرورة تكامل الفقه ومناهج الاستنباط ـ :

((... الفقاهة؛ أي أسلوب الاستنباط، هو بدوره بحاجة إلى التطوّر. فإنّ المنهج أمر غير كامل، بل يتكامل. ولا يمكن أن نزعم أنّنا بلغنا اليوم قمّة الفقه، وأنّ هذا الأسلوب لا يمكن أن يصبح أفضل. لا، مَنْ الّذي قال هذا؟، فالشيخ الطوسي بكلّ ما يتَّسم به من عظمة فقهيّة، انظروا إلى فتاواه في إحدى المسائل الفقهيّة. أيّ مجتهد مستعدّ اليوم للبحث بهذا الشكل؟، إنّ فتاواه كانت بسيطة وسهلة، ومجتهد اليوم لا يرضى إطلاقاً أن يعمل ويستنبط بذلك الشكل. فالفقاهة قد تكاملت على مراحلَ، وفي أزمان مختلفة...، لماذا لا يستطيع فضلاؤنا، ووجهاؤنا، ومحققونا، أن يضيفوا إلى هذا الأسلوب ويكملوه؟، فربما شمل الكثير من المسائل الأخرى، واستبُدل الكثير من النتائج، وتغيَّر الكثير من الأساليب، وعندما تتغيّر الأساليب، تُستبدل أجوبة المسائل أيضاً، ويأخذ الفقه شكلاً آخر. وهذا من بين الأعمال الّتي يجب أن تُنجز))(١٣) .

إنّ عظمة واقتدار الفقهاء الماضين، يجب أن لا تجعلنا نتصور أنّ أولئك العظماء

ــــــــــــــ

١٣ ـ خطاب المدرسة الفيضيّة، كانون الأول١٩٩٥.

١٥٤

قد قالوا الكلمة الأخيرة في المجالات الفقهيّة، وأنّه لا يوجد أفضل وأكمل من أساليبهم الاجتهاديّة والفقهيّة. فإن كانت عظمة الشيخ الأنصاري وصاحب الجواهر وغيرهم، تؤدّي إلى أن لا يتجرّأ الفقهاء على إبداء رأي مقابل آرائهم، واستخدام مناهج وأساليب غير أساليب أولئك العظماء في الاستنباط، فإنّ جمود الفقه وتوقّفهما أمر لا مناص منه. وستكون نتيجة رؤية كهذه، أن يستخدم الفقهاء الحاضرون كلّ طاقاتهم لفهم آراء الماضين، ويعدّوها قمّة الفقه، ولا يفكّروا بالإبداع، وكشف طُرق جديدة، وإكمال أساليب الفقاهة إلاّ قليلاً.

يقول الشهيد مطهري: ((... إن كنّا نزعم أنّ فقهنا أيضاً، هو أحد العلوم الحقيقيّة في العالم، فعلينا أن نتّبع الأساليب الّتي تُتَّبع في سائر العلوم؛ وإلاّ، فمعنى ذلك أنّه خارج عن زمرة العلوم))(١٤) .

والحقيقة الماثلة للعيان، هي أنّ الفقهاء والباحثين، قد بادروا ـ ضمن الوضع الفعلي القائم في الحوزات العلميّة ـ إلى البحث والتعمّق في نفس تلك المسائل الّتي كان الفقهاء القدامى قد منحوها عمقاً. وفي الاجتهاد والاستنباط تابعوا نفس الأساليب والطرق الّتي طالما سار عليها من سبقهم. وواضح أن وضعاً كهذا، لا يمكنه أن يعين على نمو الفقه ورقيّه، وتكامل أساليب التفقه. بل على الفقهاء المعاصرين، أن يكتشفوا آفاقاً جديدة من خلال التفكير النقدي، والرؤية العميقة المنفتحة، مستفيدين من الوسائل والطرق الجديدة. والأهمّ من كل ذلك، أن يضعوا موضع البحث والتقييم المتجدِّد كل ذلك في إطرا الروح العامّة للفقه والمبادئ الأساسيّة والبديهيّة؛ مثل (أهميّة النظام ومصلحته)، و(شموليّة الفقه)، و(الهدف السامي لنظريّة تنظيم أمور الإنسان من المهد إلى اللّحد)، كي يحدث النمو والرقيّ في مجال الفقه والتفقّه.

ومن الممكن أن يتصوّر البعض أنّ استخدام أساليب كهذه، لا ينسجم مع (الفقه التقليدي)، و(أساليب المتقدِّمين)، و(الاجتهاد الجواهري) [نسبة إلى (جواهر

ــــــــــــــ

١٤ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص٦٤ـ٦٥.

١٥٥

الكلام)]، الّذي حظي بوصيّة وتأكيد الإمام الراحل مراراً. لكن ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما أوضحناه آنفاً، لا يبقى مجال لتصوّر كهذا؛ ذلك أنّ ((الاجتهاد الجواهري)) نفسه، لمع على طريق تحقيق هذا الهدف نفسه، وبالاستفادة من أساليب فقهيّة جديدة في عصره. وقد كان أسلوب المتقدِّمين على مدى تاريخ الفقه، قائماً دوماً على العثور على آفاق جديدة، واكتشافها وتطوير الفقه. وبطبيعة الحال، فقد كان لهذه الحركة في بعض الفترات؛ مثل عصري العلاّمة والشيخ الأنصاري، سرعة أكبر، بينما لم تكن لها السرعة الكافيّة والمتوخاة في بعض الفترات؛ مثل عصرنا. وفضلا ًعن ذلك، ينبغي الانتباه إلى أنّ الإمام الخمينيقدس‌سره أكّد من جهة على الفقه التقليدي، والاجتهاد الجواهري، وضرورة مواصلة طريق المتقدِّمين، ومن جهة أخرى، اعتبُِر الاجتهاد السائد في الحوزات العلميّة غيرَ كاف، واهتمّ بدور الزمان والمكان في الأحكام، وأكّد على ضرورة الاستفادة من أساليب فقهيّة جديدة: ((في الوقت نفسه الّذي أُشجع فيه على اتباع أسلوب الاجتهاد الجواهري بشكل رصين وراسخ، تجدر الاستفادة من حسنات الأساليب الجديدة والعلوم الّتي تحتاجـها الحـوزات الإٍسلامـيّة))(١٥) .

وعلى هذا، فالانتفاع من أساليب جديدة في مجال الفقه والتفقه، واحد من العوامل المساعدة على نموّ الفقه ورقيّه. وواجب الحوزة أن تبادر إلى معرفة أساليب جديدة عن طريق البحث، والمتابعة العلميّة، والاستفادة من نقاط قوّتها على مسار نمو الفقه ورقيّه.

٢ ـ تبادل وجهات النظر

إنّ الاختلاف في وجهات النظر لدى العلماء والمفكرين ـ إذا لم يكن ذا نوايا شيطانيّة ـ هو أحد أهمّ عوامل تطوّر العلوم، وكأنّ الحديث النبويّ المعروف((اختلاف أمّتي رحمة)) (١٦) الّذي وصف الاختلاف بأنّه رحمة، يبيّن هذا الأمر.

ــــــــــــــ

١٥ ـ صحيفة النور، ج٢١، ص٤٦.

١٦ ـ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللائي، تحقيق: الشيخ مجتبى عراقي، قم، نشر سيد الشهداء، ج١، ص٢٨٦.

١٥٦

وكان اختلاف الآراء، وما يزال، أمراً متداولاً بين العلماء في مختلف العلوم الإسلاميّة، خاصة علم الفقه السامي؛ الّذي هو أفضل العلوم، وكذلك السنّة الحسنة في النقاشات والمناظرات العلميّة الساخنة بين الطلاب، وأصحاب الرأي والباحثين في العلوم الحوزويّة، وبين أصحاب الأئمّة. وكثيراً ما كان أشخاص مثل زرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير، وغيرهم، ينبرون للتداول في المسائل الفقهيّة مع الأئمّة المعصومينعليه‌السلام ، ويطرحون الإشكالات الّتي تعرض لهم.

وإنّ الأئمّةعليه‌السلام بفسحهم المجال لأصحابهم لإبداء آرائهم، قد علَّموهم في الحقيقة أسلوب تبادل وجهات النظر وأهمّيّته في نمو العلوم ورقيّها. وفضلاً عن ذلك فقد كانوا يوصون أصحابهم بالنقاس العلمي. يقول الإمامعليه‌السلام :

((اضربوا بعض الرأي ببعض، يتولّد منه الصواب)) (١٧) .

ويقول:((امخضوا الرأي مخض السقاء، ينتج سديد الرأي)) (١٨) .

ولذا فإنّ مبدأ اختلاف الآراء والأفكار كان على الدوام موضع اهتمام الأئمّةعليه‌السلام وأصحابهم، بوصفه عاملاً مهمّاً في الوصول إلى آراء سديدة، وإلى نموّ وسموّ العلوم الإسلاميّة، وخاصّة الفقه.

ولا شكّ، أنّ النقاشات العلميّة، ونقض وإبرام آراء الماضين ومن تلاهم، وتعارض الآراء في الحوزات العلميّة الشيعيّة، قدّمت خدمة جليلة لنموّ ورقي الفقه، وبقيّة العلوم. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه السُّنة الحسنة، متداولة بشكل أكبر بين الطلاب والفضلاء الشباب في الحوزة، وهي غير شائعة ـ للأسف ـ في أوساط الفقهاء والمجتهدين في المستويات العليا؛ إذ ليس متعارفاً أن يجتمع الفقهاء البارزون، خاصّة المفتِين منهم، في مكان واحد، ويطرحوا آراءهم في مختلف الفروع الفقهيّة والمسائل والموضوعات المستجَدَّة، ويستعينوا بأفكار وآراء بعضهم.

ــــــــــــــ

١٧ ـ محمد رضا الحكيمي، موسوعة الحياة، ج١، ص١٤٩.

١٨ ـ الخونساري، شرح الغُرر والدُّرر، تحقيق: المحدّث أرموي، ج٣، نشر جامعة طهران، ص٢٧٦.

١٥٧

والآن، وحيث إنّ تبادل الآراء على المستويات العلميّة العليا يؤدّي إلى نموّ العلوم، وزيادة معطيات الجهود، فلم يَعُد اليوم لرأي الشخص وحده قيمة وأهميّة تذكر، ولا يمكن إنجاز عملٍ ما بعمل فردي وفكر فردي. إنّ علماء كلَّ فرع من العلوم يتبادلون الرأي اليوم، ويحاولون الاستفادة من وجهات نظر بعضهم البعض؛ ولهذا يقول الشهيد مطهري:

((لو أُسّس مجلس علمي في الفقه، وتحقّق عملياً وبشكل كامل مبدأ تبادل وجهات النظر، فإنّ كثيراً من الاختلافات في الفتاوى ستزول فضلاً عن الرقيّ والتكامل الّذي سيحدث للفقه))(١٩) .

ويبدو أنّ تدريس ((البحث الخارج)) للفقه والأصول، لم يكن، وإلى زمن الوحيد البهبهاني، متداولاً بالشكل الّذي هو شائع اليوم في الحوزات العلميّة، وأنّ أوّل من درَّس البحوث الفقهيّة والاجتهاديّة بهذا النمط كان الوحيد البهبهاني، ومن بعده أكمل شريف العلماء المازندراني، ومن ثَمَّ الشيخ الأنصاري، وغيرهما، هذا الأسلوب، وثبّتوا تدريس ((البحث الخارج)) في الفقه والأصول، بالشكل الّذي هو عليه الآن(٢٠) .

كانت حلقات درس ((البحث الخارج)) في الفقه آنذاك غالباً على هذا الشكل؛ وهو: أن يطرح الأستاذ ـ الّذي هو من الفقهاء والمراجع الكبار ـ بعد مطالعة وبحث وإعدادٍ وافٍ، في جمع كبير من الطلاّب أحد الفروع الفقهيّة، ويدافع عن وجهات نظره المطروحة، فيبدأ المشاركون في حلقة الدرس ـ وهم على مستوى عالٍ في الحوزة، ومن المجتهدين ـ بنقد آراء الأستاذ بحرّيّة، ويطرحون إشكالاتهم عليها؛ ولذا، كثيراً ما كان يحدث أن يبقى فرع فقهي معيّن مطروحاً في الحلقة لأيام، وتبحث مختلف جوانبه، ثُمَّ يصل الأستاذ إلى خلاصة ونتيجة، مستفيداً من الإشكالات المطروحة من المشاركين، عندها يطرح موضوعاً آخر. ورغم أنّ عقد حلقات درس كهذه آنذاك كان بمثابة صفوف درسيّة، لكنّه كان في الحقيقة أشبه بلجنة علميّة واستشاريّة، ينبري فيها فريق من أهل الرأي والعلم، من المستويات العليا في الحوزة، لتبادل وجهات النظر من خلال عرض أفكارهم.

ــــــــــــــ

١٩ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص٦٤.

٢٠ ـ صحيفة كيهان، لقاء مع محمد إبراهيم جنّاتي، ٣٠/٩/١٣٧٠هـ.ش.

١٥٨

وكانت دروس البحث الخارج في الفقه آنذاك تشبه ـ تقريباً ـ المؤتمرات العلميّة المتداولة اليوم في المحافل العلميّة في العالم، بفارق، أنّه لم يكن فيها البروتوكول المتّبع في هذه المؤتمرات، ولم يكن انعقادها مرحليّاً، بل كانت هذه مؤتمرات تعقد طوال الأيام الدراسيّة. وكانت ذروة مثل هذه الدروس تعقد في سامراء، بواسطة الميرزا الشيرازي [محمد تقي بن علي، ت١٣٣٨هـ]؛ الّذي كان له أسلوب مميَّز في عرض الموضوعات، وكانت حلقة درسه عبارة عن حوار بين الأستاذ وتلاميذه؛ ولذلك دعيت هذه الطريقة الفريدة بمدرسة سامراء(٢١) . واليوم تزدهر دروس البحث الخارج في الفقه والأصول في الحوزات العلميّة، فالأساتذة والمجتهدون والمراجع العظام يطرحون في ساعاتٍ معيّنة من اليوم آراءهم الفقهيّة، والأصوليّة، والفلسفيّة على حشود من الطلاب. لكن هذه الدروس ـ للأسف ـ فقدت تلك السمة، وخلت من تبادل وجهات النظر ومعارضة الرأي بالرأي الآخر، فهي لم تَعُد كالمؤتمرات العلميّة. فلا الأستاذ لديه روح الإبداع، ولا هو يطرح موضوعات جديدة بكر ومثيرة للبحث، ولا الطلاّب يتمتّعون بالجدارة الكافية الّتي تمكِّنهم من نقد آراء الأستاذ، ولا أجواء حلقة الدرس تسمح بذلك.

وفي عصرنا أُودع في زوايا النسيان تبادل وجهات النظر بين المجتهدين والفقهاء والطلاّب، واتّخذت حلقات درس البحث الخارج، بشكل كامل، حالة الصفوف الدراسيّة الميّتة، رغم أنّها لا تراعى فيها المعايير اللاّزمة. وأخيراً، فإنْ كانت الحوزات تبحث عن التغيير والتجديد، فينبغي أن تُبحث المسائل العلميّة على أعلى المستويات، وتُعقد مؤتمرات فقهيّة، وفلسفيّة، وأصوليّة، وكلاميّة لنقد ودراسة الأفكار السائدة، وطرح الآراء الجديدة ونقدها، وبذلك تُخرِج الحوزة

ــــــــــــــ

٢١ ـ مجلة الحوزة (فارسي)، العددان ٥٠ ـ ٥١، ص٨٠ ـ ١١٠.

١٥٩

نفسها من حالة الجمود والرتابة. وكما يقول الإمام الخامنئي:((لأجل كل مسألة تريدون حلها اعقدوا مؤتمراً ـ بكل معنى الكلمة، لا المؤتمر الّذي يأتي فيه ثلاثة أشخاص فيخطبون ويذهبون، إنّ هذا ليس مؤتمراً، بل اجتماع خطابي. المؤتمر يعني أن يُختار موضوع يَحتاج إلى التأمّل العقلي، ويذهب أشخاص من المفكرين ليفكّروا ويطالعوا ويجروا إحصائيّات، ويأتوا كي يتباحثوا مع بعضهم ويبدوا آراءهم، ثُمَّ يبوِّب المشرفون على المؤتمر هذه الآراء، ليحصلوا على نتيجة ذات قيمة))(٢٢) .

٣ ـ حرِّيَّة التعبير

إنّ أحد مميّزات الحوزات العلميّة الشيعيّة، وجود أجواء مناسبة للتعبير، بحريّة، عن الرأي، وهيمنة روح التفكير الحر على الأجواء العلميّة؛ بحيث إنّ الفقهاء الكبار، وصغار الطلبة ومؤيدي وجهات النظر الشهيرة، وأصحاب الفتاوى النادرة، كانوا يبدون آراءهم بحرّيّة في أجواء منفتحة وعلميّة بعيدة عن التعصّب وضيق الأفق. وقد قدّمت ميزة الحوزات الشيعيّة هذه عوناً كبيراً لنمو ورقي العلوم الإسلاميّة، وخاصة علم الفقه. وفي الحقيقة، فإنّ استمرار حياة الفقه الشيعي، وتطوّره وازدهاره على مدى التاريخ، مدين، إلى حدٍّ كبير، لهيمنة روح التفكير الحرّ على الحوزات العلميّة.

وحين نرجع إلى آراء الفقهاء الماضين، والكتب الفقهيّة القيمة للقرون الأولى والوسطى، نجد أن عظماء مثل الشيخ الطوسي والعلاّمة الحلّي، وابن إدريس، والشيخ المفيد، والشيخ الصدوق، وغيرهم، رغم كونهم متقاربين من بعضهم من الناحية الزمنيّة تقريباً، إلاّ أنّ لهم آراء ونظيرات مختلفة. وقد أوردوا في كتبهم، وبحرّيّة، آراء الآخرين وحتّى وجهات النظر النادرة لبعض فقهاء عصرهم، أو العصر الّذي سبقهم، وأخضعوها ـ من غير أن تؤثّر فيها الأهواء الشخصيّة ـ للنقد والتحليل. ولم يقتصر ذلك على آراء الشيعة وحدهم، وإنّما كان هذ الانفتاح يطاول فتاوى فقهاء عامّة المسلمين أيضاً، فكانوا ينقلونه، ويعمدون إلى دراستها والردّ عليها برؤية علميّة.

ــــــــــــــ

٢٢ ـ خطاب في المدرسة الفيضيّة، كانون الأول ١٩٩٥.

١٦٠