الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: الصفحات: 198
المشاهدات: 92461
تحميل: 7026


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92461 / تحميل: 7026
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 1

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإلى جانب هذه الحركة الصاعدة، كان المتحجّرون وقصار النظر، يظهَرون في الحوزات العلميّة ويسببون جمود الأفكار، ويحولُون دون تطور العلوم الدينيّة ورقيّها. وإذا هيمن التحجّر وضيق الأفق ـ لا سمح الله ـ على أجواء العلوم الدينيّة والبحوث الفقهيّة، وكان الوضع بشكل لا يجرؤ معه أحد على إبداء رأيٍ، وطرح أفكارٍ جديدة، وكُفّر، وفُسّق، ولُعن كل من يبدي رأياً غير الآراء المألوفة المشهورة، فعندها من البديهي أن يلحق ضرر بليغ قبل كل شيء بعمليّة تكامل العلوم، ورقيها، وتطورها، وخاصة الفقه. وتكون النتيجة أن يموت الإبداع في مجال الفقه والتفقّه بشكل كامل، ولا يغدو عمل الفقهاء وأصحاب الآراء سوى تكرار لآراء الماضين، وتقليب لوجهات نظرهم، وفتاواهم، وأحياناً إضافة أو إنقاص بعض أدلّتهم ونصوصهم.

ومن الواضح، أنّه ـ ضمن ظروف كهذه ـ يمكن أن يظهر الكثير من الكتب الفقهيّة، ولكن من النمط الّذي لا يحمل فكراً جديداً أو معالجة لموضوع جديد، وهكذا يتوقّف الفقه عن النموّ ويذبل.

وبصورة مبدئيّة، فإنّ البيئة الّتي تكون فيه الأفكار منغلقة على نفسها، ولا تهيمن عليها حرّيّة التفكير، لا يمكن للفقيه أن يتقدّم ويواكب حركة الزمان وتطور العلوم والحضارات ويكون ملبّياً لحاجات المجتمعات الإسلاميّة والفقهيّة باختلاف الأزمان والظروف، وإنّ مئات الأكداس من الكتب الفقهيّة لو دُرست، أو اُلّفت كتب أخرى لتشرح كتب الماضين، في جوّ يهيمن عليه الجمود والتحجر، فلن يساهم ذلك في رقيّ الفقه وتكامله، بل سوف يزيد من جموده.

١٦١

وكان بعض رجال الحوزة ـ وخلال طرح موضوعات حريّة التفكير وفسح المجال لإبداء وجهات النظر المختلفة في المسائل الفقهيّة ـ لا يخفون قلقهم الدائم، من أن تؤدّي حرّيّة الفكر إلى عواقب وخيمة، ويستغل فريق هذه الأجواء المنفتحة استغلالاً سيّئاً ويقدم على نشر وإشاعة أفكار مغلوطة وخطرة، ويبث أعداء الإسلام بين الناس وبحريّة ـ من خلال التفسير والتأويل المغلوطين ـ أفكارهم المسمومة، ومعتقداتهم الباطلة، بوصفها وجهة نظر فقهيّة، كما كان يحصل خلال سنوات النضال ضد نظام الشاه الطاغوتي، من قبل المنافقين وحزب ((فرقان)) وبعض المتظاهرين بالروحانيّة من علماء البلاط.

وهذا القلق له ما يبرّره إلى حدّ ما، لكن ينبغي الانتباه إلى أمرين:

أ ـ إنّ المقصود بحرّيّة التفكير، وتهيئة الظروف لإبداء الآراء الفقهيّة المختلفة في الحوزات، ليس معناه إضعاف أو تجاهل الضوابط والقوانين الّتي تلزم مراعاتها في مجال الفقه. فللفقه والاجتهاد قوانين ثابتة ومحددة ينبغي أن يكون إبداء وجهات النظر وإصدار الفتاوى ضمن إطارها، ومتناسباً معها. وفي غير هذه الحالة، فإن إبداء رأي فقهي يكون عديم القيمة ويُعدّ ـ بشكلٍ ما ـ عملاً بالرأي، وهو أمر مرفوض عند الشيعة.

ب ـ يُظهِر تاريخ الفقه أنّ رسوخ وثبات الفقه، والعلوم الإسلاميّة الأخرى، وكذلك اقتدار الفقهاء علمياً، كان بشكل لم يبق معه مجال للقلق والتحركات المناوئة. وكانت حوزات الفقه تردّ دائماً على الآراء الباطلة، والإشكالات الّتي تطرح، وتبين ضعف الآراء، والاستنتاجات الفقهيّة للمنحرفين فكرياً والمشككين.

إذاً، فليس بمقدور رجال الحوزة تحقيق حوزة فاعلة وسليمة دون السماح بانفتاح الأجواء الفكريّة والترحيب بكل فكرة جديدة تطرح ضمن الضوابط المرعيّة.

١٦٢

وكما يقول الإمام الخامنئي: ((يجب أن لا يكون الأمر على النحو التالي: بمجرد أن يقدِّم شخص فكرة، أو فتوى فقهيّة جديدة، ولو كانت مغلوطة، يكون ردّ فعلنا الأوّل، هو الرفض؛ فنقول: أنظروا أيّة فتوى مغلوطة أفتاها فلان في المسألة الفلانيّة. لابدّ أن يطرح رأي فقهي ويوضع على بساط البحث، ويكون المجال مفتوحاً لإبداع أفكار فقهيّة جديدة. وبطبيعة الحال، فإنّ عملاً كهذا، يجب أن يكون خاضعاً لضوابط وقوانين؛ بحيث لا يأتي أي شخص فيدلي برأيه))(٢٣) .

إنّ البقاء ضمن نطاق أفكار الماضين ـ الّذي ينجم غالباً عن اعتياد الذهن أو الرؤية المحدودة والأفق الضيّق للباحث ـ يقتل روح التطوّر والرقيّ، ويوقف سير حركة الفقه التكامليّة. وعلى هذا؛ ولأجل تطوير الفقه، والحيلولة دون ظهور أي نوع من التحجُّر، ينبغي تعزيز روح حرّيّة التفكير، وخلق الأرضيّة اللاّزمة لإبداء وجهات النظر بحرّيّة في الحوزات العلميّة.

٤ ـ التَّخصُّص في الفقه

ضمن الظروف الراهنة، حيث اتسع الفقه ـ شأنه شأن سائر العلوم ـ وبقيّة العلوم الإسلاميّة، لا شكّ، أنّ الإحاطة بكل العلوم الحوزويّة أمر مستحيل بالنسبة لشخص واحد، مهما كان موهوباً ومثابراً. فمؤلِّف جواهر الكلام، بموهبته الفذّة، وعمله الدؤوب، وعمره الطويل، استطاع بمشقّة تدوين دورة كاملة في الفقه. وبديهي أنّه لو كان قدر ركَّز قدرته وطاقته على التحقيق، والتعمق في باب أو عدة أبواب من الفقه، فلربما حقق نتائج أكثر اهميّة.

واليوم، وقد ازداد الفقه اتساعاً، فإنّ الدراسة الشاملة والدقيقة لجميع أبوابه لا تتأتّى لشخص واحد. والصواب، هو: أن تصنّف أبوابه وأقسامه المختلفة، ويبادر كل فريق من الباحثين إلى دراسة وبحث قسم واحد منه، ويركّز كل جهده على ذلك القسم ليبحث بشكلٍ وافٍ، وتجمع كل المسائل المستحدثة والموضوعات

ــــــــــــــ

٢٣ ـ المصدر نفسه.

١٦٣

الجديدة ذات العلاقةـ بشكلٍ ما ـ بهذا القسم، وتُقدَّم الإجابات الشافية والدقيقة عنها. يقول الشيخ الأراكي عن طروحات الشيخ الحائري بشأن التخصّص في الفقه:

((كان الشيخ يقول: إنّ كلّ باب من هذه الأبواب بحاجة إلى متخصّص؛ لأنّ أبواب الفقه متشعبة جدّاً، والأقوال والأدلّة العقليّة والنقليّة والإجماع عليها يتطلّب بحثاً مضنياً، ويحتاج إلى أشخاص أذكياء، وإنّ عمر الإنسان لا يكفيه لأن يبحث خمسين باباً بشكل وافٍ وكما ينبغي. إذاً، فمن الأفضل أن يتخصّص في كلّ باب شخصٌ واحد))(٢٤) .

ولو أنّ علم الفقه قُسِّم ـ شأنه شأن بقيّة العلوم ـ إلى فروع شتّى، وانبرى فريق من الطلبة والفضلاء لبحث ودراسة العبادات فقط، وتخصّصوا فيها، وتخصّص فريق آخر في المعاملات، وفريق آخر في السياسة، وغير ذلك، سيكون تطوّر الفقه ورقيّه، أكثر ممّا هو عليه الآن.

يقول الشهيد مطهري:

((في الوضع الراهن، وبعد هذا التطوّر الّذي كان حصيلة جهود العلماء والفقهاء المتقدّمين، ينبغي لعلماء هذا الزمان وفقهائه إمّا أن يحولُوا دون تطوّر الفقه وتكامله، ويمنعوا رقيّه، أو يطبِّقوا عمليّاً ذلك الإقتراح الرصين والمتحضِّر (اقتراح الشيخ عبد الكريم الحائري بشأن التخصُّص في أبواب الفقه) فيوجدوا فروعاً متخصِّصة، ويميّز الناس بدورهم في التقليد كما يميّزون في الاختصاصات عند مراجعتهم))(٢٥) .

ومما يؤسف له، أن النظام التعليمي للحوزة اليوم، لا يخرِّج متخصّصين. فكل طالب ـ بغض النظر عن موهبته ورغبته ـ يستطيع أن يشارك في أي درس يشاء، لهذا يشارك الطلاّب ـ دون برنامج محدَّد ـ في جميع دروس الحوزة، وتستمر هذه العمليّة من بداية الدخول إلى الحوزة حتّى مرحلة الشيخوخة والهرم، دون أن يحصل هؤلاء أنفسهم على استفادة صحيحة وفاعلة. وواضح أنّ من يملك معرفة إجماليّة بكل العلوم، دون التخصّص في بعض فروعها، لا يمكن أن يكون له دور عملي فاعل في المجتمع، حيث الحاجة الماسّة إلى معرفة شاملة وعميقة وتخصّصيّة.

ــــــــــــــ

٢٤ ـ مجلة الحوزة، العدد ١٢، ص٤٠، لقاء مع أيّة الله الأراكي.

٢٥ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص٦٠.

١٦٤

أمّا أولئك الّذين تعمّقوا في دراسة فرع معين، وأنفقوا عمراً فيه، فبإمكانهم ـ وبسبب معرفتهم الشاملة بذلك الفرع ـ تلبية قسم من الإحتياجات. لذلك يعتقد الشيخ البهائي ـ الّذي يُعدُّ أحد العلماء الكبار [ت١٠٣١هـ] ـ أن من يخوض في جميع الفروع ـ مهما كان موهوباً وقديراً ـ لا يستطيع على الإطلاق أن يكون مثل شخص بذل كلّ جهده في فرع واحد من العلوم، وكان يقول:

((متى ما قابلت ذا فنونٍ متعدّدة، غلبته، ومتى ما قابلت ذا فنٍّ واحد غلبني))(٢٦) .

فحين يجد الشيخ البهائي ـ مع ما كان عليه من عظمة ـ نفسه مغلوباً من قبل المتخصّص، فما بالك بالأشخاص العاديين، ذوي الطاقات المحدودة؟

وفي البدء، فإنّ التخصّص، وظهور الاتجاهات المختلفة في علم ما، هو النتيجة الطبيعيّة لنموّ ذلك العلم ورقيّه، لذلك فعندما تحقّق العلوم تقدّماً أكبر في المستقبل، ربّما ينقسم كلّ فرع من الفروع الحاليّة للعلوم إلى عدّة فروع، ويغدو التخصّص في كل فرع، وكل قسم من هذا العلم، أمراً غير ممكن لشخص واحد. فعلم الطب مثلاً، مقسّم في الوقت الحاضر إلى فروع عديدة متخصّصة، مثل: الأنف الأذن والحنجرة، القلب والشرايين، الجلد والشعر، وغير ذلك. فمن الممكن جداً أن تتّسع المسائل المتعلّقة بطبّ العيون إلى حدٍ تظهر الحاجة إلى أن يُقسِّم فرع طب العيون نفسه إلى عدّة أقسام أخرى.

ــــــــــــــ

٢٦ ـ الكلام يجرّ الكلام، ج١، ص١٢٤.

١٦٥

كذلك الحال مع علم الفقه؛ فالحديث يدور اليوم عن التخصّص في بعض أبواب الفقه، فربّما أصبح الإلمام الكامل، ولو بأحد أبواب الفقه، أمراً عسيراً في المستقبل، واستدعى الأمر أن يقسَّم كل باب من أبواب القضاء، والعبادات، والمعاملات، وغيرها، إلى عدّة تخصّصات أيضاً. وهذه الحصيلة ضروريّة لنمو العلوم ورقيّها. وكما يقول الشهيد مطهري:

((إنّ الحاجة إلى تقسيم الأعمال في الفقه، وظهور فروع متخصّصة فيه، أصبحت ماسّة منذ مائة سنة مضت وإلى الآن، وفي الوضع الراهن ينبغي لفقهاء هذا الزمان إما أن يمنعوا نموّ الفقه ويوقفوه أو أن يذعنوا لهذا الاقتراح؛ ذلك أنّ تقسيم الأعمال في العلوم معلول لتكامل العلوم وعلّتها؛ أي أنّ العلوم تنمو تدريجياً حتّى تبلغ حدّاً يصبح معه البحث في جميع مسائلها فوق قدرة شخصٍ واحد، فلا مناص من أن تقسّم وتظهر فروع تخصصيّة. إذاً، فتقسيم العمل، وظهور فروع تخصّصيّة في علم ما، هو نتيجة تكامل ذلك العلم وتطوّره. ومن جهة أخرى، فإنّ بظهور فروع تخصّصيّة، وتقسيم العمل، وتركيز الذهن على مسائل معينة ـ سيشهد ذلك الفرع تطوّراً بشكل أكبر))(٢٧) .

واستناداً إلى هذا، فإنّ التخصّصات في العلوم الحوزويّة وبالأخص في الفقه، وفي أبوابه المختلفة، ضرورة لا يمكن التغاضي عنها، وإنّ نمو الفقه وتطوّره، دون تقسيم الأعمال، أمر عسير جداً، والتهاون في هذا الأمر لن يؤدّي إلاّ إلى جمود الفقه وتخلّفه عن الركب المنطلق للعلوم الأخرى.

٥ ـ الفقه المقارَن

إنّ دراسة المسائل الفقهيّة، دون الأخذ بعين الاعتبار المعطيات العلميّة للآخرين في (علم القانون، والمدارس القانونيّة الغربيّة، ومدارس الفقه السنّي)، ليس بالأمر المُجدي. فإنّ الوجود الواسع للقوانين والضوابط المدنيّة والجزائيّة لمدارس

ــــــــــــــ

٢٧ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص٦١ ـ ٦٣.

١٦٦

القانون الغربي في المجتمعات الإسلاميّة، والعلاقات الواسعة القائمة، تتطلَّب أن يطّلع الحوزويّون على القانون الغربي، ويستفيدوا منه. فضلاً عن ذلك؛ ولأجل قرب الفقه الشيعي والسنّي من بعضهما، والخطوط المشتركة الكثيرة بينهما، عليهم أيضاً أن يعرفوا، على وجه الدقّة، وجهات نظر أهل السنّة في كل مسألة يبحثونها.

لقد أُنجِزت دراسات كثيرة في مجال القانون المدني والقانون الجزائي وأشكال البحوث القانونيّة في غرب العالم وشرقه، وقُدِّمت أعمال متخصّصة، وآلاف المؤلَّفات في هذا المضمار، وينهمك الآن كثير من الخبراء في بحث ودراسة القانون وأشكاله، ويعرضون آخر إنجازاتهم العلميّة بأفضل الأساليب وبشكل قانوني.

ونحن إذ نواجه اليوم سجلّاً حافلاً ورصيناً للآخرين في هذا المضمار، لا يمكننا أن نتحدّث عن القانون الإسلامي دون مطالعة ذلك السجلّ الضخم الحافل، ودون مواكبة للأساليب الجديدة، قائلين: لا شأن لنا بالآخرين، نحن نبيّن ما نفهمه من المصادر الشرعيّة.

ولأجل تبيان وجهات النظر القانونيّة في الإسلام بشكل أكثر نضجاً، وطرحها دون زيادة ونقصان، ينبغي لنا أن نكون على إلمام كامل ودقيق بوجهات نظر الآخرين؛ فربَّما تترك أثراً كبيراً على إدراكنا، وتجعل رؤيتنا أكثر دقّة، وتؤدّي بنا إلى أن ندرك وجهات النظر القانونيّة في الإسلام بشكل أفضل وأوضح. فنحن قد تخلَّفنا كثيراً في المجال القانوني عن الركب المعاصر المنطلِق، فالآخرون وخاصّة الغرب، متقدِّمون علينا كثيراً، وذلك لا يعني أن مصادرنا متخلِّفة، كلا، فمصادرنا غنيّة وثريّة جدّاً، لكنّنا لم نبادر إلى استثمارها، ولم نتعامل مع هذه الكنوز الضخمة، بأساليب حديثة، ولم نبذل جهداً في هذا المضمار لنستكشف وجهات نظر الإسلام بأكمله، ونقدّمها بلغة معاصرة يتقبّلها العالم اليوم.

١٦٧

وعن هذا التخلّف، والبعد بيننا وبين عالم اليوم في كثير من العلوم، ومنها القانون، لنستمع إلى ما يقوله الإمام الخامنئي:

((... انظروا كم من البحوث المختلفة أُنْجِزت في مجالات القانون المدني والجزائي، وغيرها من الحقول القانونيّة. لقد أُنْجِز هذا العمل في الغرب، وفي العالم الإسلامي، عدا العالم الشيعي. وعلينا الإذعان بأنّنا متأخِّرون جداً في هذه المجالات، رغم أنّ هذا هو مجال تخصّصنا، وإنّ أغلب الجهود في الحوزات العلميّة تتركّز على مجال الفقه))(٢٨) .

كان فقهاء الشيعة في الماضي، يطرحون آراء فقهاء أهل السنّة أيضاً، ضمن طرح وجهات نظرهم الخاصّة، وينقدون أدلّتهم بشكل علمي، وإلى القرن السابع تقريباً، كان نقل ودراسة فتاوى فقهاء أهل السنّة أمراً شائعاً بين علماء الشيعة، وكثيراً ما نصادف آراءهم في كتب الشيخ الطوسي، والعلاّمة الحلّي وغيرهما، وربَّما كان الشيخ الطوسي أوّل فقيه ألَّف، وبكفاءة تامّة، دورة كاملة من الفقه المقارَن؛ تحت عنوان الخلاف، اهتم فيها بدرس وجهات نظر فقهاء أهل السنّة في جميع المجالات الفقهيّة. وفي القرون التاليّة، ومنذ القرن الثامن وما بعد، هُجِر هذا الأسلوب تدريجيّاً، حيث لا يلاحظ في كتبنا الفقهيّة أثر لوجهات النظر الفقهيّة لأهل السنّة، إلى أن أحيا أخيراً السيّد البروجردي سنّة الماضين؛ وأولى الفقه المقارَن اهتماماً خاصّاً، فقد استطاع سماحته من خلال معرفته الكاملة والشاملة، الّتي قل ّ مثيلها في الفقه وآراء فقهاء أهل السنّة، أن يُحدِث نقلة نوعيّة في أمر الاستنباط، ويخلق أسلوباً جديداً.

وعلينا الانتباه إلى أنّ فقه العامّة كان، لسنوات طويلة، هو الفقه الحاكم، بينما كان الفقه الشيعي ـ إلاّ في فترات قصيرة ـ يشقّ طريقه بعيداً عن مسائل الحكومة

ــــــــــــــ

٢٨ ـ خطاب في المدرسة الفيضيّة، كانون الأول ١٩٩٥.

١٦٨

والسياسة، لهذا، ربَّما كان فقه العامّة يضمّ في كثير من المجالات الحكوميّة والاجتماعيّة، مسائل وموضوعات لم يتناولها فقهاؤنا. وبعبارة أخرى، يمكن القول: إنّ الفقه الشيعي كان حاشية على فقه أهل السنّة. ومن هذا المنطلق، ربَّما بقي كثير من أمور وجوانب روايات وآراء الأئمّة (عليهم السلام) خافياً علينا، ما لم نأخذ بنظر الاعتبار آراء فقهاء العامّة، ونطّلع على كتبهم الفقهيّة. واستناداً إلى هذا، فإنّ التعرّف على فقه أهل السنّة، ودراسة وجهات نظرهم، والاطلاع على المدارس القانونيّة في الغرب والشرق، والمقارنة بين وجهات النظر القانونيّة الشائعة، وبين وجهات النظر الشيعيّة، يمكن أن يؤدّي إلى نموّ الفقه وتطوّره.

٦ ـ تحديد الموضوعات ومراعاة العصر

الفقه هو قانون الحياة، وله علاقة مباشرة بأعمال الإنسان وسلوكه، فقد أنزل الله تعالى مجموعة أحكام وضوابط لحياة سليمة، إلاّ أنّه ينبغي البحث عن موضوعات تلك الأحكام في الطبيعة وفي حياة الناس اليوميّة. والموضوعات، هي الأخرى، أمور غير ثابتة في مختلف الأزمنة والأمكنة؛ بل هي في حالة تغيّر دائم خلال مسيرة الزمن، ففي كلّ زمان ومكان يكون للمفاهيم والموضوعات معناها الخاص، وتتطلّب أحكامها الخاصّة. لهذا، فبقدر ما يكون إدراكنا للمسائل والموضوعات المستجَدّة في الظروف والأزمنة والأمكنة المختلفة، يختلف حمل الأحكام الفقهيّة عليها، والاستنباط والفتاوى الفقهيّة. واستناداً إلى هذا نرى أنّه كانت تطرح خلال القرون الماضية مفاهيم وموضوعات اختلفت اليوم كلّيّاً، وتغيّر الكثير منها، كما نُسخ الكثير، وطرحت محلّها مفاهيم وموضوعات جديدة ينبغي للفقه أن يُبدي رأَيه فيها. وكان الإمام الخميني ـ ومع أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، ورغم كونه يؤكّد على الدراسة والبحث على أساس الفقه التقليدي، والإجتهاد الجواهري ـ يصرّ على ضرورة الاهتمام بعنصري الزمان والمكان، ودورهما في الاجتهاد وفي تطور الفقه أيضاً:

١٦٩

 ((... إنّني أؤمن بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري، ولا أرى التخلّي عنهما جائزاً. الاجتهاد بذلك الأسلوب صحيح، لكن ذلك لا يعني أنّ الفقه الإسلامي غير متطوّر. الزمان والمكان عنصران مهمّان في الاجتهاد، فالمسألة الّتي كان لها في السابق حكم ما، يمكن أن نجد ـ حسب الظاهر ـ لها حكماً جديداً في العلاقات المهيمنة على سياسة واجتماع اقتصاد نظامٍ ما..))(٢٩) .

إنّ إهمال عنصري الزمان والمكان، وانعدام المعرفة العميقة بالمفاهيم الدينيّة، وبالعلوم الّتي تقع ضمن نطاق المعارف الدينيّة بشكل مباشر، أو غير مباشر، وكذلك الجهل بأوضاع العالم المعاصر، وعدم الاهتمام بالموضوعات والمسائل المستجَدّة، سيؤدّي حتماً إلى إبداء آراء غير صحيحة فيها، ويبطئ نموّ وتطوّر الفقه في المسيرة المتسارعة للحركة التكامليّة للعلوم.

وعلى هذا الأساس، فإنّذ تصوّر البعض ((أنّ معرفة الموضوعات أمر موكول للعرف، وأنّ عمل الفقه هو الإفتاء، لا معرفة الموضوعات))، أمر غير صحيح؛ ذلك أنّ الإفتاء من دون معرفة بالموضوعات غير ممكن، لكن الفقيه بإمكانه، ولأجل معرفة الموضوعات، أن يستعين بخبراء في كل قسم، فيصدر فتواه بعد إلمامه الشامل بجميع جوانبها. فنمو الفقه وتطوّره رهن بأن يكون الفقيه مطّلعاً على أوضاع العالم الّذي يعيش فيه، وعارفاً بتفاصيل الحياة اليوميّة للناس وحوادثها، ويعيش في خضم المجتمع، ويدرك جيداً مجريات الأمور والقضايا المستجدة.

وكان تطور الفقه وازدهاره في القرون الماضيّة مديناً لجهود فقهاء عارفين بمسائل عصرهم ومشكلاته؛ إذ توجد في الكتب الفقهيّة للشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشريف المرتضى، والعلامة الحلّي دلالات عديدة تظهر اطلاعهم الكامل على الموضوعات الفقهيّة ومتغيّرات عصرهم. وإن إنشاء العلامة الحلّي للمدرسة المتنقلة، قبل أن يبين أهميّة حرصه على صيانة الحوزات العلميّة، دالٌّ على مدى اهتمامه بعنصري الزمان والمكان والحوادث والقضايا والموضوعات الّتي كان يواجهها.

ــــــــــــــ

٢٩ ـ صحيفة النور، ج٢١، ص٩٨.

١٧٠

وفي عصرنا الراهن، وعقب انتصار الثورة الإسلاميّة، يواجه الفقيه مسائل وموضوعات جمّة، أشرنا إلى بعضها فيما مضى، ممّا يصعب كثيراًـ و بلا شكّ ـ تلبيته من دون اطلاع على عنصري الزمان والمكان، والاهتمام بالموضوعات الجديدة.

وإنّ معرفة الأوضاع ومجريات الأمور، وإدراك العوامل المؤثّرة في المجتمع، يمنح القدرة على التنبؤ. وبواسطة التنبؤ، يمكن للفقيه أن يبادر إلى مواجهة الحوادث، ويستفيد من الفرص المؤاتية، الّتي توفّرها المتغيّرات الزمانيّة؛ لئلا يقع فريسة للحوادث، وكما يقول الإمـام الصـادقعليه‌السلام فـإنّ((العالم بزمانه لا تهجم عليه اللَّوابس)) (٣٠) .

يقول الأستاذ الشهيد مطهري ـ مشيراً إلى هذا الحديث الشريف، وإلى ضرورة كون الفقيه عالماً بزمانه ومكانه ـ :

((من البديهي، أنّ المفهوم المستفاد من العبارة القيمة المذكورة آنفاً، هو أنّ (الجاهل بزمانه تهجم عليه اللوابس). إنّ من لا يعلم ما الّذي يجري في العالم من حوله، وأي من العوامل المتحكِّمة في صنع المجتمع تطاوعه، وأيّة بذور تبذر في الوقت الحاضر ستنمو في المستقبل، وما الّذي يحمله الزمان في أحشائه؟، لن يتمكّن إطلاقاً من النهوض لمواجهة القوّات المهاجِمة، أو اغتنام الفرص الذهبيّة الّتي تّمر مرّ السحاب))(٣١) .

إنّ الاطلاع على القضايا المعاشة، والمعرفة بالزمان والمكان، يغيّر رأي الفقيه في كثير من المسائل، فمثلاً، الفقيه الّذي يعيش في مكان عامر؛ تجري فيه الأنهار وسواقي المياه، أو فيه شبكة أنابيب مياه، تختلف فتواه في مسائل الطهارة والنجاسة عن فتوى الفقيه الّذي يعيش في منطقة جافة قليلة المياه، يتمّ الحصول

ــــــــــــــ

٣٠ ـ إبن شعبة الحرّاني، تحف العقول، بيروت، الأعلمي، ص٢٦١.

٣١ ـ بيرامون جمهوري إسلامي (حول الجمهوريّة الإسلاميّة)، الشهيد مطهّري، نشر مؤسّسة صدرا، ص٣٣.

١٧١

على المياه فيها بمشقّة. أو أنّ من رأى بنفسه عن كثب حشود حجاج بيت الله الحرام، والمصاعب الّتي يقاسونها، يختلف عمن تعرَّف إلى الحج عن طريق الآيات والروايات فقط. أو من يعرف دور المصارف ونظام التأمين، أو العضويّة في المنظمات السياسيّة والاقتصاديّة، العالميّة والإقليميّة، في حياة البلدان والشعوب، تختلف فتواه عمّن ليست لديه أيّة معرفة بهذه الظواهر الجديدة ويفتي بالتحريم والتحليل استناداً إلى نفس الأوامر المطلقة والعامّة الموجودة في الفقه، دون وضعه العواقب في الحسبان. فالفقيه الّذي لا يهتمّ اليوم بهذه الأمور، يمكننا أن نقول عنه إنّه لا يصلح للإفتاء فيها، ولا يمكن تقليده.

((إنّ مهمّة الفقيه والمجتهد هي استنباط الأحكام، غير أنّ إلمامه ومعرفته ـ أو طبيعة نظرته إلى الحياة ـ يؤثّر كثيراً في فتاواه؛ إذ ينبغي للفقيه أن يكون على اطلاع كامل بالموضوعات الّتي يصدر بحقها فتاواه. ولو افترضنا فقيهاً يعيش دائماً في زاويّة من بيت، أو مدرسة، وقارناه بفقيه يخوض معترك الحياة ويتعايش معها، فإنّ هذين الشخصين، يرجعان إلى الأدلّة الشرعيّة ومصادر الأحكام ذاتها، لكن كلاً منهما يستنبط بشكل خاص، يختلف فيه عن الآخر))(٣٢) .

وبصورة مبدئيّة، فإنّ الاجتهاد، هو تطبيق القوانين العامّة على المسائل المستجَدّة والحوادث المتغيّرة، والمجتهد الحقيقي الّذي وعى هذا الأمر، يتنبّه إلى الموضوعات كيف تتغيّر، ويتغيّر حكمها بطبيعة الحال، وإلاّ فإنّ التفكير في موضوع قديم له حلّ فيما مضى، واستبدال ((على الأقوى)) بـ ((على الأحوط)) أو في أفضل الحالات، ليس إنجازاً، ولا يستحق كل هذه الضجة(٣٣) .

ولأجل أن نبيّن كيف تتغيّر الموضوعات بمرور الزمان، وكيف تستطيع رؤية الفقيه أن تترك أثراً في فتاواه، نشير ـ كنموذج على ذلك ـ إلى حالّتين:

ــــــــــــــ

٣٢ ـ بحث حول المرجعيّة والروحانيّة، ص٥٩.

٣٣ ـ المصدر نفسه، ص٥٨.

١٧٢

١ ـ نقل في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال:

((إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع)) (٣٤) .

يُستَشَف من ظاهر هذا الحديث الشريف أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم في هذه المسألة بأن يكون المعيار في الطريق والشوارع العامّة هو احتساب ثلاثة أمتار ونصف عرضاً. وإنّ أمراً كهذا كان طبيعياً ومنطقياً جداً في الماضي، عندما كانت حركة مرور الناس محدودة، ووسائل النقل مقتصرة على الحصان والبغل والحمار، ولم تكن هناك حاجة إلى أكثر من ثلاثة أمتار ونصف. لكن الآن ـ حيث تقوم الحياة على الآلة، وتسير في الشوارع والطرقات حشود من السيارات والحافلات والشاحنات، ومئات من وسائل النقل ـ فمن البديهي أن لا تكفي هذه المسافة، ولا يمكنها أن تلبّي حاجات عامّة الناس. فالحاجة اليوم ماسة إلى شوارع وطرقات فسيحة، ولا يمكن، بشكل جازم، الاستناد إلى المسافة الواردة في الرواية المذكورة آنفاً. فلو أراد المسؤولون في إدارة البلديّة، توسيع شارع أو زقاق، فهل لنا أن نعترض استناداً إلى هذا الحديث الشريف، ونقول: إنّ المسافة هي سبعة أذرع عرضاً، وهذا هو الحكم الفقهي، ولا يمكن تجاوزه؟

والفقيه العارف بالزمان والمكان يدرك ـ ببساطة ـ أنّ هدف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان إيجاد حلّ لمشكلة كانت تنحلّ بهذه المسافة، ولم يشأ أن يسنّ قانوناً ثابتاً لجميع الأزمنة والأمكنة. ففي ذلك الزمان كان بإمكان الطُرق والأزقّة الّتي عرضها سبعة أذرع (٥ر٣ متر) أن تلبّي حاجات المارّة، إلاّ أن مقاييس شقّ الطرق والشوارع وإنشاء الجسور اليوم أمر آخر، يختلف تماماً عمّا كان عليه في صدر الإسلام.

٢ ـ في مسألة التصوير والرسم، أفتى أغلب الفقهاء بالحرمة المطلقة في هذا الأمر، سواء أكان الرسم والتصوير للنباتات والأشجار، أم للمخلوقات ذات الروح كالإنسان والحيوان، مستندين إلى الروايات الّتي تظهر شدّة عذاب المصوّرين، ومنها:

ــــــــــــــ

٣٤ ـ سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج٢، ص٨٧٤.

١٧٣

أ ـ((... من صوّر التماثيل فقد ضادّ الله)) (٣٥) .

ب ـ((من صوّر صورة عُذِّب حتّى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)) (٣٦) .

ج ـ((أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبيّاً أو قتله نبيّ، ورجل يضلّ الناس بغير أو مصوّر يصوّر التماثيل)) (٣٧) .

ففي هذه الأحاديث وأمثالها، وبغضّ النظر عن ضعف أسانيدها وطرقها، أشير إلى عذاب المصوّرين وعقوبتهم في عِداد من قتلوا نبيّاً أو ارتدّوا.

وقد شكّك بذلك بعض الفقهاء المعاصرين، ومنهم الإمام الخميني. فبعد تعداده الآراء الواردة في هذه المسألة، ودراسة الروايات الّتي استُنِد إليها لإثبات الحرمة المطلقة للتصوير، نفى صحة هذه الروايات، وقال: إنّه ليس ممّا ينسجم وروح الإسلام أن يزيد عذاب المصوّر على عذاب جميع المذنبين حتّى قتلة الأنبياء؛ لهذا فهو يقول بشأن تلك الروايات:

((فإنّ ذلك التهديد والوعيد لا يتناسب ومطلق عمل التماثيل أو رسم الصور؛ فمن المؤكّد أنّ عملها لا يكون أعظم من قتل النفس المحترمة، أو الزنى، أو اللواط، أو شرب الخمر، وغيرها من الكبائر. والظاهر أنّ المراد منها: تصوير التماثيل الّتي( هم عليها عاكفون ) ))(٣٨) .

إنّ صدور هذه الروايات كان في زمان قد حُطِّمت فيه أصنام قريش بأمر من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطُهِّرت الكعبة والمسجد الحرام من دنس الشرك، ومن أنواع الأصنام الّتي كانت تحفظ هناك، وخلال ذلك، كان من العسير على فريق من العرب أن يتخلَّوا دفعة واحدة عن عبادة الأصنام، ويستهينوا، فجأة، بأعمالهم السابقة، بعد عمرٍ من الخضوع أمام الأصنام، والآلة الّتي صنعوها لأنفسهم. ومن جهة أخرى، لم يكن هناك مجال لظهور أعمال كهذه في المجتمع، لذا كانوا يشبعون رغبتهم برسم صور أصنامهم المحطَّمة، ويبدون الخضوع والخشوع أمام صورها،

ــــــــــــــ

٣٥ ـ مستدرك الوسائل، نشر مؤسّسة آل البيت، ج١٣، ص٢١٠.

٣٦ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، طهران، المكتبة الإسلاميّة، ج٣، ص٥٦١.

٣٧ ـ مستدرك الوسائل، ١٣ / ٢١٠.

٣٨ ـ الإمام الخميني، المكاسب المحرَّمة، قم، مكتبة إسماعيليان، ج١، ص١٩٨ ـ ١٩٩.

١٧٤

وكانوا يريدون بذلك إظهار رغبتهم والتزامهم بصيانة معتقداتهم الأسطوريّة.

وعلى هذا، فإنّ رؤية الفقيه الثاقبة والشاملة تجاه قضايا الإسلام والعالم، تؤثّر في تحليل هذه الروايات واستنباط حكم نحت التماثيل، وما شابه ذلك. وينبغي أن نعرف، من شتّى الجهات، عصر صدور هذه الروايات، وكيف كان وضع الناس فيه ، وبأيّة معايير تمّ التحريم، وبماذا اختلف نوع النحت والرسم ودوافع وأهداف النحاتين في ذلك العصر عن هذا العصر وغير ذلك، ثُمَّ نجيب على المسألة.

خاتمة:

يمكن أن نستنتج من مجموع ما أوردناه في هذه المقالة ما يلي:

١ ـ تمّر الحوزات العلميّة في العصر الحاضر، بنوع من الجمود، وهي تفتقر إلى التطوّر اللاّزم لحلّ معضلات العالم الإسلامي وتقديم الإجابات المعاصرة عن المسائل المستحدَثة والموضوعات المستجَدَّة.

٢ ـ تواجه الحوزات العلميّة والفقهاء اليوم، حشداً من المسائل الجديدة والموضوعات المتغيّرة، أو المستجَدّة في المجال الفردي، والاجتماعي، والحكومي، الّتي ما يزال الكثير منها باقياً من دون جواب، رغم مرور ما يقارب العقدين من الزمن على انتصار الثورة الإسلاميّة.

٣ ـ إنّ الجمود الّذي ابتُلي به الفقه، وبقيّة العلوم الإسلاميّة، معلول لمجموع أمور ينبغي الاهتمام بها بشكل جدّي.

٤ ـ لأجل تطوير الفقه ينبغي اتباع خطوات أشرنا إلى بعضها تحت عنوان عوامل رقيّ الفقه.

١٧٥

العوامل المؤثِّرة في تطوُّر الفقه*

السيّد علي سادات فخر

إنّ للفقه منزلة رفيعة ومقاماً سامياً بين العلوم الإسلاميّة؛ بحيث كان هدفاً لسهام النقد العلمي المخلِص أو المغرِض عبر التاريخ. ويبدو تاريخ الشيعة وسِيَر علمائهم غريباً عن تاريخ غيرهم من المذاهب الإسلاميّة الأخرى. فهناك الكثير من الثورات والتحرّكات الّتي قام بها علماء أحرار، وتحملوا في سبيلها ألوان التعذيب، والنفي، والأسر، يَحْدُوهم إلى ذلك سعيهم وعشقهم لبناء نظام فقهي وكلامي شيعي ينسجم مع التراث الفقهي الأصيل والخالد. وللفقهاء في هذا المجال جهودهم الممَيَّزة والجبّارة، ومنزلتهم الخاصة. فبعد غيبة الإمام صاحب الزمان(عج) شرَع فقهاء المذهب الجعفري بتبيين وجهات النظر الفقهيّة الرائدة. وبتوضيحهم لأصول، وملاكات، ومعايير، وقواعد هذا العلم، أعطوه حركة جديدة. ورغم أنّ الفقه كان يعاني، بين الفينة والفينة، من بعض المشاكل والأدواء، الّتي كانت تعيق حركته التكامليّة، إلاّ أنّه لم تمض على تلك الجهود الأوّليّة مدّة حتّى حوَّلت الفقه إلى علم منظّم له منهجه الخاص، وقادته إلى آفاق جديدة، ونفخت فيه روحاً كذلك.

وهذه المسيرة الفقهيّة مدينة لأشخاص متميّزيِن، من أمثال: الشيخ الطوسي، وابن إدريس، وصاحب الجواهر، والشيخ الأنصاري، والشهيد الصدر، والإمام الخمينيرحمه‌الله

ــــــــــــــ

* هذه المقالة منشورة في مجلة قبسات الإيرانيّة، العدد ١٥ و١٦. ترجمة: محمد حسن زراقط.

١٧٦

وليس جُزافاً أن نقول: إنّ الإمام الخمينيرحمه‌الله قد انتقل بالفقه إلى مرحلة جديدة؛ حيث إنّه أطلق صيحة تطوير الفقه، وجعل هدفه الأساس عملانيّة الفقه، وأوصى بالتجديّد دون التفلّت من التراث والسنّة. والواقع هو، أنّ استلام الفقه الشيعي لزمام السلطة في إيران، وتطبيق نظريّات المصلح الكبير الإمام الخمينيرحمه‌الله ، أمرٌ هام أحدث جدلاً واسعاً على الصعيد الثقافي، وكان الفقه من أهمّ أهداف الهجمات الّتي أثيرت.

وفي مقابل هذه الهجمات ـ سواء اعتبرنا خلفيَّتها دينيّة مشفِقة على الدين أم دنيويّة أنانيّة مغرِضة ـ لا بدّ من محاولة تقييم صحيح ومنطقي للفقه، وأهدافه، وآليّاته، ومناهجه. ولا بدّ أيضاً من البحث حول آثار الأحكام الفقهيّة على الحياة الاجتماعيّة والفرديّة؛ للوصول إلى استراتيجيات أساسيّة. وبهذه الوسيلة وحدها، يمكن المحافظة على سلامة نظمنا الخاصّة في مقابل هجمات النظم الداخليّة، وكذلك يمكن أن نلبّي أحتياجات الإنسان المعاصر مع المحافظة على الأصول، والقيم الإسلاميّة.

مقاصد الفقه وأهدافه

إنّ تطوّر الفقه رهين بتحديد أهدافه ومقاصده، فهل ينحصر هدف الفقه وغايته بإصلاح حياة الإنسان الأخرى، من دون أن ينظر إلى هذه الحياة؟، أو أنّ غاية الفقه ومرامه هو تنظيم حياة الإنسان الاجتماعيّة والفرديّة في هذه الدنيا؟، وهل يمكن إصدار الفتاوى والأحكام الفقهيّة، دون أي التفات إلى آثارها ونتائجها على الحياة؟

١٧٧

المصادرة والمسلَّمة الأساسيّة المقبولة في الفقه الشيعي تقضي بأنّ الهدف النهائي، والغاية القصوى للمنظومة الفقهيّة، هي تأمين سعادة الإنسان في الدنيا، وصلاحه في الآخرة. وهذه الغاية وحدها هي الّتي تحقّق الربط بين الاجتهاد المستمر، وبين الثابت والمتغيّر في الحياة، بحسب مقتضيات الزمان والمكان. وعلى ضوء هذه المصادرة، لا يمكن استخراج أو استنباط الأحكام والفتاوى، مع إغماض الطرف عن أثرها على حياة الإنسان. أضف إلى ذلك، أنّه إذا كان الفقه يدَّعي الحق في الحكم، وإدارة شؤون الإنسان من المهد إلى اللحد، ويدّعي حقّ الولاية والقيادة للفقيه الوليّ، كما يقول الإمام الراحلرحمه‌الله : ((الدولة والحكومة تمثّل الفلسفة العمليّة للفقه في كل زوايا وشؤون الحياة البشريّة في نظر المجتهد الواقعي. وهي الّتي تظهر الجانب العملي للفقه في مواجهة كلّ المشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة. فالفقه هو النظريّة الواقعيّة والكاملة لتوجيه الإنسان من المهد إلى اللحد))(١) . بناء على هذا، فالهدف الأساس الّذي يمكن للفقه أن يحقّقه هو العدالة الاجتماعيّة(٢) . إذاً، على الفقيه أن ينظر إلى آثار أحكامه وفتاواه ليقيّمها على ضوء بسطها للعدالة والقسط في المجتمع.

ثُمَّ إنّ الأحكام الولائيّة قائمة على المصالح العامّة الّتي يمكن لغير المعصوم دركها ومعرفتها، فإذا أصدر الفقيه الولي حكماً ولائياً، يهدف إلى تأمين مصلحة دنيويّة للناس، ثُمَّ بعد تطبيقه وجد أنّه لا يحقّق تلك الغاية المنشودة، فعليه أن يشكّك في استنباطه، وأن يفتّش عن حلول أخرى توصله إلى ضالّته المنشودة. وعملانيّة الفقه في العصر الحاضر، تتوقّف على كيفيّة تشخيصنا للهدف، وتقييمنا للأحكام الفقه على ضوء ما تحقّقه من الأهداف. وهكذا يتّضح أنّ غضّ الطرف عن آثار الفتاوى والأحكام الفقهيّة، يزيل الترابط بين أبواب الفقه المختلفة، ويُذهِب قدرة الفقه على حلّ المشكلات والظواهر الطارئة.

ــــــــــــــ

١ ـ الإمام الخميني رحمه‌الله ، ((صحيفة النُّور))، ج٢١، ص٢٩.

٢ ـ أنظر: العلامة الطباطبائي رحمه‌الله ، ترجمة ((تفسير الميزان))، ج٦، ص٩٧.

١٧٨

سلامة المنهج الفقهي

إنّ الضمان الوحيد لنمو الفقه وتطوّره هو فكرة الاجتهاد، ولقد عرّفوا الاجتهاد بأنّه ((ملكة تحصيل الحجة على الأحكام الشرعيّة أو الوظائف العمليّة، شرعيّة أو عقليّة))(٣) . وللاجتهاد أقسام ذُكرت في الكتب المرتبطة بذلك. وهنا يمكن الإشارة إلى تقسيمهم إيّاه، بحسب مراتب المجتهدين، إلى قسمين: ((اجتهاد مطلق)) و((اجتهاد منتسب إلى مذهب))(٤) . فيقال: ((مجتهد مطلق)) لمن عنده قدرة على الاستنباط في الأصول والفروع. وبعبارة أخرى، لمن كان صاحب منهج فقهي خاص. وفي مقابله المجتهد المنتسب إلى مذهب معين، وهو الفقيه الّذي يسلِّم بالأصول الّتي أقرّها صاحب المذهب، وينحصر دوره في الاستنباط على مستوى الفروع(٥) .

والشيعة لا يؤمنون ((بالاجتهاد المنتسب))، بل يعتقدون بالاجتهاد المطلق (بالمصطلح السالف). ومن هنا نشأت فكرة فتح باب الاجتهاد أو سدِّه في الفقه الإسلامي. إذاً، من خصائص الفقه الشيعي فتحه لباب الاجتهاد على مصراعيه؛ ما أعطى الفقه حركيّة وجِدَّة، ومنحه القدرة على معالجة المشكلات والظواهر الحديثة والمعاصرة(٦) ؛ أي أنّ الفقه الشيعي، بفتحه لباب الاجتهاد، فسح المجال لتطوّر الفقه وحداثته، بينما أهل السنة بسدِّهم لباب الاجتهاد وقبولهم ((للاجتهاد المنتسب)) أقفلوا باب الاجتهاد في الأصول على أنفسهم.

المنهج المنفتح قد يصاب بالشلل

لكن ـ ومع الأسف الشديد ـ لا بدّ من الاعتراف بأنّه لم يتمّ استغلال هذه الخاصيّة في الفقه الشيعي بشكلٍ كافٍ، فتاريخ الفقه الشيعي يشهد على وجود اجتهاد منتسب في بعض الأزمنة. ومن أمثلة ذلك: ما أصاب الفقه بعد الشيخ

ــــــــــــــ

٣ ـ محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارَن، ص٥٤٥.

٤ ـ المصدر نفسه، ص٥٧١.

٥ ـ المصدر نفسه، ص٥٧١.

٦ ـ المصدر نفسه، ص٥٨٤.

١٧٩

الطوسي(٧) ، في القرن الخامس، وكذلك بعد الشيخ الأنصاري. إلاّ أنّه ـ والحق يقال ـ وُجد فقهاء وقفوا في وجه هذه النزعة ((التقليديّة)) [من التقليد مقابل الاجتهاد] وبعثوا الحياة والروح في جسد الفقه الّذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.

ويرى بعض الفقهاء أنّ الّذي دعا أهل السنّة إلى سد باب الاجتهاد أمور؛ منها: ازدياد عدد المذاهب والفِرق، وصدور الأحكام الفقهيّة لدواعٍ قوميّة وتعصبيّة، ولتبعيّة بعض الفقهاء للسلاطين وحكام الجور(٨) . وهكذا كان أهل السنّة أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن يضحّوا بحركيّة وتطوّر الفقه، وإمّا أن يصبح الفقه متاعاً لتجّار الدين، وغرضاً للأهواء والعصبيات، فاختاروا الأوّل على الثاني. ويبدو لي أنّ خلف هذه السيرة المُحزِنة الّتي ابتلي بها الفقه السنّي، وقائع كامنة يحسن أخذ العبرة منها؛ كي لا يبتلي الفقه الشيعي بها أيضاً؛ لذلك، فإن فتح باب الاجتهاد دون تحديد القيم والأصول والضوابط الّتي تحكم هذا الاجتهاد، يمثّل منفذاً لتلك الأمراض المذكورة آنفاً.

نعم، ولكن ليست الوقاية من هذه المشاكل بمراعاة الاحتياط، وجعل التبعيّة للمشهور والقدماء في رأس سلَّم أولويَّات المناهج الفقهيّة؛ فإنّ ذلك يعيق حركة الفقه وتطوّره، ويسوقه نحو الانزواء والخمول. وبعبارة فنيّة، إنّ فكرة الثابت والمتغيّر، وارتباطهما في النظام الفقهي ـ عندما تُوَضَّح صورة هذا الترابط، وتحدّد العناصر الثابتة والأخرى المتحرِّكة المتغيِّرة ـ تعطي للفقه الشيعي أفضل أداة للحركة والتقدم؛ بحيث لا يعلو غبار القِدَم وجهه، ويُمكِّنه ذلك من اجتراح الحلول القيّمة والخيّرة، لمشاكل الحياة المعاصرة.

عوامل التَّطوُّر

عندما نقبل بفتح باب الاجتهاد، نكون قد قبلنا بقدرة النظام الفقهي على التطوّر، وهنا يجب بحث ودراسة هذه النكتة، وهي أنّ تطوّر الفقه رهين بجهود

ــــــــــــــ

٧ ـ المصدر نفسه، ص٥٨٠.

٨ ـ المصدر نفسه، ص٥٧٩.

١٨٠